نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1101 - 2005 / 2 / 6 - 12:25
المحور:
حقوق الانسان
في أمة تصلب الأدباء ,وتغتال الفنانين والشعراء ,وتهجر العلماء,وتطارد وتسجن الشرفاء , وتطلق سراح المشعوذين والكهنة والحكواتية والزعبرجية والرواة وعازفي السيمفونيات والملحنين ومؤلفي الخزعبلات الخنفشاريين الكبار والطلقاء ورواة الأحاديث البلهاء, ليعيثوا فسادا بالأرض والعباد , وتبني الأسوار العاليات والجدران السميكات الشاهقات ,وتضع العصي في عجلات التطور والإنطلاق والإنعتاق ,وتغلق كل الممرات والأنفاق,وتسد الطرقات ,وتكثر فيها الحواجز والمخافر والدوريات والثكنات,وتكبل الناس بالقوانين الموروثة من أيام البيك والباشا والباب العالي والسراي,وتمنع التلاقي والأحاديث والحوار,وتحظر المنتديات والأعراس والتجمعات والأحزاب والنقابات,وتصادر الأفكار,وتقمع الأصوات, ويُزجر الوطنيون الأحرارويغيبون في الأقبية ولايسأل عنهم أحد ولا يهتدي لهم الذباب الأزرق والجان,ويُطبق فيها حظر التجول في الليل والنهار, ,ويُروج للشعوذة والدجل والنصب والكذب والأوهام وأساطير العفاريت والأبالسة والشياطين ,وتوضع العقول والأدمغة في الثلاجات والصويمعات ومتاحف الديناصورات, تصبح الأوطان سجون كبرى ومعتقلات,ونزلاؤها شعوب بأكملها صدر عليها حكم بالمؤبد والإعدام.
وبادئ ذي بدء, دعوني أروي لكم هذه الطرفة عن أحد السجناء الذي خاطب سجّانه بالقول,أنت الآن في السجن وتقضي كل وقتك فيه ,وحين تذهب للبيت يبقى تفكيرك محصور هنا ,وأحلامك التي تحلمها تدور كلها بالسجن,وحول الإحكام والإغلاق والحصار, وتقضي عمرك كله في السجن تراقب السجناء ولاتفكر إلا بهم وبخطرهم عليك في كل الأوقات,وهم همّك في الحل والترحال,وتعتقد أنهم سينقضون عليك في أي وقت من الأوقات,وتشاركهم نفس الحلقات.أما أنا برغم وجودي في السجن فإن أحلامي كلها تدور خارج السجن وأحلم بأنني أطير وأحلق في السماء وأشدو مع الطيور والعصافير والبلابل, وأغني للحرية والخلاص ,فمن برأيك هو السجين والمحكوم بالمؤبد؟
لقد أضحى الجميع في سجن كبير في هذه البلاد والأوطان التي استباحتها واجتاحتها بالجهل قبائل العربان, وجحافل الأميين الحمقى الجهلاء. وكيفما اتجهت,وأينما سكنت ,وأنى نزلت ,وحيثما حللت ,هناك زنزانة ,وقلعة,وحصن يحفل بالكثير من الرواد والنزلاء,وسور,وسجن ,وحبس ,ومنع ,وزجر ,وكبت,وممنوعات,ومحرمات,وأوامر ,ونواهي,وأحكام ,وتهديد ووعيد وسجانون وجلاوزة وطغاة. ولايحاول أحد الخروج والإنعتاق من سجنه والتحرر واللقاء بآخرين ,في سجون وقلاع وحصون ومعتقلات أخرى.والكل يكفر الكل ويخوّنه ويدعو له بالزوال والفناء.
ولن نتكلم هنا عن السجون العادية والتي جربها معظم أعضاء "منظمة فقراء بلا حدود"في السجون الكبيرة,وتحولوا منها ,غيلة وغدرا, بعد ذلك إلى منظمة سجناء بلا حدود في "انحراف ايديولوجي"خطير ,فمن المعيب,كما تعلمون, التنقل بين التيارات السياسية بشكل دائم ,وهذه السجون العادية معروفة للجميع وأشهر من نار على علم. ومن يظن أن لاحكمة في وجود هذه الأعداد الكبيرة من المحجوزين في تلك السجون فهو مخطئ وغير ملمّ بفلسفة الشموليات الحكيمة, لأن فيها حل للكثير من المشكلات, كتخفيف الزحام في الشوارع ,وترشيد استهلاك الكهرباء والماء,وحل أزمة السكن ,والبطالة,وجمع ,ولم شمل المشردين المتجولين والمتسكعين "الصيّع الضيّع"من الشوارع ,وتحديد النسل وحل مشكلة الإنفجار السكاني ,لأنه كما تعلمون في السجون لاتحدث "الإحتكاكات الساخنات", وإجبار الناس على التعارف والتجمع وعقد اللقاءات والندوات وتحت إشراف وإدارة السجانين مباشرة ,كون هذه الأمور من المحظورات الكبرى في الغيتوهات الشهيرات ,وتنسيب الناس بالقوة لمنظمات المجتمع المدني والتي تعتبر منظمة سجناء بلا حدو أحد أشهرها استعدادا للعولمة ومنظمة التجارة العالمية. فلم النق والثرثرة والكلام الفارغ والهذيان؟
لكنها السجون الأخرى الكبيرة والمفتوحة في الهواء الطلق وسأحاول رصد فئات كبرى منها.
