|
من ذكريات ثورة 14 تموز 1958 - 1 / 2
بهجت عباس
الحوار المتمدن-العدد: 1104 - 2005 / 2 / 9 - 09:43
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
( ليس هذا المقال دراسة أو بحثاً في ثورة 14 تموز أو قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم. إنه بعض من الذكريات التي عشت أحداثها، أسردها كما حدثتْ ومرَّتْ بتعليق بسيط بعض الأحيان هو أكثر قرباً إلى الإيضاح، أينما وجدتُـه ضرورةً. ربما لا يتفق معي بعض الكتاب أو القراء، وهذا من حقهم. ولكني أذكر ما شاهدتُ وعشتُ، فقد تكون الحقيقة مرّة، ولكنَّ إخفاءَها أو عدمَ ذكرِها لا يُلغي حدوثَها. الظروف التي كانت حينذاك تختلف عن الظروف الحالية، وإن كان ثمة تشابه بينها، وأخطاء الماضي أنجبت كوارثَ الحاضر، وستؤثر على المستقبل إنْ لم نتداركْها.)
صباح 13 تموز 1958 ************** مرتين في حياتي رأيت نوري السعيد، مرة حياً ومرة ميتاً والفترة بين الرؤيتين يومان! كانت الأولى يوم الأحد المصادف 13 تموز 1958 في وزارة الدفاع، رأيته هابطاً درجاتِ سـلَّـمِها الطويلةَ العريضة إلى أسفلها حيث كانت بانتظاره سيارة ستيشن، وكنت في الوقت عينه مُرتـقـياً السُّـلَّـمَ لمراجعة الوزارة لأمر يتعلق بتأجيلي من خدمة ضباط الإحتياط. كنت على بضعة أمتار منه، وتوقفتُ في منتصفـها متطلعاً في الرجل الذي أرهب العراقيين ما يزيد عن ثلاثة عقود، فلم يُعِـرْ لي اهتماماً وكأني لم أكنْ. فتح الإنضباط العسكريّ بابَ السيارة بعد أن أدّى التحية العسكرية له، فدخل السيارة، ولم أغادر موقفي إلا بعد أن انطلقتْ به. ولم يأتِ أيّ ُ واحد يسألني عن سرِّ وقوفي ونظراتي الفضولية إلى الرجل الرهيب. والحقيقة لم يوجد هناك أيّ ُ شخص يحميه، وكان الحرّ شديداً وإن كان النهار في أولِّـه ( الساعة التاسعة حسبما أتذكر ). كنت تخرجت من كلية الصيدلة قبل شهرين من ذلك اليوم وكان المفروض أن ألتحق بدورة ضباط الإحتياط التي بدأت في 12 تموز 1958، ولكني، لوجود (فتق) لديَّ، أ ُجِّـلتُ منها سنة كاملة. ولكون نتيجة الفحص لم تصل وزارة الدفاع حتى اليومَ الموعودَ، اعتُـبِـرتُ متخلفاً، ولذا كانت المراجعة ذلك اليوم. والمرة الثانية كانت يومَ الخامس عشر من تموز، عندما راجعتُ وزارة الدفاع طالباً منها إلغاء التأجيل لخدمة الجمهورية الفتية. رفض العقيد مدير الإدارة طلبي، ولكنه كان ودوداً ولطيفاً وقدّم لي كرسياً وشاياً واتصل بمستشفى الرشيد العسكري طالباً إرسال أوراق الفحص إليه فوراً، وهو الذي كان قبل يومين فقط فظاً غليظاً معي وحسبني متخلفاً عن أداء الواجب العسكري حيث اتهمني بالتهرّب من الخدمة وعدم الذهاب إلى مستشفى الرشيد العسكري للفحص وإلا، حسبما قال، كانت نتيجة الفحص الطبي بين يديه! ولكنْ في خلال نصف الساعة التي كنت جالساً معه أتحدث كمواطن / صديق إستلم أوراقَ الفحص! وأخبرني بلطف غير معهود بأنه لا يستطيع إلغاء التأجيل، إذ كيف أكون صالحاً للخدمة اليومَ وقد كنت غيرَ صالح أمسِ! فهذا يجلب له وللأطباء في