|
رسائل إنتخابية
نجيب المدفعي
الحوار المتمدن-العدد: 1104 - 2005 / 2 / 9 - 09:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
الانتخابات العراقية التي جرت في الثلاثين من كانون الثاني (يناير) الماضي أرسلت مجموعة من الرسائل للعديد من الجهات و الأطراف، لا نستطيع أن نطلع عليها جميعا و لكن فلنحاول قراءة بعضها.
ــ1ــ إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
بيت شعر طالما رددناه، و لكني لم أجد له وقعا في نفسي أبدا، و لطالما تساءلت عن المعنى الذي قصده الشاعر على أرض الواقع العربي. حتى جاء يوم الانتخابات العراقية، حيث راح يرن في أذني و يسري في خلجات نفسي كأحلى ما سمعت من شعر في حياتي، و وجدت له معنى على أرض الواقع في صورة العراقيين الذين زحفوا إلى صناديق الاقتراع ليقولوا نحن شعب يريد الحياة. تساؤل أخر كان يسكنني، فكلما التقيت مواطنا غربيا، و هم يـُعدون على أطراف الأصابع على مدى حياتي، أو من العراقيين الذين هجروا الوطن إلى بلاد الغرب لسبب أو أخر، كنت المح في عيونهم بريقا أخاذا يشع من دواخلهم، يشي بحالة من الفرح و الشفافية. كنت أتساءل عن سر هذا البريق. جاءني الجواب يوم الأنتخابات في عيون العراقيين الذين أدلوا بأصواتهم، فقد وجدت نفس ذاك البريق الأخاذ يشع من أعماقهم، إنها الحرية. وعلى مدى الأيام اللاحقة بتّ ُ ألحظ في عيون من لم يدلوا بأصواتهم نفس نظرة الحزن التي كانت توشي عيون العراقيين زمن النظام المباد، و أحسها في نبرة الحسرة التي تعتري أصواتهم لأنهم لم يشاركوا أهلهم العراقيين في الإحساس بالحرية.
ــ2ــ
لم أكن قادرا على إقناع نفسي بأن العراق بلد الحضارات، و أن تاريخه يمتد لأكثر من ستة ألاف عاما عمقا في التاريخ، و أن أبناء وادي الرافدين هم من علـّموا الإنسانية الكتابة. فالحالة التي كان العراقيون يعيشونها حتى نيسان 2003 لا يمكن أن تقنع المراقب بكل هذا. إلا أن ما حصل في يوم الأنتخابات أعطى صورة صارخة عن إنسان بلاد ما بين النهرين و عشقه للحضارة و التحضر. فالتسابق إلى صناديق الاقتراع كان يعني بأننا، العراقيون، نريد استخدام أدوات الحضارة التي سبق لنا أن قدمنا بعضا منها للإنسانية.
ــ3ــ
يوم الأنتخابات كان (يوم الأُسُود العراقية) فمن خرج قاصدا مراكز الاقتراع ليصوّت كان يعلم جيدا إنه يحمل روحه على كفه، و مع هذا خرج العراقيون بالملايين ليعلنوا ـ و بملء إرادتهم ـ إنهم مستعدين لتقديم أرواحهم لحبيبهم العراق و لأجل مستقبلهم و مستقبل أبنائهم. و أكاد أجزم بأن يوم الأنتخابات هو أعظم يوم في تاريخ العراق الحديث. فمن صنعه هو الشعب و ليس حفنة من المغامرين يتآمرون في ليل بهيم ليقفزوا و في غفلة من الزمن إلى السلطة و ليكتبوا التاريخ على هواهم. و لكن ما يؤسف له أن من ساعد على صنع هذا اليوم العظيم هو الاحتلال و ليس الاستقلال و قادته (الثوار).
ــ4ــ
في يوم الانتخابات وقـّع ملايين العراقيين على بيان ولادة دولة العراق الجديدة. كنا ـ و ما زلنا ـ نقرأ عن تاريخنا و أمجادنا التي صنعها أسلافنا و كنا نعيش في ذلك التاريخ و ننظر وراء ظهورنا متحسرين على مجد غابر، و نظن أننا لسنا بقادرين على صناعة مجد ٍ يضاهيه أو يتفوق عليه. ولطالما سمعنا كلاما ينطلق من مقولة (ليس بالأمكان أحسن مما كان)، إلا أن يوم الانتخابات قـَلـَبَ المعادلة و شطب منها الفعل الماضي الناقص (ليس)، الذي هو من أخوات (كان) و أخرج شعب العراق من خانة (شعوب كان و أخواتها) كما تندرت إحدى المسرحيات العربية. لقد صنع العراقيون يوما مجيدا، ستفخر به أجيالنا القادمة و تنظر له بإعجاب كما ننظر نحن اليوم إلى تاريخنا المجيد. فلننظر إلى الأمام و نرى ما نحن صانعون بيوم حريتنا هذا.
