|
الديمقراطية وسؤال العلمانية في مشهد الإسلام السياسي الراهن
غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 3786 - 2012 / 7 / 12 - 17:49
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ورقة مقدمة إلى ندوة الرفاق في حزب النهج الديمقراطي – المعقودة في المغرب تاريخ 12 / يوليو / 2012 في ظروف الانتفاضات الشعبية العفوية أو الحالة الثورية العربية والمتغيرات المتلاحقة ، السياسية والاجتماعية والثقافية الناجمة عنها ، تتجلى – في هذه اللحظات- أهمية استخدام مفاهيم الحداثة و التنوير والعلمانية والثورة الديمقراطية ، من قبل كافة القوى اليسارية الديمقراطية العربية ، في مجابهة استقطاب القوى اليمينية بشقيها، الليبرالي الرث والتابع المتمثل في أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد وشرائحها البيروقراطية الكومبرادورية الحاكمة ، واليميني الديني السلفي المتمثل في قوى وحركات الإسلام السياسي، إلى جانب المجابهة الثقافية والفكرية والسياسية ، لكافة الجوانب السلبية والرجعية في تراثنا، إذ لا يمكن انضاج وتوليد مفاهيم العقلانية والعلمانية والديمقراطية من أوضاع تابعة ومستبدة من ناحية، ومن هيمنة قوى ماضوية سلفية جامدة ، بل من القطيعة المنهجية والمعرفية معها من جهة ، ومع كل مظاهر التبعية والتخلف السائدة في بلادنا من جهة ثانية . بمعنى آخر، لا يكون العقل عقلانية، ولا يُجسَّد في السلوك، إلا إذا انطلقنا من الفعل والتفاعل مع احتياجات وتطلعات الجماهير الشعبية والاندماج في مساماتها، وخضوعنا لمنطقها ومستقبلها، من خلال عملية التجريد والتوضيح والتعقيل، لكي نتمكن من استبدال وتجاوز أوضاع الاستبداد والاستغلال الطبقي، واستبدال المنطق الموروث أو سلبياته المعرفية تحديداً التي تتمظهر وتتجلى منذ القرن الرابع عشر حيث تعيش المجتمعات العربية حالة من المراوحة الفكرية على تراث الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية او ما اسميه التواصل المعرفي مع هذه المحطات السالبة في التراث القديم (خاصة بعد إزاحة ابن رشد وابن خلدون والفارابي والكندي والمعتزلة فرسان العقل في الإسلام) من جهة ومع الأنماط الاقتصادية والاجتماعية القديمة والحديثة او الرأسمالية الرثة التابعة من جهة ثانية، وهو تواصل حَرِصَت عليه الطبقات الحاكمة في بلادنا بمختلف أشكالها وأنماطها التاريخية والحديثة والمعاصرة حتى يومنا هذا، وهو حرص استهدف دوماً إبقاء الوعي العفوي للأغلبية الساحقة من الناس في حالة من الجهل والتخلف بما يضمن استمرار مصالح الشرائح البيروقراطية الكومبرادورية والطفيلية الحاكمة، عبر دور متميز لحركات الإسلام السياسي -كما هو الحال في مساحة كبيرة من الانتفاضات العربية راهناً . فقد شكلت الانتفاضات الشعبية فرصة ذهبية أو جسراً استخدمته التيارات الدينية للعبور إلى مشهد الإسلام السياسي الراهن، المحمول بالثقافة الشعبية العفوية ، في المناطق المدينية الفقيرة وفي الأرياف ، حيث نجحت القوى الدينية في التفاعل والانتشار، في هذه المناطق في ظل غياب تأثير الأحزاب اليسارية والديمقراطية، وبدعم مباشر وغير مباشر من الأنظمة العميلة في الخليج والسعودية، بإيعاز من النظام الرأسمالي المعولم. الذي يجد في حركة الإخوان المسلمين ، قوة سياسية اجتماعية ، تتقاطع معه في الكثير من الأهداف والمصالح التي تضمن استمرار احتجاز تطور الشعوب العربية واستمرار تبعيتها واستغلال ثرواتها، خاصة وأن حركات الإسلام السياسي انتقلت في هذه المرحلة من حالة التهميش ، إلى حالة التأثير والفعل ، ليس لنشر منطلقاتها وآرائها فحسب ، بل أيضاً لتمارس – بصورة مباشرة وغير مباشرة- نوعاً من الاستنفار لأدواتها الايديولوجية أو الفكرية الغيبية المنغلقة ، في محاولة لمواجهة الفكر التنويري ، الديمقراطي، العلماني التقدمي، الوطني والقومي، لتجعل من تهديم مفاهيم التنوير والعقلانية والحداثة والليبرالية والعلمانية والمواطنة والدولة المدنية والوحدة العربية والاشتراكية غايتها الأساسية الأولى ، ومن ثم استخدام الدين السياسي ، كأداة مصالحة مع الواقع المرير وأدواته الطبقية ، الرأسمالية، الداخلية والخارجية ، خاصة وأن هذه الحركات لا تتناقض أبداً مع النظام الرأسمالي بل تعتبر نفسها جزء لا يتجزأ منه ، ولكن بمنطلقات إسلامية عبر ما يسمى بـ"دولة الخلافة" أو "الأمة الإسلامية"، ووفق ما يسمى بـ"الاقتصاد الإسلامي" الذي لا يختلف في جوهره عن الاقتصاد الرأسمالي . ما يعني أن القوى الديمقراطية واليسارية (القديمة والجديدة) تعيش منذ اللحظة في مرحلة هي ليست مرحلتها ولفترة قد تمتد لسنوات ، الأمر الذي يفرض على هذه القوى مراجعة كل خطابها وأساليب ممارساتها وإعادة بناء تنظيماتها من خلال الحرص على الانتشار الفعال في أوساط جماهيرها، إذ أنه بدون هذا الشرط الاخير فلا مستقبل لها . وفي مثل هذه الأوضاع ، علينا أن نتحمل سلسلة طويلة من الأمراض الوراثية الناتجة عن بقاء أساليب إنتاج بالية، تخطاها الزمن، مع ما يتبعها من علاقات سياسية واجتماعية أضحت في غير محلها زمنياً، والتي تولدها تلك الأساليب، ففي مثل هذه الأحوال، ليس علينا أن نعاني فقط الآلام بسبب الأحياء، وإنما بسبب الموتى أيضاً: "فالميت