أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - فيروس الإله [4]















المزيد.....



فيروس الإله [4]


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 3770 - 2012 / 6 / 26 - 03:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الفصل الرابع
الدين المدني الأمريكي 1

((يعتبر الدين في نظر عامة الشعب كحقيقة، وفي نظر الحكماء خطأ، أمّا الحكّام فيعتبرون الدين بأنه ذو فائدة))
[سينيكا الأصغر 4ق.م- 65 ب.م]

في هذا الفصل، سنبيّن أنه في المجتمعات المعاصرة، فهناك اختلاف كبير بين الدين والثقافة. وسنقدّم مفهوم الازدواج الثقافي، والذي يحدث عندما يغزو الدين ثقافة مؤسّسة. وسننظر بشكل محدد إلى عملية تطوّر الدين المدني في الولايات المتحدة كحالة أو موضوع للدراسة على خلفية الازدواج الثقافي.

 الدين والثقافية
الدين والثقافة هما كيانان مختلفان تماماً، مع أنهما مرتبطان. فالثقافة موجودة على نطاق أوسع من الدين، وخصوصاً في المجتمعات المعاصرة. ففي المجتمعات الباكرة، كسكان أمريكا الجنوبية الأصليين، أو قبائل أستراليا البدائية، قبائل الأمازون في البرازيل، ومجتمعات أخرى، كلها لديها ديانات ثقافية خاصة بها. وذلك، ارتبط كل من الدين والثقافة ببعضهما البعض لدرجة لم يكن من الممكن الفصل بينهما. على سبيل المثال، ن يكون من المقبول بالنسبة لرجل من إحدى القبائل الأمازونية أن يتحوّل إلى مسلم أو تابعاً لديانة أخرى. فالدين هو آلية أو وظيفة لربط الفرد مع القبيلة_ الطريقة التي تعيش من خلالها القبيلة وتتعبّد.
لذا دين القبيلة مثل الفيروس الذي يستطيع الحياة والبقاء ضمن فصيلة أو نوع واحد فقط. يمكن للفيروس أن يزدهر داخل حدود تلك الفصيلة، لكن إذا امتلكت تلك الفصيلة مناعة كاملة أو أنها انقرضت، فسيقضى على الفيروس. من جهةٍ أخرى، إذا تمكّن الفيروس من التحوّل إلى نوع جديد آخر وتمكّن من الحياة مع فصائل أخرى، فبإمكانه التوسّع والانتشار ثمّ البقاء بطرق جديدة. يبدو أنّ فيروس الإيدز HIV قد قفز من القردة إلى البشر منذ عدّة عقود. وقد سمحت هذه القفزة للفيروس بالانتقال من إمكانية لا تتعدّى مئات الآلاف من القردة إلى مئات الملايين من البشر.



 الانفصال عن الثقافة
حدثت ثورة دينية خلال الفترة ما بين 600-400 ق.م مع طفرة أصابت دين غير إلهي معيّن, ما أن انفصل الدين عن ثقافة معينة، حتى بات بإمكانه الانتقال لأي ثقافة أخرى. حدثت مثل هذه الثورة مرات عديدة على مر التاريخ البشري وفي أماكن مختلفة من العالم، وكانت لها نتائج مماثلة. على سبيل المثال، اجتاحت البوذية الهند والصين خلال فترة زمنية قصيرة جداً، ملغية في طريقها مئات الآلهة المحلية. اجتاحت الديانة المسيحية أوروبا أيضاً وبنفس الطريقة، ماحقةً خلال مسيرتها أجزاء كبيرة من الديانتين والثقافتين الجرمانية والسلتية. وبنفس الشكل اجتاح الإسلام منطقة الشرق الأوسط.
زرادشت [1] مؤسّس الديانة الزرادشتية، قد يكون هو أول من قام بالانفصال عن الثقافة حوالي عام 600 ق.م. منطلقاً من بلاد فارس، نشر زرادشت مفهومه عن الصراع الكوني والأزلي بين قوى الخير، المتمثّلة في أهورا مزدا، وقوى الشر المتمثلة في أهريمان. ويجب ألا نفاجأ هنا بأنّ مفهوم الشيطان قد جاءنا من هذه الحقبة، فقد انتشرت الزرادشتية بسرعة بيرة عبر ما يسمى الآن بإيران والعراق، كاسحة في طريقها العديد من الآلهة والأديان المحلية الأصلية. وبعد ذلك بفترة قصيرة، تمّ أخذ اليهود أسرى إلى بابل، أي إلى قلب الحضارة الزرادشتية.
كانت اليهودية بمثابة ديانة قبلية بامتياز حتى تمّ تعرّضت عن طريق السبي البابلي لتأثيرات الثقافة الزرادشتية. وبعد سبيهم، عاد اليهود إلى موطنهم وقد تغيّر حال فهمهم لدينهم بطريقة جذرية ومتطرفة. ففي الفترة ما بين 538 إلى 330 ق.م، كان اليهود ما زالوا يرزحون تحت السيطرة الزراشتية. أثرت الديانة الزرادشتية أيّما تأثير على الثقافة اليهودية. إذ تغيّر مفهوم اليهود لإلههم بعد السبي، وبإضافة مفهوم الشيطان الجديد عليهم، بدأوا باستعمال بعض حيله وخدعه المعاصرة.
هذا ما أسّس لمرحلة الانفصال الكامل لليهودية والثقافة على يد القديس بولس بعد حوالي أربعمائة عام. فإذا كنت تعرف لعهد الجديد المسيحي، عندها ستتذكّر الخلاف بين بولس وبطرس بشأن وضع غير اليهود ضمن المذهب المسيحي الجديد. فغلب النزاع القائم بين القديس بولس والقديس بطرس (ورسل آخرون) كان يدور حول مسألة ما إذا كان يجب أن تكون الديانة المسيحية منفصلة عن الثقافة اليهودية. فقد اعتقد بطرس والآخرون بأنّ المهتدين الجدد يجب أن يكونوا مختونين وأن يؤدّوا بعض الطقوس والشعائر اليهودية الأخرى. إلا أنّ بولس قد خالفهم الرأي تماماً، قائلاً بأنّ غير اليهود ليسوا ملزمين بأن يصبحوا يهوداً قبل أن ينضمّوا إلى الدين الجديد. فاز القديس بولس في هذا الخلاف [2]. أمّا النتيجة فقد كانت انفصالاً دراماتيكياً كاملاً للمسيحية عن الثقافة اليهودية. ومن شأن ذلك أن يحرّر فيروس "المسيحية" لينطلق من عقاله إلى أيّة جهة ليخترقها من دون أن يواجه أيّة صعوبات أو عوائق يهودية مضيّعاً وقته الثمين في التنافس معها.

