سيمون أوللي
الحوار المتمدن-العدد: 6113 - 2019 / 1 / 13 - 18:07
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
وحدة الترجمة - مركز الدراسات الاشتراكية
قُتلت روزا لوكسمبورج – أحد أهم القادة في تاريخ الحركة الإشتراكية – في ليلة الخامس عشر من يناير عام 1919، بعد القبض عليها بواسطة الـ "فريكوربس"(1) بأوامر من قائد الحزب الاشتراكي الديموقراطي فريدريك إيبرت, حيث تحطمت جمجمتها بمؤخرة رشاش آلي وألقيت جثتها بقناة لاندفير ببرلين.
يعرف هذا الموقع اليوم بنصب تذكاري بسيط، وسط أشجار تيرجارتن, حيث يبرز اسم روزا لوكسمبورج بأحرف معدنية.
تعطي الطبيعة البسيطة للنصب التذكاري, وصمته, وعزلة موقعه علي القناة لمحة بسيطة عن الظروف الصاخبة التي صاحبت مقتلها في الأشهر الأولي من ثورة العمال والبحارة والجنود والتي وضعت نهاية الحرب العالمية الأولي في أواخر عام 1918. ماتت لوكسمبورج بينما كانت المعركة مستعرة في قلب الحركة العمالية بين إصلاحيي الحزب الاشتراكي الديموقراطي بألمانيا وبين الثوريين الذين تجمعوا حول لوكسمبورج وكارل ليبنكت في عصبة سبارتاكوس (التي تحولت فيما بعد إلي الحزب الشيوعي الألماني).
لا يعطي هذا النصب أي لمحة عن أهمية حياة لوكسمبورج كاشتراكية ثورية, ولا للإلهام الذي قدمته, ولا للتأثير الشديد لها علي من جاءوا بعدها. كانت مؤخرة رشاش آلي لأحد الجنود كافية لتحطيم جمجمتها, لكن إرثها لم يكن سهلا أبدا تدميره.
إصلاح أم ثورة
ولدت روزا لوكمسبورج في 5 مارس 1871 في بولندا, وهناك تلقت خبراتها الأولى كناشطة في الحركة الثورية السرية. لكنها كقائدة سياسية شديدة الموهبة, تم سحبها لقلب الحركة العمالية بألمانيا حيث تبوأت مكانتها منذ نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر كقوة محركة للجناح الراديكالي في الحركة الاشتراكية الألمانية. وفي كتيبها "إصلاح اجتماعي أم ثورة" الذي نُشر عام 1899, نهضت لوكسمبورج لمحاربة من في الحزب الاشتراكي الديموقراطي, الذين رفضوا الثورة وجادلوا بدلاً منها بالتركيز علي الإصلاح التدريجي للرأسمالية عبر البرلمان والنقابات.
كان الرمز الأساسي لهذه الموجة التحريفية هو إدوارد برنشتاين. في كتابه "الشروط المسبقة للاشتراكية ومهام الديموقراطية الاجتماعية" ناقش برنشتاين أن النظام الرأسمالي قد تطور, وأن الميل لحدوث أزمة كما وصف ماركس قد تم التغلب عليه رافعا الاحتمال لتقدم دائم وسلمي تجاه رخاء عالمي.
ورداً على برنشتاين, رفضت لوكسمبورج فكرة أنه تم التغلب علي تناقضات الرأسمالية وميلها لحدوث أزمات. وجادلت أن تطور النظام الرأسمالي سيعمق من هذه التناقضات, وأن فترة النمو والازدهار في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر في ألمانيا إلا بمثابة هدوء ما قبل العاصفة. وأكملت لوكسمبورج أنه لن يمضي كثيراً من الوقت حتى تنفجر هذه التناقضات الموروثة في النظام الرأسمالي مرة أخرى. لكن هذه المرة – ومع التركيز الأكبر على الصناعة والمنافسة العالمية بين الأمم للأسواق والموارد, ستصبح الأزمة أعمق من أي أزمة مضت.
بعد عقد, ومع نشوب الحرب العالمية الأولي عام 1914, تبين صواب موقف لوكسمبورج أكثر. فسلوك قادة الاشتراكية الديموقراطية البرلمانيين – الذين تخلوا عن تراثهم العميق ضد العسكرية وصوتوا لصالح استمرار جهود الحرب – أثبت صحة رؤيتها من أنه بدلاً من تغيير النظام فإن الإصلاحيين ينتهون ليصبحوا جزءاً منه.