يكبل الحي"[1]، هذا التحليل الذي قصد به ماركس الدولة الألمانية آنذاك، ينطبق على كل مجتمعاتنا العربية عموماً، وعلى جوهر الأزمة الاجتماعية فيها بشكل خاص، على الرغم من إدراكنا لخصوصية تطور كل من هذه المجتمعات ، لكنها خصوصية لا تلغي السمات العامة المشتركة فيما بينها جميعاً من حيث تكريس مظاهر التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال، الطبقي في إطار العلاقات الرأسمالية الرثة السائدة فيها ، ما يعني الضعف الشديد للحاضنة الاجتماعية الاقتصادية العربية في التفاعل مع مفهومي الديمقراطية والعلمانية وتطورهما، ما يتطلب من المثقف العربي الماركسي أن يتحمل دوراً رئيسياً في هذه العملية، وهي عملية مشروطة باستيعاب مفهوم المثقف ودوره في هذه المرحلة الصعبة والمعقدة ، فالمثقف الماركسي هو الحامل لرسالة، لموقف، لرؤية نظرية مستقبلية من ناحية وهو أيضاً المثقف العضوي، ( في قلب الحزب الثوري ) الذي يعمل على إنجاح المشروع السياسي والمجتمعي الخاص بالكتلة التاريخية المٌشَكّلة من العمال والفلاحين الفقراء ، وهو "الداعية" "الاختصاصي" "المٌحَرِّض" "صاحب الايدولوجيا" أو حاملها، المدافع عن قضايا الحقوق والحريات، الملتزم بالدفاع عن قضية سياسية، او قيم ثقافية ومجتمعية أو كونية، بأفكاره أو بكتاباته ومواقفه تجاه الرأي العام، هذه صفته ومنهجيته، بل هذه مشروعيته ومسئوليته تجاه عملية التغيير صوب تحقيق مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والثورة التي يدعو إليها. وهنا ، ارتباطاً بضعف الحاضنة الاجتماعية الاقتصادية العربية ، أرى من المفيد الإشارة إلى تجربة المجتمعات الأوروبية في ظل استبداد النمط الإقطاعي فيها لأكثر من ألف عام ، امتدت منذ القرن الرابع الميلادي حتى نهاية القرن السابع عشر، سادت فيها الفلسفة الإقطاعية التي كممت الأفواه وأغرقت أوروبا في الظلام عبر ثقافة اللاهوت الرافضة للعقل ولكل مبادئ وآليات البحث عن الحقيقة ، حيث لم تتمكن المجتمعات الأوروبية الغربية الانتقال من النمط الزراعي الإقطاعي محدود الأفق إلى النمط الجديد الصناعي الرأسمالي بآفاقه المفتوحة ، إلا عبر صراعات وتناقضات متراكمة ومتعددة الجوانب، الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية ، تفجرت وتحولت نوعياً في القرن الثامن عشر معلنة ميلاد عصر النهضة والتنوير وبداية عصر جديد للبشرية، بعد أن تم حسم انتصار المعركة الفكرية والتنويرية الديمقراطية العلمانية عبر تلك الصراعات . لكن ولادة هذا العصر لم تكن عملية سهلة في المكان أو الزمان، ولم تتم أو تظهر معالمها دفعة واحدة، أو اتخذت شكل القطع منذ اللحظة الأولى مع النظام أو الحامل الاجتماعي القديم ، إذ أن هذا الانقطاع لم يأخذ أبعاده في الانفصام التاريخي بين العصر الإقطاعي القديم، وعصر النهضة والتنوير الجديد، إلاَ بعد أربع قرون من المعاناة شهدت تراكماً مادياً وفكرياً هائلاً من جهة ، وتحولات ثورية في الاقتصاد والتجارة والزراعة والمدن كانت بمثابة المُحَفِّز لانتشار فكر النهضة والإصلاح الديني والتنوير من جهة والتلاحم مع هذه المنظومة الفكرية العقلانية العلمانية المتحررة الجديدة من جهة أخرى ، تمهيداً للثورات السياسية البرجوازية في القرن الثامن عشر (في فرنسا وبريطانيا وهولندا وألمانيا) التي أنجزت كثيراً من المهمات الديمقراطية لمجتمعات أوروبا الغربية. لقد كان نجاح هذه الثورات بمثابة الإعلان الحقيقي لميلاد عصر النهضة والتنوير أو عصر الحداثة والعلمانية والديمقراطية والمواطنة، ففي هذا العصر انتقلت أوروبا الغربية من مجتمع الطبيعة المحكوم بنظرية الحق الإلهي إلى المجتمع المدني ، مجتمع الديمقراطية والثورة العلمية الكبرى. ومع بزوغ عصر النهضة ، كان لفلسفة الإقطاع اللاهوتية الظلامية، أن تسير في درب الانحطاط في ظروف بدأ يتعزز فيها انتشار مفاهيم التنوير والعقلانية والعلم والديمقراطية، ترافق كل ذلك مع تغيرات ثقافية وفكرية رحبة، كسرت الجمود الفكري اللاهوتي السائد ، وأدت إلى " تهاوي استبداد الكنيسة في عقول الناس " وإخفاق وتراجع نفوذ الكنيسة الاقتصادي والسياسي ، وظهور مجموعات من المثقفين البرجوازيين قطعوا كل صلة لهم بالكنيسة واللاهوت الديني المذهبي ، وارتبطوا مباشرة بالعلم والفن ، وقد سمي هؤلاء بأصحاب النزعة الإنسانية "HUMANISM "، ( وهو مصطلح نورده هنا لأهميته إذ أنه دل آنذاك على الثقافة الزمنية في مواجهة الثقافة اللاهوتية الرجعية)، وقد أخذ هؤلاء المثقفون من أصحاب النزعة الإنسانية على عاتقهم، معارضة ونقض المفاهيم والعلوم الدينية الكنسية، عبر نشر علومهم الدنيوية التي كانت بالفعل أقرب إلى التعبير عن مزاج البرجوازية الصاعدة آنذاك ، ومن ثم بزوغ النمط الرأسمالي معلناً إشراقة عصر جديد ، سُمّيَ عصر البعث renaissance الذي تولت قيادته ووجهت مساره الطبقة البرجوازية الصاعدة آنذاك، وفق قواعد الليبرالية والديمقراطية والعلمانية ومفاهيم الحداثة والتقدم العلمي . ان غايتي من وراء الإشارة إلى نهوض المجتمعات الأوروبية في عصر النهضة، تتجلى في أن انحياز المثقف اليساري العربي لمفاهيم الحداثة والعلمانية والتنوير والنهوض الديمقراطي، تستهدف الإسهام المعرفي في استنهاض مجتمعاتنا