رياض حسن محرم
الحوار المتمدن-العدد: 3781 - 2012 / 7 / 7 - 22:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نسمع كثيرا من رموز تيار الإسلام السياسى أنه لاتوجد دولة دينية فى التاريخ الإسلامى منذ عصر الرسول حتى الآن، وأن الدولة الدينية لم توجد الا فى اوروبا فى العصور الوسطى تحت مسمى "الدولة الثيوقراطية" وتعنى الحكم الإلهى بواسطة رجال الكنيسة مباشرة، وأن دولة الرسول فى المدينة المنورة كانت تقوم على مبدأ الشورى والمعاهدات المبرمة بينه وبين يهود يثرب والتى نصت على حق المواطنة.
لقد ظهرت الدولة الدينية فى مصر منذ فجر التاريخ فقد دأب كهنة آمون على تعميد الفرعون الإله على العرش المقدس طوال عهود الأسر الفرعونية وامتد هذا التقليد حتى مجيئ "الأسكندر الأكبر" والذى عمدّه الكهان حاكما مقدسا فى معبد سيوه، وقد إرتبطت هذه الظاهرة بالدول النهرية المركزية المستقرة فى مصر والهند والصين وبلاد الرافدين، وتكررنموذج الدولة الدينية مع نشوء الأديان الكتابية" اليهودية والمسيحية والإسلام"، فمع ظهور الدين اليهودى ونزول الوصايا العشر على موسى نشأت الدولة الدينية اليهودية إباّن حكم داود وسليمان مع إعتبار النبى الحاكم ممثل الله على الأرض وليس الها فى ذاته لبنى إسرائيل واقتصرت هذه الدولة الدينية على اليهود وحدهم وليس لكل العالم، ومع ظهور المسيحية واعتبار السيد المسيح ابن الله فإنه رغم ذلك لم يحكم ولا حوارييه باسم الرب بل قال كلماته الشهيرة " دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" ولكن مع اعتناق الإمبراطور الرومانى "قسطنطين" للدين المسيحى وفرضه بالقوة على سكان امبراطوريته ظهرت دعوى الحق الإلهى، ومع تفكك الإمبراطورية أصبحت الكنيسة أكبر مالك للأرض وأصبحت قوة روحية وسياسية هائلة، استطاع بابوات الكنيسة أن يفرضوا سلطانهم علي الدولة حيث إن الحكام كانوا يكتسبون شرعيتهم من الكنيسة وكان البابوات هم الذين ينصبون الأباطرة، وكانت الكنيسة إذا سحبت من الملوك هذه الشرعية فإن الرعايا ما كانت تجب عليهم طاعة هؤلاء الحكام.
وإذا كانت المسيحية قد بدأت في قلب الدولة- الإمبراطورية الرومانية- فإن الإسلام- علي عكس ذلك- بدأ في بيئة صحراوية بدوية لا تعرف معني الدولة ومن الممكن أن يقال إن الرسالة الجديدة بكل ما حملته من أفكار كانت هي التي أدت إلي ظهور الدولة في هذا الركن من العالم، وقد بدأت الدولة الإسلامية الأولي في المدينة المنورة وكان الرسول صلوات اللّه عليه هو مُبلغ الرسالة من ناحية وهو الذي يمارس سلطة الحكم من جهة أخري، ومن هنا نجد عمق الارتباط بين ظهور الدولة ونشأتها وبين الرسالة الجديدة.
إن القول بأن دويلة الرسول فى المدينة كانت مدنية هو قول يجافى الحقيقة ويلتف عليها، فقد كان على رأسها الرسول المعصوم الذى يأتيه خبر السماء ليلا ونهارا والذى سعى عن حق الى تطبيق تعاليم الدين الجديد والحكم بين الناس بما أنزل الله، وحتى الشورى التى طبقت جزئيا فى حياة الرسول لم تكن بالطبع ملزمة له وكان النظام بمجمله دينيا بامتياز، وحتى ما يعرف بعهد الخلافة الراشدة كان الحكم تطبيقا حرفيا للسلطة الدينية فعندما تمت البيعة لأبو بكر بالسقيفة لم يكن التنازع بين المهاجرين والأنصار يقوم على المفاضلة على شئون دينية بل تم تقديم ابو بكر أنه أول السابقين للإسلام وانه من حظى بتكليف الرسول له بإمامة المسلمين فى الصلاة ورفقته له فى الهجرة، كما أن قول الخليفة الثالث "عثمان" عندما طالبه الثوار بترك الأمر " والله لا أخلع قميصا سربلنيه ( أى البسه له) الله" فيما يقطع بالطابع الدينى المحض لنظام الحكم.
