|
دِرَاسَةُ فِي مَفْهُومٌ الإِستِبدِادْ السِيَاسِى
ياسمين كامل منصور
الحوار المتمدن-العدد: 3754 - 2012 / 6 / 10 - 03:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعد مفهوم الاستبداد السياسي من اهم المفاهيم والافكار الهامة داخل المنظومة والتي لم تنل حقها من الدراسة والبحث ويرجع ثقل مفهوم الاستبداد الى علاقته المباشرة مع الدولة فالدولة اما ان تكون عادلة او ظالمة فان كانت ظالمة فهي دولة مستبدة وشمولية وديكتاتورية يسيطر عليها الفرد او عائلة او جماعة سياسية او طبقة اجتماعية ويستخدمون ادوات العنف للسيطرة على المجتمع . وعند الحديث عن الاستبداد او الطغيان السياسي نجد انفسنا امام عدة تساؤلات منها كيف يظهر الطاغية ؟ وما مبررات وجوده ؟ وما الدعائم التي يستند اليها في حكمه ؟ والحق ان هناك عوامل كثيرة لظهور الاستبداد عوامل تاريخية وجغرافية واجتماعية واقتصادية … وغيرهم . كما ان المبررات عديدة منها انقاذ الشعب او اصلاح ما افسدته الحكومات السابقة بل قد يدعي انه " مبعوث العناية الالهية " وانه اعلم من الناس بما يصلح لهم … ولكن اذا اردنا ان نرتد الى الجذور كان علينا ان نسأل : من اين تأتي السلطة التي يسئ الطاغية استخدامها ؟ وهذا السؤال ينظوي في جوهره الحديث عن السلطة واهميتها وعن التنظيم السياسي ونشأته وعن مدى اقترانه بوجود السلطة السياسية ؟ وعند الاشارة الى ضرورة وجود السلطة من اجل تحقيق امن الجماعة الداخلي والخارجي معا فانه ينبغي لها ان تحافظ على حريات الافراد الذين جاءت لحمايتهم وبالتالي هذا يسوقنا للحديث عن الحدود التي يجب ان تقف عندها السلطة فلا تتجاوزها حتى لا تنقلب الى نوع من الطغيان ؟ ونحاول من خلال دراسة هذا المفهوم ان نوضح حركته وتطوره و المساحات الدلالية التي يتحرك فيها و سوف نقوم بدراسة هذا الموضوع في تناول عدة محاور رئيسية كالاتي : اولاً : مفهوم الاستبداد السياسي ثانياً : فلسفة السلطة السياسية ثالثاً : نشأة مفهوم الاستبداد وتطوره رابعاً: التأصيل المفاهيمي للاستبداد وعناصر التلبيس خامساًً: الاستبداد : الطاعة – القوة – السلطة سادساً: الاستبداد في الفكر الاسلامي
بحيث اننا نستطيع في النهاية التعرف على نشأة المفهوم وتتبع مساره وتطره في الفكر الغربي والاسلامي والمفاهيم التي ارتبطت به والمفاهيم الاخرى التي تصادمت معه كما سنتعرف على تأثيره في منظومة المفاهيم .