العربية، لكن هذه العملية ستصطدم لا محالة بالواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي تتغلغل فيه –حتى اللحظة – الأنماط وأساليب الإنتاج القديمة ، الإقطاعية والقبلية ، التي تختلط بالعلاقات الرأسمالية الرثة والتابعة، بما يكرس أوضاع التخلف الاجتماعي والثقافي، التي تتيح بدورها كل العوامل والمقومات المطلوبة لاستمرار بقاء الشرائح الاجتماعية الطبقية العشائرية والعائلية والكوامبرادورية والبيروقراطية، واستمرار ممارساتها الاستبدادية والقمعية حفاظاً على مصالحها الطبقية وبقائها في الحكم . فعلى الرغم من دخولنا القرن الحادي والعشرين، إلا أن مجتمعاتنا العربية مازالت في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة، أو في زمان ما قبل الرأسمالية، وبالتالي غربة مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والمواطنة عن هذه المجتمعات ، وذلك يعود إلى رثاثة العلاقات الرأسمالية في بلادنا وتبعيتها وطابعها التجاري الوسيط – الكومبرادوري والخدمي غير المنتج ، علاوة على أن معظم شرائح "البورجوازية" في بلادنا هي وليدة الطبقة شبه الإقطاعية وامتداد لمصالحها، وهي بحكم تبعيتها وطابعها التجاري، حرصت على تكريس مظاهر التخلف الاجتماعي عبر تكيفها مع الأنظمة الاوتوقراطية والثيوقراطية الحاكمة ، والشواهد على ذلك كثيرة، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير، بمنطلقاتها العلمية وروحها النقدية التغييرية، وإبداعها واستكشافها المتواصل في مناخ من الحرية والديمقراطية، ففي غياب هذه السمات، يصعب إدراك الوجود المادي والوجود الاجتماعي والدور التاريخي الموضوعي للتطور أو التبلور الطبقي، الآمر الذي أدى إلى إضعاف الوعي بالظلم الطبقي لدى جماهير العمال والفلاحين الفقراء واستمرار هيمنة أوضاع التخلف الاجتماعي في أوساطهم ، وتعطيل إدراكهم بوجودهم الطبقي المتميز، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي على المستوى القطري أو على المستوى العربي العام، و لعلنا نتفق أن السبب الرئيس لهذه الإشكالية الكبرى، يكمن في طبيعة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التاريخية والمعاصرة، باعتبارها نتاج وامتداد لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية وعشائرية وشبه إقطاعية، وشبه رأسمالية، تداخلت عضوياً وتشابكت بصورة غير طبيعية، وأنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة، المشوهة، والمتخلفة، والتابعة . ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والاتصال، يشهد مجتمعنا العربي –على الرغم من تفجر الانتفاضات الشعبية- عودة إلى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه، فهو مجتمع غير متبلور طبقياً، مرحلي، انتقالي، تراثي، قدري بصورة عفوية ، تتجاذبه حركات الإسلام السياسي السلفية، شخصاني في علاقاته الاجتماعية، يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية، وبالتالي مرحلة ما قبل الحداثة . أما على الصعيد الداخلي الاجتماعي، فإن "الفجوات بين الطبقات الثرية والميسورة والمحرومة، تزداد اتساعا وعمقا، وفي ظل هذه البنية الطبقية الهرمية التي تحتكر فيها القلة السلطة وثروات البلاد، تعاني الجماهير الفقيرة حالة تبعية داخلية شبيهه بالتبعية الخارجية ومتممة لها، فتمارس عليه وضده مختلف أنواع الاستغلال والهيمنة والقهر والإذلال اليومي"[2]. أمام هذا الواقع المعقد والمشوه، وفي مجابهته، ندرك أهمية الحديث عن مفاهيم العلمانية والديمقراطية والمجتمع المدني ، والنضال من أجل تطبيقها وتوعية الجماهير بها ، ولكن بعيداً عن المحددات والعوامل الخارجية والداخلية، المستندة إلى حرية السوق والليبرالية، لأننا نرى أن تعاطينا مع هذه المفاهيم وفق النمط الليبرالي، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية التابعة والمشوهة من جهة، ويتم استخدام مضامين هذه المفاهيم في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة الطبقية ومصالحها المشتركة في إطار الحكم أو خارجه من جهة ثانية. إن إدراكنا لهذه الفروق الجوهرية، يدلنا على كيفية التعامل مع هذه المفاهيم، وأية مفاهيم حداثية وتقدمية أخرى، وفق خصوصية تطورنا الاجتماعي التاريخي والمعاصر، المختلفة نوعياً عن مجرى وطبيعة التطور في البلدان الغربية، وما يتطلبه ذلك الإدراك من تحويل في المفاهيم بحيث تصبح مقطوعة الصلة مع دلالاتها السابقة، التي تمحورت فقط عند الإشارة إلى الديمقراطية والعلمانية كضرورة في خدمة عمليات التنافس الاقتصادي بين الأفراد على قاعدة حرية السوق في إطار الليبرالية الجديدة وآلياتها المتوحشة في نظام العولمة الراهن. فالعَلْمانية ، بالنسبة لنا هي : مفهوم سياسي يقتضي الفصل بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، الدولة لا تمارس فيه أية سلطة دينية، كما أن المراجع الدينية لا تمارس أية سلطة سياسية، بمعنى الفصل بين الزمني والروحي، بين الدولة والدين ، أي بين الاختصاصات الدنيوية والاختصاصات الدينية، كما أن الدولة العلمانية ليست دولة لا دينية ، بل هي دولة لا طائفية . ليست هي الدولة التي تنكر الدين ، بل هي الدولة التي لا تميز دينا على دين ، و لا تقدم أبناء طائفة على أبناء طائفة أخرى، ولا تخص بعض وظائف الدولة بأبناء طبقة بعينها دون سائر الوظائف . هذا من الناحية القانونية ، أما من الناحية الفلسفية و المعرفية ، فإن أقصى ماتعنيه العلمانية ليس الإلحاد أو نفى وجود الله بل " تأسيس حقل معرفي مستقل عن الغيبيات و الافتراضات الإيمانية المسبقة " . و بكلمة واحدة ، إن العلمانية ليست نفيا للإعتقاد ، بل هي تحرير له من القيود و الإكراهات الخارجية. ولا غرو بالتالي أن يكون الفكر الديني الحديث قد عرف في ظل العلمانية تطورا في العمق ما أتيح له أن يعرفه في ظل الأنظمة الثيوقراطية . ووفق هذه الرؤية، فإن موقفنا الموضوعي تجاه مفهوم العلمانية يقوم على الأسس التالية : 1- تامين الحرية الدينية. 