خالد صبيح
الحوار المتمدن-العدد: 1103 - 2005 / 2 / 8 - 11:11
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
تدلل تجارب التاريخ إلى أن بناء الديمقراطية يستلزم مظلة من السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية لتمهدان الأرضية لهذا البناء، فالديمقراطية بعمقها هي تنمية اقتصادية وانفتاح اجتماعي وحرية فردية تتيح للفرد وبالتالي للمجتمع أن يفجر طاقاته وان يوسع من افقه. وبغير هذا تكون الديمقراطية شوهاء، ناقصة وفئوية. ومن الصحيح القول أيضا إن كل شعب يختط مساره الخاص داخل حركة التاريخ الشاملة في تشكيل تجربته الديمقراطية، شرط أن يضع، بإرادته، قدمه في المكان والزمان الصحيحين لينطلق في بناء كيانه وترسيخه وديمومته. ولكن في الشرط الذاتي والواقع الخاص هذين تكمن الإشكالات كلها. فلا تلعب المكونات البنيوية للمجتمع وحدها دورا في عملية تشكيل مساراته وإنما تتدخل في هذا التشكيل كل التفاصيل بما فيها الحوادث المؤقتة أو الطارئة وتترك ظلالها على طبيعة هذا التشكل بأبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية والخ.
ونحن الآن نشهد عمليا انعكاس العوامل الطارئة، التي يعج بها الواقع العراقي الان، على واقع تشكل التجربة السياسية، ونشهد تاثيره السلبي على حالة السلم الاجتماعي. وفي مراجعتنا، بهذا الصدد، لتاريخنا القريب يمكننا ملاحظة انه وعلى مدى عقود طويلة، كان فيها هذا السلم المبتغى غير متوفر بصورة كافية وكذلك كانت دورات الصراع في المجتمع متناوبة ودائمة الحدوث وشابها، لفترات طويلة، العنف المسلح. ولا يخفى إن هذا الواقع المتشنج يترك آثاره على تركيب ومالات العلاقة بين الأطراف المتصارعة سيورثها مصاعب في آليات التواصل فيما بينها. وكلنا يميز ان تجربة العقود الأربع الماضية كانت واحدة من أقسى واعنف مراحل الصراع الذي فكك النسيج الاجتماعي وبرز في مراحله المتأخرة، التي اتسمت بأقصى حالات العنف والتمييز، أنماط من المفاهيم والنزعات والمشاريع السياسية كالانفصال القومي والأقاليم الطائفية وغيرها، التي نحت منحى يبتعد عن إطار الوطنية الجامع. وأسس هذا الواقع المأزوم بطبيعة الحال لشرخ في العلاقة بين الأطياف الاجتماعية يكون قابلا للاتساع مع تفاقم التوترات وتراكم ألازمات عرقل ويعرقل إمكانية التحاور. ولا يمكننا لأجل توصيف الواقع، لكي نستخلص طرائق لمعالجة إشكالاته الراهنة، الارتكان ببساطة إلى أن المجتمع العراقي جبل على قيم الائتلاف الوطني والتسامح وقبول مكوناته لبعضها البعض، فليست هناك نظم ثابتة يمكنها أن تجبل مجتمع وشعب وتؤطر مسار تطوره وحركيته وتسمه بسمات ثابتة ومحددة مرة واحدة والى الأبد. كما إن التنوع القومي والثقافي والديني في العراق هو مادة خام يمكن للظرف والإرادة ومسار التطور أن يشكلها فتتحول إلى مصدر غنى وطريق للتطور أو تصير سببا للتفكك والتناحر.
فالسلم الاجتماعي هو ما نحتاج إليه إذن في المرحلة التأسيسية للتجربة الديمقراطية، لكن في طريق السلم الاجتماعي المطلوب تقف عثرات كثيرة تثقل وتقيد حركة انطلاقه. فسلم اجتماعي يقوم على أنقاض مرحلة اتصفت بالعنف وتشبعت في كل مراحلها بالدموية والتشويه والإقصاء والاضطهاد المنفلت وبانقسام اجتماعي كبير يحتاج إلى مقومات وقوة دفع هائلة واستثنائية لكي يأخذ مساره ويتحقق. وسنواجه المصاعب بصورة جلية على خلفية مشهد المصالحة الوطنية المفترضة حيث تقف كثرة كثيرة من الناس الذين تثقل على قلوبهم ماسي وتعطل ضمائرهم جرائم يحتاج التسامح معها إلى قدرة فوق ـ إنسانية ووعي يتخطى بمراحل كبيرة جذوة العواطف المتأثرة بالمصائر المؤلمة والمشاهد المؤذية التي عاشها وعايشها المواطن العراقي في حقبة الفاشية البعثية.