المستشفى متاعبَ ومشاكلَ هم في غنى عنها، وعليَّ أن أخدم الجمهورية، حسبما قال، بالدفاع عنها بطرق أخرى إلى أن تنتهيَ سنة التأجيل. ولما لم يكن في الأمر حيلة، ودعته وأخذت أمشي الهوينى في شارع الرشيد وفي جيبي خمسون فلساً فقط. ولما وصلت رأس القرية، مرقت سيارة بصخب غير طبيعي، ولما تطلعتُ إليها وجدت جثة نوري السعيد مسجّـاةً ومربوطة على سطحها وخلفَها سيارات عدّة، أصابني الهلع وقفلت راجعاً إلى سوق السراي، المُحبَّبِ لديَّ بمكتباته وكنوزه الثقافية، وقد أخذ العطش مني مأخذاً فروِيت غليلي بقنينة ببسي كولا كلفتني عشرين فلساً وتبقَّـى لديَّ ثلاثون فلساً كانت أجرة السيارة الذاهبة إلى الكاظمية التي وصلتها خاويَ الوفاض. ومن هناك علمت أنَّ جثة نوري السعيد وُضِعت على الطريق العام لتمرَّ السيارات عليها حيث لم يبقَ منها شيء يُذكر.
ثورة 14 تموز ********* كُـتِب عن هذه الثورة أو الإنقلاب، كما يحلو للبعض تسميتها، كثيراً، قرأت بعضاً منها ولم تتسـنَّ لي الفرصة لقراءة البعض الآخر. وصف الثورةَ بعضُهم بالتقديس ووصفها آخرون بالكارثة، وقد اعتمد هذا على عاطفة الكاتب وأفكاره وميوله السياسية، كما هو شأن تأريخنا الطافح بالمتناقضات والكذب والخرافات أحياناً، نتيجة آراء الكاتب ومعتقداته والتأثيرات القومية والدينية والقبلية على ما يكتب. وكذا كان الرأي في الزعيم عبد الكريم قاسم أيضاً. ولما كنت عشتُ الثورةَ وعاصرتُ أحداثَها وقرأت كثيراً مما كُـتب عنها، وجدت تطرفاً في تقييمها وفي الحكم على الزعيم عبد الكريم قاسم. وإني هنا لا أناقش من كتب عنها، لأن لهذا حديثاً آخرَ. ولكني أذكر بعض ذكرياتي عن بعض الأحداث التي مرّت عليّ، ولا سيّما الوجهِ الآخر (السَّـلبيِّ) الذي تحاشى ذكرَه أو دافع عنه الأنصار بتطرّف. وإنّي إذ أركِّز عليه ليكون القارئ الذي لم يعاصر تلك الأحداث على بيِّـنة من الأمر، فيعرف أسبابَ الكارثة. ولمّـا لم أكنْ ولست منتمياً إلى أيِّ حزب يحجب الرؤيةَ إلى الأشياء التي لا يريد، ويهيض الجناحين من التحليق في الفضاء الرحيب، سأذكر بعضَ ما عاينتُ وسمعتُ وعشتُ بحياد تام. أما ذكرُ ما مرَّ بتفصيل أكثرَ وتحليلٍ وافٍ، فيحتاج إلى مقالات أُخَـر قد تأتي في وقت آخَـرَ. وكما ذكرتُ من قبل، كنت مهموماً جداً بعد مغادرتي وزارة الدفاع في الثالث عشر من تموز 1958، خوفاً من اعتباري متخلفاً عن الخدمة والعواقب الوخيمة التي ستعصف بما خطّطتُ له فيما إذا لو أ ُلغِـيَ التأجيلُ، حيث كان في حسباني العملُ مدةَ سنةٍ أو تزيد لادّخار ما يُـمكن، لتمويل دراستي العليا خارج الوطن والتخلص من الخدمة العسكرية، ولربما أبديّـاً، في الوقت ذاته. فبعد انقضاء تلك الليلة المَشـوبة بالقلق والسَّـهَـر والخوف من اليوم القادم، كان الصباح مختلفاً. فقد أيقظني والدي، وكنت نائماً على سطح دارنا المتواضع في الساعة السادسة والنصف قائلاً إنَّ انقلاباً حدث والحكومة تغيّـرتْ. لم أُصدِّق أولَّ الأمر، ولكنَّ البيان رقم 1 الذي نادى المواطنين (نتوجَّه إليكم