أولاً : مفهوم الاستبداد السياسي
الاستِبْدادُ كلمةٌ تطلق عبر التاريخ لتصف أشكالاً متعددة من الحكم على رأسها حكام لديهم سلطة لاقيد عليها. وعلى سبيل المثال، كان الاستبداد في بلاد الإغريق يعني ببساطة الحكم المطلق لشخص واحد، إلا أن العديد من المستبدين الإغريق كانوا حكَّاماً رحماء ومقتدرين. كذلك تشير كلمة استبداد إلى نوعٍ من الحكم يكون فيه لشخص واحد الحكم المطلق المكتسب عن طريق القوة العسكرية أو الخداع السياسي . ومثل هؤلاء الطغاة لا يستندون في شرعيتهم على تأييد أغلبية الشعب بل انهم يستخدمون القوة للحفاظـ على الحكم . وثمة تعريف آخر للاستبداد وهو حكومة يحكم فيها شخص واحد أو مجموعة من الناس بطرق قاسية وقمعية أو غير عادلة. وفي الكثير من الحالات، نجد أن الطغاة يستخدمون سلطتهم في الأساس لخدمة منافعهم. ويمكن أن نسمي الحكام ذوي السلطة المطلقة والذين يريدون الارتقاء بمصالح المجتمع المستَبِدِّين إذا كانوا يكبتون حرية الشعب. وفي يومنا هذا، كثيرًا ما تُستخدم كلمة استبداد لتعني نوعًا ما من الدكتاتورية. وقد ارتبط الاستبداد بالنظام الامبراطوري منذ سنة 27ق.م ولذا يمكن القول بان الاباطرة البيزنظيين اول من استخدموا مصطلح الاستبداد او المستبد وكانوا يطلقون اللقب كلقب شرف يخلعه الامبراطور على ابنه . أ- في الرؤية الغربية لم يظهر مفهوم الاستبداد بشكل مباشر في التجارب الغربية ويعد مفهوم الطغيان من أقدم المفاهيم التي ارتبطت بمفهوم الاستبداد حيث استخدم للاشارة الى انظمة الحكم التي تسرف في استخدام القوة في ادارة السلطة ، والسيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد وقد استخدمه ارسطو ليدل به على الوجه الفاسد للحكم الملكي " فالطغيان ملوكية لا موضوع لها الا المنفعة الشخصية " وقد ظل مفهوم الطغيان هو السائد في الفكر السياسي الغربي حتى جاء مونتسكيو وابرز مفهوم الاستبداد. ويعرف الاستبداد في معجم العلوم الاجتماعية على انه "تلك الصورة القاسية للحكم الفردي" وفي الموسوعة الفلسفية العربية³ يعرف الاستبداد من حيث "هو تصرف غير مقيد وتحكمي في شؤون الجماعة السياسية ، يبرز إرادة الحاكم وهواه، ولا يعني بالضرورة أن تصرف الحاكم ضاغط بعنف على المحكومين، غير مبال بقواعد العدل والإنصاف ". ب- في الرؤية العربية يعد مفهوم الاستبداد في اللغة له كثير من المعاني فاستبد الامر يستبد به استبداداً اذا انفرد به دون غيره ، فاستبد الامر انفرد به ، فالاستبداد هو التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى وقد يعني ايضا غرور المرء . وعندما نصف الاستبداد بـ "السياسي " فإننا نعني به "الانفراد بشئون المجتمع السياسي من قبل فرد او مجموعة افراد دون بقية المواطنين" ويكتسب الاستبداد معناه السيئ في النفس ليس من صفة الانفراد وحدها ذلك أن جذر الكلمة لا يفيد أي معنى سلبي أو غير سلبي ، بل يستفيده من كونه اغتصاب واحتكار لحق مشترك مع الاخرين . فالاستبداد السياسي يفترض ابتداء وجود علاقة بين طرفين متساوين في الحقوق والواجبات العامة، ينفرد أحدهما (بالحقوق المشتركة= إدارة شؤون المجتمع السياسي) دون الآخر. فهو فعل يقوم على الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة على "شيء" هو حق مشترك مع الغير؛ فالمستبد يستولي على "الشيء" دون وجه حق ويشتق من الاستبداد عدة مفاهيم اخرى كالاستعباد والتعسف والتسلط والتحكم وفي مقابلها نجد المساواة والمشاركة والتكافؤ والسلطة العامة ، فالاستبداد هو الحكومة المطلقة العنان فعلا او حكما والتي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية ان يطبق عليهم اي نوع من العقاب . ج- اتجاهات التعريف تتعدد الاتجاهات التي تتناول مفهوم