|
من بعيد : نور من عصر التنوير المصرى
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3757 - 2012 / 6 / 13 - 08:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كتاب ( من بعيد ) تأليف عميد الثقافة المصرية ( طه حسين ) أحد كتبه المهمة ، فى مجال الدفاع عن المفهوم العلمى لمعنى الدولة فى العصر الحديث . والبــُعد الغائب فى الثقافة السائدة فى مصر ( حتى الآن ) أنّ طه حسين رغم الجراح التى أصابته من الأصوليين الإسلاميين بعد معركة كتابه ( فى الشعر الجاهلى ) امتلك جرأة نقد اللجنة التى وضعتْ دستور سنة 1923 بسبب المادة رقم ( 149 ) التى نصّتْ على جملة من ثلاث كلمات (( الإسلام دين الدولة )) فكتب دراسة ضمّنها أحد فصول الكتاب الذى بين يدىْ القارىء ، وهذه الدراسة سبق له أنّ نشرها فى مجلة الحديث عدد أمشير / فبراير 1927 . وتعود أهمية هذه الدراسة إلى أنّ دستور سنة 1923 تضمن العديد من المواد التى تــُدعّم قواعد الدولة الحديثة ، مثل المادة رقم (1) التى نصّتْ على أنّ (( مصر دولة ذات سيادة وهى حرة مستقلة )) والمادة رقم (3) التى نصّتْ على ((المصريون لدى القانون سواء . وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية. وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة. لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين )) والمادة رقم (4) التى نصّتْ على الحرية الشخصية مكفولة )) والمادة رقم (12) ونصّتْ على (( حرية الاعتقاد مطلقة )) والمادة رقم (15) ونصّتْ على (( الصحافة حرة فى حدود القانون . والرقابة على الصحف محظورة . وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور )) والمادة رقم (20) ونصّتْ على (( للمصريين حق الاجتماع فى هدوء وسكينة غير حاملين سلاحًا. وليس لأحد من رجال البوليس أنْ يحضر اجتماعهم ولا حاجة بهم إلى إشعاره )) والمادة رقم (23) ونصّتْ على أنّ (( جميع السلطات مصدرها الأمة )) أما المادة رقم (124) فهى مادة مـُذهلة وغاية فى الأهمية إذْ جاءتْ لتــُرسّخ مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) فنصّتْ على (( القضاة مُستقلون لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون. وليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا )) ( أنظر : عبد الرحمن الرافعى فى كتابه (فى أعقاب الثورة المصرية) (مكتبة النهضة المصرية- عام 1947- من ص 310- 327) رغم هذه المواد الصريحة التى تسعى لترسيخ دعائم دولة عصرية ، وتــُواكب التطور الدستورى والسياسى فى الأنظمة الليبرالية ، فإنّ الليبراليين المصريين انتقدوا الدستور، لما فيه من نقص وعيوب وتناقض ، وكان من بين هؤلاء الليبراليين طه حسين الذى كتب (( لستُ أرضى عن هذا الدستور الرضا كله . ففيه نقص وفيه تشويه وفيه نصوص لابد من تغييرها . ثم هاجم الذين صاغوا مواد الدستور هجومًا عنيفــًا بسبب المادة رقم (149) التى نصّت على أنّ ((الإسلام دين الدولة)) ( ومع مراعاة أنها جاءتْ على استحياء فى ذيل مواد الدستور ) وببصيرته الرحبة انتقد هذا النص . ومن يقرأ ماكتبه طه حسين عام 1927 (ثم أعاد نشره فى كتابه " من بعيد " ) يُدرك أنه كان يستشرف المستقبل المُتردى الذى نعيشه الآن ، حيث ذهب إلى أنّ النص فى الدستور على أنّ الإسلام دين الدولة : (( مصدر فرقة. لا نقول بين المسلمين وغير المسلمين ( فقط ) وإنما نقول إنه مصدر فرقة بين المسلمين أنفسهم ، فهم لم يفهموه على وجه واحد . وأنّ النص على دين للدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد ، لأنّ معنى ذلك أنّ الدولة مُكلفة أنْ تمحو حرية الرأى محوًا فى كل ما من شأنه أنْ يمس الإسلام من قريب أو من بعيد ، سواء أصدر ذلك عن مسلم أو عن عن غير مسلم . ومعنى ذلك أنّ الدولة مُكلفة بحكم الدستور أنْ تسمع ما يقوله الشيوخ فى هذا الباب . فإذا أعلن أحد رأيًا أو ألف كتابًا أو نشر فصلا أو اتخذ زيًا ، ورأى الشيوخ فى هذا مخالفة للدين ونبّهوا الحكومة إلى ذلك ، فعلى الحكومة بحكم الدستور أنْ تسمع لهم وتــُعاقب من يُخالف الدين أو يمسه )) وفى هجومه على الأصوليين ذكر أنهم (( كتبوا يطلبون ألاّ يصدر الدستور ، لأنّ المسلمين ليسوا فى حاجة إلى دستور وضعى ومعهم كتاب الله وسنة رسوله. وذهب بعضهم إلى أنْ طلب من لجنة الدستور أنْ تنص على أنّ المسلم لا يُكلف بالقيام بالواجبات الوطنية ، إذا كانت هذه الواجبات مُعارضة للإسلام ، وفسّروا ذلك بأنّ المسلم يجب أنْ يكون فى حلٍ من رفض الخدمة العسكرية ، حين يُكلف بالوقوف فى وجه أمة مسلمة ، كالأمة التركية مثلا )) إنّ النقد الذى وجّهه طه حسين لدستور سنة 23 (خاصة بسبب المادة 149) هو جزء من المشروع الثقافى لتيار الليبرالية المصرية قبل يوليو 1952 ، إذْ أنهم امتلكوا شجاعة الإعلان عن آرائهم بوضوح ، تلك الآراء التى يمكن تلخيصها فى جملة واحدة : أنه لا يمكن خروج مصر من ثقافة ومن آليات العصور الوسطى ، إلاّ بعد تأسيس دعائم الدولة العصرية. وأول هذه الدعائم ضرورة فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية (وليس فصل الدين عن المجتمع كما يُروّج دعاة الدولة الدينية ) وأنّ المحك الطبيعى والمدخل الحقيقى لهذا الفصل هو إعداد دستور (علمانى) يخلو من النص على دين مُعيّن للدولة ، كما هو الوضع فى الأنظمة الليبرالية ، التى تــُكرّس دساتيرها وقوانينها لترسيخ حق المواطنة ، وتـُعلى من هذا الحق ، الذى يتجسّد فى منظومة أنّ : الولاء للوطن سابق على أى ولاء ( عقيدى أو مذهبى أو فلسفى ) وتتأسس فلسفة هذه الدساتير على أنّ الدولة State وفق التعريف القانونى ، شخصية اعتبارية ، مثلها مثل المؤسسات والهيئات إلخ والمؤسسات والهيئات ليس لها دين ولا تتعامل بالدين . وفى ضوء ذلك التعريف القانونى ، فإنّ الدولة يجب أنْ تكون مُحايدة تجاه مواطنيها . وأنّ هذا الحياد هو الضمانة الحقيقية لتطبيق قواعد العدالة على جميع أبناء الوطن ، بغض النظر عن ولاءاتهم الدينية. وفى ضوء هذا الفهم الوطنى / العلمى لمعنى الدساتير (العلمانية) كان طه حسين ومعه التيار الليبرالى ، يدقون أجراس الخطر من خطورة النص فى الدستور على دين مُعين للدولة. وفى القسم الرابع من كتاب ( من بعيد ) المُعنون ( بين العلم والدين ) ناقش طه حسين العلاقة بين العلم والدين ، وهل هناك خصومة بينهما أم لا ؟ فكتب (( الحق أنّ هذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قوية مُتصلة ، ما قام العلم وما قام الدين . لأنّ الخلاف بينهما جوهرى لا سبيل إلى إزالته ولا إلى تخفيفه إلاّ إذا استطاع كل واحد منهما أنْ ينسى صاحبه نسيانًا تامًا ، ويعرض عنه إعراضًا مطلقــًا )) وفى باقى فصول هذا القسم شرح أسباب الخصومة بين العلم والدين ، فكتب ((والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية ، لأنّ الدين يرى لنفسه الثبات والاستقرار، ولأنّ العلم يرى لنفسه التغير والتجدد ، فلا يمكن أنْ يتفقا ، إلاّ أنْ ينزل أحدهما عن شخصيته . والخصومة بين العلم والدين أساسية جوهرية ، لأنّ أحدهما ( أى الدين ) عظيم جليل واسع المدى بعيد الأمد ، لا حدّ له ولا انتهاء لموضوعه . ولأنّ الآخر ( أى العلم ) متواضع ضئيل محدود المطامع بطيىء الخطى . يقدم ثم لا يكره أنْ يحجم . ويمضى ثم لا يكره أنْ يرتد . ويبنى ثم لا يتحرّج من الهدم . فلا يمكن أنْ يتفقا ، فالخصومة بينهما أمر لابد منه. ولكن المسألة فى حقيقة الأمر ، ليست فى أنّ الخصومة واقعة أو غير واقعة ، وإنما هى فى أنّ الخصومة ضارة أو نافعة. أو بعبارة أدق : المسألة هى أنْ نعرف هل كـُتب على الإنسانية أنْ تشقى بالعلم والدين ؟ أم كـُتب على الإنسانية أنْ تسعد بالعلم والدين ؟ أما نحن فنعتقد أنّ الإنسانية تستطيع أنْ تسعد بالعلم والدين معًا . وأنها مُلزمة إذا لم تستطع أنْ تسعد بهما أنْ تجتهد فى ألا تشقى بهما . وسبيل ذلك عندنا واضحة ، وهى أنْ يُنزع السلاح كما يقولون من يد العلم والدين . أو قل سبيل ذلك أنْ تــُرغم السياسة على أنْ تقف موقف الحيدة بين هذيْن الخصميْن . فالعلم فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى . والدين فى نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى . ولكن السياسة تريد وتستطيع الأذى غالبًا . وهى كما قلتُ تتخذ العلم حينـًا وسيلة هذا الأذى . وتتخذ الدين حينـًا وسيلة إليه ( من ص 227- 229) ثم شرح كيف أنّ السياسيين يستغلون رجال الدين ورجال العلم ويشترون ضمائرهــم . واختتم طه حسين هذا القسم قائلا ((نحن مُتصلون – رضينا أم أبينا – بأمم الغرب المُتحضرة . ونحن حريصون على أنْ نظفر، لا أقول بعطف هذه الأمم ، بل أقول بإكبارها لنا واحترامها لمنزلتنا السياسية والاجتماعية. وإذن فنحن مضطرون أنْ نـُساير هذه الأمم ونعيش كما تعيش . ونحن لا نستطيع أنْ نعيش فى القرن العشرين كما كانت تعيش فرنسا فى القرن الرابع أو الخامس عشر، بحجة أننا حديثو عهد بهذه النظم الحديثة. نحن نريد أنْ نظفر من الاستقلال بما يقفنا من إنجلترا وفرنسا موقف الند من الند . ونحن مضطرون إلى أنْ نحاول التخلص من الامتيازات الأجنبية. ولن نستطيع أنْ نعيش إلاّ إذا اتخذنا أسباب الحياة الحديثة . فنحن محتاجون أنْ ننتفع بالبخار والكهرباء . ونستغل الطبيعة كلها لحياتنا ومنافعنا . والعلم وحده سبيلنا إلى ذلك ، على أنْ ندرسه كما يدرسه الأوروبيون . لا كما يدرسه آباؤنا منذ قرون . وويلٌ لنا يوم أنْ نعدل عن طب باستور وكلود برنار إلى طب ابن سينا وداود الأنطاكى . وهذا العلم الحديث الذى لا نستطيع أنْ نستغنى عنه ، لا يمكنه أنْ يعيش ولا أنْ يُثمر إلاّ فى جو كله حرية وتسامح . فنحن بين اثنين : إما أنْ نؤثر الحياة ، وإذن فلا مندوحة عن الحرية. وإما أنْ نؤثر الموت ، وإذن فلنا أنْ نختار الجــمود )) ( ص 245، 246) هذا هو طه حسين فى واحد من كتبه المهمة. ورغم ذلك لا يزال كثيرون يُهاجمونه بأسلوب إنشائى أيديولوجى ، بعيد تمامًا عن لغة العلم . طه حسين هو نور من عصر التنوير، هو الأعمى الذى أنار طريق المُبصرين . وإذا كان طه حسين سيظل دومًا رهن الاستدعاء والهجوم عليه ((حيًا وميتــًا)) على حد قول د. على شلش ، فإنّ الليبراليين المُدافعين عن الدولة العصرية ، الرافضين العودة إلى عصر الكهوف ، سوف يُردّدون صياغة الشاعر نزار القبانى وهو يُخاطب عميد الثقافة المصرية ، خاصة وقد صدق الشاعر فى قوله الحكيم (( إرم نظارتيك .. ما أنتَ بأعمى .. إنما نحن جوقة العميان )) ***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشعر عندما يكون مصرى اللغة والوجدان
-
الغزو العربى وكيف تعامل معه المؤرخون
-
الشخصية المصرية ونتيجة الانتخابات
-
الجذورالتاريخية للشريعة الإسلامية
-
قراءة فى دساتير بعض الدول
-
الغزوالعصرى لأسلمة شعوب العالم
-
الإبداع المصرى فى مجموعة (عيب إحنا فى كنيسة)
-
الحب والتعددية فى مواجهة الكره والأحادية
-
مِن القومية الإسلامية إلى القومية المصرية : لماذا ؟
-
ثورة يناير والإبداع الروائى
-
الأعياد المصرية : الماضى وآفاق المستقبل
-
الطبقة العاملة واليسار المصرى
-
مجابهة الأصولية الإسلامية
-
التقويم المصرى
-
الحضارة المصرية : صراع الأسطورة والتاريخ
-
السوداء والمشمية - قصة للأطفال
-
الشخصية اليهودية والروح العدوانية
-
ثروت عكاشة : دراما العلاقة بين الثقافة والسياسة
-
الجذور التاريخية لمأساة الشعب الفلسطينى
-
درس من خبرة الحركة الوطنية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|