غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3764 - 2012 / 6 / 20 - 23:28
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
دائمًا كنتُ أُخْطِئُ ، مازلتُ أُخْطِئُ ، آمَلُ أن يتواصَلَ،
مِن أَجْل ذاك اليقينِ المُنوَّرِ، هذا الخطَأْ .
لا أريدُ الكمالَ ، وليس الحنينُ الذي يتفجَّرُ في شَهقاتي
وفي زَفَراتي،
حَنِينًا إلى مُتَّكَأْ .
أدونيس
أقامت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في مدينة يتبوري السويدية يوم السبت 2012-06-16 ندوة سياسية عن المؤتمر التاسع للحزب ، إستضافت فيها د . صالح ياسر عضو اللجنة المركزية ورئيس تحرير مجلة الحزب الفكرية الثقافة الجديدة حيث تناول بالتحليل أبرز القضايا الجديدة التي وردت في وثائق المؤتمر .
هذه تأملات ، بقدر ما يتعلق الأمر بمداخلتي ، فيما دار في تلك الندوة .
كان بودي لو أُتيحت الفرصة للحوار المتبادل بصورة أكبر وأن لا يكون عنصر الزمن ، هو من يقرر حجم المساهمات . وللمستقبل ، قد يكون من المناسب ، أكثر ، أن يتم التأني في إختيار شكل هذه النشاطات الثقافية والفكرية ، يعني مثلاً نسمي هذه ب " محاضرة " والأخرى " حوار " أو تلك " طاولة حوار " وهكذا . والأخيرة يكون للجميع فيها ذات الحق ، والزمن ، في التداخل ، وعلى أن تُدار ، مثلاً ، من قبل مُحاوِر ، مستقل ربما ، وليس مُقَدِّم .
في البدابة ، وربما في النهاية أيضاً ، لا أزعم أنني والسياسة في خصام دائم ، مع إنني الناقد الأبدي لها . لكن غالباً ما ترددتُ كثيراً إذا شئت كتابة مقال يمكن أن يُصَنف ، مباشرة ، في باب السياسة ، ورغم أن معظم العراقيين ، كما هو معلوم ، يتمتعون بموهبة التحليل السياسي منذ الصغر ، إلا أن شعوراً بالخوف يخيم في الأجواء وكأن رقيباً يترصدني . ويزيد الأمر صعوبةً إذا كان موضوع المقال ، النقد ، حَمَلَة لواء الشيوعية ، المتمرسين في العراك الفكري ( دع عنك الطبقي ) رغم أن فكرة الشيوعية عموماً والسياسة القائمة عليها ، هي اليوم ، أرض رخوة ، مليئة بالمفاجآت والأنزلاقات ( بل الهزائم إذا أردنا الصراحة السياسية الفجة ) ، بعد أن كُنّا نتصورها أرضاً من حديد وفولاذ . لذلك آثرت التأمل آملاً في تحفيز القارئ الكريم على إثارة المزيد من الأسئلة .
لن أدخل في تحليل الوثائق فقد قام بهذه المهمة ، بل زادَ ، وأطال ، الضيف الكريم . وكان قبلها قد نشر العديد من المقالات ( في الحوار المتمدن مثلاً ) لما أسماه " في ضوء المؤتمر .... " وهي قراءة في تلك الوثائق . وبغض النظر عن الأبعداد والمقاصد فأن ذلك يعني أيضاً ، كما أعتقد ، تعبير عن الحاجة لشرح وتفسير العديد من المفاصل في سياسة الحزب والتي تثير الكثير من النقاشات ، بل وأحياناً ، الخلافات ، بسبب عدم وضوحها ، أو ربما لأهميتها الفائقة . هذه بعضها :
فزّاعة الإسلام السياسي
يسود الإسلام السياسي في المشهد العراقي ، كما يسود الرجل على المرأة في الديانات التوحيدية ، ليس في الحكومة فحسب بل وفي كل مكان ، في المحلة والشارع و فوق الحيطان ، في المدرسة والبرلمان ، في ردهات المكاتب الخضراء منها وفي البستان ، في المقاهي و المضايف ، في الفضائيات و المفخخات ، في الرايات السود وخلف القضبان ، بين النساء ، العذارى والثكالى ، والأطفال اليتامى ، وبين الشيوخ والشبان ، في الفقر والغنى ، في مسيرات المليون إنسان ، فوق القبب والمآذن ، في البيوت وبين الأغصان ، إسلام سياسي لكل زمان ، ولكل المناسبات ، من أفراحٍ وأحزان .