لقد شهدت أحداث ما يعرف فى التاريخ بالفتنة الكبرى صراعا محتدما على السلطة ارتدى مسوحا دينية من رفع المصاحف على أسنة السيوف واللجوء الى التحكيم بنصوص قرآنية وفتاوى دينية وبالاحاديث المختلقة والموضوعة، حتى إستقر الحكم لبنى أمية بالشام بقوة السيف واستمر هذا الحكم بنظام البيعة التى كانت فى الأغلب تتم غصبا، وفى التاريخ حوادث بشعة من القتل والتعذيب لأخذ البيعة بالقوة للخلفاء واستمرار حكمهم حتى رحيلهم عن الحياة، وفى هذا يقول ابن خلدون "الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به".
ولعل أخطر ما في الدولة الدينية- وهو ما يدعو إلي قول «لا» بالنسبة لها- أنها تجعل الحاكم يتكلم باسم اللّه ومن ثم لا تجوز مراجعته ولا مساءلته وبهذا تفتح هذه الدولة الباب واسعًا للاستبداد باسم الدين وهو أسوأ أنواع الاستبداد وكما يقول الشيخ يوسف القرضاوي ( الدولة المسلمة التي تحكم بشريعة الله وتجمع المسلمين عند الاسلام وتوحدهم تحت رايته هي فريضة على الامة الاسلامية يجب ان نسعى اليها). وفي الدولة المدنية الوضع مختلف، فالقائمون عليها يختارهم الناس. ومصير البلد لا يقرره فرد. لأن كل الناس فيه سواء، يتمتعون بحق المواطنة الذي يقرر لهم المساواة في الحقوق والواجبات. والبلد تديره وتقرر مصيره المؤسسات التي ينتخبها المجتمع. أما رأس الدولة فكلامه يؤخذ منه ويرد، وهو قابل للمراجعة والمساءلة. والدولة المدنية تقوم علي أساس القانون وتتبني النظام الديمقراطي وهي دولة تقوم علي أساس مبدأ المواطنة أي أن مواطنيها جميعًا- مهما اختلفت أصولهم العرقية أو معتقداتهم أو أفكارهم أو دياناتهم هم لدي القانون سواء في حقوقهم المدنية والسياسية.
وفى العصر الحديث قامت عدة محاولات فاشلة لإحياء الدولة الدينية بمسميات مختلفة، ففى امارة أفغانستان الإسلامية عندما سيطرت حركة طالبان بقيادة امير المؤمنين "الملا عمر" عليها ونتهت نهاية مأساوية بعد تحالفه مع بن لادن وتنظيم القاعدة، وفى السودان عندما اعلن نميرى تطبيق الشريعة فى تحالف مع الاخوان المسلمين بقيادة الدكتور حسن الترابى و اقرار الحدود واعدام الباحث الإسلامى "محمود طه" بتهمة الردة، كما تدعم هذا التحالف بانقلاب البشير- الترابى، لكن هذا التطبيق الذي بدأ ببتر الأيدي والحرب علي الكفار انتهي إلي بتر جنوب السودان من شماله، وحتى فى السعودية التى حكمها آل سعود بالسيف بعد تحالف "إبن عبد الوهاب" مع حاكم الدرعية تحت شعار "الدم الدم ..الهدم الهدم" والتى ما زال حكامها يستمدون شرعيتهم من شيوخ الفكر الوهابى وخرج منها أكثر العناصر الإرهابية باسم الإسلام ابتداءا من "بن لادن" و"الامير خطاب" وال 15 عشر ارهابيا فى موقعة مانهاتن، وليس آخر الحكومات الاسلامية التى اقامت دولتها الدينية هى إيران تحت نظام " ولاية الفقيه" الذى يحكمه المرشد الأعلى نيابة عن الإمام الغائب، والأمثلة لا يستوعبها هذا المقال.
ان الإدعاء بأن الأحزاب الإسلامية التى نشأت فى مصر بعد ثورة 25 يناير هى أحزاب مدنية ذات مرجعية إسلامية هو قول يثير الضحك، فهذه الأحزاب لا تحتاج الى هكذا إعلان فإن برامجها وممارساتها شاهد على انها احزاب اسلامية من قمة الرأس الى إخمص القدم إبتداءا من الإعلان عن وجودها والموقف من الإستفتاء بنعم والقسم فى المجلس بما لا يخالف شرع الله والإصرار على وضع دستور يكرس للدولة الدينية بإالغاء كلمة مبادئ الشريعة من المادة الثانية واستبدالها بأحكام الشريعة مما يفتح الباب واسعا للإختلاف حول مرجعية هذه الأحكام فلكل مذهب يوجد اسس معينة فى الحكم تختلف عن الاخر ,,الجعفرية والحنابله والمالكية والحنفيه والشوافع كل لهم اسلوب يختلف عن الاخر , ولا يوجد احد يريد ان يفرض عليه الاخر ,, اسلوبه فى الحكم ,, الى آخر هذه الممارسات التى تفضح النوايا المفضوحة أصلا، واصرارهم على أن أحزابهم غير دينية لأن هذه الأحزاب لا ترفض إنضمام المسيحيين الذين يمكن شراء بعضهم كديكور يتزينون به كما يفعل حزب الحرية والعدالة الذى أنشأه الاخوان المسلمين بوضع "رفيق حبيب" كنائب لرئيس الحزب وكأنهم بذلك نفوا عن أحزابهم صفة الدينية.
