|
الأسطورة و النبؤة فى سنِّار .. قراءة تبعيْضيِّة لعَصْرِ البُطولة
ميرغنى ابشر
الحوار المتمدن-العدد: 3763 - 2012 / 6 / 19 - 19:55
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
غرضنا من هذه المؤانسة عرض اللبنات الميثولوجية، والغور في العوالم السحرية، التي تساهم وبشكل بيِّن في بنيان البحّاثة والمؤرخ الامريكى جاى سبولدنق، الموسوم ب(عصْرُ البُطولة في سنّار)، وقبيل أن نتمدد في الحكى عن تلكم اللبنات، لابد أن نؤجذ قولا عن هذا السفر الماتع ، الذي نعده وثيقة مصورة لفترة من تاريخنا تنتظر جهد من التنقيب في جوانبها وجوانيتها ، والسفر الميِّز من تعريب د. احمد المصطفى الشيخ وهو جهد ظل صاحبه يحمله لفترة من الزمان في انتظار من يَعرف ويُعرِّف بقيمته حتى سُخرت له ايادى هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، ليولد للناس في ثوبٍ عربي ندُسٍ، في 493 صفحة من القطع الوسط ، تناول فيها المؤرخ الفترة الممتدة من ظهور ملوك الفونج في سنار إلى إرهاصات الثورة المهدية (1650– 1850م). ويهدف سبولدنق في سفره القيم هذا، لقراءة ورصد أسباب نشوء وتداعى النظام الامومى والاقطاعى القديم لملوك الفونج، ومن ثْم دور القوى الاجتماعية الصاعدة ذات الملامح البرجوازية حينئذ، والتي برزت من تحت عباءة الإسلام في الإطاحة بهذا النظام، ويكمن سر أمتاع الكتاب ومؤانسته في تعافيه من تتبع درب نهج بعينه من مناهيج بحوث الاجتماع الانسانى، واتجاهه للقراءة الساموتراغية الحرة للوقائع والإحداث، ويعبر مؤلفه عن ذلك في مقدمته قائلا : (قد يرى المؤرخ الحديث، الذي يرغب في الاستفادة من مناهج العلوم الاجتماعية ،أن المنظور ذي التوجه البنيوي، لايعنى بالضرورة إلغاء منهج منظور الإحداث...)ص17 ، وأن مضى غبّ ذلك يعلل لاستخدامه للتاريخ البنيوي ،الذي لا نجد له في مسطوره هذا غير ظلال شاردة لايفى تحتها حدث!. وفى الكتاب حقائق غائمة عن الذاكرة، تحدثك عن التاريخ الاجتماعي لنشأة كبريات المدن السودانية، يبسطها لك المؤلف في عجالة غير مقصودة لذاتها ، ولكنها داهشة تستوقف القارىء السوداني تحديدا ،كما وتبيّن لك الدراسة حضورا للسودان القديم في عولمية تلك الحقبة، التي لها طرائق عصرها ، مؤثرا في جواره الافريقى ومتأثرا بحوامل الخواجة الوافد الثقافية. وعودة لغرضنا ،نستأنس فى هذا المقال بإطلاقية المفكر الايطالي فيكو،والتي بادر فيها بطرح رؤية مغايرة لما استكانت عليه النظرة الكلاسيكية للأسطورة، والتي كانت لا ترى فى الأسطورة غير مرحلة معينة من مراحل الأدب الانسانى ،وهى نظرة بادئه أضاف إليها النير فيكو فتحا معرفيا ميز، عد الأسطورة تعبيرا عن أقدم التجارب الشاملة للبشرية ،الفتح الذي تمدد عند ك.و.