لكن أين يقف الحزب من كل ذلك ؟ وأين ذلك " المُهيمن " في خطابه السياسي كحزب معارض خارج قبة البرلمان ؟
وردت في التقرير السياسي ، مفردة " الإسلام السياسي " مرتين (1) ، مرة في فقرة " تقزيم الديمقراطية والتعامل الإنتقائي مع الدستور " ومرة في فقرة " عواصف التغيير" . وفي الحالتين جاء عرضياً ، وبالتالي ، ليس غريباً ، أنك لن تجد ، مهما بحثت ، أية تحليلات أومواقف أو حتى " تلميح " خجول للإسلام السياسي ، كموضوعة ، رغم أنه السؤال رقم واحد ، في الساحة السياسية العراقية ، بلا منازع ؟ وفي أحسن الأحوال ، وبمعونة التأويل وقوته ، قد تجد إشارات مبعثرة ، غير مباشرة ، ومحدودة جداً ، غير واضحة المعالم ، مثل تائهٍ في غابةٍ معتمة .
كان هذا سؤالي الأول !
ويأتي الجواب من السيد المحاضر ليزيد النار إشتعالاً وليثير غيوماً ، كثيفةً ، من دخان . فللحزب ، يقول الضيف ، موقف سياسي وموقف فكري . وكما ينتقدوننا ، هم ، (قال بالنص) ، فنحن لنا موقفنا الفكري ، ومرجعيتنا (2) ، الذي ننتقدهم فيه ( يقصد الإسلام السياسي ) . لكنه ، للأسف ، لم يخبرنا أين نجد هذا النقد ( أتمنى أنه لا يقصد البيان الشيوعي أو رأس المال لماركس ) . أما الموقف السياسي ، يقول السيد المحاضر ، فمرتبط بالظرف الملموس ، باللحظة ، بالحدث وفي المكان ، وإذا هذه حَتَّمَت التعاون والتنسيق مع هذه القوى أم تلك ( من قوى الإسلام السياسي ) فلا بأس . أليست هذه هي السياسة ، مصلحة . إبتسمت ، خفية ، إحتراماً للضيف ، وأنا أستمع لهذا التفسير الذي شَهَدَ لمزاعمي المنشورة في تأملات سابقة ، لست بحاجة لتكرارها هنا (3) .
أليس الحدث ، الظرف ، حلقة في سلسة ؟ ألا يعطي هذا التفسير إنطباعاً وكأن الموقف السياسي ليس له علاقة ، أو ، لا يقوم على تلك المبادئ الفكرية التي هي على النقيض من مثيلتها لدى الإسلام السياسي ؟ ألا يمكن أن يُثير ، مثل هذا التفسير التبسيطي ، إلتباساً عند المواطن البسيط ، فتضيع عنده الحدود بين " البراغماتية " و " الإنتهازية " في السياسة ؟ كيف يمكن ، يا ترى ، لحزبٍ يَطمحُ أن يلعبَ دوراً قيادياً أو حتى مُمَيزاً في المعارضة إذا لم يكن عنده موقف سياسي واضح ، بدون غموض ، نابع من " مرجعيته " الفكرية لا حسبما يميل الهوى ، مال (4)؟
وهنا أود أن ألفت الأنتباه الى أن هذا الدور يختلف عندما تكون المعارضة في البرلمان ، حيث تجري توافقات ومساومات من أجل تمرير مشاريع أو قرارات يمكن أن تلتقي فيها المصالح أو لأغراض أُخرى براغماتية . فهنا يمكن أن تكون الحسابات مختلفة أو ربما أضطرارية ، مثلاً التصويت لأسقاط الحكومة أو سحب الثقة منها ، أو التصويت على إنتخابات مبكرة ، إلغاء أو تشريع القوانين ...الخ .