وكما صاغت لوكسمبورج، فإن "الذين يعلنون أنفسهم مع طريق الإصلاح التشريعي وليس غزو السلطة السياسية والثورة الاجتماعية, لا يختارون في حقيقة الأمر طريقاً أكثر بطئاً وهدوءاً لنفس الهدف, لكنهم يختارون هدفاً آخر".
ففي مواجهة أزمة الرأسمالية المتجددة والحرب الوحشية التي تخطت كل الحدود, فإن مذهب الإصلاحيين في الإيمان بإمكانية تحقيق مجتمع اشتراكي علي مدد أطول أعطى دفاعاً مباشراً بشكل أو بآخر عن النظام القائم.
كانت مأساة حياة لوكسمبورج أنه في الوقت الذي بدأت تدرك فيه ضرورة الانفصال عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي وبناء منظمة ثورية نقية, كان الوقت قد فات. كان ضعف اليسار الثوري أثناء الحرب يعني أنه في السنين الثورية التي تلت الحرب من عام 1918 وحتي عام 1923, كان الثوريون يجاهدون للحاق بالحركة, معطياً هذا قادة الاشتراكية الديمقراطية والقوي الرجعية الأخري المساحة التي احتاجوها لاستعادة النظام. ظهر الثمن الحقيقي لهذه الهزائم جلياً في المسار الذي اتخذه التاريخ الألماني بعدها, حيث اندفعت بعدها مباشرة لكوارث الثلاثينيات والأربعينيات.
يتضح اليوم مدي صلة هذه الجدالات. تحطمت عقيدة الليبرالية الجديدة التي تلت سقوط جدار برلين عام 1989 – والتي هلل أتباعها لامتلاكها أمل السلام والازدهار للجميع – علي صخور الأزمة الاقتصادية الأعمق منذ الكساد الكبير. في رأسمالية اليوم, أصبحت كلمة الإصلاح تعني بشكل متزايد التقشف والهجوم علي مستويات معيشة الطبقة العاملة وتخفيضات في إنفاق الصحة والتعليم والرفاه الاجتماعي. أصبح التقدم الذي تطرحه الرأسمالية يعني أن الأقلية الضئيلة من سكان هذا العالم مستمرون في مهمتهم لتسخير كافة الموارد البشرية والطبيعية من أجل ثراءهم الشخصي.
أصبحت الحاجة لبديل ثوري في مستنقع السياسة أكثر ضرورة من أي وقت مضي.
الإضراب الجماهيري
في التفكير حول كيف يكون شكل هذا البديل, يمكن استدعاء إسهام آخر من إسهامات لوكسمبورج – التأكيد علي الفكرة التي وضعها ماركس عن أن الثورة تعني "التحرر الذاتي للطبقة العاملة".
كلمة السر في هذا الشأن هو كتيب "الإضراب الجماهيري" الذي كتبته في أعقاب الثورة الروسية الأولي عام 1905. تم استقبال الأحداث في روسيا بموجة من الحماس في الحركة الاشتراكية بأوروبا الغربية. ولقد أعطى الدور المركزي الذي لعبته الإضرابات العمالية الواسعة للعمال الكثير من الثقة للراديكاليين داخل الحزب الاشتراكي الألماني والنقابات العمالية.
بالنسبة للإصلاحيين الموجودين بداخل الحزب الاشتراكي الألماني وقيادات النقابات العمالية, كان الحماس الشديد للإضرابات الواسعة داخل العمال سبباً للقلق الشديد. فقد ذهب هذا ضد كل قواعد اللعبة, جاعلة الحدود بين المطالب السياسية ونطاق الحزب من جهة وبين المطالب الاقتصادبة من جهة أخرى، والتي كانت مسئولية النقابات، حدودا ضبابية, ومعرضة لتجاوز النضال حدود المسار المرسوم بعناية للإصلاح.
بالنسبة للعديد من القيادات النقابية والبرلمانية وقيادات الحزب, كان تطوير التنظيمات النقابية وتقدم نشاطات الحزب البرلمانية هو النهاية. يمكن تلخيص توجه القيادات النقابية بشكل جيد في كلمات ثيودور بلومبرج: "كي نطور منظماتنا أكثر, نحتاج إلى مزيد من السلام داخل الحركة العمالية".