 ربط الثقافة
في حين أنّ الانفصال الثقافي يسمح للدين بأن ينتشر بسهولة، فالدين يسعى لفرض السيطرة على ثقافة معينة لضمان استمراره وبقاءه. وكلّما كانت العدوى الدينية أعمق، كلما أصبح أمن الدين وبقاءه متعلق بثقافة ما. فإذا كان الدين قادراً على إصابة الثقافة المستهدفة بفعالية، فإنه يصبح جزءاً حيوياً ورئيسياً من هذه الثقافة لدرجة أنّه لا يمكن أن ينفصل عنها. لذلك أصبحت الزرادشتية الدين الوحيد الرسمي في بلاد فارس، مزيحةً في طريقها مئات الآلهة المحلية القديمة، ضامنةً لها مكانة رفيعة وقوية للاستمرار لمئات السنوات. هل يمكن لأي أحد تخيّل حقبة العصور الوسطى بدون الفكر الكاثوليكي الذي كان سائداً فيها؟ كيف يمكن للملكة العربية السعودية أن تنفصل عن الإسلام؟ إذن كل دين من هذه الأديان ارتبط بشكل وثيق بالحضارة الجديدة الناشئة.
بالمقابل، من السهل رؤية فتوحات الإسكندر الكبير ضمن إطار الأعمال السياسية والعسكرية من دون أي مساس بالدين الإغريقي. لابدّ وأنّ الإغريق كانوا قد حملوا أفكارهم ومعتقداتهم الدينية معهم، لكنهم لم يقوموا بفرضها على الشعوب التي غزوها، كما فعل كل من الإسلام والمسيحية فيما بعد. ففي زمن الاسكندر المقدوني العظيم، لم يكن دين الإغريق منفصل وواضح المعالم كدين عالمي أو كوني.
ما أن يرتبط أي دين بثقافة جديدة، فإنه يميل إلى التعلق بتلك الثقافة كالطفيلي ويوجّه مسيرة تطوّرها الثقافية بطرق تضمن أمن واستمرار الدين وانتشاره. يضمّن الدين نفسه داخل الثقافة كما تفعل فيروسات الكَلَب عندما تخفي نفسها داخل أدمغة الكلاب أو حيوانات الراكون. والربط الناجح يخلق حالة من الوهم بأنّ الثقافة والدين هما شيء واحد ولا خلاف بينهما، ويبدأ الأتباع بالإيمان بأنّ الثقافة لا يكتب لها البقاء من دون الدين. إضافة إلى ذلك، لا يمكن زحزحة الأديان الأخرى بسهولة عندما تكون مرتبطة ومتعلقة بشكل جوهري وعميق بكافة مظاهر الحياة اليومية. وهذه هي حالة الإسلام في معظم أقطار الشرق الأوسط. على سبيل المثال، يجري القانون المصري تعديلات بسيطة ويسهّل الإجراءات الحكومية والإدارية إذا أردت أن تغيّر ديانتك وتعتنق الإسلام. لكن بالمقابل إذا أردت ترك الإسلام واعتناق ديانة أخرى _وهذا أمر قانوني وطبيعي_ ستضع الحكومة أمامك الكثير من العقبات والموانع لتجعل الأمر يبدو مستحيلاً من الناحية العملية [3].
العديد من الجماعات الدينية والسياسية في أمريكا ترى أنّ الولايات المتحدة والديانة المسيحية كياناً واحداً غير منفصل. إنّهم يؤمنون بأنّ غضب الرب سينزل علينا إذا لم نتمسّك ونتّبع التفسيرات والتأويلات التي يقدّمونها لنا للنصوص الدينية _والقائمة بشكل كبير على أفكار من العهد القديم والمفروضة على الحركات السياسية الحالية. إنّهم ينظرون إلى كل شيء بدءاً من الكوارث والأعاصير وأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية على أنّها عقوبات منزلة من الرب على الشعب الأمريكي. وأوضح مثال على ذلك ما قاله ديني شدي سوزا Dinesh D souza المستشار السياسي السابق للرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان:
((المتطرّفون المسلمون يهاجمون أمريكا، وذلك لأنّ هناك كثر في أمريكا لا يتّبعون منظومة أخلاقية منزّلة من عند "كائن أعلى". هذه المنظومة الأخلاقية الجديدة تؤذي إلى أعمال شنيعة كالزنا والدعارة وزواج المثليين)) [4]
خلال الحملة الانتخابية عام 2008، نادى المرشح للرئاسة الجمهوري مايك هوكابي Mike Huckabee بإدخال تعديلات دستورية لمجاراة قانون "الإله". (([بعض معارضيّ] لا يريدون تغيير الدستور، لكني أعتقد أنه من الأسهل تعديل الدستور على تغيير كلمة الرب الحية، وهذا ما نحن بحاجة لفعله وهو تعديل الدستور ليتوافق مع معايير الرب بدل محاولتنا تغيير المعايير الربانية نفسها))
المتدينون أمثال دي سوزا وهوكابي يسعون لربط الولايات المتحدة بفيروس "المسيحية" كما ارتبط الإسلام بالدولة في مصر. وهذا الهدف قد استعصى على المسيحيين الأصوليين تحقيقه منذ أن رفض الآباء المؤسّسون الأوائل ذكر أي إله أو رب في دستور الولايات المتحدة.