2- فصل الدين عن الدولة. 3- اعتبار الشعب أو المجتمع مصدر التشريع و القوانين . 4- تعزيز المحاكم المدنية العامة لضمان المساواة التامة في الحقوق والواجبات. 5- عقلنة الدولة والمجتمع وتعزيز الثقافة العلمية العقلانية وفق آلاليات الديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسية. 6- تحرير الدين من سيطرة الدولة وإساءة استعماله لأغراض سياسية، وكذلك تحرير الدولة من هيمنة المؤسسات الدينية. وفي هذا الجانب، نشير بوضوح ، إلى أن العلمانية "ليست مذهبا فلسفيا ، بل مذهب قانونى – سياسي بالدرجة الأولى ، و لكنها غير منقطعة الصلة بالفلسفة ، لأنها في جانبها النظري نتاج للنظر العقلي، و لأنها في جانبها العملي تنبثق عن جملة من الممارسات و الإشكاليات التي تتصل بالعلاقة بين الدين و الدولة ، بين السلطة الروحية و السلطة الزمنية ، و بالتالي و في التحليل الأخير بين الثيولوجيا و الانثروبولوجيا ، أي بين الإلهيات و الإنسانيات"[3] . وفي هذا السياق أشير إلى أن كلمة عَلمانية غير مشتقة من العلم ، بل من العاَلم ، و على هذا فإن العَلماني هو من ينتسب إلى العالم أو العالمين أي الناس ، في مقابل الرباني المنسوب إلى الرب . ولكن ليس من قبيل الصدفة أن تذهب الأذهان إلى العلم عند ذكر العلمانية ، فما ذلك لتشابه في اللفظ فحسب ، بل كذلك للصفة المضمونية ، فـ العلماني هو بالإجمال من يأخذ بالتصور العلمي للعالم في مقابل التصور الديني . في ضوء ما تقدم ، فإن العلمانية بالنسبة لنا ، لا تعني عقيدة لا دينية ، ولا استبعاد الدين من الحياة العامة، ولا تقييد الحريات الدينية ، فالحرية الدينية والفكرية وحرية الرأي شرط أول ومطلق، وبانتفائه تنتفي العلمانية من أساسها، فالعلمانية والديمقراطية عملية واحدة مترابطة، تضمن المساواة الكاملة بين مواطنيها بصرف النظر عن اعتقاداتهم، ولنا في ذلك مثال صارخ، يتجلى في تجربة المجتمعات الأوروبية الغربية الديمقراطية العلمانية، التي تسمح بالتدين وعدم التدين أو الإلحاد في آن واحد، وهذا هو جوهر العلمانية بالضبط ، ففي فرنسا مثلا –كما يقول هاشم صالح- "يمكن لأي شخص أن يمارس طقوس دينه سواء أكان مسيحيا أو مسلما أو يهوديا أو بوذيا، ولكن يمكنه أيضا ألا يمارسها على الإطلاق! ويظل مع ذلك مواطنا يتمتع بكافة الحقوق، فالحرية لا تكون في اتجاه واحد فقط، وإلا فليست حرية، فكل متدين مواطن بالضرورة، ولكن ليس كل مواطن متدينا بالضرورة، ولا يحق مثلا لجاره المتدين أن يعيّره بذلك أو أن ينظر إليه شذرا وكأنه كافر أو فاسق لأنه يختلف عنه، وفي هذا الجانب، ماذا نفعل بطبيب ناجح يداوي الناس بالمجان أحيانا ولكنه غير متدين أو لا ينتمي إلى طائفتنا أو مذهبنا؟ هل نكفره ونعدمه ونخسر كفاءاته؟ وقس على ذلك المهندس والخبير الاقتصادي والعالم الفيزيائي والفيلسوف والصحافي الخ".. كما أن العلمانية بالنسبة لنا –أيضاً- تعني على الصعيد المعرفي، تحرير العقل من المسبقات، والمطلقات، وتحرير الفكر من كل الأوهام والخرافات وكل مظاهر ورواسب التخلف، وتحرير الانسان من العبودية والاستبداد والاستغلال، العلمانية ليست ضد الدين، لكنها ضد الوثنية الدينية وضد سلطة رجال الدين وتدخلهم في حياة الانسان، إنها - إذن- عملية تاريخية او سيرورة تقدم في التاريخ والمعرفة، فالعلمانية لغوياً –كما أشرت- مشتقة من العالم الدنيوي او عالم البشر الذي يصنعون تاريخهم بأنفسهم، وهي بذلك تقيم سلطة العقل والمنطق، وتعلن نسبية الحقيقة وتاريخيتها وتغيرها، وذلك هو جوهر الحداثة التي لا ننكر أنها منظومة معقدة ومتشعبة، لابد من وعي جوهر حركتها اللانهائية من ناحية، ووعي سماتها الرئيسية المرتبطة باكتشافين جوهريين -كما يقول الصديق د.هشام غصيب- هما: - اكتشاف الطبيعة بوصفها كياناً مادياً مستقلاً. - واكتشاف الإنسان بوصفه فرداً خلاّقاً وتاريخاً ومجتمعاً. فقد بدأت الحداثة بادراك مادية الطبيعة ومحورية الإنسان، ذلك إن عنصراً أساسياً من عناصر الحداثة –كما يضيف د.