الاستبداد ولكننا يمكن ان نرصد ثلاثة اتجاهات هامة وهي (الاتجاه الديني – الاتجاه السياسي – الاتجاه الاقتصادي ) ويعتمد كل اتجاه على مجموعة معايير يقيس من خلالها استبداد الحاكم بل ويعتمدعليها في تعريفه للاستبداد فنجد ان الاتجاه الديني يعتمد على : - تنحية شرع الله - غياب العدل - التخلي عن المقاصد الشرعية اما الاتجاه السياسي فهو يعتمد على مجموعة اساسية منها : - احتكار السلطة - استخدام القوة والعنف - حكم الاقلية والبعد عن الشورى - ظهور الفتن والاتجاه الاقتصادي يتوقف قياسه للاستبداد على : - غياب الحكومة - قبول رشاوي وهدايا وانتشار الفساد - الاحتكار
ثانيــاً : فلسفة السلطة السياسية
يعد توماس هوبز اول من اشار الى ان حالة الفوضى هي " الحالة الطبيعية " في المجتمع الذي وصفه بأنه مجتمع صناعي خلق بإرادة الانسان وقد عارض في ذلك ما ذهب اليه ارسطو بمدنية الانسان فقد قال " ان الانسان بطبعه حيوان سياسي يحب الحياة في جماعة سياسية منظمة فهو مدني بالطبع " وما ذهب اليه الفارابي ايضا بعد ذلك من ان " الانسان اجتماعي بطبعه وهو لا يبلغ كمالاته الا عند وجوده في مجتمع " وبالتالي يصبح وجود الانسان في المجتمع السياسي يشكل امرا طبيعيا نابعا من فطرته . اما هوبز راى ان التربية او ان التنشئة الاجتماعية هي التي تشكل شخصية الانسان بحيث تصبح صالحة للحياة في المجتمع السياسي ذلك لان الحالة الطبيعية للانسان هي حالة من الفوضى يحاول فيها الفرد الحفاظ على حياته بقواه الخاصة وبالطريقة التي يراها صحيحة و هذا من شأنه ان ينتج حياة غير منظمة لاتولد حضارة او لاعلم ولافن . وبالتالي كانت حالة الفطرة الاولى حالة " حرب من كل فرد ضد كل فرد " اي " حرب الكل ضد الكل " واصبحت حياة الافراد حياة فقيرة وقصيرة ووحيدة وبائسة وذلك بسبب عدم قدرة الافراد على الحد من اندفاع كل منهم للحصول على القوة بالاضافة الى تساوي الجميع في الحقوق الطبيعية تلك الحقوق مبنية على قاعدة اساسية هي ان " لكل فرد الحرية في ان يستخدم قوته وفقا لرأيه وما يمليه عليه عقله مما ادى الى ادخال المجتمع في ورطة الامن التي قوامها ان الاندفاع من اجل تحقيق الامن النسبي في المجتمع وبالتالي فحالة الطبيعة الاولى مساوية لحالة الحرب . وقد تميزت حالة الطبيعة الاولى بوجود ما يسمى بالقانون الطبيعي و هو ما يستنبطه العقل عن طبيعة البشر اي الاحكام التي تقود العقل البشري الى ما يحقق مصالحه في المحافظة على حياته ومن ثم سعي العقل للخروج من حالة الطبيعة والا فني الجنس البشري وبذلك ادرك العقل البشري ضرورة وجود تنظيم لحالة الفوضى هذا التنظيم يحتاج الى سلطة منظمة يخضع لها الجماعة فلا يمكن تصور المجتمع السياسي بدون سلطة حاكمة تنظمه ويكون لها الكلمة العليا والملزمة لكافة الافراد داخل الجماعة لانه لا يجوز الاجتماع في ظل المساواة الناتجة عن العدل الطبيعي . وهكذا ينشأ المجتمع المتمايز سياسيا اي انقسام المجتمع الى فئتين ( فئة حاكمة ) تتولى السلطة وتصدر القوانين والقرارات والاوامر و ( فئة المحكومين ) وهي لا يكون لها الا الطاعة والتنفيذ . ولهذه السلطة انواع كما تحدث عنها ارسطو : - سلطة سياسية : تتعلق بشئون الحكم وادراة المجتمع السياسي . - سلطة ابويـة : متمثلة في علاقة الاب بأبنائه . - سلطة الزوج على زوجته : ما يملكه الزوج على زوجته من سلطات . - سلطة السيد على العبيد . وقد وضع روبرت ما كيفرتصنيف اخر للسلطات فقد راى انها تشمل نوعين فقط من السلطات هما : - السلطة السيـاسيـة : توجد على مستوى الدولة - السلطة الاجتماعيـة : توجد في المجتمعات الصغيرة الاخرى مثل الاسرة و النقابة و المؤسسات الدينية و التربوية وغيرها . وتتغير اشكال هذه السلطة السياسية