بالنداء للإفادة إلى السّلطات عن كلِّ المنتهكين والخونة والفاسدين لكي يتمَّ اقتلاعهم)، كان البرهان على الثورة/الإنقلاب وربما كان بداية القسوة والعنف والفوضى في الوقت عينه. في السّاعة الثامنة صباحاً خرج الناس هاتفين بالموت للخونة وعملاء الإمبريالية. كان الهتاف في الكاظمية (حيث كنت فيها) لجمال عبد الناصر صباحاً حتى الظّهر تحوَّلَ إلى عبد الكريم قاسم بعد الظهر. ثم عرفنا بعد سويعات أنَّ هناك رئيسيْـن للثورة، هما الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، الذي تقلّـد مناصبَ القائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء ووزير الدفاع، والعقيد الركن عبد السلام عارف متقلداً مناصبَ نائب القائد العام، نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. ولم ندرِ بادئَ الأمر أنَّـهما كانا يسيـران في اتجاهين متضادّيْـن. أما الوزراء الآخرون، فكانوا تشكيلةً من رأسمالي وإقطاعي وماركسي ونازي وعروبي إسلامي وبعثي وكردي، مما جعل الفكرَ في حَيْـرةٍ كيف يكون الإنسجام، والمشارب مختلفة والتيارات متناقضة، ولأنَّ الخلافاتِ العميقةَ الكامنةَ في القعر قد تطفو على السطح قريباً، وهكذا كان. ومما يُـلفت النظرَ أنَّ الطائفيةَ الدينية لم تلعب دوراً في السنة الأولى على الأقلّ، وكأنَّـها لم تـوجد أو لم يُحسب لها أيّ ُ حساب. والغريب أنَّ التشكيلة الوزارية لم تضمَّ فرداً واحداً من الحزب الشيوعي ذي القاعدة الشعبية العريضة حينذاك، والذي لعب دوراً هاماً قبل ذلك بتهيئة الرأي العام والتمهيد لإشعال فـتـيلِ الثورة وتأجيج نارها، ولكنّـا فهمنـا حساسيةَ الأمر. ورغم هذا، كان الحزب الشيوعي أولَّ المتحمسين والمساندين، وبخاصة لقاسم الذي لم يكن معروفاً لدى العامة من الناس لولاه. وبعد أسابيعَ قلائلَ بدأت الخلافات بين الرئيسين تتصاعد. فبينما كان عبد الكريم قاسم يُصرح في 27 تموز ( ليست الوحدة شيئاً يقرره إنسان بمفرده، بل يجب أن تُـقرِّرَه شعوب الدول العربية )، أخذ عبد السلام عارف في 5 آب يدعـو (إلى جمهورية ضمن الجمهورية العربية المتحدة). وفي 7 آب نزل مئات الآلاف من الشيوعيين وأنصارهم ومؤيديهم وكذلك من الأكراد الديقراطيين والوطنيين الدمقراطيين لتأييد قاسم إلى الشارع بهتاف ( إتحاد فيدرالي وصداقة سوفييتية ). وفي بداية أيلول أخذ الشيوعيون ينتقدون الوحدة ودعـوا إلى تقييمها. وفي 12 أيلول بدأ العد التنازلي لعبد السلام عارف حيث إ ُعفِـيَ من بعض مناصبه ومنها جمعاءَ في 30 أيلول 1958، وهو اليوم الذي صدر فيه قانون الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية، ثم عُـيِّن سفيراً في بون في 12 تشرين الأول من السنة عينها بعد محاولتِه قتلَ الزعيمِ عبد الكريم قاسم بمسدسه الخاص، وأ ُودعَ السّجنَ بعد عودته " غيرِ المأذون بها " في 4 نوفمبر وتمَّ إغلاق جريدة البعث بعد ثلاثة أيام. ثم كانت مؤامرة رشيد عالي الكيلاني في كانون الأول 1958 بإسناد الرئيس جمال عبد الناصر وفشلها. وهكذا بدأت