هشام غصيب- هو اكتشاف قيمة الفرد بوصفه ذاتاً خلاقة. فالفرد وفق الحداثة تنبع قيمته من ذاته لامن ملته ولا من قبيلته، وهذه الفكرة الحداثوية الجوهرية التي ترفضها الشرائح أو القبائل والعائلات الحاكمة في بلادنا العربية ، حفاظاً على مصالحها الطبقية الأنانية الخاصة، عبر تكريس كل مظاهر الاستتباع والتخلف والاستبداد والقمع، وفق مقتضيات تحالفها الاستراتيجي مع النظام الامبريالي ضد مصالح وتطور شعوبها، كما نلاحظ بوضوح لدى الأنظمة العربية ، التي يعشش فيها الاستبداد والقمع والاستغلال الطبقي، والتي ترفض كلياً مفاهيم وأفكار الحداثة والديمقراطية والعلمانية ، مما أدى إلى تكريس ما أسميه مجازاً عقلية الصحراء المتخلفة ( وأقصد بذلك أنظمة ما يسمى بـ "ملوك وأمراء السعودية والخليج" ) التي تسعى إلى التحكم في مسار المدينة العربية بالمعنى النهضوي الحداثي ، بحيث يصح القول أن الصحراء تحكم المدينة أو تتحكم في التطور الحديث، أو كما يقول ماركس "الميت يحكم الحي" ، إذ أن "هذا الميت" الصحراوي مازال أصحابه من ملوك وأمراء القبائل العربية ، حتى اللحظة يتحركون في حلقة دائرية تعيد انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي وتجدده، في محاولة منهم التهرب من تحدي الحداثة بالعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية إعادة زراعته وإنتاجه بالتنسيق مع تلك الأنظمة ، في قلب عفوية الجماهير الشعبية، ذلك إن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، عبر منطق تراجعي، من خلال الدعوة للعودة، بحسب ادعاء هذه الحركات، إلى الماضي بذريعة العودة إلى أصول الإيمان والاعتقاد. وهنا بالضبط تتبدى الضرورة التاريخية التي تستدعي من القوى اليسارية الثورية في كل بلد عربي، تركيز أهدافها ومهماتها النضالية، السياسية والمجتمعية، باتجاه تغيير وتجاوز هذا الواقع ، وان تتحمل مسؤلياتها الكبرى، في كونها تشكل في هذه المرحلة طليعة الحامل الاجتماعي الديمقراطي الثوري على طريق النهوض والتقدم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، شرط أن تبادر أولاً إلى نشر وتعميق الوعي داخل تنظيماتها ، بمفاهيم التنوير والعلمانية والديمقراطية والحداثة، والثورة والفكر الماركسي المتجدد واستخدامه من أجل تغيير الواقع الراهن وتجاوزه . فبالرغم من نضالنا من أجل تكريس الحريات الفردية والحريات العامة والديمقراطية السياسية ، إلى جانب إيماننا العميق بأولوية العلمانية في سياق التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مجتمعاتنا العربية، إلا أننا نرفض الوقوف عند حدود الديمقراطية السياسية ، بمثل ما نرفض استخدام العلمانية بدون الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي معاً، فالعلمانية والديمقراطية، بالنسبة لكافة قوى اليسار، هما مفهومان مترابطان لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر، لان استخدام العلمانية وحدها يفتح الأبواب مشرعة أمام الاستبداد والتفرد بالحكم، وبالتالي فإن التطبيق الإكراهي للعلمانية ، لا يعدو كونه مظهراً بشعاً من مظاهر الاستبداد الدكتاتوري الفردي والشمولي ، من هنا يمكن تفسير فشل الأنظمة الشمولية ذات الحزب الواحد ، وتفسير كراهية وحقد وتمرد جماهير شعوبنا على أنظمة الاستبداد وعبادة الفرد أو الزعيم ، ومشاركتها في الانتفاضات الشعبية العربية تحت شعار الحرية والعدالة والكرامة، بعيداً عن قيود الحاكم الفرد المطلق أو الزعيم أو الحزب الواحد ، وبعيداً عن الفكرة الواحدة والشعارات النمطية الواحدة التي قتلت روح الإبداع والحريات الفردية والعامة . كما أن استخدام الديمقراطية بدون ربطها بالعلمانية والقضايا الاجتماعية، يعني إتاحة كل الفرص أمام قوى الثورة المضادة، وقوى التبعية والتخلف والإسلام السياسي، لاستغلال عفوية الجماهير الشعبية الفقيرة وتوجيهها لحساب الرؤى والسياسات الاقتصادية الرأسمالية التابعة بصورة ديماغوجية، كما حصل في تونس ومصر وليبيا والعراق واليمن، والبقية على الجدول ، فالحركات الأصولية الدينية تتخلق في أرحام الأزمات الهيكلية لمجتمعاتها ، وتولد وتنمو مع تفاقم هذه الأزمات وازدياد حدة آثارها المواكبة لها والناجمة عنها ، وهنا بالضبط تجد قوى الإسلام السياسي فرصتها الذهبية في إطار الديمقراطية السياسية الليبرالية . الأمر الذي يؤكد على أن النضال الديمقراطي، في إطار الصراع الطبقي والسياسي والفكري ، من أجل نشر وتعميم فكرتي العلمانية والديمقراطية في أوساط الجماهير ، يحتاج بالضرورة إلى توفر الأسس الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في قلب البنية التحتية للجماهير الشعبية ، ما يعني أن تطبيق هذين المفهومين في المدى المنظور ليس أمراً سهلاً بل هو أمر بالغ التعقيد ، لأن المعركة بين الأفكار الحداثية والأفكار الأصولية لم تحسم بعد ، بل يبدو أنها –في اللحظة الراهنة بالتحديد- تكاد تكون محسومة -بنسبة عالية- لصالح الأفكار الأصولية السلفية وحركات الإسلام السياسي ومعهم كل قوى الكومبرادور والبيروقراطية الحاكمة وقوى الثورة المضادة في البلدان العربية ، خاصة وأن الأفكار الأصولية الدينية متغلغلة تاريخياً – بصورة عفوية ووراثية – في أوساط جماهير الفقراء العرب اللذين يشكلون اليوم الأغلبية الساحقة من سكان الوطن العربي، ما يعني بوضوح وإلحاح شديدين ، أن تبادر فصائل وأحزاب اليسار العربي، الخروج من أزماتها التنظيمية والفكرية والسياسية، صوب نهوض ذاتي وجماهيري، يمكنها من مجابهة تعقيدات الوضع الراهن. وفي هذا الجانب أشير إلى أننا، قد نتفق جميعاً على أن الأغلبية الساحقة من جماهير شعوبنا العربية ، ومعهم قسم لايستهان به من المثقفين العرب ، يتخوفون ويترددون من التعاطي الواضح والصريح مع مفهوم العلمانية وضرورته الموضوعية الراهنة ، بل يتعاطون معه –من منطلق انتهازية المثقف السلطوي– باعتبار مفهوم العلمانية حسب زعمهم، " شعار يحمل في طياته أدوات الهدم والتفكيك للتراث الإسلامي كله"!!!