في الدولة ولكن يبقى مبررها القديم كما هو الذي يتضمن تحقيق الامن والاستقرار حتى سميت هذه الدولة ( بالدولة الحارسة ) اي التي تقوم اساسا بحماية الامن في الداخل وصد الغارات عن الحدود في الخارج . هذا المفهوم للدولة يتفق بشكل او باخر مع هوبز الذي اشار الى ان حياة الفوضى يسيطر عليها الخوف الدائم بحيث يخشى الناس خطر الموت التي دعت الى الخروج من حالة الاضطراب والفوضى الى التنظيم السياسي الذي يضمن لهم الامن و الاستقرار فقديما كانت العادة في بلاد فارس عندما يموت الملك ان يترك الناس خمسة ايام بغير ملك وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع انحاء البلاد وكان الهدف من وراء ذلك هو انه بنهاية هذه الايام الخمسة وبعد ان يصل السلب والنهب الى اقصاه ومن يبقى منهم على قيد الحياة سوف يكون لديهم ولاء صادق للدولة والملك الجديد . والسلطة هي وليدة الجماعة واساس قيام الدولة ويرى البعض انه ليس من المهم عدد القائمين بأمر السلطة وانما الاهمية تكمن في القدرة وهذه القدرة ليست بالضرورة تنطوي على شرعية او تفويض فلا يشترط ان تقوم السلطة برضاء المحكومين فهي يمكن ان توجد عن طريق القوة و القهر ولكن لابد ان يكون هناك تبرير لهذه السلطة السياسية حتى تكون شرعية بحيث يتمكن الحاكم من الاستناد الى هذه الشرعية في ممارسة السلطة ثم لابد من ان توضع لها حدود " فالسلطة تقدر بقدرها " . ولكن لابد من التفرقة بين السلطة والقوة فهما امران مختلفان .. القوة هي التي بواسطتها تستطيع ان تجبر الاخرين على طاعتك اما السلطة هي الحق في ان توجه الاخرين وتضمن طاعتهم بشكل مشروع .. والسلطة تتطلب قوة غير ان القوة بلا سلطة ظلم واستبداد بحيث ان السلطة هي احد اركان الدولة الثلاثة ( الاقليم – الشعب – السلطة ) وقد انتقلت السلطة من مرحلة السلطة الشخصية التي يتمتع بها الحاكم على انها ملك له ومرتبطة بشخصه الى مرحلة السلطة المجردة التي تجد مصدرها في الجماعة . وقد ظهرت عدة نظريات تفسر نشأة السلطة السياسية منها :- - النظرية الثيوقراطية : هي التي تبرر سمو وارادة الحاكم باسم شخصيته المقدسة . - النظرية التعاقدية : التي قام على اساسها النظام الديمقراطي الحديث خاصة العقد الاجتماعي عند جون لوك وجان جاك روسو . - النظرية التطورية : كما راها ارسطو من ان تكوين المجتمع نتيجة التطور العائلي .
ثالثــاً : نشأة المفهوم وتطوره
كلمة الاستبداد مشتقة من الكلمة اليونانية ديسبوتيس Despotes التي تعني رب الاسرة او سيد المنزل ثم خرجت من هذا النطاق الاسري الى عالم السياسية لكي تطلق على نمط من انماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الاب عى ابنائه في الاسرة او السيد على عبيده . ومن هنا نجد ان الحاكم يعامل المواطنين كما يعامل الاب اطفاله على انهم قصر غير بالغين او قادرين على ان يحكموا انفسهم ومن هنا كان له حق توجيههم بل عقابهم اذا انحرفوا لانهم لا يعرفون مصلحتهم . ويرجع ظهور المصطلح في القاموس السياسي الى مونتسكيو الذي جعله احد الاشكال الاساسية الثلاثة للحكم الى جانب الحكومتين الجمهورية والملكية وقد انتهى مونتسكيو الى ان الاستبداد نظام طبيعي بالنسبة للشرق الا انه غريب عن الغرب وهي نفسها الفكرة الارسطية القديمة التي ذهب الى ان الشرق له انظمة خاصة لها طبيعة استبدادية يعامل فيها الحاكم رعاياه كالحيوانات او العبيد الا ان الغرب بطبيعته تجعل تطبيق الاستبداد يهدد شرعية النظام الملكي ، الا ان العديد من الكتاب والمفكرين السياسيين انتقدوا نظرية مونتسكيو وعلى رأسهم فولتير الذي انتقد بشدة نظرية الاستبداد الشرقي . ثم نجد حديث ماركس عن الاستبداد الشرقي فهذه المجتمعات تعتمد على الزراعة التي تقوم على