عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3774 - 2012 / 6 / 30 - 04:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعد تولي المجلس العسكري السلطة من المتنحي، انعقدت فوراً طاولة الحوار بين أغلب رموز القوى الثورية الدينية والعلمانية من جهة والقادة العسكريين في المقابل للنظر في إعادة ترتيب وتوزيع الأدوار والتوازنات السياسية. في ذلك الوقت، لم تكن الأوزان الشعبية للتيارات الثورية المختلفة في الشارع قد اتضحت بعد، وبدأت تتحدد مع استفتاء 19 مارس على التعديلات الدستورية. في تلك الفترة الأولى الواقعة ما بين التنحي والاستفتاء، التي أسميها "الفترة الثورية المشاع"، كان باستطاعة رموز القوى السياسية الحزبية وغير الحزبية، الإسلامية وغير الإسلامية، التي شاركت في الثورة، وقبل النزول إلى الشارع لقياس أوزانها وسط الناخبين، أن تجلس مع بعضها ومع العسكري وترسم معاً، بحجية الشراكة في الثورة، خارطة طريق للنظام السياسي الجديد، عبر الاتفاق على دستور وقواعد ومواعيد انتخابات البرلمان والرئيس والمحليات وملامح العلاقة الجديدة بين مؤسسات الدولة بعضها البعض وخلافه. ذلك لم يحدث، وكان التيار الإسلامي، بالتوافق مع العسكري، حريص على قطع هذا الطريق الثوري، والتعجيل بالانتخابات قبل أي عمل آخر.
هذا الإصرار من جانب الإسلاميين على الاحتكام للشارع قبل المضي إلى أي شيء آخر كان مرده ثقة تامة في سيطرة شبه مطلقة على جموع الناس البسطاء داخل المناطق الريفية والعشوائية المكتظة الفقيرة، حيث تعيش الغالبية العظمى من سكان مصر، وذلك بعدما نجحوا في التخلص من أقطاب وأعضاء النظام القديم ما بين الملاحقة القانونية في ساحات القضاء والمطاردة الانتهازية بعار "الفلول" في كل مكان. كانت الحسبة سهلة وبسيطة جداً. قبل ثورة 25 يناير 2011، كان النظام القديم يحكم بقيادة الحزب الوطني الديمقراطي في مواجهة معارضة إسلامية بقيادة الأخوان المسلمين. هكذا، إذا أخرجنا من المعادلة طرفها الأول، حتماً سينفرد بالساحة طرفها الثاني، في هذه الحالة المعارضة الإسلامية بقيادة الأخوان. في قول آخر، في مصر، على الأرض، قبل 25 يناير 2011، كانت قوتان وحيدتان تهيمنان على الملعب السياسي بين حكومة ومعارضة، وبين أزمة وأخرى تضطران إلى الجلوس والتنسيق معاً. ثم بعد 25 يناير مباشرة، أثناء "الفترة الثورية المشاع" انهدمت فجأة تلك المعادلة الثنائية الضدية الاستقطابية، ليجد الأخوان أنفسهم مجرد فصيل صغير ضمن قطيع ثوري عريض. هذا الوضع لم يريحهم. وبحسابات بسيطة، توصل الأخوان إلى أن المعادلة الثنائية ما قبل الثورية كانت أفيد وأفضل لهم بكثير من المعادلة التعددية بعد الثورة. أكثر من ذلك، ظن الأخوان، خطئاً وتعجلاً، أنهم بعد تنحي العدو الألد الحاكم، سوف ينفردون وحدهم بالحكم أخيراً. وهنا نصب لهم الشرك.
مثلما أن أدمغة الأخوان والإسلاميين عموماً لم تتوقف عن العمل والحساب، كذلك كانت هناك أدمغة أخرى كثيرة تحسب وتفكر وتدبر ربما بسرعة وكفاءة أكثر منهم. المجلس العسكري أنار لهم الضوء الأخضر وفتح الطريق الذي رغبه وأصر عليه الإسلاميون، للنزول إلى الشارع والاستفراد بالعملية كلها وحدهم فيما بعد، تحت غطاء الديمقراطية والإرادة الشعبية. الإسلاميون يريدون أن تجري الانتخابات أولاً حتى يتسلحوا بالإرادة الشعبية، وبواسطتها يستولون وحدهم على السلطة قطعة بقطعة، دون مزاحمة من أحد، وخاصة من الشركاء الثوريين. والعسكري أغراهم وأيدهم، ليس لكي يمكنهم وحدهم من الحكم كما ظنوا، إنما لكي يكسب وقتاً، يستطيع خلاله أن يبرد حمية الثورة والثوار ويعيد ترتيب أوراق اللعبة كلها من جديد، بما يخدم، مرة أخرى، مصالحه ومصالح النخبة السياسية ذاتها التي نادت الثورة أصلاً بسقوطها.