القلاقل والفتن والدسائس تلعب أدورَاها، تغذّيها أطماع شخصية وحسد. وكان الصراع على أشدّه بين هذه الفئات في السنة التالية، حيث كان دامياً قاسياً ذهب كثير من الضحايا الأبرياء جـرّاءه، وهي السنة عينها التي غيّر الزعيم عبد الكريم قاسم (سياسته) وجاء بفكرة (توازن) القوى. وكانت أهم الحوادث عام 1959 هي تمرُّد العقيد الشواف في 8 آذار في الموصل، ومجزرة كركوك في 14-16 تموز، وخطاب عبد الكريم قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز واصفاً ما حدث حينذاك بأبشع من أعمال هولاكو، والأعتداء المسلح عليه في رأس القرية في 7 تشرين الأول التي أدّت إصابته البليغة فيه إلى البقاء في المستشفى ما يقارب الشهرين. عبد الكريم قاسم ********** أجمع معظم الكتّاب الذين كتبوا عن ثورة 14 تموز على أنَّ عبد الكريم قاسم كان وطنياً عفّـاً نزيهاً مخلصاً للعراق محباً لشعب العراق، وخصوصاً الفقراء منهم، وكلّ من عاصر حكمَه لا ينكر ذلك، إنْ كان مُـنصفاً. ولكنَّ هذا ليس بكافٍ، إذ أنَّ تفاعلَـه مع الأحداث يلعب دوراً في نجاح الحكم أو فشله. كان الزعيم عبد الكريم قاسم عنيداً وذا دهاء محدود. ولما لم يكن حزبياً أو عشائرياً ولم يكن له أصدقاءُ كـثـرٌ في الجيش، وجد ضالّته في الحزب الشيوعي ووجد الأخير فيه خيرَ سند وعون. فقد كانت مصلحة مشتركة من حيث نظرتُـهما إلى الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة والعناصر القومية والبعثية وبعض الضباط (الأحرار) ذوي النزعة العدائية التقليدية للشيوعية. كان الشيوعيون مخلصين لقاسم، وكان قاسم حذراً، إستغلَّهم بادئَ الأمر ضدَّ هجمات ناصر الإذاعية ومؤامراته المتكررة لتثبيت أقدامه، فأبلوا بلاءً حسناً. ولما استتبَّ له الأمر، وحَـلِـيَ الحكـمُ في عينيه، قلب لهم ظهر المِـجَـنّ. والواقع أنَّ ناقوسَ الخطر أخذ يدقّ بعد تظاهرة الأول من مايس العمالية 1959، حيث حشد الشيوعيون ما قُـدِّرَ عدده بين نصف مليون ومليون متظاهر جاؤا إلى بغداد من كلّ أنحاء العراق، مما دعا ممثلَ الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة المستر هنري كابوت لودج إلى القول " إنَّ عددَ أعضاءِ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي 6 ملايين ولكنه في العراق 8 ملايين ". بدأ عبد الكريم قاسم يضغط عليهم في نهاية ذلك الشهر. ولما حدثت مجزرة كركوك في 14-16 تموز، خطب قاسم في كنيسة مار يوسف في 19 تموز ناعتاً من قام بالمجزرة بالبرابرة والفوضويين وشبّههم بأسوأَ من هولاكو، وكان صوته مرتعشاً، ربما من الغضب أو خشية الفتنة أو الإثنين معاً، وأخذ يغمز قناة الشيوعيين، مما أعطى جُـرَعاً قويةً للجِّـهات المضادّة المعادية وشدّ أزرَهم. ولما كانت المنظمات والإتحادات العمالية والفلاحية والطلابية بيد الشيوعيين، أخذ الزعيم عبد الكريم قاسم يحطِّـم تلك الشبكة، وبدأها بإلغاء ما سُمِّي بلجان صيانة الجمهورية، التي كانت مُنظَّماتٍ شيوعيةً متوغلةً في دوائر الدولة تراقب الموظفين، ثمَّ أكملها