موللر الذي يرى فى (الأسطورة أحاديث مصورة لإحداث تاريخية حقيقية واقعية) وشايعه فى ذلك كل من آولديذج وجاكسون،ارتكانا لهذه الرؤية التي تجزر لواقعية الأسطورة وتنفى عنها ظلال الخرافة بتوصيفها حقيقة تاريخية مزودة من عند الخيال الانسانى المنحاز لادلوجته، يعد المنحى الميثى-الاسطورى- وعوالمه السحرية المرسلة فى كتاب سبولدنق، صورا لوقائع وأحداث تستمد مصداق تاريخيتها من داخل روايتها الميتاتاريخية . يمكننا أن نقبض على منهجية ما، يتنوع من خلالها محكي الكتاب وسردياته، تتمثل فى ساحتين متضامتين تفضيان على بعضهما، الساحة المجتمعية للسلطنة وتخومها، وساحة القصر السلطاني بتناهضه وتدافعه، تأسيسا على هذا المنظور يمكننا توزيع المحكي الميثى فى الكتاب إلى أساطير سلطانية تتعلق بالقصر ومبتدى السلالات الحاكمة وتمأساتها المجتمعية، وأخرى مرتبطة بالمجتمع السنارى والتصاقاته السلطانية. منذ العام 1700م انفرد فرع (الاونساب) بالحق فى حكم المملكة الزرقاء، وفق صيغة توارثية تستمد شرعيتها من داخل ادلوجة الجماعة السابقة للإسلام، تنهض هذه الادلوجة من حكاية ميثية، تحدثنا عن ابتداء ملك الفونج ( فأول ملكهم مما تداول فى السنة الخلق أن ابتداء أمر الفونج كانوا بمحل يعرف بلولو والشائع أن كبارهم كانوا يجتمعون عند كبيرهم ويأتون بالطعام فيأكل من سبق الكلوة ويقيمون، حتى قدم رجل من السافل فنزل بينهم ونظر فى أحوالهم فشار عليهم، وصار كلما جاء طعام يحبسه حتى يجتمعوا، فيقوم ويفرقه عليهم. فكانوا يأكلون ويفضل الباقي، فقالوا رجل مبارك لم يفارقنا، فزوجوه بنت ملكهم التي ولدت له ولدا. وعندما يملكون ملكا جديدا يزوجوه من نسل تلك المرأة ويسمونها (بنت عين الشمس)، وظلت هذه العادة باقية فيهم حتى انتهى ملكهم)ص122. وهكذا استمدت هذه السلالة المنحدرة من تلك المرأة، شرعية استمراريتها من عند استدامة بركة الحكيم الغريب القادم من السافل، والموجبة لتدفق الغذاء، واجدة بذلك تبريرا اعتقادي، يستغل حاجة الجماعة للغذاء المتذبذب التوفر، فى بيئة فقيرة يرتبط فيها معاش الناس بتساب النيل وهطول الأمطار الموسمية. ومن داخل القصر السلطاني تأتينا الحكاية الثانية التي تجزر أيضا للأصل الاستثنائي هذه المرة لسلالة وزراء السلطنة (الهمج)، ففي العشائر والمجتمعات البادئة لا يمكن للبطل والاستثنائي أن يولد من رحم العادي، لذلك نجد مقدم الهمج والمؤسس لورثة زعامة البلاط السلطاني فى سنار، محمد ابولكيلك الفارس والانقلابي الذي أرسى دعائم وزارة الهمج وحاكميتهم على الملوك الدمى فى السلطنة، ينسب أيضا لأب غريب من سلالة عربية كريمة، وتحكينا الأسطورة الملحمية عن(أمه أم نجوار ، كانت بنت ملك جبل دالي، فى إقليم القربين، ولأنها كانت أجمل العذارى فى بلادها، فقد تم اختيارها كقربان بشرى لإلقائها فى النهر، منعا لغضب القوى التي كانت تهدد السكان بالجفاف ، وفى اللحظة الأخيرة افتدها عابر سبيل من نبلاء الشمال، ذو أصل عربي كريم، والذي قام بإعادتها إلى حضن والدتها بعد أن لم تعد عذراء ورجع، بعد ذلك، إلى بلاده فى الشمال .