 التنوير
كانت حركة التنوير الغربي تمثّل شكلاً جديداً من أشكال الارتباط الثقافي، في هذه الحالة تمّ فصل الدين عن الثقافة بشكل كامل. بدءاً من الهجمات التي شنّها أتباع المذهب الإنسانوي الأوائل كإيرازموس Erasmus في القرن الخامس عشر، وبعد ذلك هجوم أتباع البروتستانتية الناشئة والمناوئة في القرن السادس عشر، خسرت الكاثوليكية مكانتها الاستراتيجية في الثقافة الأوروبية. وهذا ما منح المفكّرين أمثال هوبز Hobbes وروسو Rousseau وفولتير Voltaire وآخرون فرصة سانحة لفتح شرخ كبير بين المسيحية والحضارة الغربية. وأخذ هذا الشرخ بالتوسّع ببطء، لكنه لم يأخذ أكبر مدى له حتى الثورتين الأمريكية والفرنسية اللاحقة. كل التاريخ الأوروبي الغربي من عصر التنوير زحتى نهاية الحرب العالمية الثانية يمكن النظر إليه كصراع هائل لفصل الثقافة عن الأديان المسيطرة والكامنةـ إمّا البروتستانتية أو الكاثوليكية.
 الثورة الأمريكية والثقافة
((إنّ حكومة الولايات المتحدة لم تتأسّس حسب معايير الديانة المسيحية)) [جون آدامز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة]
إنّ ظهور بنية سياسية غير حاملة للعدوى الفيروسية هي ظاهرة حديثة نسبياً في تاريخنا البشري. فلم يسبق أن أقدمت أي حكومة أو دولة من قبل وبنجاح بمنع حدوث العدوى الفيروسية حتى لحظة تأسيس الدستور الأمريكي على قواعد وأسس تنويرية. كل دولة عظمى ظهرت منذ بدء التاريخ البشري كانت تتمتّع بحالة دينية لعبت دوراً هاماً في شرعنة الحاكم أو الطبقة الحاكمة[5].
كان الآباء المؤسّسون للولايات المتحدة يعلمون حق العلم أنّ الدين يحاول دائماً إصابة الجهاز العصبي المركزي للدولة بالعدوى. وبفضل جهود ماديسون وآخرونـ لم يرد في الدستور أي ذكر للرب، كما أنّ الفصل بين الكنيسة والدولة تم نصّه في المادة الأولى. كان الفصل بين الكنيسة والدولة إحدى أولى المحاولات لعزل النظام السياسي عن تأثيرات العدوى الدينية، وهذا ما منع _بنجاح وفعالية، بالإضافة إلى العديد من الديانات المتنافسة فيما بينها في أمريكا ما بعد الاستعمار_ سيطرة أحد الأديان أو ارتباطها مع أي ناحية أخرى من نواحي الثقافة.

 العدوى السياسية
((أعطِ الكنيسة مكاناً في الدستور، دعها تلمس سيف السلة مرة أخرى، وستتحوّل الثمرة التي لا تقدّر بثمن، والتي نضجت على مرّ الأجيال إلى رماد على شفاه البشر)) [روبرت أنغرسول]
في عالم البيولوجيا، يجد فيروس الكَلَب طريقه من خلال خلايا الجهاز العصبي المحيطي peripheral، مستخدماً المسالك العصبية التي لا تخضع لرقابة الجهاز المناعي. ويسير في طريقه إلى الدماغ حيث يحكم سيطرته على الجهاز العصبي المركزي ويستغلّه من أجل منفعته وتنفيذ أجندته الخاصة.
فيروسات الإله تعمل بنفس الطريقة، فهي تبحث عن ممرّ أو مسلك يوصلها إلى مراكز القوة أو السلطة في الدولة. لذلك، وبغضّ النظر عن تصريحات المعاندين والمعارضين، تنزع الأديان لاغتصاب النظام السياسي أينما استطاعت أن تفرض سيطرتها وفيروساتها. فالوصول إلى مراكز القوة والسلطة بالدولة ثمّ السيطرة عليها هو من أكثر الأساليب فعاليةً في الانتشار والترويج والدفاع ضدّ الأديان المنافسة.
من الحكمة أن يكون الإنسان متشكّكاً بشأن أي دين يدّعي بأنه غير مهتم بالسلطة السياسية أو أنه لا تعنيه المراكز السياسية في الدولة. فعند توفّر الظروف المناسبة والملائمة، أغلب الديانات لا يمكنها مقاومة الإغراء. فكل دين أو مذهب يسعى خلف السلطة السياسية ليستخدمها كأداة تمكّنه من ربط نفسه بالثقافة. وهذا أمر موجود في جينات جميع الأديان.
في ضوء هذه الأفكار، دعونا نلقي نظرة على حالة خاصة جداً للدين المدني الأمريكي لنرى كيف تحاول الأديان الارتباط بمجتمعاتنا.

