كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1101 - 2005 / 2 / 6 - 12:52
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كانت انتخابات الثلاثين من كانون الثاني/يناير 2005 الانتقالية تجربة جديدة للمجتمع العراقي بكل طبقاته وفئاته الاجتماعية وبكل قومياته وأتباع أديانه ومذاهبه الدينية واتجاهاته الفكرية والسياسية. وهي كما يبدو ليست جديدة فحسب, بل وغنية أيضاًً, كما أنها بحاجة إلى التمعن بقراءة مختلف العوامل الداخلية والإقليمية والدولية التي لعبت دورهاً المباشر وغير المباشر في التأثير على مجرى الانتخابات ونتائجها الراهنة.
إن عملية تقييم وتقويم التجربة المنصرمة ليست غاية بحد ذاتها, بل يفترض أن تساعدنا في استخلاص الدروس الضرورية والتعامل مع الواقع القائم بصورة عقلانية بهدف التهيئة الجادة والمسؤولة للانتخابات القادمة. ولهذا الغرض أحاول المشاركة في تشخيص ما أراه مفيداً للفترة القادمة. يمكنني أن أؤكد بأن المشاركة الشعبية النسبية الجيدة في الانتخابات جسدت جرأة المجتمع العراقي على مجابهة الصعوبات وتحدي القوى التي لا تريد له الخير والتقدم. وهي ليست المرة الأولى التي يبرهن الشعب على جسارته في مواجهة الإرهاب الحكومي أو غير الحكومي على امتداد سنوات القرن العشرين. إلا أن الجرأة ليست هي المشكلة التي يعاني منها الشعب العراقي, بل تكمن في مواقع أخرى كانت وما تزال مسؤولية القوى الوطنية الديمقراطية العمل الجاد والدءوب والمتواضع من أجل وضع اليد عليها وتخليص الشعب العراقي منها.
لقد أكدت الانتخابات الانتقالية الأخيرة جملة من الحقائق المهمة التي يفترض أن لا نهرب منها وأن نضع الأصبع عليها لمعالجتها, ومنها:
1. لقد تمسكنا بصورة غير عقلانية وشكلية تماماً بموعد إجراء الانتخابات, إذ كان الأفضل أن تؤجل لمدة سنة كاملة على الأقل, وأن لا نقبل بفرض الموعد على الشعب العراقي, أياً كانت الجهة التي وقفت وراء فرضها ولأي سبب كان. إذ أن القوى السياسية الديمقراطية حشرت نفسها في زاوية لا مبرر لها, وأعني بها أن ترفض طلب تأجيل الانتخابات بسبب مطالبة قوى معينة بتأجيلها أو مقاطعتها, وتلك التي فرضت الموعد بحجة التخلص السريع من قوات الاحتلال, في حين كان التحضير لها فكرياً وسياسياً وأمنياً في صفوف المجتمع بعيداً عن الأجواء المناسبة نسبياً لإجراء الانتخابات.
2. كان نقد العديد من القوى الديمقراطية لسياسات قوات الاحتلال في العراق, ومنها السياسات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية ضعيف ومميع أحياناً, وكذا الموقف إزاء بعض القوى السياسية التي شاركت في الحكم في فترة المجلس الانتقالي أو في وزارة الدكتور أياد علاوي.
3. لقد أنكرنا حقيقة هيمنة الفكر الطائفي على المجتمع لا برغبة الجماهير الشعبية, بل بسبب الأدوار التي لعبتها الحكومات المركزية في العراق طيلة عشرات السنين عملياً, وخاصة النظم البعثية والقومية الدموية التي حكمت العراق منذ عام 1963 من جهة, وبسبب الأحزاب الإسلامية السياسية القائمة على أساس طائفي شيعي أو سني التي عبأت القوى مذهبياً لصالح مواقف طائفية إما بمقاطعة الانتخابات أو المشاركة فيها والتصويت لصالح الأحزاب الدينية القائمة على أساس مذهبي من جهة أخرى.