ولكن طرح المسالة يبقى أوسع من أبعادها الوجدانية والأخلاقية واكبر من رغبة القصاص التي يتوق إليها من ظلم وعانى، لانها تدور في دائرة أوسع، أو قل أضيق، من دائرة رغبة الانتقام وإعادة الاعتبار للذات الجريحة التي يتشوق إليها الفرد العادي. فالعملية تدور في فلك السياسة، أي بوتقة المصالح التي تنّفر وتقرب بمرونة وتقلب يتجاوزان قدرة إنسان عادي، قتل ذووه ظلما، على التصور وأحيانا على الفهم. وإذا كانت المسالة قابلة للتسوية والعلاج في الإطار السياسي، لان السياسة هي عالم صفقات، فكيف سيكون عليه الحال في ارض الحياة اليومية، في التربة العميقة التي يتنفس منها الفرد ويتكئ عليها حيث يجب على الجراح أن تتعايش وعلى المصائر أن تختلط.؟
نعود إلى الحلقة الأولى من دوامة سؤال المصالحة الوطنية ونتساءل:
كيف يمكن أن نشكل سلما اجتماعيا يفضي إلى مصالحة بين قاتل ومقتول؟ كيف نشكل سلما اجتماعيا ومصالحة إذا كان القاتل يواصل قتله وترويعه للضحية مبتزا إياه لكي يقبله شريكا له في كل شيء؟. كيف يمكن أن نؤسس لمصالحة وطنية بين من حول الوطن إلى مزرعة شخصية ووقف خاص وبين من كان يدفع الضرائب من الدم والعرق وهدر الكرامة والذل؟
وأمر المصالحة إن أمكن تحقيقه بصفقة أو مساومة سياسية فسيواجه إشكالية كبيرة ومعقدة، تكمن في قدرة المجتمع، وليس الساسة، على التجاوز، لان الخراب الذي تأسست عليه المرحلة الحالية هو اكبر من أن تغطيه نوايا حسنة. كما إن عباءة النظام كانت من السعة بحيث إنها ضمت بين طياتها فئات وأطياف وعناصر كثيرة. وهذا يوسع دائرة الاتهام، فقد كانت دائرة التوريط وشراء الذمم والتنشئة الانتهازية كبيرة واكبر من أن تعالج في دورة حوار عادي. وهامش التخريب بلغ من الكبر انه اضطر كثير من المثقفين وغيرهم، ولكي يبرروا تورطهم، أن يضمنوا آليات دفاعهم عن ذاتهم، قدرا محسوسا من الدفاع عن النظام ألبعثي وعن رموزه. لهذا ليس بمستغرب أن نشهد من يجهر بدفاعه، مستفيدا من هذه الأرضية، عن حكم البعث وأجهزته وأيدلوجيته، في محاولة فرز دراماتيكي يسعى لحصر جرائم خمس وثلاثين عاما بخمس وخمسن فردا وعدت الإدارة الأمريكية باعتبارهم المسؤولين الرئيسيين عن مساحة الجريمة.
وهكذا فحين تضيق السبل وتتحدد الخيارات تكشف الأطراف عن أوراق لعبها. وكانت الانتخابات هي المناسبة الفريدة التي حددت الخيارات بعد أن راهنت عليها كل الأطراف. راهنوا على فشلها بقوة التهديد والإرهاب والترويع لكن إرادة الناس وقدرتهم على التحدي أسقطت الرهانات، وفي طريقها لان تسقط المراهنين الذين جنحت لغتهم فجأة إلى اللين ـ هنأت هيئة علماء المسلمين أبناء الشعب العراقي على نجاح العملية الانتخابية ـ وقع ذلك ليس فقط للتفوق الذي حددت ملامحه الانتخابات وإنما يعود أيضا للتراجع الملحوظ في قدرات الإرهاب على توجيه ضربات موجعة للحكومة وللآمنين من الناس، وبعد أن تحولت المبادرة من يد الإرهابيين إلى يد الحكومة وصار الإرهاب هو من يتلقى الضربات ويحاصر وتضيق عليه الدائرة.