 الدين المدني والمصير الأمريكي
((ما الذي أثمرته الديانة المسيحية؟ الذي أنتجته، بشكل تقريبي ومتفاوت في جميع الأماكن، الغزو والكسل عند رجال الدين، الجهل والتذلّل لدى جماهير المؤمنين، والخرافة والجهل والتعصّب والانحطاط لدى كلاهما)) [جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأمريكية]
كان الدين المدني الأمريكي موجوداً منذ الأيام الأولى للجمهورية الجديدة. إذ وصفه روبرت بيلا (1967) في عمله الذي يستند على أرضية مخلخلة، الدين المدني في أمريكا:
((ما لدينا نحن الآن _منذ السنوات الأولى للجمهورية_ عبارة عن مجموعة من المعتقدات، الرموز، والطقوس، بالإضافة إلى مشاعر التقديس والتبجيل لأشياء مقدّسة وتمّ تأسيسها ضمن المجتمع الكلي... الدين الرسمي في أمريكا له أنبياءه وشهداؤه وقدّيسيه، وأحداثه وأماكنه المقدّسة الخاصة به، له طقوسه ورموزه المهيبة الخاصة. ومن المهم جداً أن تكون أمريكا مجتمعاً يتناسب ولا يتعارض مع إرادة الرب بقدر ما باستطاعة الإنسان تحقيق ذلك، وأن تكون منارة لجميع الأمم)) [6]
الدين المدني هو عبارة عن أسطورة محزّمة ومضمّنة بشكل عميق تمّ تأسيسها كديانة عليا أو بمستوى أعلى [ميتا-ديانة Meta-Religion] منذ بداية نشوء الحضارات والأمم. وبدون الارتباط مع أي مذهب من المذاهب، هذا النظام العقائدي المبهم والغامض قائم بشكل مطلق على التراث اليهودي-المسيحي، مع وجود ادّعاءات ومزاعم تفيد بأنّ الله أو الرب قد بارك هذه الأمّة أو أنّها بمثابة قوة مرشدة لمصيرها.
كان القدر الظاهر موضوعاً مركزياً للدين المدني خلال باكورة القرن التاسع عشر وتمّ استغلاله لتبرير الحرب المكسيكية-الأمريكية. بالإضافة إلى تهجير القبائل الأمريكية المحلية الأصلية والتوسّع عبر القارة.
تمكّن جون أو سوليفان John O sullivan في مقاله الشهير من التقاط صورة واضحة لكامل الأمة في ذلك الوقت:
((كل هذا سيمثّل كامل تاريخنا المستقبلي، لنؤسّس على الأرض منارة النزاهة الأخلاقية والخلاص لبني البشر _الحقيقة الخالصة والكرم الإلهي. ومن أجل هذه الفضيلة المباركة لباقي أقطار العالم، والتي أغلقت أبوابها ونوافذها في وجه نور الحقيقة الذي يمنح الحياة، تمّ اختيار أمريكا، ومهمّتها الأولى تتلخّص في ضرب طغيان الملوك، الأنظمة الهيراركية، والأوليغاركية، ونشر عوامل السلام والنية الطيبة حيث الجموع الغفيرة الآن تعاني من وجود أعداء يحسدون أمّتنا أكثر من بقية الوحوش الموجودة على الحلبة. الذين يشكّون ولو للحظة أنّ أمّتنا مكتوب عليها بأن تكون أعظم الأمم في المستقبل)) [7]
استغلّ لينكولن الدين المدني أفضل استغلال لتوجيه الأمّة وقيادتها للخروج بها من الحرب الأهلية، واضعاً معايير أساسية لاستخدام الدين المدني بين السياسيين. خلال فترة الستينيات استغلّ مارتن لوثر كينغ جونيور Martin Luther King Jr. الدين المجني كوعاء لحركة الحقوق المدنية، الحاكم جورج والاس George Wallace استخدمه لتبرير الفصل بالجنوب. في حين أنّه من سخرية القدر أن يكون كلا الرجلين قد استخدما الدين المدني لتحقيق مثل هذه الأهداف المتناقضة، تلك هي الطبيعة الغامضة لهذه الأسطورة. اعتقد والاس أنّ "الحقوق المدنية" ممنوحة من عند الله، تماماً كما كان يشعر كينغ بشأن المساواة العرقية. كلا الأفكار ظلّت محصورة في إطار الدين المدني في أوقات مختلفة.
الدين المدني عبارة عن فيروس كأي دين آخر. تذكّر كيف أنّ كل دين يقوم بتعطيل مناطق التفكير النقدي في دماغ أتباعه أياً كانت ديانتهم التي يعتنقونها. فهم يستطيعون رؤية الأمور والنواحي غير العقلانية في معتقدات الآخرين الدينية، لكنهم لا يرون التناقضات في ديانتهم الخاصة. والدين المدني يمتلك نفس القدرات والخصائص لشلّ وتعطيل ملكة التفكير النقدي عند جماعات بأملها لدرجة أنّهم يعتبرون توجيه أي انتقاد لأمّتهم أو ديانتهم هو محض افتراء وهرطقة. على سبيل المثال، هؤلاء الذين كانوا يرفضون الحرب على فيتنام وينتقدون سياسات بلادهم بهذه المسألة، فكان يقال لهم: ((أمريكا، أحِبّوها، أو غادروها))، من قبل بعض المتطرفين الدينيين أو القادة. مؤخراً بشّر عدد من المطارنة ورجال الدين بشكل خفيف ومستتر لدعم عملية غزو العراق عام 2003. آخرون أطلقوا على هؤلاء الذين تجرأوا على الكلام ضدّ عملية الغزو بالخونة واللاوطنيين ((عادةً يسير الدين والحرب يداً بيد إلى ساحة المعركة))، هذه كلمات بوب جونز، الزعيم المتطرف بجامعة بوب جونز، عبر برنامج لاري كينغ في بث حي ومباشر في 1 مارس 2003. ((الحرب على العراق ستساعد كثيراً في تحديد مصادر هذا الإرهاب. وأنا الآن لا أجد أحداً من الذين يحبون السلام يمكن أن يقف موقفاً رافضاً لهذه الحرب ومناهضاً لها، فهؤلاء الرافضين لها هم الذين يدمّرون عملية السلام))
((كان شعار الائتلاف هو كالتالي: "إنّ الله يقف إلى جانبنا Deo Vindice" إذ أنّ أطلانتا كانت قد تحوّلت إلى رماد على أيدي الناس الذين كانوا يعتقدون أنّ الرب قد تبنّى الرأي الآخر)) [كريستوفر هيتشنز]
الدين المدني أيضاً يمنح الرئيس سلطة دينية ويتوقّع تصرّفات أو أفعال ذات صبغة دينية معينة منه [أو منها] باسم الأمة، كصلوات الإفطار، الرجوع المستمر والمتكرّر للرب، وارتياد الكنيسة أو المسجد باستمرار. وكنتيجة لذلك، يبدو الرئيس ككاهن أعلى للدين المدني بنظر أغلب أفراد الأمة. وعندما تحدث كارثة طبيعية أو تصيب البلاد فاجعة مأساوية من نوع ما، يُتَوَقّع من الرئيس أن يدعو الناس إلى الصلاة وأن يقدّم مساعدات وخدمات في إطار كنائس عالية المستوى ككاتدرائية واشنطن الوطنية. حيث أنّ وجود كاتدرائية تسمى بالكاتدرائية الوطنية هو اعتراف رسمي بقوة الدين المدني وسلطته. جميع الرؤساء الحاليين والمعاصرين قدّموا خدمات كبيرة عن طريق الكاتدرائية الوطنية في أوقات الأزمات والمحن الوطنية، حتى وإن كان أولئك الرؤساء هم أعضاء في كنائس أخرى مغايرة غير الكاتدرائية الوطنية التي لا ينتمون إليها في الأصل.
الدين المدني مرتبط بشدة بالثقافة الأمريكية لدرجة أنّ أغلب الأمريكيين لا يمكنهم تصوّر أمريكا من دون خلفيتها الدينية. عرض جورج بوش هذه الفكرة خلال مؤتمر صحفي أقامه في 27 أغسطس من عام 1987، حين قال: ((لا، لا أعتقد أنّنا يجب أن نعتبر الملحدين مواطنون، ولا يمكننا اعتبارهم وطنيين، فنحن أمّة واحدة تحت راية الرب)). مضمون هذا الخطاب يتمثّل في الفكرة القائلة بأنّ لن يعتبر أي شخص مواطناً حقيقياً إلا إذا كان يؤمن بالله وبإله الدين المدني. أمّا هؤلاء الذين لا يعتقدون بوجود إله أو هؤلاء الذين يعبدون شيئاً آخر غير الإله اليهودي-المسيحي هم ليسوا مواطنين متساوين [8].
هناك مثال آخر للتعبير عن الدين المسيحي حدث في مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة عام 2007. فمن عادة كل سيناتور _وهذا يعتبر امتياز أيضاً_ أن يستدعي عدداً من القادة الدينيين من ولاياتهم ليترأسوا السيناتورات ضمن صلاة جماعية وعملية تأمّل. في 12 تموز عام 2007، كان راجان زيد، من الجمعية الهندية لنورث كارولاينا (هندوسي)، مدعواً من قبل زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ هاري ريد ليتزعّم مجلس الشيوخ في صلاتهم. لكن هذا الأمر لم يمرّ من دون أن يبدي البعض استياؤهم، فالمسيحيون المتطرّفون الذين كانوا حاضرين في القاعة كانوا جاهزين لإثارة ضجّة واضطراب والتشويش على جلسة الصلاة. تمّت مقاطعة زيد مرتين، قبل أن يتمّ إخلاء القاعة في النهاية. في سياق التعبير عن الدين المدني، كافة الزعماء والقادة والكهنة الدينيين هم من المسيحيين أو اليهود منذ أن تمّ تأسيس هذا العرف عام 1790، ولم يتمّ مقاطعة أحدهم ولو لمرة واحدة. إنّ حقيقة أنّه قد تمّ استدعاء رئيس هندوسي للصلاة كانت تشكّل عائقاً وتحدّياً للفيروس المدني وليس من المستغرب أن يسبّب ردّة الفعل تلك. خلال الأيام التالية، كانت قد تصاعدت حدّة النداءات والاعتراضات بين صفوف الأصوليين بشأن المعارضين الذين تمّ طردهم من القاعة [9]. وحتى يومنا هذا، لم تتسع قاعة الفيروس المدني الأمريكي لتحتوي مكاناً كافياً للمواطنية الهندوسية، أمّا بالنسبة للملحدين فهؤلاء يندرجون تحت فئة المحرّمات والتابوهات. هل ستحين اللحظة التي سيقوم فيها السيناتورات باستدعاء مقدّم من الويكا، أو وثني أو ملحد لترأس المجلس في جلسته التأمّلية؟