4. وإذ استطاعت القوى الإسلامية السياسية الشيعية أو السنية أن تلتقي على أسس معينة لتخوض العملية السياسية إما بالمقاطعة أو المشاركة, فقد عجزت القوى الديمقراطية اليسارية منها واللبرالية بمختلف اتجاهاتها التفصيلية على أن تشكل تحالفاً سياسياً لخوض المعركة الانتخابية, وبالتالي بعثرت قوتها الصوتية على عشرات الكتل الحزبية والجماعات غير الحكومية.
5. وإذ استطاعت القوى الديمقراطية الكردستانية توحيد جهودها في قائمة مشتركة تحقق لها وجوداً قوياً على الساحة السياسية الكردستانية, فإنها كانت جزءً من التبعثر الديمقراطي على مستوى الساحة العراقية.
6. تشكلت لدي قناعة أولية مفادها أن القوى الديمقراطية العراقية بكل أطيافها قد قدرت خطأ قدراتها الشعبية ونست أنها كانت بعيدة عن الساحة السياسية الفعلية في العراق في الوسط والجنوب لسنوات طويلة, وهي التي فسحت في المجال لقوى أخرى أن تلعب دورها في صفوف الجماهير والتي تجلت في عملية التصويت الأخيرة. إن واحداً من أخطر عوامل الفشل في كل المجالات هو التقدير الخاطئ للقوى الذاتية الذي يقود إلى الغرور والابتعاد عن التحالفات السياسية الضرورية حتى من خلال تقديم تنازلات ومساومات سياسية معينة لصالح مسألة أكثر أهمية لمستقبل العراق.
7. ولدي الإحساس الشديد بأن المشكلة الأزلية التي فعلت فعلها في سياسات ومواقف قوى اليسار الديمقراطي العراقي ما تزال قائمة برهنت عليها الأشهر المنصرمة من التحالفات السياسية مع القوى السياسية الأخرى أو التعاون مع قوات الاحتلال, إذ ضعف النقد, أو جرى التخلي عنه, ونشطت روح المساومة بحجة الواقعية والعقلانية, والتي لم تكن واقعية كما لم تكن عقلانية. وقراءة سريعة في صحافة الكثير من قوى اليسار سنجد ذلك واضحاً جداً, رغم التنبيهات التي أرسلت عبر المقالات أو الأحاديث الشفوية مع عناصر من مختلف قوى اليسار العراقي.
8. لدي الثقة الكاملة بأن الخطاب السياسي لأغلب القوى الديمقراطية العربية في العراق لم يكن خطاباً حديثاً وجديداً وبعيداً عن الجمود واللاعقلانية. ويكفي أن نقرأ صحف العديد من هذه القوى, وخاصة صحافة الحزب الشيوعي العراقي, سنجد هذه المشكلة. أملي أن يفهمني الشيوعيون جيداً فليس هدفي الإساءة لهم أو لغيرهم, بل ضمان أحداث هزة فعلية في الفكر والممارسة, والتي لم تحصل حتى الآن, رغم القول بحصولها. ومما زاد في الطين بلة هو الأداء غير الجيد وغير الفعال لحملة الانتخابات في الداخل.
