نبيل حاجي نائف
الحوار المتمدن-العدد: 3785 - 2012 / 7 / 11 - 10:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن التنويم المغناطيسي حقيقي , ولكن من ينوّم الآخر
كلنا سمعنا بغسيل الدماغ ( والتنويم المغناطيسي هو غسيل دماغ مؤقت ) , فهو تغيير أفكار ومبادئ وعقائد وقيم الشخص , ووضع أفكار وقيم جديدة مختلفة عن التي كانت موجودة لديه .
إن الإيحاءات تشمل كافة مناحي حياتنا الثقافة والفكرية والعملية, والإيحاء هو أساس التنويم المغناطيسي . فنحن نوحي لبعضنا بالأفكار والمفاهيم والقيم التي نعتمدهم ونؤمن بهم , وهذا بمثابة تنويم مغناطيسي ( أو غسيل دماغ الآخر ) نقوم به فنؤثر به على الآخرين وندفعهم لتبني أفكارنا قيمنا وأهدافنا وثقافتنا.
التنويم المغناطيسي صحيح (وسنوضح ذلك لاحقا ) , و كل منا يسعى لتنويم الآخر عندما يوحي إليه بأن أفكاره ومعارفه وقيميه هي الأفضل . ولكن من ينوّم الآخر ؟
إن كافة أشكال الإعلام هي إيحاءات فكرية , أي هي نوع من التنويم المغناطيسي .
ومفهوم غسيل المخ أو برمجة العقول , والذي يستخدم في نشر الأفكاروالعقائد والمبادئ وبالتالي دفع الناس لتبني أهداف ودوافع وغايات معين عن طريق الإيحاءات باستخدام كافة أشكال الإعلام , هو شكل من أشكال التنويم المغناطيسي .
وهذا أدركه الإنسان منذ قديم الزمان ( ودون أن يعرفه بشكل واضح ) وهو يستخدمه دوما وبفاعلية كبيرة .
إن استعمال اللغة هو طريقة الدخول إلى عقل الآخر والتأثير على هذا العقل .
إننا نستطيع إدخال أفكار وتصورات وأوامر إلى عقل الآخر عن طريق اللغة , إن هذه المدخلات مهما كانت طبيعتها تفرض تأثيراتها (صغيرة أو كبيرة)على هذا العقل فهو مجبر على التعامل معها ومعالجتها والقيام باستجابات لها , وهذا يمكننا من التأثير على هذا العقل والتحكم في الكثير من استجاباته وبالتالي تصرفاته .
إن هذه الظاهرة أو هذه القدرة التي تملكها اللغة كان يستخدمها الإنسان منذ القديم عندما أدرك فاعليتها وجدواها .
وكل منا لاحظ تأثير اللغة على الآخرين وخلق الإيحاءات والاستجابات لديهم وبالتالي التحكم بتصرفاتهم , وذلك عن طريق التكلم معهم بأسلوب وطريقة مناسبة .
وقد كان للقصص أو الحكايا و للخطابة والأمثال والشعر ( والآن الإعلام ) تأثيرهم الكبير, وكانت الخطابة أشد تأثيراً لأنها كانت تستغل ظاهرة القطيع (أو الجمهرة ) التي تعتمد على المحاكاة والتقليد الغريزي للآخرين , وكلنا لاحظنا " هتلر" وغيره كيف كانوا يفرضون أفكارهم ودوافعهم وأهدافهم على الآخرين بواسطة الخطابة .
وتأثير الإيحاء يمكن أن يكون ذاتي , " يكذب كذبة ويصدقها "
مثل جحا عندما قال للأولاد الذين يضايقونه : أن هناك وليمة في المكان الفلاني فركض الأولاد إلى هناك , وعندما فكر حجا بما قال , وجد أنه ربما يكون هناك فعلاً وليمة فركض خافهم . والوسوسة والتردد والتوهم . ., هم ناتج تأثير أفكار وإيحاءات دخلت الدماغ وأعطت تأثيراتها .
إن الأفكار بعد أن تولد في أحد العقول , نتيجة تفاعلات الحياة , أو نتيجة تفاعل أفكار سابقة كانت قد دخلت إليه . تسعى للخروج والتوضع في العقول الأخرى , نتيجة لأمور عديدة , ذاتية واجتماعية , فإذا وجدت العقل الذي يسمح لها بدخوله , دخلته وسعت لكي تتوضع فيه , وهي سوف تجابه بمقاومة وممانعة من قبل الأفكار المتوضعة فيه وتسعى لمنعها من التوضع فيه . فإذا استطاعت أن تجد لها مكاناً , احتلته وأقامت فيه .