 الدين المدني الجديد
((لا مكان للصلوات في الأمان العامة، مثلما لا تمتلك الحقائق مكاناً في أي ديانة منتطمة))
[مدير المدرسة في البرنامج الكرتوني The Simpsons، الموسم الأول]
قد يجادل أحدهم ويقول أنّ الدين المدني كان بمثابة قوة إيجابية قبل الحرب العالمية الثانية. ومع صعود الفيروس الماركسي المنافس وتفشّيه في روسيا، كان الدين الأمريكي قد تحوّل إلى سلاح جرى استخدامه خلال الحرب الباردة. فوجود فيروس منافس غالباً ما يستثير ردود أفعال أصولية. فقط ظهر الدين المدني الأمريكي في الدرجة الأولى لمواجهة "المدّ الشيوعي الملحد" الذي انطلق من الاتحاد السوفييتي. وكل فيروس تغذّى على الفيروس الآخر _المسيحية ضدّ الماركسية. فليس من قبيل المصادفة أنّ ميثاق التحالف قد تغيّر عام 1954 ليتضمّن عبارة ((تحت راية الرب)) وتمت طباعة الشعار المعروف على ورقة العملة الأمريكية: ((نحن نؤمن بالرب In God we Trust)) عام 1957.
امتازت فترة الخمسينات بظهور الحقبة المكارثية وبلوغها أوجها، ظهور ديانة مدنية جديدة نشطة وفعّالة حيث جرت مطاردة الهرطقة السياسيين لاضطهاد جميع أولئك الذين رفضوا الانضمام إلى المعسكر الديني والانقياد خلفه. فقد شهدت الولايات المتحدة تنامياً متزايداً في ظاهرة الدين المدني والدين بشكل عام، في حين أنّ أغلب بلدان حلف الناتو الأوروبية اللادينية شهدت انحداراً وهبوطاً مستمرين في النشاط الديني [10]. التنامي المطّرد للأصولية والديانات المدنية الناشطة في يومنا هذا يمكن إرجاعه إلى الخطر الشيوعي المحدق في الفترة الماضية. فمع اختفاء الشيوعية، انتقلت بقعة الضوء من الشيوعية الملحدة إلى النزعة الإنسانية العلمانية الملحدة. فردود الأفعال والممارسات والنشاطات التي كانت موجّهة ضدّ الشيوعية قد تمّ إعادة توجيهها ضدّ النزعات الإنسانية العلمانية.