وكما حدث فى غزة بعد وصول حماس للسلطة وانفرادها بالقطاع سرعان ما ظهرت مجموعات وتنظيمات أكثر تطرفا من حماس مثل "جيش الاسلام" و"جند الاسلام" وتنظيم القاعدة وغيرها وهذا ما حدث فى تونس بعد حصول حزب النهضة على الأغلبية والبروز المفاجئ لحركات متطرفة تهاجم المواطنين فى الشوارع وتهاجم محلات تزيين السيدات والنوادى والشواطئ وغيرها، وحدث ما يشبه هذا فى مصر بعد أقل من إسبوع من فوز محمد مرسى مرشح الاخوان وحزبهم إذ سقط حتى كتابة هذا المقال ثلاثة من القتلى منهم اثنين بالشرقية يحترفون الغناء الشعبى وشاب من السويس كان يسير فى الشارع مع خطيبته بعد غروب الشمس حين تصدى له ثلاث من الملتحين وتحرشوا به وبالفتاة ثم قتلوه طعنا بحجة "الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"، بينما الرئيس مشغول بحضور الإحتفالات وبإنشاء ديوان المظالم والحديث عن بيت المال وجباية الزكاة وغيرها من نماذج الدولة الإسلامية فى غابر الزمان.
جميع قادة تيارات الإسلام السياسى بما فيها المتطرف والأقل تطرفا تعلن صراحة نيتها تطبيق الشريعة بكافة جوانبها وفى القلب منها اقامة الحدود، الفرق فقط بينهم من يذكر أن ذلك مرتبط أولا بتهيئة المجتمع لتقبل هذا التطبيق، هذه التهيأة كما نعلم تبدأ بالسيطرة على دولاب الدولة وخاصة مفاصله الحساسة من تعليم واعلام وثقافة وأزهر، يلى ذلك التدخل فى الفن والإبداع والصحافة والطباعة والفضاء الإلكترونى، ولا بأس أن يبدأ ذلك بنشر الفضيلة من خلال منع المواقع الإباحية والأفلام الهابطة والإعلام الغرائزى والأدب الفاضح، ثم الانتقال الى الحديث عن اذدراء الأديان وافساد الذوق العام...الى آخر هذه السلسلة التى سبق تجربتها فى بلدان مجاورة، وهكذا فإن السلطة الدينية هى المقدمة الضرورية للوصول الى الدولة الدينية.
إن تيارا لا يقف اعضاؤه احتراما للسلام الوطنى لبلده، ويرفض تحية العلم فى المدارس، او التعظيم لقائده فى الجيش، وحتى ما هو أقل إذ يحرّم الإحتفال بسبوع المولود أو أعياد الميلاد أو المناسبات الوطنية و اغلب المناسبات الدينية، ويريد الزام المصريين بلباس وطعام معين واسلوب حياة تجاوزه الزمن والعالم، هذه التيارات لا تؤتمن على المشاركة فى وضع دستور هذا الوطن.
ان الحياة المدنية تحتاج قواعد وادارة ليس للدين علاقة بها فتنظيم ادارة المرور مثلا ,, عمل مدني لاعلاقة للدين به ,و تنظيم قانون الطيران , الملاحة الجوية والبحرية ,, كذلك وزارات مثل النفط والزراعة والموارد المائية والاشغال , الاساليب المدنية التي تتعلق فى ادارة حياة الناس ,, فسواء كان دينا مسيحيا او مسلما او يهوديا او مهما كان المذهب شيعي او سني ,, فادارة الناس هنا تكون ادارة مدنية.
يمكن ان نزعم هنا ان الدولة الدولة المدنية تعبر عن مباديء اساسية والتي تتمثل بما يلي :
1. فصل الدين عن الدولة .
2. الامة هي مصدر التشريع والسلطات .
3. تقديس حرية الفرد في الفكر والضمير والتعبير والعبادة .
4. احترام كافة الاديان والمعتقدات والوقوف بمسافة واحدة من كل الطوائف والمذاهب .
5. تحقيق المساواة امام القانون .
لقد أدرك الإمام الشيخ "محمد عبدة" ذلك منذ أكثر من قرن حين قال:
ولكنه دين أردت صلاحه *** أحاذر أن تقضى عليه العمائم
رحم الله الشيخ الإمام
#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