ولما بلغ الصبي الناتج من هذا الاتحاد عمر الختان أعطته أمه ،أم نجوار، السيف المنقوش الذي تركه والده، وأرسلته إلى الشمال ليلتحق بقوم أبيه. ويقال انه بعد كثير من المعاناة والمغامرات وصل الولد إلى أقربائه فى الشمال)ص273. وفقا لهذه القصة الملحمية والتي ناطحتها اقصيص أخر، أوردها الباحث تجرد البطل ابولكيلك من نسبه الكريم ،نجد ان الحكاية الميثية تزاحم ملوك الفونج فى (الولادة الثانية)، وهى ثيمة بدئه خبرها علم النفس التحليلي ،انبتت التصور الغيبي عند الإنسان البدوي ، فالاستثنائي فى مجتمعات العشائر، لا يمكن إلا ان يكون استثنائي المنشأ، أما ابن للشيطان مثل فلادتبيس ابن الأمير الروماني فلادراكول البطل الذي احتواء الاجتياح العثماني على أوربا،او ولدا للآلهة كما اعتقد اليهود فى بعض أنبئاهم. وتتبدى العوالم السحرية وتأثير مفرداتها فى أقصى حدود تجليتها، فى قصة سيادة الهمج وحاكميتهم على بلاط السلطنة، لتتموضع هذه العوامل فى دارة الفاعل الأمضى حضورا، فى تحقق الإطاحة بسيادة ملوك الفونج، وميلاد عصر وزراء الهمج فى سنار، عندما نجح ابولكيلك فى العام 1762م فى إقصاء السلطان بادي عن عرش المملكة، بفضل تعاون (معراقى) فلاتي مع الفقيه حجازي أبى يزيد، إذ طلب الانقلابيون من (أحد ألفلاته،علماء الطب، يطب لهم ألمك ويحل ملكه، فطلب منهم صورة ألمك، فطلبوا الفقيه حجازي بن أبى زيد، وكان محبوسا عند ألمك فى حلة العيكورة ، فطلبوه منه قبل إظهار الفتنة، وفى طلبهم له أنهم يقتلونه، ففرح ألمك بذلك لأنه خائف من قتله، ووقوع دعوة الشيخ إدريس(ودالارباب) فيه، فأرسله إليهم بالسجن، فلما قابلهم أكرموه، وطلبوا منه الصورة المذكورة، فصورها لهم وألبسوه من لباس ألمك وعمل فيها الفلاتى وأرسلها إليهم، ثم توجهوا نحو سنار وقام الجيش الزاحف بمحاصرتها، وأرسل استدعاءا لبادي قائلين أخرج إلينا عليك أمان الله، ورموا صورة ألمك فى الهواء، واتهم البشرى أن ألمك بادي قد ذهب، وجاء ألمك خارجا، مستسلما ومستصغرا وانسحب إلى الشرق)ص279. لتفشى لنا الحكاية، عن مدى إيغال وتسيُّد السحر فى طبقات المجتمع السنارى، باختلاف وعيها الثقافي، وسيادة الإسلام الشعبي واستئناسه بالوثنية والاروحية الإفريقية القديمة،الاستئناس الذى توقنه نهاية الفقيه حجازى بن أبو زيد، الولي الذى لعب دورا سياسيا بارز فى تحولات السلطة فى سنار، والذي مات فى حبس الوزير ناصر من الجوع والعطش (ويقال أن ناصر خاف من القوى الخفية التي يمتلكها الفقيه، والتي أرجع إليها هزيمة وموت السلطان عدلان، لذلك فان قوة خفية وسحرية شاملة لابد من اتخاذها لكسر القوى الروحية الخفية لحجازى، والتي يستخدمها لحماية نفسه. فى النهاية ربطوه داخل قفص بجانب النهر ليموت من العطش)ص319. حضور النهر فى طلسميات وتعاويذ الشيوخ والصلاح، كقوى روحية لها فرادتها الغالبة، وهو طقس كتبت له الديمومة فى فك المربوط وزيادة الخصوبة ،هذا الحضور