 تسلّل الديانة المدنية الجديدة
((يعود النشيد الوطني في تاريخ للقرن الثامن عشر. ويمكن أن ترى فيه مطالبتنا للرب بأن يقوم بأعمالنا القذرة نيابةً عنّا)) [جورج برنارد شو]
مع اتساع رقعة الحرية الجنسية، التزايد الدراماتيكي لحالات الطلاق، وتشريع عمليات الإجهاض والاستخدام المتزايد لوسائل منع الحمل وتحديد النسل، تعرّضت الكثير من الفيروسات الأصولية في الولايات المتحدة الأمريكية للتهديد والخطر. فحركة الحقوق التناسلية التي نشطت خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت تمثّل تهديداً مباشراً للفيروسات الإلهية بمختلف أشكالها وأنواعها، ومن ضمنها المعمدانية، الناصرية، الكاثوليكية، والمورمون.
فقد كانت الأغلبية الأخلاقية بمثابة طفرة سمحت للعديد من الفيروسات بأن تجد أرضية مشتركة وأن تبتكر استراتيجية لنقل العدوى الفيروسية للجهاز العصبي المركزي السياسي. فقد تأسّست عام 1979 على يد جيري فالويل، الذي أدرك أنّه إذا لم تقدر جماعة دينية معينة على نقل العدوى للجهاز السياسي والسيطرة عليه، فربما بإمكان ائتلاف أو جمعية ما القيام بذلك. والجزء الأهم في هذه الاستراتيجية كان يتمثّل في استغلال الدين المدني الموجود والمتطوّر مسبقاً ليحقق تلك الأهداف. تماماً كما يعدي الطفيلي الشريطي دماغ النملة ويقو-ها لتستقر في أعلى نقطة من العشبة ليتمّ تناولها من قبل الأبقار، فالغالبية الأخلاقية أصابت الدين المدني بالعدوى وقادته إلى أعلى نقطة من عشبة المجتمع ليتمّ تناوله من قبل الساسة. لذا يعمل الساسة الآن جاهدين لتحقيق أهداف وغايات الغالبية الأخلاقية والجماعات الأخرى التي على شاكلتها كالائتلاف المسيحي على سبيل المثال. لم يعد الدين المدني مجرّد تعبير ديني هشّ وبسيط للأمة، بل أصبح دين مدني جديد وعنيف وجارف ذو ميول أصولية متشدّدة ونزعات متطرفة.
دافع جيري فالويل وآخرون عن الحاجة إلى الدين والتدين ليربطوا أنفسهم بالثقافة وليسيطروا على الجهاز السياسي. وباللجوء لتكتيكات مكارثي ولغة الدين المدني الجديد، كانوا قادرين على ترهيب السياسيين وإدخال مرشحيهم إلى مناصبهم. وكنتيجة لذلك، الدين اليوم عبارة عن اختبار افتراضي لنيل المناصب واختلال المكاتب العليا في العديد من الولايات. فالمرشحين الذين لم يقابلوا القادة والزعماء الدينيين ولم يخضعوا لاختباراتهم الدينية يخاطرون بتصنيفهم ضمن فئة المعادين للدين أو حتى أسوأ.
كعلامة على مدى اتساع وانتشار وتنوّع هذا الائتلاف، تمّ قبول المورمون كشريك كامل. كيف حدث وأن تمكّن المورمون من الانضمام إلى هذا الائتلاف؟ في أوقات مضت، كانت كافة المذاهب والطوائف المسيحية تشتم وتلعن المورمون. طبعاً، قراءة سريعة في كتاب المورمون تظهر لنا أنّ المورمونية بعيدة كل البعد عن المسيحية بطبيعتها، من اللباس التحتي المقدّس وحتى سعيهم ليصبحوا أسياداً وآلهة كوكبهم الخاص، إلى السكان الأصليين الأمريكان كالتيه اليهودي، وإلى جوزيف سميث Joseph Smith كنبي أخير غير يسوع.
يمكننا العثور على الجواب عند جيري فالويل واستراتيجيته، الإقرار ببساطة بالمبادئ الأصولية للدين المدني الجديد كافٍ للحصول على مدخل واسع. بعض المبادئ تتضمّن أفكاراً كالصلاة في المدارس، المسيحية كديانة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية وللقضاة المحافظين في محاكمها، معارضة أبحاث الخلايا الجذعية، معارضة زواج المثليين، إدخال القساوسة الإنجيليين في صفوف الجيش، معرضة عمليات الإجهاض والتربية الجنسية.

 نتائج معدية
((لا تصلي في مدرستي... وأنا بدوري لن أفكّر بكنيستك)) [مجهول]
كانت الاستراتيجية ناجحة بطريقة ما، ونتيجة عدوى الغالبية العظمى للنظام الفدرالي يمكن ملاحظتها ضمن نقاط صغيرة لكنها فعّالة:
 إدخال أفراد متدينين ووضعهم دخل قاعات المحكمة العليا.
 وضع قساوسة متطرّفين وأصوليين بين صفوف القوات المسلحة.
 مقاومة رجال الدين العسكر من غير الديانتين اليهودية والمسيحية.
 ترقية الضباط الأكثر تديناً في القوات المسلحة.
 حظر أبحاث الخلايا الجذعية.
 تأخير إعلان الخطة B المتعلّقة بعقاقير منع الحمل.
 فتح سفارة للفاتيكان [11].
 حظر استخدام الواقي الذكر ووسائل أخرى لمنع الحمل ومنع المساعدات عن المنظّمات التي قد تدعم عمليات الإجهاض.
كل هذه الأمور _والكثير غيرها_ عبارة عن تطوّرات متأخّرة يمكن ربطها بشكل مباشر بنشاطات هذا الدين المدني الجديد.
هذا الدين المدني الجديد فعّال أيضاً في منع وإعاقة ممارسات الدين الإسلامي تماماً كما يخلق بيئة غير ودودة أو معادية للديانات الأخرى كالهندوسية، السيخية، الوثنية، والويكا. عندما تمّ ترشيح كيث إليسون Keith Ellison _المرشّح الديمقراطيمن منيسوتا_ أول مرشّح إسلامي لمجلس الكونغرس هاجمه الدين المدني الجديد بشراسة. وهنا أذر مثالاً عن تعبيره عن الأمر مع قناة السي إن إن CNN.
في 14 نوفمبر عام 2006، وضمن العناوين الرئيسية لبرنامجه في شبكة CNN، أجرى غلين بيك مقابلة مع رجل الدين المرشّح كيث إليسون (D_MN)، الذي أصبح المرشّح المسلم الأول للكونغرس في السابع من نوفمبر، إذ سأل المذيع إليسون إذا أمكنه ((أخذ خمس دقائق هنا حيث أننا جميعاً هنا مخطئين سياسياً وأنا ألعب كافة الأوراق على الطاولة)) بعد أن وافق إليسون، تابع بيك قائلاً:
((أنا لم أشعر مطلقاً بالتوتر بشأن مقابلتي معك، لأنّ شعوري هو على النحو التالي: سيدي، أثبت لي بأنك لا تعمل مع أعدائنا. يضيف بيك: أنا لا أتهمك بأنك عدو، لكن ذلك ما أشعر به حقاً، وأعتقد أنّ غالبية الأمريكيين يشعرون بنفس الطريقة))
وهناك الكثيرون ممّن عبّروا بنفس الطريقة عن مشاعرهم بشأن إليسون حيث يبدو أنّ هدف الدين المدني الجديد هو ضمان بقاء وسيطرة الأديان المحلية الأصلية.
رجل الدين بيل سالي Bill Sali (R_ID)، مسيحي إنجيلي، قام في 8 أغسطس 2007 في مقابلة مع شبكة الأخبار المخصّصة كلياً لعائلات أمريكا المسيحية المحافظة، بشجب قيام زعيم مجلس الشيوخ بالسماع لرجل دين هندوسي أن يؤمّ صلاة مجلس الشيوخ الافتتاحية. أمّا حجّته فكانت أنّ التضرّع لإله غير مسيحي في مجلس الشيوخ من شأنه أن يعرّض أمريكا للخطر، وذلك برفع "يد الحماية الإلهية عنها". ثم يتابع حديثه فيقول: "لم يقتصر الأمر على تلاوة صلاة هندوسية في مجلس الشيوخ، بل أصبح لدينا أيضاً عضواً مسلماً داخل مجلس النوّاب الآن، كيث إليسون من منيسوتا. تلك هي التغييرات التي تحدّثت عنها وهي لم تكن موجودة في نظر الآباء المؤسّسين. المبادئ التي تمّ تأسيس هذا البلد عليها، والتي جعلت منه بلداً عظيماً طوال القرون الماضية، كانت مبادئ مسيحية مستقاة من الكتاب المقدّس".
في حين أنّ الدين المدني الجديد لم يكن متمثّلاً في السياسة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنّه يتصرّف على هذا النحو. خل بإمكانك أن تتصوّر اليوم رئيساً يتبنّى معتقدات جيفرسون الدينية أو لينكولن؟ هل يمكنك تخيّل رئيساً سيرفض إعلان يوم الشكر كما سبق وأن فعل حيفرسون؟ هل تتخيّل رئيساً يتجاهل بيلي غراهام أو خليفته ككاهن أعلى للدين المدني؟ هل يمكنك تخيّل رئيس للولايات المتحدة يعيّن شخصاً ملحداً أو حتى هندوسياً أو مسلماً، أو وثنياً كمدّعي عام؟....

