|
خرافة اسمها الحقيقة
ابراهيم هيبة
الحوار المتمدن-العدد: 3785 - 2012 / 7 / 11 - 09:04
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا توجد كلمة في القواميس اكرهها بقدر ما اكره كلمة الحقيقة. ولو أمكننا أن نردَّ كل صراعات البشر، فيما بينهم، إلى سبب واحد، لانتهينا إلى أنها كلها صراعات على "الحقيقة". ترى أحيانا رجلا يتخبط في أوحال قضية ما؛ تسأله لماذا يتكبد كل ذلك العناء، فيجيبك بأن كل شيء هو لأجل الحقيقة. ولكن ما هي الحقيقة؟ هذا ليس سؤالا فلسفيا؛ إنه سؤال ديني قديم طرحه حاكم روماني حائر على يهودي يدعِّي بأنه جاء ليخلّص العالم. في كل جماعة بشرية هناك دائما رجل مهووس بنزوة أو رغبة ما. ولأن المجتمعات لا تقبل بسهولة الأفكار والرغبات الجديدة، ينطلق ذلك الرجل في اصطياد أي مبرر سيكولوجي أو سياسي لفكرته، فتراه يساندها بقوة العقل والمنطق، ويغلفها بسحر البلاغة وجمال الشعر. وهكذا لن ينتظر هذا الرجل لأكثر من عقد من الزمن حتى يسير وراءه آلاف السذج والمرضى، فتتحول رغبته تلك من نزوة طائشة إلى معتقد لا يطاله الشك أو فكرة تصنف في عداد البديهيات. نيتشه على حق: الحقيقة نتاج لمفاعيل اللغة. في كل مرة تقف فيها أمام خطيب ما، تجده يتلفظ مفردات "كالحقيقة" و"الفضيلة" على نحو فيه الكثير من الانتشاء والتلذذ . ولا عجب في الأمر ، فالمرء لا يتلذذ أحيانا ببعض الأشياء إلا لأنه يجهل طريقة اشتغالها. كل مثلنا ومفاهيمنا، ابتداء من الذات، مرورا بالهوية ، وانتهاء بالعقيدة والله ، هي مفردات لغوية تخلو من أي وجود فعلي. أنا احكم هذا البلد، إذن لا بد من أن هناك من يحكم هذا الكون. أنا ألزم الآخرين بالطاعة لي، إذن لابد من الله يفعل نفس الشيء. كم كان اسبينوزا محقا ! لو كان بإمكان المثلث أن يتكلم لقال بان لله ثلاثة أضلع. عندما نتحدث عن الحقيقة لا يجب أن يغيب عن أذهاننا، ولو لحظة واحدة، بأن الأمر يتعلق بسلسلة من الاستعارات والإسقاطات الذاتية التي يضفيها البشر اعتباطا على وجودهم. إنها ليست بأكثر من أشباح نسينا، من شدة تعلقنا بها، بأنها مجرد أشباح. تلا ذات مرة صاحب اللزوميات قصيدة له على جمع من الناس؛ فلما انتهى، قال له بعضهم: "أين شعرك هذا من فصاحة القرآن وعذوبته؟"، فأجابهم الشاعر قائلا:"رتلوا شعري هذا في المحاريب والمعابد لمائة سنة مقبلة، وسترون كيف سيصير." لقد كانت لهذا الرجل فكرة واضحة عما تتأسس عليه معتقدات البشر: التكرار وبلادة الاعتياد. من وجهة نظري ، لا يؤمن بالحقيقة إلا أولئك الذين لا يزالون يتحركون على المستويات السطحية للأشياء. ولا يسجن نفسه في معتقد ما إلا ذاك الذي لم يعمِّق شيئا. وعندما تجمعني الظروف بشخص لا يتكلم إلا عن الحقيقة، أحرص دائما على أن أضع مسافة بيني وبينه؛ فمن يقرأ تاريخ الحقيقة لا يمكن إلا أن يصدمه حجم الإقصاء المتبادل الذي يبادر به البشر بعضهم ببعض. ولهذا السبب، أجدني لا أحس بالأمان إلا بالقرب من العدميين و