، بل ويحاولون تكريس الانطباع الخاطئ في الوعي الجماعي العفوي لجماهيرنا العربية، بأن هذا المفهوم يتطابق مع مفهوم الإلحاد ، مما يثير كل دواعي الانفعال العاطفي العفوي في أوساط هذه الجماهير واستنكارها ورفضها التعاطي مع مفهوم العلمانية ، وهو أمر نقيض لحقائق الحياة ومستقبلها في مجتمعاتنا ، بمثل ما هو نقيض لمصالح الجماهير الشعبية الفقيرة التي لا تستطيع إدراك الدوافع الانتهازية للمثقف السلطوي من وراء هذا الطرح ، بسبب غياب دور المثقف الديمقراطي العضوي وأحزاب وحركات اليسار الديمقراطي وعدم تواصلها مع جماهيرها . من هنا أهمية الحاجة ، سواء في نضالنا التحرري ضد التحالف الامبريالي الصهيوني ، أو في نضالنا وصراعنا الطبقي الديمقراطي الاجتماعي الداخلي، إلى مهماز يتقدم بنا نحو الحداثة والمواطنة والديمقراطية والعلمانية ، وهما وجهان لعملة واحدة ، وبدون ذلك لن نستطيع أن ندخل الحداثة ونحن عراه ، متخلفين وتابعين ومهزومين يحكمنا الميت أكثر من الحي، الماضي أكثر من المستقبل. وفي هذا السياق ، لابد من الإشارة إلى أن الفقر، يُعَد من أهم كوابح النضال من أجل الديمقراطية والتنوير والعلمانية والمواطنة او النضال والصراع الطبقي، أو أي ممارسة وطنية ومجتمعية على الصعيد العام، لأن من لا يجد قوت يومه ، يصعب عليه أن يطالب بحرية التعبير وبقية حقوقه السياسية ، ناهيكم عن المشاركة في الأحزاب والفصائل السياسية ، ذلك أن الفقير ينشغل بتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة له ولأهله، قبل أن يمارس حق الانتخاب أو الاقتراع (المدفوعة الثمن في كثير من الحالات) وقبل أن يشارك في تظاهرة أو ينضم إلى حزب سياسي أو ينشط داخل نقابة أو جمعية....إلخ، وكما يقول ماركس بحق " يغيب العقل حين يغيب الدقيق " ، وبالتالي فإن الفقر قد يدفع الأفراد ليس إلى التنازل عن حقوقهم كمواطنين فحسب، بل أيضاً يدفعهم صوب مزيد من الإحباط واليأس والميل للاستسلام. لذلك فإن إحدى أهم مساهمات اليسار الجذرية المطلوبة في هذا الجانب ، تكمن في قدرتها على صياغة البرامج التنموية الهادفة إلى تأمين لقمة العيش الكريمة للعاطلين عن العمل، في إطار النضال الديمقراطي المطلبي الحازم دفاعاً عن قضايا جماهير الفقراء والكادحين والمضطهدين ، وذلك من خلال معايشة القوى اليسارية لهذه الجماهير والتأكيد على شعاراتها وأفكارها السياسية والطبقية المنحازة لهم ونشرها بين صفوفهم. بالطبع هناك أسباب موضوعية لانتشار الحركات الأصولية، ناجمة عن شدة التخلف وعن قوة التبعية والهيمنة الإمبريالية ، إلى جانب تماهي الأنظمة الرجعية مع الهيمنة الإمبريالية على مقدرات وثروات شعوبنا، لكن عجز العامل الذاتي (الحزب الثوري) في هذه البلدان ، كما في بلدان أنظمة الاستبداد أو الجمهوريات الوراثية التي تحولت في سيرورتها من أنظمة وطنية إلى أنظمة كومبرادورية، حيث باتت السلطة فيها مصدراً للثروات الفاسدة وغير المشروعة ، أدى كل ذلك إلى إعاقة الديمقراطية والحداثة من جهة ، واستمرار احتجاز تطور شعوبنا ، وتفاقم إفقارها واستغلالها وقمعها من جهة ثانية ، وهنا بالضبط يتحدد الدور الطليعي، الراهن و المستقبلي للمثقف العربي الماركسي الثوري الديمقراطي بالمعنى الجمعي، العضوي - الحزب- لمجابهة هذا الواقع المأزوم والثورة عليه وتغييره انطلاقاً من رؤية واضحة ومحددة، تقوم على القطيعة الكلية الشاملة مع كل الأنظمة الرجعية وأنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف والتوريث من جهة ، والقطيعة الكلية والشاملة مع كل أشكال ومظاهر التبعية أو التحالف (مهما كانت المبررات) مع مجمل نظام العولمة الإمبريالي و النظام الرأسمالي، أو ما يسمى بالاقتصاد الحر والليبرالية الجديدة من جهة ثانية ، ما يعني أن هذه الرؤية الثورية الديمقراطية يتوجب أن تنطلق بداية من إلغاء النظام الرأسمالي باعتباره نظاماً للاستغلال والقهر والقمع والاستبداد والإفقار ، وبالتالي فإن النضال السياسي والديمقراطي والمجتمعي والكفاحي ضد الوجود الامبريالي هو شرط رئيسي يتوازى تماماً مع هدف التغيير الديمقراطي صوب تحقيق أهداف الثورة الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية العربية في بلادنا. حول التبعية والتخلف والإسلام السياسي التبعية هي "ظرف موضوعي تشكل تاريخيا، ينطوي على مجموعة علاقات اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية، تعبر عن شكل معين من أشكال تقسيم العمل على الصعيد الدولي، يتم بمقتضاها توظيف موارد مجتمع معين لخدمة مصالح مجتمعات أخرى تمثل مركز أو قلب النظام الرأسمالي العالمي"[4]. وتؤدي أوضاع التبعية إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة وفقدانها السيطرة على شروط إعادة تكوين ذاتها أو تجددها، بحيث تعتمد الدولة التابعة ليس على مواردها المحلية، وإنما على المعونات والتكنولوجيا من المراكز الرأسمالية بهدف المحافظة على الدور المتدني للدول التابعة في التقسيم الرأسمالي