 العدوى الفدرالية
أصبحت هذه الطفرة التي يطلق عليها اسم الدين المدني فعّالة ومؤثرة جداً في الجهاز السياسي للدولة منذ ثمانينات القرن الماضي. إذ أنّ عدواها انتقلت إلى مستويات عليا في الحكومة. وقد نجحت في وضع أفراد مصابين داخل البيت الأبيض تحت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. هناك خمس قضاة مصابون بالعدوى يحتلّون مقاعد داخل المحكمة العليا، وجميعهم من الكاثوليك المحافظين. العديد من الضبّاط والموظّفين الذين يعملون في الحكومة الفدرالية هم الآن ينفّذون أجنداتهم بحزم وباتوا قادرين على ممارسة قوة الفيروس على كل شيء من أبحاث الخلايا الجذعية إلى التثقيف الجنسي في المدارس وتدريس الجيولوجيا والبيولوجيا التطورية.
فيروس الدين المدني لا يأبه إطلاقاً بشأن المذاهب، بل كل ما يهتمّ به هو انتشاره وتفشّيه. وهذا هو سبب تمكّنه من جلب بعض الجماعات المحتقرة وجمعها مع بعضها البعض. على سبيل المثال، عن طريق سحب قوّة المورمون، بإمكانه مضاعفة قدرته على النمو والتأثير على الجهاز العصبي المركزي السياسي للدولة. والمورمون خبراء في ذلك. فهم يمثّلون الفيروس الأقوى بين كافة الفيروسات الإلهية الأمريكية في إصابة الجهاز السياسي بالعدوى. في يوتاه، من المستحيل النجاح في منصب أو نيل وظيفة إذا لم تكن مورمونياً (ما عدا مدينة سالت ليك). فالمورمونية فيروس قوي ومتنفّذ جداً لدرجة أنّ ميت رومني Mitt Romney جرى اعتباره مرشحاَ جاداً للانتخابات الرئاسية في عامي 2007-2008. بالرغم من النظرة التقليدية، فيما يتعلّق بالحقوق الدينية، فإنّ المورمون لا يعتبرون من أتباع الديانة المسيحية.