الميز للنهر فى العوالم الميثية، يدلل على رسوخه كاعتقاد نيلي صرف، ليس له وشيجة بأسرار الإسلام، الدين الذى تأسس فى صحارى نجد والحجاز،هذه الوثنية والاروحية الأفريقية النيلية، التي خالطت الإسلام، تسببت لاحقا وبمعية عوامل أخرى، فى قيام ثورة الدنقلاوى محمد بن عبد الله التصحيحية، والتي عرفت فى تاريخ السودان بالثورة المهدية. وكان واحد من أهم أغراضها، الرجوع بالإسلام إلى أصالته الأولى وتنقيته من شوائب الوثنية القديمة. لعب المشائخ والفُقرا أدوارا جهيرة فى تداول السلطة، والمشاركة بفاعلية فى مؤامرات ودسائس البلاط السنارى، فقد كانوا يمثلون(مظهرا قويا للراديكالية الريفية)،كما أنهم تمكنوا من قلوب العامة وحصلوا على احترامهم وانقيادهم ،وذلك لأنهم شاركوهم معاشهم وحياتهم ، وكانوا ملاذا أمنا لبسطاء الناس من جور السلطان وفورته، ويأتي تأثيرهم الأكبر على العامة من خلال سطوتهم الروحية واعتقاد العامة فى قدراتهم الروحية الخارقة للعادة، وتمكنهم من علوم الطبابة البديلة، لذا كان لهم اصتنات ميز من قبل المجتمع السنارى بكل طبقاته، لنبؤاتهم واستشرفاتهم المستقبلية، لمصير النظام السلطاني ولاعبيه من ملوك ووزراء ومناجل، ولقد قدم لنا سبولدينق حزمة منمازة من هذه النبؤات فى كتابه، منها نبؤه الشيخ الحاج محمود المجذوب، راجل الدامر والمتوفى فى العام 1786م (يا سنّار جاتك النار)ص212 لتحترق سنار بالفعل فى العام 1788م على يد وزير الهمج الشيخ ناصر،(إذ ركب الوزير حول المدينة الكبيرة حتى وصل أطرافها الجنوبية، وهناك، انتظر ليستفيد من هبوب الرياح وعندما جاء الليل أشعل النيران فى الحلة)ص308،لتخرَّب المدينة خراب كبيرا لم تعد بعده لسابق عهدها أبدا. ولا تقف النبؤة فى سنار عند الإنبأ بحدث ما، بل توغل فى بعض الأحداث لتحكى عن تفاصيلها، كنبؤة احد كبار الأشراف الفقرا، الذى صاح فى موكب السلطان بادي وهو فى طريقه لأداء صلاة الجمعة(بالاثنين شبول ، وبالثلاثاء بادي)ص299 ، وشنبول هذا مانجل اربجى، وواحد من حاشية الوزير بادي وبطانته المقربين، وبالفعل هجم متمردو الهمج على شنبول، فى السويدنية بالداخلة، وفقد حياته يوم الاثنين على حسب النبؤة، أما الشيخ بادي لما تحقق عنده خبر مصرع حليفه، طلب حصانه (الزباوى) وخرج لملاقاة أعدائه غرب العاصمة، وفى يوم الثلاثاء يوم النبؤة لقي مصرعه بعزيمة وثبات يحسد عليهما، (وكان ذلك أول قتال بين الهمج بعضهم فى بعضهم) كأعداء. ويمضى بك المؤلف ليحكى لك عن تناطحات وعداءات وثقتها ذاكرة تاريخ السلطنة، بين رجال الدين الفقرا وجهاز الدولة الرسمي، هذه العداءات التي استحكمت فى بعض الأحيان فى النفوس، خلفت كثير من اللعنات والإنذارات بالكوارث، التي صوبها الفقرا على رموز السلطة ، وقد أدت هذه اللعنات إلى مصائر مأساوية، لبعض أركان النظام السياسي فى سنار ومشيخاته المختلفة، نحو مصير الشيخ عبد الله بن عجيب مانجل العبدلاب، والذي (رغم عن فضائله المعترف بها إلا أن عبد الله كان يصارع آثار لعنة أصابته من رجل صالح أساء إليه، فقتل وانهزم جيشه لأنه وفى اللحظة الحاسمة لم يكن قادرا على ركوب فرسه عندما تقدم نحو جيش إدريس-وزير الهمج- فى يوليو 1800م.)