مياه الانهار وليس الامطار مما كان يتطلب وجود حكومة مركزية قوية تقوم بتوزيع المياه ومن هنا ظهر الاستبداد الشرقي. ويكن القول بأن فكرة الاستبداد ارتبطت في تطورها بتطور الاوضاع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الانساني . ففي العصور القديمة حيث سادت فكرة "الملك الاله" وهي تعد اولى النظريات التي قبلت كتبرير للاستبداد ومؤداها ان الحكم لله وحده وان الحاكم هو الاله او ابن الاله ومن ثم كان الاستبداد حتمي ومقبول نظرا لان طبيعة الحاكم تسمو على طبيعة باقي البشر . وفي العصور الوسطى طهرت فكرة " الحق الالهي المقدس" فالملك الحاكم هو المنفذ لارادة الله وان الله يختار من يشاء لاداء حكمه في الارض فيصبح حاكما بامر الله وخليفته على الارض او كما قال المنصورالخليفة العباسي الثاني " ايها الناس : انما انا سلطان الله في ارضه ..! " وبالتالي وجب طاعته مهما كانت طبيعة افعاله ودرجة استبداده لان الطاعة تنصرف الى وظيفته وليس شخصه . ومع عصر النهضة حدثت عدة تطورات على جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مما كان لها اثرها على الجانب السياسي حيث بدأ ظهور فكرة السيادة الشعبية والارادة العامة وان اساس سلطة الحاكم مصدرها الشعب وبالتالي فهو يستمد شرعية وجوده منهم وانه ليس لديه اي سلطة مطلقة او ارادة اسمى من ارادتهم وذلك بموجب العقد الاجتماعي الحاكم للعلاقة بين الحاكم والمحكومين . وقد كان ذلك بداية انهيار التبريرات للاستبداد السياسي وسمو ارادة الحكام بحيث بدأ الاقرار باردة المواطنين التي تقوم عليها سلطة الحاكم ووجوده واصبح هناك اتفاق حول الاسس التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة وسلطات الحاكم وحدوده ومن ثم فالحاكم الذي يتخطى هذه القواعد والاسس يخرق هذا العقد ويتم الاطاحة به . ليس ذلك فحسب بل انه اصبح المواطنين يدركون اهمية المشاركة في النظام السياسي وذلك نتيجة النظام الديمقراطي الذي اتاح امكانية الوجود لكافة المواطنين داخل النظام السياسي وبالتالي من الصعب ان يتفرد الحاكم بالقرار . ومع ترسخ الديمقراطية في الانظمة السياسية المعاصرة ظهر نوع اخر من الاستبداد وهو ما يطلق عليه الاستبداد الديمقراطي ومن هنا يميز الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه " الاستبداد الديمقراطي" بين ثلاثة انواع للاستبداد الاستبداد المتحضر واستبداد متخلف واخر ديمقراطي وهو الذي تتوفر فيه كل اشكال النظام الديمقراطي الحديث من مؤسسات دستورية تعبر عن ارادة الشعب ويحكم الشعب نفسه بنفسه طبقا لاسس الديمقراطية الا ان الاردة الشعبية هنا ارادة زائفة بحيث يستأثر المستبدون بكل امكانات المجتمع من اجل التاثير في الناس .
رابـعاً : التأصيل المفاهيمي للاستبداد وعناصر التلبيس
يعد مفهوم الاستبداد من المفاهيم السياسية القديمة والتي لها جذور في الحضارة اليونانية والتي تطورت عبر المد التاريخي وتأثرت بعدد من العوامل الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مما جعلها تأخذ اشكال مختلفة طبقا للمساحة الدلالية التي يمتد فيها المفهوم ، فقديما حديث افلاطون عن ما يسمى بالطاغية الذئب ثم ارسطو الذي يصف الطاغية انه سيد يعامل رعاياه معاملة العبيد وبالتالي كان هناك خلط كبير بين الحاكم المستبد والطاغية ولكن في الحقيقة ان هناك فرق فالمستبد من تفرد برأيه واستقل به اما الطاغية فيستبد طبعا مسرفا في المعاصي والظلم وقد يلجأ في طغيه الى اتخاذ القوانين والشرائع سترا يستتر به ويشير البعض الى مصطلح الطاغية مصطلح سياسي يطلق على الحاكم المتعسف الا ان افلاطون يوسع معنى اللفظ ليطلق على الحكم وعلى الفرد في ان واحد . ومن ثم فنجد ان هناك عدة مفاهيم