وكما كتبت سابقاً ، فأن موقفاً جريئاً بات ضرورة ليس للحزب فقط و إنما للمعارضة العلمانية عموماُ بسبب تفاقم إستغلال الدين في السياسة . وإذا كانت هناك خشية من أن يُثير أي نقد للإسلام السياسي ، أو كأنه يُقدم تبريراً مجاناً للتحريض ضد الحزب الشيوعي ، فأن كل بصير يرى أن الأمر كله مجرد مسألة وقت وليس في تقديم مبررات للهجوم على الحزب أم لا ، فهذه الأخيرة موجودة ، وسَتُلقى على الطاولة عند الطلب . بل بعث الإسلام السياسي ، فعلاً ، العديد من الإشارات التحذيرية " الذكية " للتخويف ، ليس أدل منها تصريحات المالكي والأعتداء على مقرات جريدة الحزب وغيرها من الممارسات التعسفية ، ولعل أكثرها دلالة فتوى الحائري ضد العلمانية .
لقد نجحوا ، قديماً ، واليوم أيضاً ، ماذا عن الغد ؟
التيار الديمقراطي ، ضربة في الهواء
كرر الرفيق صالح ياسر أكثر من مرة " أن أخطر الخيارات ، في حالة إستمرار الأزمة السياسية ، هي الخيارات التي تهدد الديمقراطية " ، وبالتالي فأن كل القوى الديمقراطية ، بغض النظر عن " مرجعيتها الفكرية " معنية و صاحبة المصلحة ، والجمهور المتضرر ، في الحفاظ على النظام الديمقراطي في العراق . كلام جميل ، بسيط ومقنع !
وهكذا تبدو مهمة الحفاظ على الديمقراطية (تجاوزاً للجدل ) ، من وجهة النظر هذه ، من أولويات كل القوى الديمقراطية بغض النظر عن أنتماءاتها الفكرية والسياسية . وبدون تبسيط ، فأن تكرار هذه المفردة ، لأكثر من مائة مرة في التقرير ، إنما له دلالة أكبر من الأرقام ، ويعكس ، من زاوية ما ، أهمية الحفاظ على الديمقراطية ، بأعتبارها القضية الأرأس في النضال في اللحظة الراهنة (5) .
لكن عندما يجري الحديث عن التيار الديمقراطي ومكوناته ، تتغير الصورة ، وتبدو هذه ليست من أول المهام ولتحل محلها الديمقراطية الأجتماعية ، أو الديمقراطية بمفهوم " العدالة الإجتماعية " لتمييزها مثلاً عن الديمقراطية الليبرالية . بعبارة أخرى ليس كل القوى الديمقراطية مُرَحَب بها في التيار ، بل الديمقراطية " اليسارية " وإن لم تُذكر بالأسم . وكمثال للتوضيح ضرب مثلاً بحزب أحمد الجلبي . ثم أضاف بأن ذلك لا يتعارض مع وجود قوى ، أو تجمع يساري ، لها برامج أبعد أو أعمق ، مثلاً الأشتراكية .
ألا يبدو هذا تعسفاً ؟
ليست هناك ، في الواقع ، ديمقراطية بمفهوم " العدالة الإجتماعية " خارج الفكر اليساري سواء أكان شيوعياً ، أم أشتراكياً بكل ميوله و وألوانه ومسمياته . ثم ، ألا توجد شخصيات مستقلة ، وربما سياسية ، وطنية ، أو حتى يمينية ، تؤمن بالديمقراطية الليبرالية ؟ ما هو مصيرها ؟
ومن جهة أخرى ، ألا يعني هذا ، إستمراراً لما سبق ، أن المهمة الآنية والملحة ، بعد ذلك ، هو تجميع القوى من أجل " صيانة " أو " الدفاع " عن الديمقراطية الإجتماعية ( الغير موجودة ) . كيف يمكن الدفاع عن هذه " الديمقراطية الإجتماعية " وهي درجة متقدمة ، في التطور الإجتماعي ، بينما الدرجة الأدنى منها ، الديمقراطية " غير " إجتماعية على علّاتها ، في خطر وغير متحققة كاملاً ؟ أوليست السياسة فن تحديد الأولويات ؟
وعليه يبدو أن هناك تياراً واحداً لكن بمسميين ، حسب ما تقتضيه الحاجة .