وكلما كانت هذه الأفكار الداخلة أكثر اختلافاً أو متناقضة وغير منسجمة مع الأفكار الموجودة , كان احتمال توضعها أصعب , فهي تجابه بممانعة ورفض قوي وحتى تحارب وتمنع من التوضع , أي تسعى الأفكار الموجودة سابقاً في العقل للقضاء عليها ,ومنعها من الانتشار في العقول الأخرى .
فالأفكار الموجودة في العقول تحافظ على وجودها وتسعى لزيادة انتشارها في العقول الأخرى , وبشكل عام تقاوم الأفكار الجديدة من قبل الأفكار الموجودة , وهذا أساس المحافظة وعدم التجديد .
إن هذا يحدث وبغض النظر عن أي الأفكار أدق أو أصح , فالموجود هو الأساس , والجديد هو دخيل ويجب أن يقاوم مهما كان , ولكن دوماً هناك احتمال بأن تستطيع بعض الأفكار الجديدة التوضع والانتشار في العقول , وهذا يكون نتيجة عدة عوامل وهي :
1- تكون العقول المستقبلة فارغة من الأفكار في هذا المجال, وعندها لا تجد من يقاومها فتتوضع بسهولة .
2- تكون الأفكار الجديدة قريبة من الأفكار الموجودة , أوهي تدعمها أو تنسجم معها .
3 - نتيجة تكرار نشرها , فهناك دور أساسي وهام جداً للتكرار في نشر الأفكار , فقد كان يقول " غوبلز " المسؤول عن الإعلام لدى " هتلر " لمساعيه كرروا وكرروا ما تنشروه فالابد أن يصدقكم الشعب , وهذا ما تمارسه كافة وسائل الإعلام بهدف نشر سلع أو أفكار أو خلق رغبات ودوافع أو استجابات وتصرفات لدى المتلقين.وإن للمحاكاة والتقليد دور أساسي وكبير في انتشار الأفكار في العقول .
إننا الآن جميعنا تحت تأثيرات الأفكار المنتشرة في العقول والتي تتنافس وتتصارع فيما بينها .
وإذا عدنا إلى سؤال " من ينوّم الآخر ؟ "
فأنا أرى أن المتحكم فينا " أو الذي ينومنا (أو يبرمج عقولنا ) ويتحكم بغالبية تصرفاتنا " :
هو الأفكار المنتشرة في العقول وبالذات التي تنشرها وسائل الإعلام , فهي التي تنومنا وتفرض علينا قوها وتأثيراتها , وبالتالي تفرض علينا غالبية استجاباتنا وتصرفاتنا , أي " المؤثر الأكبر فينا " ليس الأشخاص والمؤسسات والحكومات , بل الأفكار والعقائد .. التي يقوم بنشرها الإعلام
سوف يقول الكثيرون أن الدوافع والغايات هي الأساس , وليس الأفكار والثقافة التي يكتسبها الإنسان من مجتمعه , لأنها هي التي تستخدم تأثيرات الأفكار والإيحاءات والإعلام لتحقق نفسها .
إن هذا الوقع فعلاً .
ولكن الغالبية العظمى من هذه الدوافع والغايات صنعتها الأفكار والثقافة والعقائد المنتشرة في المجتمع .
فالأفكار والعقائد والمبادئ التي يتبناها كل منا ( أي التي دخلت عقله وتوضعت فيه ) , نقلها له الآخرين , فصار ملزم بخدمتها وتنفيذ مضمونها حتى وإن تعارضت مع أقوى الدوافع البيولوجية مثل المحافظة على الذات , فهو يضحي بنفسه من أجل الأفكار التي تبناها .
لنعد إلى سؤال من ينوم الآخر ؟
إننا نرى في النهاية أن المنومون الأساسيين أو المتحكمون فينا , هم مبدعين وخالقين هذه الأفكار .
فجلجامش وحمورابي وهوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وموسى وعيسى وبوذا و كونفوشيوس وزراتشت وابن عربي وابن رشد وكانت وهيوم وماركس وفرويد وأينشتاين والألاف غيرهم
هم الذين خلقوا الأفكار وزرعوها أو نشروها في باقي العقول .
فهؤلاء هم من برمجوا عقولنا ويتحكموا فينا .
كيف يحدث هذا وما هي الآليات والعمليات التي يجري استعمالها لتحقيق ذلك ؟
يجب أن نعرف أولاً كيف يكتسب الإنسان الأفكار والقيم والعقائد ( أو الثقافة ) أي كيف يبرمج دماغه أو عقله .
