أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال غبريال - مستنقع الكذب وضبابه















المزيد.....

مستنقع الكذب وضبابه


كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي

(Kamal Ghobrial)


الحوار المتمدن-العدد: 1101 - 2005 / 2 / 6 - 12:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تلح علي تلك الصورة كلما تأملت الخطاب السائد، بتلك المساحة المتفردة بالغياب الحضاري، فيما بين الخليج الثائر والمحيط الهادر، سواء كان ذلك تلبية لعبد الناصر أو صدام أو الزرقاوي أو أسامة بن لادن، أو حتى بشار بن الأسد، أطال الله عمره، وعمر ذريته من بعده!!
صورة مستنقع لا يدرك النظر مداه من سائل تكثف من بخار الكذب الذي أنتجناه وننتجه عبر أجيالنا المتوالية، فأغرق مدننا وقرانا، وغمر أجسادنا إلى ما فوق الرقاب، أما رؤوسنا فيلفها ضباب من بخار الكذب الذي لم يتكثف بعد، ترى عيوننا من خلاله، وتسمع الآذان موجات الفحيح المحمولة على ذراته، تلون كل الأشياء، بل تشكل كل المعالم، لتصنع لها في رؤوسنا صورة خاصة تتفق ومواصفات سائل الكذب اللزج، مفارقة تماماً للحقائق الموضوعية على أرض الواقع، على الأقل بالنسبة للمراقب خارج مستنقعنا الخالد المقدس.
في البداية فقط يدرك المروج لخطاب الكذب حقيقة ما يفعل، ويكون عندها مدفوعاً إما بكسب مادي أو معنوي يأتيه، أو بخدمة عقيدة أيديولوجية علمانية أو مقدسة، يرى أنه بخطابه يدلل على صحتها العملية على أرض الواقع، ولا يرى في فعله جرماً في حق ذاته وحق الآخرين، مادام متأكداً من صحة منطلقاته ومقولاته الأيديولوجية الأساسية، ولسان حاله يقول: الكذب لإثبات حقيقة صحيحة مباح ولا تثريب عليه!!
لكن بعد تكرار الأكاذيب واحتلالها لكل مساحة الخطاب، يصدقها منتجها، ووفق آلية نفسية وعقلية إنسانية معروفة، يتناسى تماماً منشأها الكذوب، ويعتبرها من الحقائق والمسلمات، أما مستهلك تلك الأكاذيب، خاصة في غياب ملكة النقد في العقل الشرقي، واستسهال تلقي الأفكار والمقولات سابقة التجهيز دون نقد أو مراجعة، فإن هذا المستهلك يأكل ويشرب ويستنشق الكذب في يسر واطمئنان.
أما العجب أو الغيظ الذي قد ينتابك إذا ما وجدتهم على صفحات الجرائد، وشاشات القنوات التليفزيونية، يصفون أحداثاً لا وجود لها، ويسهبون في الشرح والتحليل لأوهامهم غير المنطقية أو المبررة، ربما حدة هذا الغيظ ستتضاءل، وقد تتلاشى، إذا ما تذكرت أن الإنسان لا يتلامس مع حقائق الواقع تلامساً مباشراً، لكي يراها على حقيقتها المجردة، لكنه يراها عبر وسيط من أفكاره المسبقة، وكأنه يرتدي نظارة تلون بل تشكل المرئيات، وفق لون عدساتها وشكلها.
يجدر بنا أيضاً أن نضم إلى آلية المعرفة الكذوب هذه، آلية أخرى هي الانتقائية الذاتية، فنحن في رصدنا للواقع لا نرصده كاملاً بكل تفاصيله، ومراعين لأحجامها النسبية الواقعية، بما لا يخل بدقة الصورة الكاملة كماً وكيفاً، فهذا عسير وربما مستحيل، ومن هنا أيضاً يكتسب تنوع وجهات النظر مشروعيته المنطقية، فمن الصعب تحلي وجهة نظر معينة بصفة الحقيقة الكاملة الشاملة، من حيث الحصر والتناسب الواقعي بين مختلف مكونات الصورة المعطاة، فالعامل الذاتي الذي يرجع لمراقب الأحداث يكون له هنا التأثير الحاسم، فأنت تنجذب إلى ما يشد اهتمامك، من بين كثرة الحقائق المطروحة للملاحظة، وحين تنتقي جزءاً معيناً، أو أجزاء متنقاة تعسفياً من هنا وهناك، لا تبقيها بحجمها الطبيعي كجزء من صورة لم تكتمل بعد، وإنما تقوم بعملية تكبير لأجزائك لتحتل كل مساحة صورة كاملة، فقد تذهب مثلاً إلى فرنسا، لتعود تحدثهم عن الملاهي والمراقص، ليقرروا أن فرنسا مكان للخلاعة واللهو، وقد تعود لتحدثهم عن متحف اللوفر، أو جامعة السوربون، أو مصانع بيجو ورينو، ويتخيل مستمعوك في كل حالة أنهم قد حصلوا على صورة حقيقية لفرنسا، والحقيقة أن جميع هذه الصور كاذبة لكن ليس تماماً، وهي كذلك صادقة ولكن ليس تماماً، ومن الواضح أن دقة الصورة تتزايد كلما اعتمدت على أكبر عدد نسبي من أجزاء الواقع، وبما يتيح التمثيل الأقرب للحقيقة كماً وكيفاً.