إذا كانت للحزب أغراض أخرى بما فيها إستبعاد الجلبي وأمثاله ، فهذا من حقه ولا أعتقد أن هناك من يلومه ، بل ربما هناك حاجة لتجميع القوى اليسارية ، كلها ، في تيار تكون له مهمات أجتماعية أعمق . لكن ذلك لا يُغير من حقيقة أن المهمة الملحة اليوم ، وارتباطاً أيضاً بموضوعة الإسلام السياسي ، لا بد أن تكون في تحشيد كل القوى التي تؤمن بالديمقراطية ، بما فيها الليبرالية ، كنظام للتداول السلمي للسلطة ، و في الصراع ، وفي بناء مؤسسات الدولة والقانون ، يكون التيار اليساري جزءاً منها وليس محتكرها .
ثقافة الرضا عن النفس ، مرة أخرى
لقد اكد السيد المحاضر أهمية النقد والنقد الذاتي ( لا الجلد الذاتي فهذا يضعف الهمم ) ، وعلى أن نحترس من الوقوع في فخ " الرضا عن النفس " (6) . وهذا كلام جميل مرة أخرى ، لكنني للأسف لم ألمسه لا في محاضرته ولا في التقرير السياسي ، على الأقل في موضوعة الإنتخابات .
ففي حديثه ، كما في التقرير ، جرى التركيز على الظروف الصعبة الي واجهت الحزب مجتمعة بما فيها قانون الأنتخابات . وهذا حق لا شك فيه بل أن نضال الحزب وكادره وجماهيره في تلك الظروف الأستثنائية يُثير الكثير من الأحترام والتقدير والتعاطف والتضامن . هذا ليس موضع تساؤل لكن التركيز عليه ، بقوة ، إنما يُعطي إنطباعاً من أن الحزب لم يرتكب ولا حتى هفوات فنية .
بالطبع كان من الضروري ، للجمهور ، معرفة رأي الحزب وما هو تحليله لتلك العوامل الموضوعية ومدى تأثيرها السلبي على دور الحزب وبالتالي على نتائج الأنتخابات . لكن كان يجب عدم التوقف عند ذلك الحد فقط ، بل الأستمرار في التحليل الى مداه الأهم وهو دور الحزب الذاتي وما إذا كانت هناك هفوات ونواقص وحتى إخطاء وماهي الدروس والعبر وكيفية التغلب عليها في المرحلة القادمة . إن مثل هكذا تحليل يمنح مصداقية أكبر لتقبل التحليل الأول (العوامل الموضوعية ) ويمنح الحزب دافعاً إضافياً للتغيير والتجديد في سياسته . وليس من الحكمة ، أصلاً ، الأعتقاد من أن الجمهور لم ولن يرى تلك الأخفاقات ، فنتائج الإنتخابات كانت مدوية أسمعت حتى من " به صَمَمُ " (7) .
إن النقد الذاتي العلني وعدم الخوف من الجهر بالإختلاف إنما هي عوامل تقوية للقوى المؤمنة بالديمقراطية ، حقاً .
د . غالب محسن
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
1. من أصل 262 20 كلمة في 29 صفحة هي كلّ التقرير .
2. أعجبني مصطلح " المرجعية " الفكرية الذي استخدمه السيد المحاضر ، وقلت في نفسي " كلٌ له مرجعيته " ، ولِما لا !
3. أنظر على سبيل المثال " الدين ملجأ السياسة والثقاقة قبرها " و " السياسة بين التأمل والأيمان " و " تبسيط السياسة دون إبتذال " وغيرها المنشورة في الحوار المتمدن وفي عدد من المواقع الأخرى .
4. بقدر ما يتعلق الأمر في السياسة ، فأن نقد الإسلام السياسي لا يعني نقد الدين ، و لا حتى للطقوس المرتبطة ببعض المناسبات الدينية رغم أن ذلك النقد يمكن أن يؤول سياسياً ، تماماً مثلما تؤول الإحتجاجات والمظاهرات أو أي موقف سياسي آخر . الفرق هنا في مدى الحساسية .
5. تكررت كلمة ديمقراطية ، بتصريفاتها ، منفردة أو مرتبطة بغيرها ، 105 مرة .
6. أعتبر الرفيق أن إنتخاب خمسة نساء من مجموع 35 ( حوالي 14 % ) في اللجنة المركزية للحزب تطور كبير في عمل الحزب قياساً للدورات الماضية ، لكن هذا فقط نصف الحقيقة . فالبرلمان العراقي ، حيث يسيطر الإسلام السياسي ، يتفوق على الحزب في هذا الجانب ، حيث تشكل المشاركة النسوية فيه 25 % .
7. عن أبو الطيب المتنبي
#غالب_محسن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