العالمي للعمل، واستمرار الطبيعة الذيلية للكيان الاقتصادي لهذه الدول، بحيث تبقى البنية الاجتماعية-الاقتصادية للدول التابعة بنية متخلفة، بمعنى أنها بنية فاقدة للتكامل الذاتي تتسع فيها الفجوة بين هيكل الانتاج وهيكل الاستهلاك، حيث ينتج المجتمع ما لا يستهلك، ويستهلك ما لا ينتج. فالتبعية إذن هي جوهر التخلف الى جانب العوامل الداخلية وأهمها بقاء سيطرة أنماط التطور القديمة وتداخلها الفج مع الأنماط الحديثة في إطار ما يسمى بثقافة التخلف المحكومة بالماضي الذاتي السلفي الرجعي. وفي مثل هذا المناخ ، ولدت حركات الإسلام السياسي ، منذ ثلاثينات القرن الماضي، بدعم صريح من القوى الرجعية العربية الحاكمة لكي تؤدي دورها في مناهضة القوى الديمقراطية العلمانية وقوى اليسار العربي وكافة القوى الثورية ، ذلك هو دورها وتلك هي رسالتها في المساهمة في الحفاظ على أوضاع التبعية والتخلف الاجتماعي / والثقافي في المجتمعات العربية ، واستمرار مراكمتها في سياق العلاقات الرأسمالية التابعة ، وبمسميات اسلاموية، بما يضمن استمرار احتجاز تطور ونهوض الشعوب العربية، وهو هدف طالما عملت القوى الامبريالية والصهيونية على تحقيقه ، لكن فشل تجربة الدولة الوطنية الديمقراطية في بلادنا ، إلى جانب تشرذم وتفكك وعزلة أحزاب وفصائل اليسار العربي وغياب تأثيرها ومصداقيتها في أوساط الجماهير، أسهم في تزايد انتشار وتوسيع حركات الإسلام السياسي، وهيمنتها الفكرية والسياسية على القسم الأكبر من جماهيرها الشعبية ، كما نشهد اليوم في ظل الانتفاضات العربية. إن استمرار هيمنة الفكر الديني السلفي المنغلق عبر تيارات الإسلام السياسي ، على المستوى المعرفي عموماً ، وفي الوعي العفوي الشعبي على وجه الخصوص ، وفي مساحة كبيرة من الإنتاج الثقافي في الوطن العربي ، يعني استمرار فعل آليات التخلف المعرفي كانعكاس للتخلف المجتمعي في واقعنا العربي . وبالتالي ، فان أكثر ما يشغل أذهان القوى الديمقراطية واليسارية العربية تجاه حركات "الإسلام السياسي"، هي مرجعياتها السلفية المتزمتة ، ودعوتها إلى تقييد وقمع حرية الرأي والتعبير والمعتقد، وموقفها من قضية تحرر المرأة ومساواتها بالرجل ، إلى جانب تبنيها والتزامها الطبقي بالاقتصاد الرأسمالي ومن ثم تكريس الاستغلال الطبقي في إطار من تجديد علاقات التبعية في ظل سياسات اقتصاد السوق والانفتاح وشروط البنك والصندوق الدوليين ، علاوة على الموقف الرجعي تجاه مفاهيم التنوير والحداثة والديمقراطية والعلمانية ، وهي عوامل تؤشر إلى أننا سنواجه –مع هذه الحركات- ظروفا وأوضاعاً معقدة, في خضم الصراعات والتناقضات السياسية والفكرية ، وقضايا الصراع الطبقي، مع تأكيد حرصنا على أن لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري الذي يحكم علاقتنا بالعدو الإمبريالي الصهيوني. وفي إطار حديثي عن علاقة اليسار العربي مع حركات الإسلام السياسي ، فإنني أود التوضيح هنا أنني لست في وارد تناول موضوعة " الدين" من زاوية فلسفية , في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية, فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة مهمة وحساسة , فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين , بل على العكس، فان التحليل الموضوعي ، إلى جانب الوعي والشعور بالمسئولية والواجب، يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الإسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فالماركسية تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل –في مراحل تاريخية معينة- تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع. وعلى الرغم من كل ما تقدم ، علينا أن ندرك في ضوء المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، إلى أننا سنواجه –مع حركات الإسلام السياسي- ظروفا وأوضاعاً معقدة, ما يفرض على قوى اليسار العربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديموقراطية وقضايا الصراع الطبقي والسياسي، ومفاهيم الاستنارة والعقلانية مع هذه الحركات بمختلف مذاهبها، كما عبر عنها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد وأحمد أمين .. وغيرهم، بحيث نحرص على أن لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري، وأن تظل الخلافات محكومة للعلاقات الديمقراطية. وفي هذا السياق، أؤكد على أن احترامنا للأديان عموماً والتراث الديني الإسلامي خصوصاً، يتطلب منا –عبر الحوار الديمقراطي- رفض استخدام الدين كأداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي وحرية الرأي والرأي الآخر، وكذلك رفض اختزال الإيمان الديني إلى تعصب حاقد ضد الآراء والأفكار والعقائد الأخرى. وفي كل الأحوال ، يجب أن تظل علاقة اليسار العربي مع قوى الإسلام السياسي ، علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع والصراعات الطبقية الاجتماعية والسياسات الداخلية، وطبقاً للموقف من العدو الامبريالي الصهيوني ، دون أن نتجاوز مخاطر تطبيق الرؤية الأيديولوجية الدينية على الصعيد الاجتماعي، حيث يتجلى التعارض والتناقض بصور أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية للعمال والفلاحين ، والشباب، والمرأة، وحرية الاعتقاد والرأي والتعبير والاجتهاد والإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها .إن وضوح هذه الرؤية، ومن ثم البناء عليها بالنسبة لعلاقة القوى اليسارية مع القوى الإسلامية يتطلب من هذه الأخيرة أن تتخذ موقفاً واضحاً من التوجهات التالية: أولا: تكريس أسس الدولة المدنية الديمقراطية ، والالتزام بمفاهيم وآليات الديمقراطية السياسية والاجتماعية وترسيخها كنهج حياة مجتمعي يضمن الحرية بكافة أنواعها وفي مقدمتها حرية المعتقد. ثانيا: رفض التبعية للقوى الامبريالية بأشكالها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية . ثالثا: رفض الاعتراف أو التطبيع مع دولة العدو الصهيوني . رابعا: تغليب التناقضات الرئيسية على الثانوية. أخيراً ، أعتقد أن من واجب كافة القوى اليسارية الماركسية العربية أن تتداعى على الفور لكي تناقش الأفكار الكفيلة بالتمهيد الجدي لوحدتها ، كخطوة ضرورية على طريق تنظيم وتأطير أوسع شرائح العمال والفلاحين الفقراء. بما يمكنها من امتلاك أدوات الضغط السياسي الجماهيري، واثبات وجودها وفعاليتها تجاه قوى الإسلام السياسي وكافة القوى اليمينية ، وبدون ذلك ستظل مشاعر القلق والخوف من المشهد القادم ورسوخه في السنوات القادمة، ماثلة في ذهني – بالمعنى الموضوعي – إذ أن سقوط أنظمة الاستبداد في البلدان العربية عموماً وفي القاهرة وتونس واليمن وليبيا خصوصاً دون بديل ديمقراطي يقطع مع التحالف الإمبريالي الصهيوني ، فإننا قد نكون مقبلين على مرحلة جديدة وطويلة من التبعية والتطبيع والتخلف في مشهد الإسلام السياسي الذي بدأت تباشيره تلوح –في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة- في سماء تونس والمغرب والقاهرة وغيرها من العواصم على الجدول . الأمر الذي يستوجب تداعي جميع أحزاب وفصائل اليسار الماركسي ، إلى مراجعة ونقد تجاربها السابقة وتجديد وتطوير أحزابها والاتفاق على الرؤى السياسية والمجتمعية ، وعلى الأهداف والأسس الفكرية والتنظيمية التوحيدية المشتركة فيما بينها لكي تستعيد مصداقيتها ودورها الطليعي ، بما يسمح بأن تتحوّل إلى قوّة قادرة عبر بناء وتفعيل البديل الشعبي الديمقراطي التقدمي- في كل قطر عربي-على مجابهة الاستقطاب اليميني ، وتأسيس مقدرتها على تفعيل الانتفاضات أو الحالة الثورية العربية وصيرورتها الراهنة، وتحقيق أهدافها للخلاص من كل أشكال ومظاهر وأدوات الاستغلال الطبقي والاستبداد، واثقين من انتصارها، خاصة وأن أسباب الانتفاضة الثورية لن تتلاشى أو تزول، بل ستتراكم مجدداً- بعد أن تكتشف زيف الليبراليين وقوى الإسلام السياسي لتنتج حالة ثورية نوعية، تقودها جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين وفي طليعتهم أحزاب وقوى اليسار الماركسي الثوري جنبا إلى جنب مع القوى الديمقراطية المدنية ، العلمانية الوطنية والقومية لكي تحقق الأهداف التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها . إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعوبنا العربية كلها، في هذه اللحظة الثورية ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دوراً رئيسياً وأحادياً فيها، بل يعني تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، والاستجابة لمبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن.
[1] كارل ماركس-رأس المال –الجزء الأول –ترجمة محمد عيتاني-مكتبة المعارف-بيروت –1975 –ص7. [2] د.حليم بركات – المجتمع العربي في القرن العشرين –مركز دراسات الوحدة العربية –بيروت-تموز 2000- ص24. [3] الموسوعة الفلسفية العربية – المجلد الثاني – معهد الانماء العربي – ط 1 – 1988 – ص 914 [4] د.ابراهيم العيسوي – كتاب قضايا فكرية – القاهرة – يناير 1968
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الذكرى الأربعين لاستشهاد الرفيق غسان كنفاني
-
عشية الذكرى الأربعين لاستشهاد رفيقنا غسان كنفاني
-
نداء إلى الرفاق في كل أحزاب وفصائل اليسار العربي
-
الرأسمالية الفلسطينية والتكيف مع - حكومتي- فتح وحماس
-
الديمقراطية..محدد رئيسي لمجابهة وحل التعارضات والتناقضات الد
...
-
إلى كل الرفاق والأصدقاء والفصائل والقوى الوطنية في فلسطين وا
...
-
حديث في تطور مفهوم الأخلاق في المسيرة التاريخية للفلسفة
-
معطيات وأرقام حول الشعب الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين في م
...
-
لماذا الحاجة إلى فكر مهدي عامل اليوم ..؟
-
كارل ماركس ذكرى خالدة
-
الحرية لرفيقي سلامة كيلة
-
استقطاب فتح وحماس .. والبديل الغائب في المشهد الفلسطيني الرا
...
-
رسالة تحريض لكل النساء العربيات
-
لكل النساء العربيّات .. تهنئة واعتذار في الثامن من آذار ..
-
الاختصار في أزمة الماركسية وأحزاب اليسار
-
المفاهيم والقيم الاخلاقية والمجتمعية العربية وافاق المستقبل
-
بمناسبة الذكرى الأولى لانتفاضة 25 يناير ...
-
شعار -يهودية الدولة- بين غطرسة القوة والأسطورة التوراتية
-
معايدة إلى مواطنينا المسيحيين، أخواتي وإخواني ورفاقي وأصدقائ
...
-
حديث في راهن ومستقبل الانتفاضة واليسار العربي في مشهد الإسلا
...
المزيد.....
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|