بانتخابات جديدة وأخذ يأتي بالجماعات المعارضة كبدائل، بشتّى الأشكال والفنون، وكان يساعده عن طيب خاطر الزعيم أحمد محمد يحيى وزير الداخلية. فهذا الأخير كان لا يُجيز جمعيةً فلاحية ( شيوعية) بحجة تافهة، مثلاً، إنّ كونَ الطابع الملصق على الطلب مائلاً أو منحرفاً يجعل الطلب مرفوضاً! وما شابه هذا كان كثيراً. ولعل المهزلة الكبرى كانت في إجازة حزب داود الصائغ الشيوعي وتمويله بدلاً من الحزب الشيوعي الحقيقي! فبينما كان الحزب الشيوعي (الحقيقي) يحافظ على الحكومة التي ليس فيها أيّ عضو منه ولم يُعترَفْ به (رسمياً)، ويسند قاسم بكل الطرق، كان قاسم يعقد اجتماعاً مع داود الصائغ، في المستشفى الذي يرقد فيه في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 1959 ويخصّه بحديث لينشره في جريدته (المبدأ) التي أجازها قبل أيام قلائل من الإجتماع! والواقع أنَّ الحزب الشيوعي ربط مصيره بقاسم، فما يحدث لقاسم من سوء، يحدث له أيضاً. ولم تكن محكمة العقيد (شمس الدين عبد الله) العرفية التى كانت تحاكم المخلصين للزعيم والشيوعيين، وأصدرتْ أحكاماً إعتباطية عليهم، بأقلَّ غرابةً، فوجود شاهدين ( أيّـاً كانا )، يحلفان بالقرآن الكريم، كافٍ لوضع المُتَّـهمَ الشيوعيَّ بين قضبان السّجن. و قد يكون ما ذكره الأستاذ حسن العلوي في هذا الصدد في كتابه (عبد الكريم قاسم رؤية بعد العشرين) وافياً: " إنَّ شمس الدين ظاهرة فريدة في الحكومات والأنظمة ... معارض كبير يقاضي أنصار الحكومة، ويحكم على محبّي زعيمها بالسجن." فالزعيم عبد الكريم قاسم يعرف هذا جيداً، بل هو من خطّط له، ليُضعفَ فئة ويقـوِّيَ أخرى، وقد قال أيضاً " القطار يسير والركاب يتخاصمون ولكنه سيواصل السير وسيصل "، ولكن مع الأسف لم يواصل القطار سيرَه ولم يصل! كان قاسم يعتقد ويريد الناس أن يعتقدوا أن الجيش هو من حرَّرهم، ولكونه قائدَ الجيش، فهو إذاً ذو مِنَّـةٍ كبيرة عليهم، ولذا وجبَ على الناس تمجيدُه واللهجُ بفضله مدى الحياة. وإني أتذكر احتفالاً أُقيم في عام 1961 (على أغلب الإحتمال) بذكرى وثبة تشرين، وكان ثمة حشد كبير من الناس، فأخذ الزعيم يمجِّـد ثورة تموز كثيراً، ويقلل من وثبة تشرين، فقاطعه المحامي الشاعر علي جليل الوردي، وكان شيوعيا،ً مردّداً هذا البيت :
واللهِ ما تشرينُ إلاّ مِـعبَـر ٌ يزهو به تمّـوزُ وَهْـوَ مُظَـفَّـرُ
فأجابه الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان يُعجبه مثلُ هذا التحـدّي، بقوله: إن الشاعر صادق، فهو يعني " وريش الخوافي قـوَّة ٌ للقـوادم ِ" – القوادم هي ريش جناح الطائر ويكون كبيراً وقوياً، وريش الخوافي هو الريش الناعم الذي يسند الريش الكبير - . ولما صرح الأستاذ كامل الجادرحي، زعيم الحزب الوطني الدمقراطي، بأنَّ على الجيش الرجوعَ إلى الثكنات وتسليمَ مقاليدِ الأمور إلى سلطة مدنية مُنتخبة ديقراطياً من قبل الشعب، أثار القولُ حفيظَـتَه. وفي اليوم التالي خطب غامزاً قناة السياسيين القدامى متَّـهمَهم بالعجز وناعتَهم