وبتراجع القوة التدميرية التخريبية لإرهاب الأصولية الإسلامية ـ القنبلة الانفلاقية الفعالة التي وظفها البعثيون ـ هبط سقف المطالب عند طائفيي السنة وبقايا النظام، التي بدأت تتجاوب مع غزل الحكومة والأمريكان، إلى حدود الحوار والمصالحة لكن دون أن تتوقف عن نشر عنفها ليؤدي دوره في الشارع, فجميعنا يدرك إن من يريد أن يدير عملية سياسية بنجاح يجب أن تكون لديه أوراق للضغط على خصومه وابتزازهم. وأوراق جبهة العداء للعملية السياسية هي عنف الإرهابيين والقتل المأجور الذي يغذيه ويموله البعثيون من خارج الحدود وزرع العبوات خلسة على قوارع الطرق لتتسبب بموت عشوائي. ومفاعيل هذه الأوراق، كما هو جلي، بدأت بالتلاشي الآن وغدت ضربات الحكومة مؤذية. وتجدر الملاحظة هنا إن العسكرية العراقية كأي عسكرية أخرى في العالم لاتقبل لأحد أن يحاول إذلالها وتحديها، ومن يسعى لتحدي هذه المؤسسة عليه أن يترقب الضربات الموجعة منها.
وبتنا نعرف، من تصاهر الإعلام والسياسة، إن من ينخفض رصيده يعلوا ضجيجه. لهذا رفع من يحلم بعودة البعثيين صوته ملتاعا من مشاريع الإقصاء والاجتثاث. فارتفع ذات يوم صراخ في فضائية الشرقية قائلا بالصريح القبيح ( إن البعثيين هم أبناؤنا وكذلك أفراد المخابرات والأمن والحرس الخاص.. ومن لديه دليل على جريمة لأحدهم فليقدمها للمحكمة!!!). شيء يثير العجب أليس كذلك؟ فكيف يمكننا أن نثبت جريمة بحجم الأنفال وحلبجة والإعدامات الجماعية والمقابر الجماعية والانتهاكات اليومية لأمن وكرامة وحياة المواطنين؟ أليس هذا تعجيزا. ولكن هذا الأمر لايمكن أن يجعلنا نقف عاجزين بطبيعة الحال. فنحن لسنا ليبراليين وديمقراطيين كما قدم نفسه( ماشاءالله هو ليبرالي إذن!) ويمكننا أن نجزم أن أمر إثبات الجرم والمجرم بسيط للغاية. فمعادلة اجتماعية نفسية بسيطة يدركها كل مواطن عراقي تفيد إن كل من انتسب إلى هذه الأجهزة( الأمن والمخابرات ) هو مجرم بدليل الانتساب وهم، بظني، مجرمون إلى أن يثبتوا براءتهم وعليهم هم تحمل عناء إحضار الدليل على ذلك وليس ضحاياهم.
كذلك وفي سياق التبدلات الجارية في الساحة، رغم الضجيج والمكابرة، يمكن الجزم إن أصحاب مشروع الخراب وبث الرعب ألبعثي في طريقهم إلى الهزيمة. رغم إعادة الاكتشاف لما كان الكثيرون يعرفونه من إن عملية إسقاط النظام ألبعثي هي عملية طويلة ومكلفة وشائكة بعض الشيء ولكنها ممكنة بقدر ماهي ضرورية وهي تسير الآن في المسار الصحيح. إلا أن ذلك لا يمنع من الانتباه إلى أمر حساس وخطير يجدر التوقف عنده وهو احتمالية حدوث الحرب الأهلية التي يلوح بها البعض. وذلك لسبب يمكن استنتاجه من سياقات التاريخ، فتجارب بعض الشعوب، لاسيما في منطقتنا، أثبتت أن ليس هناك من ينتصر في الحروب الأهلية، فالجميع سيكونون خاسرين، ولهذا تسعى القوى المهزومة، وبالتحديد ذات الميول الشمولية والعدمية( كالبعثيين)، إلى إشعال الحرب الأهلية لتعميم الهزيمة ولتجعل الآخرين يقاسمونها هزيمتها. فهي لا تريد أن تسير في طريق الهزيمة منفردة. لهذا يجب علينا أن نحذر المهزومين فهم فتيل الحرب الأهلية القادمة.
في الختام يمكننا أن نوجز القول إن المصالحة الوطنية هي طريق متشعب يقف في مفترقه العراقيون، فإما أن يأتي بسلام وديمقراطية وعدالة تقتص من القتلة وإما أن يولد جوا دراماتيكيا يعيد فيه التاريخ، بعودة البعثيين، نفسه بشكلين:
مأساة ومهزلة في آن واحد.
السويد
7-2-2005
#خالد_صبيح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