ص326. مع بداية الغزو التركي للسودان فى شتاء 1821م، وفى يوم من أيام ربيع الثاني اختحمت مجموعة من الفرسان، بيت المانجل الكبير فى سنّار محمد عدلان، وكان من بينهم الشيخ احمد الريح العركى (كان عددهم ثلاثون فى مواجهته وحده، أشهر المانجل الكبير سيفه وفجاه بكل خسة احدهم من الخلف، وقطع رجله بالسيف فوقع وتناشلوه)،وتقول رواية أوردها كاتب الشونة، بأن(صاحب الضربة الحاسمة هو الشيخ البارز احمد الريح العركى، وجهها بواسطة علوم الأسرار التي مكنته من أن يكون أمام ضحيته وخلفها فى ذات الوقت)ص387.وتبين لنا هذه الواقعة عدم اكتفاء الفقرا والأولياء بإطلاق اللعنات عن بعد، بل تعدوا ذلك للمشاركة الفعلية وجه لوجه وبمعية قواهم الخفية، فى حسم صراع السلطة فى سنّار، ولكن هذه المرة لصالح الأتراك. عرف عن المجتمع السنارى القديم تكوينه الطبقي المتوارث، من النبلاء والعامة والعبيد، وتتميز كل طبقة من هذه الطبقات بدور اجتماعي يشاكل مقامها ، إلا ان هذه الفوارق بين مكونات مجتمع السلطنة ، تتضأل لحد قصى فى المنحى الثقافي والاعتقادى لهذا المجتمع الاقطاعى الامومى، الذى تتشارك طبقاته فى نسق قيمي متماثل، تمثله الاروحية الإفريقية الوثنية التي أضحى الإسلام الاسرارى الروحى واحدا من مكوناته الأهم(ومما كان يعتقد فيه أن نبلاء الفونج بعامة والسلطان بخاصة، يملكون قوى غير طبيعية وسحرية،..تأتى بالمطر، وتقضى على ممارسي السحر،حسب تعريفه عن طريق مصطلحات السحر، وحين يفشل أي من حكام الفونج فى أن يكون على المستوى المطلوب، فانه يقتل ، او يعزل) ص128.من الأسطر الأنفة يتوضح لنا إلى اى مدى تكمن الحاجة لأصحاب القوى الخارقة، من اجل صعود نجم سلاطين الفونج، وايمكانية الاستعانة بهم سرا، حتى يتجنب السلطان المصير المأساوي الذى ينتظره، أذا فشل فى إقناع العامة بسطوته على قوى الطبيعة . الشيء الذى مكن للسحرة والفقرا على وجه الخصوص فى البلاط السنارى ،ووفر لهم العديد من الامتيازات. فعلى سبيل المثال كانت أراضى الولي معفية دائما من الضرائب، وكانت تمثل حرما آمنا يلجا إليها المطلوب من الناس أو الحاكم، وكان السلاطين يجددون رعايتهم الخيرية للفقرا ورجال الدين ،بين الحين والأخر، فيبعثون لهم بالهدايا الفاخرة، فعلى سبيل المثال (أرسل السلطان بادي الرابع نسخة فاخرة مجلدة من القرآن إلى الفقيه محمد بن الحاج سعد، شيخ مجتمع ديني لعبابسة ندى)ص144. كما يحظى النبيل بتقدير المجموعة من خلال سلطته على العالم الخفي للسحر. وحتى الطلاسم والأحجبة الإسلامية تحمل قوة خاصة إذا كتبت بالقرب من مقر السلطان)ص124. لننتقل إلى ثيمة أخرى من خلال القوس