كانت الإضرابات تمثل نزيفاً لتمويلات النقابات ومخاطرة بإشعال غضب الدولة الرأسمالية والتي يمكنها فرض إجراءات عقابية يمكنها أن تعيق عمل الأجهزة النقابية. بالنسبة لهم كانت الإضرابات الجماهيرية مهمة وضرورية طالما ظلت تكتيكاً يُنفذ بعناية ودقة من قبل القيادات, في الوقت المناسب والظروف الملائمة.
على العكس من ذلك, اعتبرت لوكسمبورج أن الإضرابات الثورية الواسعة التي حدثت في روسيا عام 1905 أعطت تذكيراً في الوقت المناسب بالموضع الأساسي الذي تنبع منه الحركة الاشتراكية بشكل حقيقي. في عقلها, كانت قوة الحركة تكمن لا في الأجهزة النقابية البيروقراطية الآخذة في الترهل, ولا في المناورات البرلمانية المرسومة بعناية, بل في النشاط الذاتي للعمال أنفسهم في النضال.
بالنسبة للوكسمبورج, كان انخراط العمال المباشر في النضال هو مفتاح تقدم الحركة العمالية في بعديها السياسي والاقتصادي. فالعلاقة بين النضالات الاقتصادية العمالية من أجل أجور أعلى وظروف عمل أفضل، والنضال لتطوير الأهداف السياسية للحركة العمالية علي علاقة شديدة التبادلية: "بعد كل موجة عالية من العمل السياسي, تتبقى تربة خصبة تنبت منها ألف نضال اقتصادي. والعكس أيضاً صحيح, فنضال العمال الاقتصادي الثابت ضد رأس المال يحافظ عليهم في كل توقف في معركة سياسية".
ليس من الصعب رؤية توضيحات معاصرة لهذه النقطة.. نحتاج لأن ننظر فقط علي سبيل المثال للأحداث في مصر أثناء إسقاط مبارك وما بعدها, لنرى الدور الذي لعبته الإضرابات العمالية في حركة سياسية واضحة, والعكس في إمكانية أن تفتح هذه الانتصارات السياسية المجال لتوسيع النضال الاقتصادي. فالحفاظ علي شق واسع وكبير بين المجالين الاقتصادي والسياسي – كما في حالة الإصلاحيين في عهد لوكسمبورج – يعني إغلاق آلية الدعم المشترك التي تعطي للحركة كلها قوتها.
وأكثر من هذا, فإنه تماشياً مع إصرار ماركس أن إسقاط الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي يمكن أن ينجح فقط بناءاً على النشاط الذاتي للعمال, رسمت لوكسمبورج الطريق لكيفية دعم الإضرابات الواسعة والتطويرات السياسية والتنظيمية للطبقة العاملة.
ليست مهمة التنظيم الثوري الحقيقي إذن هي البدء في طريق مرسوم سلفاً يتم دعوة العمال للسير فيه بطاعة نحو تحقيق الاشتراكية. بل أصبحت مهمته هي الانخراط في النضالات اليومية للعمال وتطوير الخبرة السياسية مع العمال وبجانبهم, والتي يمكنها هي فقط توفير مؤسسة للقيادة في زمن الثورة.
الاشتراكية أم البربرية
قضت لوكسمبورج معظم السنوات ما بين اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 وحتى ثورة نوفمبر عام 1918 خلف القضبان, مسجونة لكونها من الأشخاص القلائل في ألمانيا الذين امتلكوا شجاعة مناهضة المذابح التي كانت تحدث في خنادق الحرب. في كتيب الـ "جونياس"(2) الذي كتبته روزا في زنزانتها أوائل عام 1915, رسمت صورة حية للخيار القاسي الذي تواجهه البشرية في تلك السنوات: "إما انتصار الإمبريالية وانهيار كل الحضارة كما حدث لروما القديمة, تهجير وخراب واضمحلال – مقبرة عظيمة. أو انتصار الاشتراكية, والذي يعني النضال الواعي الفعال للبروليتاريا العمالية ضد الإمبريالية العالمية وطريقتها في الحرب".