فحين تصور أمريكا كقوة شريرة لأنها تدك الفلوجة بالقنابل والصواريخ، فأنت لم تذكر حقيقة زائفة بنسبة مائة في المائة، رغم أن النتيجة التي خلصت إليها باطل لا يأتيه الحق، فلغرض في نفسك أخذت جزءاً من الحقيقة وهو ضرب الفلوجة، وتجاهلت الأيادي البيضاء لأمريكا على باقي أنحاء العراق، بل والعالم أجمع، مليارات الدولارات مساعدات للكثير من الدول، ومساعدة الدول النامية على التقدم والنمو كاليابان ودول جنوب شرق آسيا، ناهيك عن مساعدة أوروبا الغربية بعد الحرب الثانية عبر مشروع مارشال، وإسهاماتها في تقدم جميع نواحي العلوم . . . . إلخ.
وفي ذات مثال الفلوجة، إذا اجتزأت من الواقع مشهد القنابل وهي تتساقط على المدينة، وتجاهلت ما عدا ذلك من أحداث، فسوف تقول الصورة التي ترسمها – وهو الأسلوب الذي تتبعه قناة الجزيرة في تغطيتها المزورة للأحداث – أن أمريكا تهدم المدينة على رأس سكانها من الرجال والنساء والأطفال، لكنك إذا أخذت إلى جانب مشهدك المفضل، مشهد نقل القوات الأمريكية عائلات الفلوجة إلى أماكن آمنة ورعايتهم، ونداءاتها للإرهابيين بتسليم أنفسهم حقناً للدماء، قبل توجيه نيرانها بدقة جراحية إلى معاقل تحصن الإرهابيين فقط، وتحاشي ماخلا ذلك بقدر الإمكان، ثم أضفت إلى ذلك مشاهد الإرهابيين وهم يستغلون العائلات العراقية كدروع بشرية، كذا وهم يستغلون بيوت الله والمستشفيات كحصون ينطلقون منها لممارسة إرهابهم، إذا أضفت المزيد والمزيد من عناصر الواقع إلى صورتك المتخيلة لما يحدث، سوف تكون عندها قد ابتعدت شيئاً فشيئاً عن التصوير المؤسس على ذاتيتك الخبيثة أو اللاعقلانية، نحو تكوين صورة أكثر دقة وموضوعية للأحداث، حتى لو استحال نظرياً الوصول إلى تصور كامل الدقة والموضوعية.
وإذا اجتزأت فعاليات الطائرات الأمريكية فوق أفغانستان والعراق، ستكون صورة تتحدث عن محاربة أمريكا للمسلمين وإبادتهم، لكنك إذا كلفت خاطرك وأضفت مشاهد ضرب الصرب دفاعاً عن البوسنة والهرسك، ودفاعها عن الكويت ودول الخليج، في مواجهة الإجرام الصدامي، ووقوف أمريكا لروسيا بالمرصاد في تعاملها مع المتمردين الشيشان، ثم تصديها للإبادة الجماعية التي تتهم حكومة السودان بممارستها في دارفور، لكونت صورة أخرى تقول أن الأمر ليس أمر عداء للمسلمين – حتى وإن تصادف محاربتها لبعض من يدعون الإسلام – وإنما هو محاربة الإرهاب دفاعاً عن الإنسانية والسلام في كل بقاع الأرض!!
من تقنيات الكذب أيضاً، إعطاء أحجام نسبية غير حقيقية لمختلف مكونات الصورة العامة، فتصغر من حجم حدث ذي وزن كبير، أو العكس، بما يخل بمصداقية الصورة الشاملة، ويحدث هذا قصدياً بواسطة وسائل الإعلام الموجهة سياسياً أو أيديولوجية، وهو ما ينطبق على جميع وسائل الإعلام العربية، مقروءة ومسموعة ومرئية، أو يحدث ذاتياً في عقل ووجدان الفرد الذي تتحكم فيه عواطفه أو قناعاته العقائدية، وتحاصره فينزع إلى تحجيم إن لم يكن استبعاد ما يتلقاه من حقائق، إذا لم تتسق مع دائرة الأفكار والمقولات المحاصر داخلها.
فمثلاً مسألة التجاوزات التي ارتكبها بعض الجنود الأمريكيين في حق سجناء عراقيين، تم تضخيمها، لتأخذ وزناً أكبر من حجمها الحقيقي، الذي تحدده الفعاليات الأخرى للجيش الأمريكي، سواء الخيرة أو الشريرة، والتي يمكن تقديرها حسابياً بعدد الفاعلين أو المفعول بهم، فيمكن أن نقارن عدد الجنود الذين ارتكبوا هذه التجاوزات الحقيرة بكل المقاييس، بالعدد الكلي للجنود الذين شاركوا في هذه الحرب، سواء في أعمال محاربة الإرهاب أو إسقاط نظام الطاغية، أو في مد يد العون للشعب العراقي، أو بحساب عدد المفعول بهم، بإجمالي عدد العراقيين الذين وجهت ضدهم أعمال عنف بطريقة الحروب المشروعة وفق الاتفاقيات الدولية، مضافاً إليهم عدد العراقيين الذين امتدت أيادي العون الأمريكية لهم، مع الاعتراف طبعاً أن بعض الأحداث يكون تأثيرها المعنوي أكبر كثيراً من حجمها المادي، لكن حتى هذا التضعيف ينبغي أن يكون بمقدار محدد يتناسب مع حجم الحدث، وإلا وقعنا في شرك التهويل وفقدان المصداقية.