9. لقد برهنت الحياة من جديد على أن الادعاء بحيادية المرجعية الدينية الشيعية غير صحيح وغير وارد أصلاً. فقد اتخذت موقفاً واضحاً إلى جانب الأحزاب السياسية الإسلامية ذات التوجه المذهبي الشيعي الواضح دون تردد, وهو مخالف لكل الأقوال السابقة, ولا تختلف في ذلك عن المرجعية الدينية لأتباع المذهب السني, وأقصد بذلك هيئة علماء المسلمين السنة الذين كانوا أكثر صراحة في إعلان موقفهم من الأحزاب السياسية الدينية, بغض النظر عن رفضنا للموقفين المبرقع والمكشوف. ً
في منتصف عام 2003 كتبت مقالتين نشرتا في الصحافة العراقية ومواقع على الإنترنيت حول أهمية وضرورة وحدة اليسار الديمقراطي العراقي من خلال التعاون أو التحالف أو أي صيغة أخرى وضرورة عقد ندوة موسعة للحوار وربما التوصل إلى اتفاق على أسس العمل المشترك وبرنامج مرحلي لها. ولم يكن في نيتي الإساءة لأي شخص أو حزب أو منظمة, بل كنت أرى الواقع العراقي بعينين مفتوحتين وذهن متفتح على مصراعيه للتعاون. وكان هدفي من وراء ذلك هو زيادة قدرة هذه القوى في التأثير الإيجابي على أحداث المجتمع ووضع البلاد على خط الدفاع عن الديمقراطية والأسس الرصينة لمجتمع مدني ديمقراطي فيدرالي. ولكن كيف كان موقف بعض القوى السياسية اليسارية الديمقراطية العراقية إزاء هذه المبادرة؟ توزع الموقف على اتجاهات أربعة, وهي:
1. قوى هاجمتني بقسوة شديدة وإساءة كبيرة ودافعت عن الفكر الذي تتبناه واعتبرت موقفي مناهضاً للحزب الشيوعي العراقي وأنه موقف انتهازي أسعى من خلاله إلى احتلال موقع في تنظيم جديد! وهو أمر غريب حقاً, إذ عجزت عن رؤية زهدي الكامل بأي مركز سياسي أو حكومي أو حزبي وفي أي حزب أو تجمع سياسي, رغم الدعوات التي وجهت لي من جهات وأحزاب ديمقراطية غير قليلة.
2. قوى اعتبرت مقترحاتي مستعجلة جداً وجاءت بوقت مبكر لا مبرر له وتريد تبويش الحزب الشيوعي العراقي! وهو أمر أكثر غرابة من الموقف الذي سبقه.
3. وقوى أخرى سكتت عن مقترحي وتركته يموت في مهده, وكان هذا هو موقف الحزب الشيوعي الرسمي تقريباً. وأسباب مثل هذا الموقف كثيرة لست بمعرض التطرق إليها.
4. وقوى اتصلت بي هاتفياً أو أرسلت رسائل الكترونية أبدت تعاطفها مع مقترحاتي, ولكنها لم تمارس الكتابة في هذا الصدد. والقوى الأخيرة كانت موزعة على شيوعيين وغير شيوعيين ويساريين من مختلف الاتجاهات.
كل هذه الاتجاهات لم تكن نافعة لأنها لم تمس موقفي الحقيقي وهدفي الأساسي, كما لم تفعل الشيء المطلوب لدفع العملية الديمقراطية بالاتجاه الصحيح ولم تساهم في تعبئة القوى الديمقراطية العراقية لمواجهة الواقع العراقي الذي أعقب سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري.
1. الدرس الأول الذي يفترض أن نتعلمه من هذه الجولة الانتخابية الانتقالية هو أن القوى الديمقراطية, يسارية كانت أم ليبرالية, عاجزة عن أن تلعب دورها الفعال والمؤثر في المجتمع العراقي ما لم تعمد إلى قراءة واقعية للواقع العراقي وتحديد المهمات الواقعية التي ترتبط بالمرحلة وليس المدى البعيد.
2. والدرس الثاني يشير إلى أهمية وضرورة أن نبتعد عن أي مبالغة بقدراتنا الذاتية, أي أن نمتلك التواضع في تحديد مواقعنا وإمكانياتنا لكي نعمل من أجل تطويرها وتحسين مستواها ومكانتها في المجتمع وتأثيرها في الأحداث وفي التنوير الفكري والسياسي.