قد يبدو الحديث عن "انهيار كل الحضارة" أمراً مغرقاً في الدرامية. لكننا نحتاج فقط للتفكير فيما حدث في ألمانيا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي, ولا داعي لنذكر فجر الحقبة النووية في هيروشيما وناجازاكي, كي نحصل علي لمحة مما كانت تعنيه روزا.
رأت لوكسمبورج بوضوح أن الإمبريالية كانت جزءاً من لب منطق الرأسمالية والتي أصبحت الحرب نتيجة لها لا مفر منها. والتاريخ اللاحق للقرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين يعطي دليلاً وافراً على هذا.
واقع الرأسمالية اليوم – تماما كوقت لوكسمبورج – فتحت قشرة براقة من الدبلوماسية والتحالفات المؤقتة, يقع واقع العدائية المستعرة والمنافسة العسكرية بين العصابات الحاكمة في مختلف الأمم. تعظ الطبقات الحاكمة في العالم بفضائل الرأسمالية وإمكانية أن تجلب "السلام والرخاء" للجميع, بينما ينفقون تريليونات الدولارات في الإبقاء علي مخازن السلاح وتطويرها لقدرة وصلت إلى إمكانية تدمير أضعاف الحياة الموجودة الآن علي كوكب الأرض.
تعطي كلمات لوكسمبورج, والتي كتبتها وسط مجزرة الحرب العالمية الأولى, تنبيهاً في وقته المناسب للعواقب التي ستواجهها البشرية إذا ما استخدمت هذه القوى المتنافسة هذه الأسلحة.
الصمت الذي يحيط بنصب روزا لوكسمبورج التذكاري في قناة لاندفير في برلين لا يجب أن يكون صمت ماضٍ منسي. هو – ربما – أكثر كصمت توتر وتأمل طائل لمستقبل ينتظر أن يولد.
تستمر النضالات التي تجتاح أوروبا وأجزاء أخرى من العالم في اكتساب المزيد من السرعة. وفي الوقت نفسه يعود حكامنا لاستخدام وسائل قمع أكثر عنفاْ. في هذا السياق, يجب علينا أن نستدعي رسالة لوكسمبورج في آخر مقال معروف لها قبل مقتلها. فمع استمرار الاشتراكيين الديموقراطيين في الاستحواذ علي النفوذ, وانشغال الـ "فريكوربس" في إنفاذ أوامرهم المشبعة بالدماء علي العمال في ألمانيا كتبت: "فليسد النظام في وارسو!.. فليسد النظام في باريس!.. فليسد النظام في برلين!.. هذه هي موجزات أوامر حراس "النظام" ينشرونها من مركز لنضال العالم إلى المركز الذي يليه. والأمر الذي يفشلون هؤلاء السكارى بنشوة النصر في ملاحظته هو أن أي نظام يبني بشكل مستمر علي المذابح الدموية يتجه إلي مصيري التاريخي: اضمحلاله. فليسد النظام في برلين!.. أيها الأذناب الأغبياء, نظامكم مبني علي الرمال. وغداً ستنهض الثورة مرة أخرى, ولرعبكم ستنتشر بأبواق مستعرة: كنت, ومازلت, وسأكون!".
إن الخيار الذي نواجهه الآن ليس أقل قسوة مما كانت لوكسمبورج ترى أن البشرية تواجهه في أشُد الحرب العالمية الأولى. فاستمرار النظام الرأسمالي مبني على العنف والظلم والفقر للأغلبية الساحقة من البشر.. إما هذا أو الاشتراكية – مجتمع واقتصاد يُداران ديموقراطياً بشكل جماعي بواسطة العمال, والذي لن تضحي فيه بأغلب الطاقات والموارد الإنسانية على مذبح السوق, ولكن يمكن تغيير مسارها لتوفير الأشياء التي نحتاجها من أجل حياة كريمة.
هوامش:
1- الفريكوربس Freikorps
هم ميليشيات مرتزقة مسلحة تكونت من الجنود القدامى بين الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي شكلت فيما بعد العمود الفقري للجيش النازي.
2- الجونياس Junius
هو اسم كان يستخدمه أحد الكتاب في مجموعة رسائل كان ينشرها في أحد صحف الدعاية تدعى Public Advetiser
في القرن الثامن عشر, وأعادت روزا لوكسمبورج استخدامه عنوانا لكتيبها.
#سيمون_أوللي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