إن دماغ أو عقل الإنسان مجهز فزيولوجياً وعصبياً وفكرياً , وبشكل موروث بيولوجياً بقدرات على اكتساب الأفكار والمعاني .
ونتيجة اللغة المتطورة المحكية يكتسب أو يتعلم التصرفات والأفكار والقيم من أفراد الجماعة التي ولد ضمنها .
فهو يكتسب من أمه لغتها وكافة التصرفات والأفكار والتقييمات الأساسية التي هي اكتسبتها من أمها , و يتابع اكتسبه من باقي أفراد أسرته وعشيرته , وبذلك يتم اكتسب دماغه أو يبرمج دماغه بالأفكار والثقافة الموجودة لدى جماعته , أي يبرمج عقله عن طريق التوريث الاجتماعي وليس البيولوجي . ويتم اعتماد ما اكتسبه دماغه في كافة تصرفاته , وبهذا تنتقل الأفكار والثقافة عبر الأجيال . ولكن كانت تحدث في كل فترة قفزة من تغيير في الأفكار المنقولة نتيجة ظهور أحد المفكرين ينتج عقله أفكار جديدة أو يعدل أو يطور بعض الأفكار الموجودة , ويملك في نفس الوقت القدرة ( كأن يكون رئيس الجماعة أو ذو شخصية قادرة . . . الخ ) على نشر أفكاره في عقول جماعته .هذا الرجل كان أول من استعمل طريقة غسل الدماغ , وهو الذي نجح في أن يبدل أو يطور جزء من الثقافة التي تتوارثها جماعته .
أما الآن فغسيل الأدمغة أصبح يعتمد على المنجزات التي تحققت في مجال علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الدماغ وما تحقق في مجال التواصل والاتصالات إن كانت سمعية أو مقروءة أو مرئية , وتم الاستفادة من ما تم التوصل أليه في مجال الإيحاء والتنويم المغناطيسي , وتأثير التكرار وتأثير ظاهرة الجمهرة .
فصار غسيل الدماغ يحدث في كافة المجالات وعلى كافة المستويات إن كان مستوى فرد أو مستوى مجموعة أو مستوى شعب كامل .
وطرق غسل الدماغ تنجح بسهولة عندما تطبق على الشبان الصغار فالكبار غالباً يصعب غسل دماغهم , فغسل الدماغ لا يمكن أن يتم بسهولة لدى الكبار , فهو يحتاج إلى وقت , ويمكن تقليل هذا الوقت باستعمال الكثير من الأساليب التي ثبتت صلاحيتها , مثل استخدام الأحاسيس النفسية والجسمية والمشاعر والعواطف القوية إن كانت مؤلمة أو مفرحة ولذيذة , واستعمال الإقناع الفكري , والترغيب والترهيب ولفترة طويلة , بشكل تجبر أغلب الأشخاص على تغيير أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم .
ومعالجة الأمراض النفسية بالتحليل النفسي يمكن اعتباره نوع من غسيل الدماغ .
ويمكن أن يتم غسل أدمغة الأفراد والجماعات دون أن يدوروا أن ذلك جرى لهم , وهذا يتم عن طريق الإعلام بكافة أنواعه وأشكاله المسموعة والمقروءة والمرئية صحف ومجلات وكتب وإذاعات ومحطات تلفزيون ودور عبادة ... , وبواسطة أجهزة التعليم بكافة أشكالها .
وهذه الوسائل أصبحت تملكها وتتحكم بها الدول والمؤسسات الكبيرة فهي الآن تقوم بغسل أدمغة غالبية الأفراد ووضع الأفكار والدوافع .... التي تريد .
يقول هربرت . أ . شيللر في كتابه المتلاعبون بالعقول :
تكتيكان يشكلان الوعي
تستخدم الأساطير بكافة أشكالها القديمة والحديثة من أجل السيطرة على الأفراد , وعندما يتم إدخالهم على نحو غير محسوس في الوعي الجماعي , وهو ما يحدث بالفعل من خلال أجهزة الثقافة والإعلام , فإن قوة تأثيرها تتضاعف من حيث أن الأفراد يظلون غير واعين بأنه قد تم تضليلهم .
ويقول جورج جيبرنر :
إن بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض , وتشكل الوعي العام بما هو كائن , بما هو هام , وهو حق , وما هو مرتبط بأي شيء آخر , هذه البنية أصبحت في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه .
ياترى هل نحن أحرار فعلا كما نظن , ونقرر ما نريد بإرادتنا كما نقول ؟؟؟؟
#نبيل_حاجي_نائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