الشكوكيين وأصحاب الأمزجة الكلبية. الحوار مستحيل مع كل شخص يكتب الحقيقة بالحرف الكبير أو يرشح نفسه للاستشهاد. أنت، بالنسبة له، لا يمكن أن تكون إلا موضوع تبشير أو موضوع رجم؛ وما من تفسير لهذا التوجه سوى أن كل عقيدة لا تنفصل عن مزاج صاحبها. إنها تخضع لتوترات الأعصاب وتشنجات القلب. ولهذا السبب، قلما تجد شخصا وثوقيا يخلو من بعض المس أو الاضطراب في المزاج ؛ بل ويمكنني القول بأنه ما من كتاب يزعم امتلاك الحقيقة إلا وهو كتاب تحريضي. وهذا ما يفسر انه لا توجد حروب طاحنة إلا ووراءها كتاب مقدس. والحق أن البشرية ألَّفت الكثير من الكتب، لكن اللافت للنظر هو أنها لحد الآن لم تكتب كتابا في الشك أو اللامبالاة. عندما ينبح كلب على ظل، تبدأ آلاف الكلاب تنبح هي الأخرى معتبرة ذلك الظل حقيقة. نفس الشيء ينطبق على البشر في علاقتهم بعقائدهم وأفكارهم. و في الواقع، يضم هذا العالم من الأخطاء والأوهام أكثر مما يضم من الحقائق. ومن يتأمل سلوك الإنسان جيدا، لابد وأن يلاحظ بأن هذا الأخير لا يحب الحقيقة لذاتها. إنه لا يتعلق إلا "بالحقائق" التي يصنعها هو. حقيقة فيزيائية بسيطة كدوران الأرض حول الشمس ظلت تنتظر، على هامش الأفكار والعقائد، لآلاف السنين حتى تُقبل بعد ذلك على أنها من البديهيات. جون كوكتو على حق: الحقيقة عارية إلى حد أنها لا تثير شهوة احد. و لا غرابة في الأمر، فالإنسان يفضل الأوهام التي تثير ميوله وغرائزه على البديهيات التي لا تحرك فيه شيئا. مند الأيام الأولى للفلسفة ونحن نبحث عن الحقيقة، واستمرارنا في البحث عنها إلى يومنا هذا يؤكد على أننا لم نفهم صلب المشكلة: الحقيقة لا وجود لها.
#ابراهيم_هيبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميتافيزيقا الدموع
-
لعنة الولادة
-
عدو المرأة
-
جاذبية المشنقة
-
أنا و العالم
-
تأملات في الضجر
-
إنسان السطوح
-
منافع المرض
-
مصادر الصلاة
-
تمارين في الزهد
-
البعد الميتافيزيقي للأرق
-
حول الزواج
-
مائة عام من العزلة
-
عبادة الأنا
-
فينومينولوجيا الموت
-
بؤس الفلسفة
-
الإنسان المنفصل
-
تهافت الآلهة
-
الحيوان الرومانسي
-
شهوة التسلط
المزيد.....
-
رئيس الوزراء الفرنسي يدعو النواب لـ-التحلي بالمسؤولية- وحكوم
...
-
سوريا.. مدى تهديد فصائل المعارضة وتحركاتها السريعة على بقاء
...
-
أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم يعاقب إسرائيل
-
هل فعلا يجب شرب 8 أكواب من الماء يوميا؟
-
نصائح لتعزيز منظومة المناعة في الشتاء
-
مصر ترفع اسم ابنة رجل أعمال شهير من قائمة الإرهاب
-
عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
-
من تاباتشولا في المكسيك إلى الولايات المتحدة.. مهاجرون يبحثو
...
-
منطقة عازلة وتنازل عن الأراضي.. كيف يخطط ترامب لإنهاء الحرب
...
-
رغم العقوبات على موسكو.. الغاز الروسي مازال يتدفق على أوروبا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|