ــ5ــ
الآن و قد أنهينا شوطنا الأول في مسيرة طويلة لا نريد لها الانتكاس. ماذا ستفعل النخبة السياسية، و ماذا سيفعل الفائزون في الانتخابات. لقد أرسل الشعب لهم رسالة واضحة تقول (لقد تقدمناكم في المسير نحو المستقبل، فما أنتم فاعلون؟). على الذين قرروا التصدي للعمل السياسي إدراك ثـِقـَل و عـِظـَم المسؤولية الملقاة على عاتقهم. فعليهم التنازل عن جزء كبير من تطلعاتهم السياسية و خصوصياتهم من أجل الوفاء للشعب الذي دفع بهم إلى موقع المسؤولية الخطيرة ـ في موقعها الزمني ـ و التي لا يُحسد عليها أحـدٌ منهم و كان الله في عونهم. إنّ من أهم و أخطر المهام التي سيضطلعون بها هي كتابة الدستور، و كلما كان هذا الدستور محكما، كلما غـُلـِّقت أبواب النافخين في نار الفتنة في يومنا هذا أو في المستقبل. كما تقع عليهم مهمة جليلة أخرى، و هي عدم الاستئثار بالسلطة و عدم قطع سـُبـُل الود مع من لم يشترك في الانتخابات لسبب أو آخر. فدعوتهم للمشاركة واجبة و مشورتهم مغنمة، و ليتأصل في تفكير الجميع أنهم يؤسسون لثقافة وطنية جديدة، نريدها مبنية على المحبة و احترام الأخر و الأخذ بيده عند المـُلمات. و فوق هذا كله، نريدهم أن يعلـّموا الناس أن الأشخاص ماضون و العراق باق ٍ، و هو أمانة في أعناقنا و علينا أن نؤديها لمن سيلينا من الأجيال.
ــ6ــ
اكتنف طريق العراق الذي مرّ بالانتخابات على مدى ما يقارب العامين الكثير من الخوف و التوجس و الشكوك. و كان هناك ـ و سيبقى ـ من يخوض في دماء العراقيين دون أن يرف له جفن. إلا أن يوم الأسُود العراقية ساهم في تجسيده رجال و نساء صنعوا من أنفسهم دريئة لأبناء شعبهم في وجه الإرهاب. فرجال الحرس الوطني و كل قوى الأمن العراقية أثبتت أنها من الشعب و للشعب. و هناك جنود مجهولون قبـِلوا أن يكونوا فدائيين بترشيح أنفسهم للانتخابات، و كثير منهم يعلم أن لا حظ ّ له بالفوز إلا أنه أراد أن يكون من الرواد في بناء العراق الجديد. و يكفي هؤلاء فخرا أنهم سجلوا أسماءهم في تاريخ العراق الحديث، و سيتفاخر أبناءهم و أحفادهم بكون آباءهم و أجدادهم من مؤسسي الديمقراطية في العراق.
ــ7ــ
عدد كبير من أبناء الشعب أعرضوا عن الذهاب إلى الانتخابات. و لا تثريب عليهم، فمن غير الممكن أن يكون الناس جميعا بمستوى من الشجاعة يؤهلهم لكسر حاجز الخوف في ظروف معينة. و آخرون قاطعوا الانتخابات عن وعي و قناعة، و هم ينبذون العنف و من يتستر وراءه. و من فاته المشاركة مع إخوانه العراقيين فالاستفتاء على الدستور و الانتخابات القادمة ليست بعيدة و(خيرها بغيرها). و تبقى الرسالة الأهم لمن شاء مقاطعة الانتخابات تقول: لا تضعوا استثناءات عند الإعلان عن مواقفكم تجاه الإرهاب، فالاستثناء يصبح قاعدة لمن يريد الإساءة للعراق. و كفى تشكيكا و طعنا بالعملية السياسية، قدموا بدائل عملية فقد سئم العراقيون الأفكار السفسطائية. و اتقوا الله في أرواح العراقيين.
ــ8ــ
شكرا لوسائل الإعلام العروبية، التي ظلت تجلدنا بوجوه كالحة و هي تفحّ ُ علينا بتحليلات، عفا عليها الزمن، عن العراق و "المقاومة" في العراق. فأجهزة الإعلام هذه و منطقها الفج الممجوج أفادت العراقيين من حيث تدري أو لا تدري. فهي قد أبقت صورة طغيان النظام السابق شاخصة للعيان، كما أنها كانت بوقا للإرهاب مما جعل العراقيين يدركون المصير الذي يمكن أن يؤول إليه العراق فيما لو تراجع العراقيون و تهيبوا من اقتحام طريق الحرية و الديمقراطية.
#نجيب_المدفعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنا أنتخب..إذا أنا موجود
-
لا يهمني مَـن يكتب الدستور
-
النابلسي و العرب و العراق
-
عباس المستعجل
-
رأس الدولة والقانون..حكاية من العهد الملكي
-
انطباعات حول جلسة التحقيق الأولى مع صدام
-
أعطوا الناس فرصة...ثم احكموا
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|