السابق، تماهى بين الأثر الروحي للقرآن، ووثنية الاعتقاد السحري، الذى يمثله مقر السلطان، إذ يستمد آي القرآن الروحي فاعلية خاصة من عند السلطان الزمانى، مؤكدة هذه الثيمة على ايستعاب الإسلام وانسجامه للاروحية الإفريقية الوثنية . وإذا بسطنا النظر للمجتمعي، نجد فى بعض الأحيان تفضيل العامة للحلول العرفية الوثنية القديمة، على الاتجاهات الحديثة للقضاء الاسلامى، والتي سعى لترسيخها فى حل المسائل والمعضلات الاجتماعية الفقرا ورجال الدين ،فقد كان أي اتهام بالخيانة لامرأة متزوجة يحسم(بمحاكمة امتحان التحمل، إذ يطلب من المرأة المتهمة أن تلتقط بأصابعها إبرة من داخل إناء به سمن يغلى، أو أن تلتقط فأسا محماة من بين الجمر)ص153،وان استطاعت المتهمة فعل ذلك تكون بحصانة من العقاب(وقد أخذ الفقرا على عاتقهم تبديل مثل هذا الامتحان بالمحاكمات المتوافقة مع الشريعة). إلا أن ترك طريقة الامتحان بالنار والاستعاضة عنها بنظام الغرامة ، كان يرى فيه البعض مثالا للتدني الاخلاقى العام، الذى تبع موت السلطان عدلان، إذ يمكن لاى امرأة تتمتع بثروة من تجنب الإدانة بأن ترشو القاضي. هذا لايعنى بالضرورة أن طبقة رجال الدين والفقرا كانت دوما تشجع المنحى الاسلامى فى السلوك الاجتماعي ، إذ نجدها فى موضوعة اجتماعية ميزة كالزواج مثلا، والذي يشجع الإسلام على تيسيره وتبسيطه ، تغادر طبقة رجال الدين هذه الدعوة وتركن للثقافة الطبقية للمجتمع السنارى التي تشجع التفاوت فى الثروة والمكانة ،وخير مثال على ذلك نجده عند مؤسس مجتمع الدامر وزعيمه الروحي والزمانى الولي الكامل حمد بن المجذوب(فعندما تزوج هذا الفقيه المتميز دفع 40 عودا من الأرض المروية.. وكان على ابنه أن يدفع 78 عودا من الأرض المروية وعبدين وبقرة واحدة، وثور،وعندما تزوجت حليمة ابنة الفقيه حمد،أعطيت صداقا 42 عودا من الأرض المروية ،وأربع قطع ارض معروفة الحدود وغير معروفة الأبعاد، واثني عشر عبدا، وحصانا .. وثماني بقرات، وخمسة ثيران،وخروفين وحلقتين وثلاث زوامل من السنبل والمحلب)ص156. وغير بعدين عن موضوعة الزواج نجد أن المنحى الميثى والسحري يتمدد فى السلطنة الزرقاء، ليشمل مؤسسة الزواج ،إذ تتدخل السلطة التنفيذية فى السلطنة فى هذه الخصيصة المجتمعية، مبتدعة وظيفة ميثية عرفت فى سجلات تاريخ المملكة (بمقدم المهر) ،إذ بإمكان المرأة ان تتزوج بمن تريد وتتمنى، حتى أن لم يكن الرجل راغبا فى الاقتران بها ، وهى حال أشبه بتمنيات (ليلة القدر) فى المخيلة الشعبية، مقاربة بالعنت الاجتماعي الذى تكابده المرأة فى خيراتها للقتران. فبابتداع البلاط السلطاني لهذه الوظيفة، صار للمرأة فى سنار إرادة ذكورية فى الاختيار . ووصف أحد الرحالة مهام (مقدم المهر) الروتينية فى لغة سحرية( إذ قال:هو رجل دين، ويسافر فى كل بلاد السودان، من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة يتقصى ويسأل ان كانت هنالك فتيات راغبات ومناسبات للزوج، وان وجد يسألهن أن كان لديهن شخص فى الذهن، وإذا كانت الإجابة (نعم) فان الشاب الذى تحدده يؤتى به طوعا أو كرها ويزوج بها)ص106.