هذه السجون لا تستثني حتى أصحاب الأبراج العاجية فهم سجناء خلف الأسوار ,والموانع ,والمرافقة والحراس,ولايتحركون إلا تحت حراسات مشددة ,مثلهم مثل بقية المحكومين بالإعدام,خوف التلاقي وجها لوجه مع الفقراء والمساكين البؤساء الذين وُلُووا عليهم في غفلة من الزمان وبعبقرية وجهنمية الفجار والإستراتيجيين في عواصم القرار.فلقد أضحى هؤلاء أيضا سجناء ومنزوين بعيدا ,لا تصل لهم الأخبار,ولايجتمعون بأحد من الصغار ,وهم في زنازين كبيرة تفصلهم عن الشعوب والرعايا الفقراء. وممنوع زياراتهم والإجتماع بهم والتحدث إليهم أو اللقاء بهم , وممنوعة عليهم الكتب ,والصحف والمجلات ,إلا ما شاء وقدر لهم كتبة التقارير ورؤساء فروع المخابرات, وهم دائما وحيدون,ولايعرفون الشوارع المقفرة الكئيبة,ولايسمح لهم بالتجول في مدن الصفيح الخرساء,و لايعرفون شيئا عن سهرات وأحاديث وهموم ومشاكل السبايا في رقع التصحر الجدباء , وغريبون عن بلادهم ,وسهولها وبواديها ,وجبالها ,وينامون ويصحون على نفس المواويل والأغنيات ,فلا تغركم الأبهات والفخامات والزركشات ويعيشون نفس الوساوس والكوابيس والمخاوف والأوهام .فالجميع في نفس الزنازين ونفس البؤس والشقاء طالما أن لاتلاقي ,ولا مصافحات,ولا عناقات أو أحاديث ود وسلامات.فالجميع بعيد عن الجميع ومنعزل ومتوار ومنزو وخائف من الجميع ويحصن نفسه ضد الآخرين ويعزز من اختبائه وانزوائه في السجن الكبير. فالكل في نفس السجن نزلاء ,ومحكومون بنفس الأحكام, ونفس القرار ويقضون نفس المحكومية جمعاء.
ولعل أكبر منظمة للسجناء بلا حدود,على هامش العولمة التي ننتظرها وسنواجهها بالمنظمات العصرية, هي تلك المنظمة التي تضم الملايين المحشورة في غيتوهات سوداء من الفكر الأسود الغيبي الذي حجب عنها النور والضياء,ولقد أمضى هؤلاء أكبر فترة حكم في تاريخ القانون والأحكام على الإطلاق ,إذ مايزالون في سجنهم العقلي والفكري منذ خمسة عشر قرنا, في زنازين جماعية لاتدخلها الشمس أو النور أو الضياء ولا تعرف رياح ونسمات الأفكار التي تهب كل يوم وظلوا رهائن سجون الغيب والظلام والميتافيزيقيا والأوهام,ولايمارسون أي نوع من الفسحة العقلية وشم الهواء.وماذا أيضا عن حبيسي الشعارات الراقصة المحلقة في الفضاء والدوائر المغلقة التي يدورون فيها بلا طائل أو جدوى,والمبادئ والأفكار والكلشيهات الجاهزة والجامدة البدائية التي ماتت واندثرت وأصبحت مع المومياءات؟
وحين سألت صديقي العازب الأبدي المضرب عن الزواج ,لماذا لا تتزوج وتشارك الجميع هذا السجن وذاك العناء؟أجاب كما تعلم ياأبو الشباب ,إن الذي يرتكب جريمة يحكم عليه بالسجن ,ويخرج بعد انقضاء الحكم ,وربما تأتيه أعذار مخففة ويخرج قبل الأوان ,أما المتزوجزن فهم محكومون بالمؤبد ولا يستطيعون الخروج من القفص إلا بالموت أو الطلاق ,وأحلاهما مر,فلم أزج نفسي في أتون هذا القتام؟ ومهما يكن من أمر فأنا مسجون في السجن الكبير ومع المعتقلين العتاة, فالأمر كما ترى سيان,فأسكتني وأفحمني هذا المتحدث الجهبذ الفهمان.
فأهلا بجميع الأعضاء في "منظمة سجناء بلا حدود" الكبرى في مضارب الجهل والقحط والخواء.ولن نسأل متى يطلق سراح الأوطان, ويفرج عن كل السجناء؟لأن الأحكام كلها عادلة وشاملة ومؤبدة والحمد والشكر لله ويحيا العدل..
إنها السجون الكبيرة.....فلاتحاولوا منها الفرار.
نضال نعيسةكاتب سوري مستقل
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