3. والدرس الثالث يؤكد أن كل مجموعة ديمقراطية, يسارية كانت أم ليبرالية, ستبقى ضعيفة, ولكنها ستكون قوية وقادرة على المساهمة الفعلية في الأحداث عندما تتعاون في ما بينها وتستند إلى برنامج مشترك للمرحلة الراهنة وليس لعشرين أو ثلاثين سنة قادمة. إن تعاونها, عربية كانت أم كردية أم من بقية القوميات, سيلعب دوره في إيجاد وزن حقيقي لها في المجتمع الذي يفترض أن نعرفه جيداً ونعرف عيوبه ومشكلاته وسبل التعامل الواعي معها.
4. والدرس الرابع الذي لا بد من إدراك مضمونه ودوره يتلخص في أن الشعب العراقي, شئنا ذلك أم أبينا, يحتاج إلى فترة زمنية غير قصيرة لفهم العملية الديمقراطية والتعامل الواعي مع مضامين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية. ينبغي أن لا نخدع الشعب بالقول بأنه يفهم الديمقراطية والحرية, وبالتالي نتجاوز العملية الضرورية, عملية التنوير الفكري والديني والسياسي في العراق. إن هذه المبادئ ليست صبغة يمكن أن ننتهي بها بسرعة, بل هي عملية طويلة, معقدة وصعبة وذات أبعاد مختلفة. والانتخابات الأخيرة أشارت, إن كنا نريد أن نتعلم منها, إلى مواطن الضعف والخلل الكبيرين في المجتمع العراقي.
5. والدرس الخامس الذي لا بد من فهم أبعاده يتلخص في حقيقة أن المرأة ساهمت بنسبة عالية في الانتخابات وهو أمر ليس مفرح فحسب, بل ومهم جداً, ولكن علينا أن ندرك أيضاً بأن مساهمتها هذه لا تعبر عن حريتها ووعيها, بل بتأثير مباشر من المرجعية الدينية التي اعتبرت المشاركة في الانتخابات واجب ديني وأكثر من يلتزم بالواجبات الدينية من هذا النوع في العراق هن النساء. وبالتالي فالعمل في صفوف النسوة لتحريرهن من هذا التأثير مهم جداً وعلينا أن نعيه تماماً ونوجه له اهتماماً أساسياً حقاً.
6. والدرس السادس الذي أرى أهمية التذكير به يتلخص في أن حركة الشعب الكردي والحركة الديمقراطية الكردستانية كانت خلال عقود عديدة قد ربطت أهدافها القوى بالأهداف الوطنية للشعب العراقي, وأعني بذلك الربط السليم والعملي بين أهداف الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية من جهة, وبين حق الشعب الكردي في تقرير مصير بنفسه والحكم الذاتي أو الفيدرالية فيما بعد. وعلينا اليوم أن ندرك أيضاً بأن تحالف القوى الديمقراطية الكردية مع القوى الديمقراطية على صعيد عموم العراق مهم جداً لهذا اليوم وللانتخابات القادمة وللمستقبل. وعلينا أن نبدي اهتماماً أكبر بهذا التحالف الإستراتيجي بين الحركة الديمقراطية الكردية والحركة الديمقراطية العربية في العراق.
7. وعلينا أن ننتبه, شئنا ذلك أم أبينا, بأن الأحزاب السياسية الإسلامية, مهما تحدثت عن الاعتدال والديمقراطية, فإنها ستبقى ملتزمة بأسس يمكن أن تقود إلى صراعات فكرية وسياسية مضرة. وعندما تشعر باختلال التوازن لصالحها سنرى تغييراً في اتجاهها الفكري والسياسي والعملي. وهذا لا يمس موضوع الديمقراطية فحسب, بل وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره والفيدرالية ودور المرأة في المجتمع ومساواتها بالرجل ...الخ.
أملي أن لا تجد القوى الديمقراطية العراقية, في ما أطرحه اليوم من استنتاجات, بأنها مستعجلة, وبالتالي تفوت الفرصة على نفسها في أن تلعب دوراً معقولاً ومناسباً في الحياة السياسية العراقية وفي الأحداث الجارية في العراق والمنطقة.
برلين في 5/2/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