هذا المسلكية التي حكانا عنه سبولدنق قل ان نجد لها نظيرا فى التاريخ الاجتماعي للشعوب الأخرى. كما وان هذا التجزر للوعي السحري الميثى، عند الطبقات المكونة لمجتمع السلطنة، نجده يشكل آلية التأمل والحلول، اى بنية التفكر عند أفراد ذلك المجتمع، ليغدو الوعي الميثى السحري حالة عصاب جمعي، ما تزال تمظهراته تلقى بظلالها الورافة على مجتمعنا السوداني المعاصر. هذه الذهنية بتوصيفها السالف ، استطاعت أن تستنبط صيغة تشتمل على حقيقة علمية جابهت بها فى منتصف القرن السابع عشر وباء الجدري(توصل مواطنو سنار إلى قناعة بأن الجدري هو واحد من البضائع التي يحملها الخواجات الأجانب ، فكان رد فعلهم أن يشتروه ليحصنوا أطفالهم من آثاره السيئة. والنساء هن من ينهضن بهذه العملية. ففي الموسم الأكثر جفافا من السنة، وما أن يبلغهن ظهور الجدري فى مكان ما، حتى تذهب هولاء النسوة إلى المكان الموبوء، وتلف الواحدة منهن خرقة من القماش القطني حول يد المصاب، فتتركها فى يده إلى أن تتم المفاصلة مع أمه على الثمن الذى تبيع به عدد من القروح...ولا تؤخذ القروح هبة وعندما يفرغن من ذلك يرجعن إلى قراهن، فيربطن الخرق على ايدى أطفالهن...إذ ان الطفل الذى يصاب بالعدوى سيكون بخير، وانه، فى ما يحسبن، لن يصاب بعدد من القروح يفوق ما اتفق على شرائه)ص127 . نهضت كثير من المفاهيم والقيم فى مجتمع السلطنة وهى خاضعة لهذه الآلية الاساطرية السحرية، ومن بين هذه المفاهيم نشأ الشر مثله مثل نشأة السلطنة الاساطيرية والتي تعرضنا لها فى حلقتنا السابقة . فوجود الشر فى سنار يفسر من خلال أسطورة تحكى عن( أحد الأجداد المؤسسين لواحدة من مجموعات الرعايا، ساق أولاده من سنار إلى موطنهم فى الأقاليم الجنوبية، وأمرهم بان يحضروا ذيل أسد. .وحين خالف الأولاد أمر والدهم، دعا عليهم باللعنة، ومنذها أصبحوا منقسمين على أنفسهم يتشاجرون لأتفه الأسباب ويفتقرون إلى يد قوية تحكمهم)ص123 . ويتسيد المشهد الميثى والسحري كافة مناحي الحياة اليومية للناس فى مجتمع السلطنة ، ويتداخل فى علاقاتهم الاجتماعية بتماسات تكاد تكون مستدامة ، ولما كان المعاش من ملحات تلك الحقبة الفقيرة فى كثير من جوانبها ،تفصح لنا هذه الحكاية الاستخدامات الايجابية للقوة الخافية فى المجتمع، وقت انفرط فيه سياج الأمن بعد ضعف السلطة المركزية فى سنار فى القرن الثامن عشر، وتلاشى الكفاءة فى جمع الضرائب من الناس، وتحكى الحكاية عن كرامة للولي الحاج ناصر إبان حكم الوزير إدريس عن(امرأة مقيمة بحلة عوض الله أخيه، ولها واحد من جماعة المقاديم يأخذ منها معلوما، فجاء إليها وعندها مطمورة، فأراد قلعها،فأعلمت الحاج ناصر، فقال لها أنا مابروح له،فرجعت له ثانيا