ومن أخطر توظيفات الكذب، استخدامه كآلية نفسية مضادة، للشعور بعار الفشل على أرض الواقع، فيتم استخدام الكذب لخلق واقع بديل متوهم، يهرب فيه الإنسان، أو الشعوب من واقعهم المتردي، ويستعذبون العيش في ظلاله، جبناً من مواجهة الواقع، أو تقاعساً عن المحاولة الجادة لتغييره، فنسمع مثلاً عن الفلوجة التي صارت مقبرة للجيش الأمريكي، والتي مرغت كرامته في التراب وجللته بالعار، وقريب منا بيانات بطلنا محمد سعيد الصحاف، وهو يبشرنا بأن الجنود الأمريكيين ينتحرون على أسوار بغداد، وإذا كان الكذب بدون أرجل كما تقول أمثالنا، إلا أنه من الرائع أن نحيا في عالم الأكاذيب الجميلة، ولو لبضع ساعات أو دقائق!!
اقتصرت أمثلتنا عما يدور حول مدينة الفلوجة العراقية البائسة، لكن من يتلفت يميناً ويساراً سيكتشف بسهولة أننا نعيش في مستنقع لا يدرك المدى منتهاه، من الكذب الصراح والضمني.



#كمال_غبريال (هاشتاغ)       Kamal_Ghobrial#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيصل القاسم يسفر عن وجهه الليبرالي
- الاتجاه المعاكس- والإجهاز على المشكاة
- فيصل القاسم . . من وإلى أين؟
- مشهدان من مسرحية عروبية ساقطة
- أمريكا أمريكا . . تلك الأرض المقدسة
- البعض يريد كليباً حياً
- إبراهيم نافع والفاشيون العرب
- حوار مع صديقي الملحد -2
- الليبراليون الجدد يوقدون الشموع
- المسألة القبطية ومنهج الرقعة الجديدة على ثوب عتيق
- حوار مع صديقي الملحد
- غلب حماري
- خواطر من عرس ابنتي
- ليس رداً على صنديد العروبة عبد الباري عطوان- العراق وفلسطين ...
- هموم مشرقية 2 - تقييم الذات بين الحقيقة والادعاء
- الفتاوي القرضاوية ومصير العقارب
- !شيراك يا سادة يغوص في الوحل، فهل من مغيث؟
- القتل أقصر طريق إلى الجنة
- هموم مشرقية 1- البعد الزمني والقيمة المهدرة
- إلى حضن العروبة يا عربنان - طقطوقة


المزيد.....




- أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل ...
- في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري ...
- ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
- كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو ...
- هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
- خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته ...
- عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي ...
- الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
- حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن ...
- أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال غبريال - مستنقع الكذب وضبابه