*********************
[1] الكتابات المقدّسة للديانة الزرادشتية تقوم على فكرة ولادة زرادشت من أم عذراء قبل 600 سنة من ميلاد المسيح. إذ تقول الكتابات المقدّسة الزرادشتية أنّ زرادشت كان موجوداً مع الآلهة والملائكة قبل ثلاثة آلاف عام من ميلاده _وهذا يسلّط بعض الضوء على إنجيل يوحنّا 1:1 ((في البدء كانت الكلمة، والكلمة عند الله، وكانت الكلمة هي الله)) وهذا تشابه كبير بين أسطورة يسوع وأسطورة زرادشت التي كتبت قبله بقرون طويلة.
[2] أعمال الرسل: 15، غلاطية 2: 11-14
[3] هيومان رايتس واتش، مصر: السماح للمواطنين إدراج ديانتهم الفعلية على بطاقاتهم الشخصية. 12 نوفمبر 2007. على الموقع الإلكتروني:
http://hrw.org/english/docs/2007/11/12/egypt17306.htm
[4] خطاب في جامعة نورث ويستيرن North Western University 8 Nov 2007
[5] قد يقال أنّ روما كانت متحرّرة نسبياً من التأثير الفيروسي الشديد خلال الفترة الإمبراطورية. إلا أنّ عبادة الإمبراطور وتبجيله _وتأليهه بالتالي_ كانت محاولة لخلق فيروس لأغراض سياسية، لكنه لم يكن ناجحاً ليكون فيروس إلهي بالمعنى الفعلي.
[6] روبرت بيلا، الدين المدني في أمريكا
Robert Bellah, Civil Religion in America, Daedalus (1967), 96, 1, pp.1-27.
[7] جون أو سوليفان: الأمة المستقبلية العظيمة
John O sullivan, The Great Nation of Futurity, The United States Democratic Review, 6, 23, (1839): 426-430
____ (1839), Manifest Destiny
http://www.civicsonline.org/library/formatted/texts/mani-fest-destiny.html
[8] كونه من تكساس، من المرجّح أنّ الرئيس بوش قد تأثّر بالقانون أو دستور ولاية تكساس، الذي ينصّ ضمن مادته الأولى، في القسم الرابع: الاختبار الديني: لا يجوز طلب أي اختبار ديني ليُعتَمَد كمؤهّل لأي وظيفة أو مكتب كمصداقية عامة، في هذه الولاية، و يجب أن يتمّ استثناء أو منع أي أحد من أيّة وظيفة أو منصب على حساب مشاعره الدينية وانتماءاته العرقية، أو اشتراط اعترافه بوجود كائن أعلى قدير. والمفارقة أنّ مؤلّف هذا الكتاب لم يستطع الاحتفاظ بعمله في ولاية تكساس. كما أنّ البوذي أو الملحد يمكن أن يواجها المصير نفسه.
[9] أعلن قس جمعية فاميلي ريسيرتش كاونسيل أنّ الصلاة الهندوسية التاريخية التي جرت البارحة لتقديم صلاة مجلس النواب الأمريكي هي "خطوات أخرى في الابتعاد عن تراث أمريكا المسيحي. إذ أنّ الآباء المؤسسون" يقول بيير بينوم "لم يكونوا ليقبلوا بأن يتمّ افتتاح ذلك الاجتماع التشريعي بصلاة وثنية أو إشراكية". أنظر أيضاً:
Counter Bias, Dogmatists seethe, Spirituality Betrayed 23 Nov 2007
http://www.counterbais.com/917.html
[10] أنظر "الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا" بوستون غلوب، 2 مايو 2005. فالنزوع أو الميل باتجاه التدين بشكل عام انخفض في أوروبا من 50% بعد الحرب العالمية الثانية إلى 20% أو بنسبة أقل من 11% في بعض الأقطار الأوروبية.
[11] الساسة في الولايات المتحدة لطالما قاوموا فكرة الاعتراف بالفاتيكان كدولة قائمة بذاتها وفتح سفارة أمريكية فيها. وكان هذا الأمر يثير قلقاً شديداً عندما استلم جون كينيدي كرسي الرئاسة. فمع تزايد وتصاعد الفيروس المدني الجديد، كان رونالد ريغان قد وجد فرصة ذهبية للحصول على الأفضلية من خلال القيام بفعل لم يقم به أي رئيس أمريكي من قبل، وهو فتح سفارة أمريكية في الفاتيكان. اليوم، باتت الولايات المتحدة تعترف بالفاتيكان كدولة مستقلة ولها سفارة فيها. لو أنّ جون كينيدي قام بذلك، لتمّ شتمه، وذمّه بالتأكيد، وخصوصاً من قبل الجمهوريين. هذا التغيرّ الهائل في المواقف يعتبر مؤشراً لمستوى الإصابة بعدوى الفيروس المدني الذي أصاب جهاز السياسة المركزي الأمريكي.
[12] قضايا إعلامية تهمّ أمريكا Media Matter for America: CNN s Beck to First-ever Muslim Congressman: "[W]hat I feel like saying is: Sir, Prove to me that you are not working with our enemies.
http://mediamatters.org/items/200611150004
دينيس براغر Denis Brager، محافظ، مضيف في محطّة إذاعية، يهودي، صرّح بأنّه لا يمكن السماح لإليسون بالقسم على القرآن بما أنّ هذا الكتاب "يحرّض على تقويض دعائم الحضارة الأمريكية". فهو لم يكلّف نفسه بالقول أنّه ليس هناك أي شرط في الدستور لاستعمال أي كتاب مقدّس _كالإنجيل أو كتاب المورمون أو أي كتاب آخر_ لأداء القسم. كما أنّه لا يجوز تحديد أي كتاب يجب أن يقسم عليه إليسون أمام الكونغرس.
[13] لرؤية الخطر الذي ربط آيزنهاور بمكارثي، بإمكاننا ملاحظة أنّه وبالرغم من التحذيرات والشكوك الخاصة حول مكارثي، ما زال مرحّباً به داخل حدود وسكونسن، ومدعواً للركوب معه عبر الولاية في جولته عام 1952. غير آيزنهاور بشكل ملحوظ خطابه الرئيسي الذي ألقاء في منطقة غرين باي حتى لا يوجه أية إهانة لمكارثي أو داعميه. توم ويكر، دوايت دي آيزنهاور: سلسلة الرؤساء الأمريكان:
The American Presidents Series (Times Books, 2002), 15



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيروس الإله [3]
- فيروس الإله [2]
- فيروس الإله: مقدمة
- فيروس الإله [1]
- القرآن في الإسلام (بحث في معصومية القرآن وموثوقيته)
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 3 ترجمة: إبراهيم جركس
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 2
- لماذا يتحوّل الدين إلى عنف؟ 12 ترجمة: إبراهيم جركس
- المأزق الأخلاقي للحروب
- القرآن المنحول [1]
- التاريخ النصي للقرآن (أرثر جيفري)
- الله: فيروس عقلي مميت [2]
- الله: فيروس عقلي مميت [1]
- قفشات -أمّ المؤمنين-: هنيئاً لكم
- الفكر الحر في العالم الإسلامي ونظرية صراع الحضارات
- قصة جين الحرية: أميل إيماني
- الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟
- من هم مؤلفو القرآن (4)
- من هم مؤلفو القرآن (3)
- من هم مؤلفو القرآن (2)


المزيد.....




- الرئيس بزشكيان: على الدول الاسلامي التعاون ووضع الخلافات جان ...
- هل أحاديث النبي محمد عن الجيش المصري صحيحة؟.. الإفتاء ترد
- المكتبة الخُتَنيّة.. دار للعلم والفقه بالمسجد الأقصى
- “خلي أطفالك مبسوطين” شغّل المحتوي الخاص بالأولاد علي تردد قن ...
- قوات جيش الاحتلال تقتحم مدينة سلفيت في الضفة الغربية
- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - فيروس الإله [4]