فردها،ففي الثالثة قام الشيخ ووقف على المطمورة وقال ما هي المطمورة، ما بفوتها. فلما وطئ المطمورة أحس بطعنة فى رجله، فغلبه أن يتحول،فأخذوه على عنقريب فلم يصل بيته حتى مات)ص362. بهذه الحكاية نختتم مؤانستنا على كتاب البحاثة المدقق الامريكى جاى سبولدنق ،والذي قهرنا بجهده الميز على الكتابة فى منحى من مناحي سفره القيم ،نرجو أن نكون قد وفقنا فى القبض على جواهرها التي نروم، وكتاب سبولدينق عصر البطولة فى سنار جهد متعوب فيه، سوى كان ذلك فى جمع شتات مادته وتحليلها من قبل المؤلف، أو من حيث تعريبه الملحوظ رهقه ونفعه، كما وان الكتاب يلقى الضوء على حقبة غامضة وغائبة من تاريخ السودان ،غامضة لأنها فترة عرفت فى الدراسات التاريخية ب(لغز غموض الفونج )،وغائبة لنا وسائطنا تبدأ تاريخنا من عند التحقيب لسلفية عرجاء ساهمت فى المؤامرة الأوربية العالمية لتقطيع أطراف السلطنة العثمانية الانكشارية المستبدة . وما تزال غوامض تلك الفترة تنتظر من يكشف سرها ويحل بعض احوجياتها التاريخية، من غير تهيب لرقيب يملك سلطان مورث !!. الشيء الذى يفسر لنا بعض مظاهر الحميمية بين الطائفية السودانية القائمة والمستعمر القديم الحديث. وتكمن أهمية الكتاب فى انه يعنى بسرد وقائعي لفترة من تاريخ السودان تشكلت عبرها قبلية السودان وأخذت سماتها الحالية فى التوزيع الجغرافي والنسب. وأخيرا كانت تلك الحقبة التي تناولها الكتاب (جذابة ومأساوية فى آن واحد، إذا ما ما قيست بالمعايير الإنسانية، إذ حفلت برجال أقوياء يشبهون أبطال الجاهلية الذين أداروا الصراع ،غالبا فى ظروف غير مواتية، لفرض النظام على مجتمع كان فى حالة شتات.وفى النتيجة استطاع واحد منهم هو المهدي ،ان يحقق حلم أمة عربية جديدة وكبيرة فى السودان)على حد تعبير المؤلف.
#ميرغنى_ابشر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رِدَّة الربيع: قصة أشواق (حنظله) للفراديس
-
مسرحة (رؤيا فوكاى) أوتشظى الذات قراءة نقدية فى مسرحية ((وطن
...
-
التحالف السري الجديد النظام العالمى فى مواجهة النظام العالمى
...
المزيد.....
-
فيديو يُظهر اللحظات الأولى بعد اقتحام رجل بسيارته مركزا تجار
...
-
دبي.. علاقة رومانسية لسائح مراهق مع فتاة قاصر تنتهي بحكم سجن
...
-
لماذا فكرت بريطانيا في قطع النيل عن مصر؟
-
لارا ترامب تسحب ترشحها لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا
-
قضية الإغلاق الحكومي كشفت الانقسام الحاد بين الديمقراطيين وا
...
-
التمويل الغربي لأوكرانيا بلغ 238.5 مليار دولار خلال ثلاث سنو
...
-
Vivo تروّج لهاتف بأفضل الكاميرات والتقنيات
-
اكتشاف كائنات حية -مجنونة- في أفواه وأمعاء البشر!
-
طراد أمريكي يسقط مقاتلة أمريكية عن طريق الخطأ فوق البحر الأح
...
-
إيلون ماسك بعد توزيره.. مهمة مستحيلة وشبهة -تضارب مصالح-
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|