كانت القوى الثورية غير الإسلامية تفضل وضع الدستور أولاً، ثم البدء في الانتخابات مع استمرار عمل مؤسسات الدولة الحيوية غير المنحلة بفعل الثورة ثم فيما بعد إعادة هيكلتها وتطويرها تدريجياً عبر الزمن كنتيجة متوقعة لتطبيق الدستور الجديد وللدماء الجديدة التي ستضخ فيها حتماً؛ كان المنشود أن يتسلم المدنيون المنتخبون الحكم من المجلس العسكري بعد ستة أشهر فقط من اندلاع الثورة. هذا لم يحدث. الآن مر أكثر من ستة عشر شهراً ولا يزال لا يوجد دستور، ولا يزال معظم الحكم بأيدي العسكر، حتى بعد تنصيب رئيس من الأخوان. مكاسب العسكر لم تقتصر على سنة زيادة وسيطرة شبه تامة على مجريات العملية السياسية، بل انفتح أمامهم الوقت براح حتى أصبح الصنبور تحت أصابعهم وحدهم، ليحددوا كيف ومتى تفرغ اللجنة الدستورية من عملها، وكيف ومتى يتم انتخاب برلمان بدل المنحل، ومقدار ما يسمح به من سلطة للرئيس الجديد وحكومته. علاوة على كل ذلك، استقل العسكريون بدولة خاصة لهم داخل الدولة الكبرى العامة للجميع. في قول آخر، العسكريون، بدل من أن يكونوا حكاماً لدولة واحدة، أصبحوا بعد ثورة، للمفارقة، حكاماً لدولتين، واحدة خالصة لهم مائة بالمائة لا يشاركهم فيها أي أحد على الإطلاق، والأخرى مشاع، لكن تظل لهم عليها السيادة وحق النقض (الفيتو) على الصغيرة والكبيرة. بعد كل هذه المدة، ينتهي الحال بالإخوان والسلفيين جالسين القرفصاء على باب العسكري، ضارعين، شاخصين بأبصارهم ورافعين أيديهم إلى السماء طمعاً في إحسان العسكري عليهم بفتافيت من السلطة. هل أخطأ الإسلاميون عندما لم يأمنوا شركائهم الثوريين، في الفترة الثورية المشاع، وأرادوا الاستفراد بالعملية كلها لأنفسهم؟
مشكلة الإسلاميين أنهم ليسوا، ولم ولن يكونوا أبداً، ثوريين. الثوريون في كل زمان ومكان حالمون بمستقبل يبنى فوق أنقاض ماضي وحاضر ثقيلين مكروهين. هكذا كانت الثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الأمريكية، وحتى الثورات العربية كلها بعد الخمسينات في مصر والعراق وسوريا واليمن والجزائر، كلها كانت متجاوزة للماضي والحاضر ومتطلعة نحو مستقبل أفضل. لكن العقلية الإسلامية، والدينية عموماً، ليست كذلك على الإطلاق. هي مشدودة بقوة إلى الماضي، وإذا ما صادف أن تطلعت قليلاً نحو المستقبل، لن ترى فيه إلا ماضي أيضاً، مع بعض التعديلات الشكلية. العقلية الدينية، عكس الثورية، يستحيل أن تتجاوز ماضيها المقدس، الذي بدونه تصبح هي ذاتها عدماً. الإسلاميون يعيشون على الماضي، والماضي يعيش فيهم. لكن الثورة، أي وكل ثورة، وحتى تكون ثورة فعلاً، هي حلم بغد خلاف الحاضر وخلاف الماضي. حتى اليوم، لم يشهد التاريخ أبداً "ثورة" كان فاعلوها يريدون العودة إلى الماضي، أو إحياء الماضي. الثورة دائماً مستقبل، ولا توجد ثورة رجعية، ماضوية.
الإسلاميون ليسوا ثوريين. هم رأوا في الثورة فرصة وأرادوا التعجيل بخطفها قبل أن يشتد عود قوى أخرى وتحرمهم منها، أو على الأقل تشاركهم فيها. لو كان الإسلاميون ثوريون حقاً، ما انفكوا أبداً عن شركاء الثورة، ليتحالفوا، إلى اليوم، مع أعداء الثورة، وهم يعرفون. لخيبة أملهم، الحليف العسكري أضناهم تعباً ولا يزال لم يعطيهم سوى الفتات. ولسوء طالعهم، إذا قدر لهم أن ينتهوا في يوم ما من العسكر، ستكون شوكة الثوريين اللينة اليوم قد أصبحت قاتلة. وتبدأ الدائرة تدور من جديد.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