بـ (ساسة الصّالونات) ومتسائلاً ( أين كانوا يومَ فجَّـرنا ثورة تمّـوز؟). وكان لا يحبّ أن يرى شخصاً قويّـاً محبوباً لدى الشعب غيرَه. فمثلاً عندما كان العقيد فاضل عباس المهداوي، رئيس محكمة الشعب، يحاكم أحد المتهمين في تمرد الشواف في الموصل (8 آذار 1959)، ذكر أحدُ الجنود الشهود العقيدَ حسن عبود، آمرَ حامية الموصل الذي قمع التمرد، واصفاً إياه بالرجل الحديدي، إختلجتْ عضلات وجه المهداوي ولم يعلق، وكان من عادته التعليق. وفي اليوم التالي ذكر جندي آخر العقيدَ حسن عبود ووصفه بالرجل الحديدي أيضاً، وهنا صرخ المهداوي فيه بحدة، أنْ لا يوجد رجل حديدي إلاّ الزعيم عبد الكريم، فضجت القاعة بالتصفيق والهتاف للزعيم! وربما كان هذا السَّببَ أيضاً في إبعاده الزعيمَ الركن هاشم عبد الجبار (أخاه في الرضاعة) قائدَ الفرقة الخامسة التي كانت تحمي بغداد، والذي غادر العراق إلى تشيكوسلوفاكيا ومات في أحد قطارات براغ مخموراً. ولذا كان يُبعد المخلصين وخصوصاً العقائدييّن منهم ويقرِّب المصفقين والإنتهازيين والأعداء لإحداث ( موازنة ) يبقى بواسطتها في الحكم، ربما ليس طمعاً أو رغبةً في السلطة، ولكنْ وسيلةً يريد أن يُسعدَ الفقراءَ من الشعب بها، فهو يحبهم حباً جماً ويحتاج إلى حبِّهم أيضاً، بل إنَّ حبَّهم دواء له، والحقيقة أنَّ ثورةَ 14 تموز كانت ثورةَ الفقراء أو جاءت لأجلهم. فهو لا(يثق) بأحد وحسب، بل لا يريد أيّـاً من رفاقه أو حاشيته أن يشاركه في هذا الحُـبِّ. أما إذا لمع نجم أحدُ حاشيته أوكسب ثقةً وحباً، ولو محدوداً، من الشعب، فسرعان ما يهمشَّه (يجمّـده) أو يعفيه من المنصب. والواقع أنه، بسياسته غير الحكيمة هذه، أصبح في عزلة واقعياً. وقد أصاب عبد الكريم فرحان عندما تساءل في كتابه -حصاد ثورة ص 232- " كيف يستطيع قاسم بعزلته وصراعه مع الشيوعيين، وحربه مع الأكراد، وتلاشي ولاء أجهزته أن يكسر شوكة الحزب (البعث- الكاتب) ويذله". لذا كانت الدائرة الواحدة مزيجاً من طوائف عدة أو أحزاب متنافرة أو آراء متناقضة، لتتخاصم وليبقى هو فوق التيار. وكذا كانت الحال في كركوك.
#بهجت_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صـديقي العربي
-
ترنيمة الأرواح فوق المياه
-
هل تستطيع شجيرة الصفصاف الأفـريقـية أنْ تفعـل مـا عجـزتْ عنه
...
-
المنبـوذ
-
الآن إلى أين ؟ Jetzt Wohin ?
-
خطـرات
-
عويـلُ الفـتاة
-
خبز وخمر – للشاعر الألماني هولدرلين - 1770-1843
-
من أشعار هاينريش هاينه
-
كيوبيد كرسّـام منظر طبيعي
-
ألمانيـا
-
الصحافة الإلكترونية ودورها – الحوار المتمدن نموذجاً
-
عشرون وثيقة وهوية عراقية لا تكفي لإقناع السفارة العراقية في
...
-
هل حاضرنا امتداد لماضينا ؟
-
للتهدئـة Zur Beruhigung
-
آفتان في مرض السكر ( النوع 2 ) - فرط الإنسولين والهيموغلوبين
...
-
كائنات غريبـة في فلـوريس
-
مطر شديد سيأخذ في السّـقوط
-
هوية الفرد الجينية
-
مطر شديد سيأخذ في السّـقوط
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|