ترتبط بالمفهوم الاستبداد وسوف يتم التعرض لها كالتالي : - الطاغية : كلمة الطاغية مشتقة من الكلمة الانجليزية tyrant ومن الاسم tyrha اي القلعة . ومن اهم السمات العامة للطغيان ان الطاغية يصل الحكم بطريق غير مشروع فيغتصب الحكم بالمؤامرات او الاغتيالات او القهر او الغلبة وهو لا يعترف بقانون او دستور في البلاد بل تصبح ارادته هي القانون الذي يحكم وما يقوله هو امر واجب التنفيذ وعلى المواطنين السمع والطاعة ويسخر كل موارد البلاد لاشباع رغباته او ملذاته او متعه وينفرد بخاصية عدم الخضوع للمساءلة ولا المحاسبة ولا الرقابة ويفرط في استخدام القوة والقهر وسلب الاموال . والاستبداد يشبه الطغيان في جانب ويختلف عنه في جانب اخر فارسطو يقصر استخدام مصطلح الطغيان على اغتصاب السلطة في المدينة وحكمهم غير مستقر بسبب الكراهية من المحكومين . - الحكم الثيوقراطي : مصطلح مشتق من الكلمة اليونانية Theocracy وهي مكونة من مقطعين Theos اي الاله وkratia بمعنى الحكم اي انها حكم الاله وينشأ الحكم الثيوقراطي عندما ينقسم المجتمع السياسي الى فئتين كما ذكرنا ومن ثم يبدأ التساؤل من اين جاء هذا التمايز ؟ وبالتالي يكون الذهاب الى انه لابد من ان يكون الحكام من طبيعة غير طبيعة البشر اي ان الحاكم من طبيعة الهية فهو اله على الارض او ابن الاله .! وقد تطورت هذه الفكرة واتخذت ثلاث صور متتابعة هي: أ) في الاصل ان الحاكم يعد من طبيعة الهية اي انه الاله نفسه فنجد في مصر مثلا يلقبون الملوك بالقاب رسمية مثل سيد المصريين او ربهم والسيدتان اي ملتقى الالهتين الحاكمتين للشمال والجنوب او ابن السماء. ب) ثم تطورت النظرية مع ظهور المسيحية فلم يعد الحاكم إلهاَ ولكنه اصبح يستمد سلطته من الله وهذا ما يتضمن في نظرية الحق الالهي المقدس . ج) منذ العصور الوسطى كان يسودها الصراع بين الكنيسة والامبراطور فقامت فكرة مقتضاها ان الله لا يختار الحاكم بطريقته مباشرة وان السلطة وان كان مصدرها الله فان اختيار الشخص الذي يمارسها يكون للشعب وبعبارة اخرى الفصل بين السلطة والحاكم فالسلطة في ذاتها من عند الله ولكن الله لا يتدخل مباشرة في اختيار الحاكم (نظرية الحق الالهي غير المباشر) . - الديكتاتورية : مصطلح الديكتاتورية Dictator هو مصطلح روماني الاصل وكانت تشير الى وظيفة الحاكم العسكري العام الذي يعين في اوقات عصيبة تمر بها البلاد لاتخاذ اجراءات سريعة وحاسمة ولفترة محدودة فقط . لكن المصطلح في الاستخدام الحديث يعني النظام الحكومي الذي يتولى فيه شخص واحد جميع السلطات وهو لا يكاد يتميز عن الاستبداد . - السلطة المطلقة : يجب الاشارة الى ان السلطة المطلقة تختلف عن الحكومة المطلقة فالسلطة متضمنة في الدولة باستمرار وقد تحدها سلطات اخرى اما الحكومة المطلقة فيمكن ان تكون مطلقة حتى دون استيلائها على السلطة ولم يعد للمصطلح معنى دقيق بل يستخدم بشكل فضفاض ليشير الى الحكومات التي تمارس السلطة بلا مؤسسات نيابية او قيود دستورية . - المستبد العادل : ظهر هذا المصطلح في القرن الماضي في الفكر السياسي الاوروبي للدلالة على نظام معين يحمل في طياته مفاهيم التنوير الخمس ( الفرد – العقل – الطبيعة – التقدم – السعادة ) ومن تحالف هذه المفاهيم تخرج سعادة الشعوب ويكون الحاكم مستنير في حكمه اي انه يحكم باعتباره خادم للدولة ويتصرف وكانه عليه تقديم حساب عن عمله امام المواطنين لكنه مستبد من زاوية انه ما من شخص او هيئة لها صلاحية مراقبة اعماله وصلاحياته وقد ذهب كل من جمال الدين الافغاني ومحمد عبده الى انه لن ينهض بالشرق الا مستبد عادل . فيقول الامام محمد عبده " هل يعدم الشرق كله من مستبدا من اهله عادلا في قومه يتمكن به العدل ان يصبح في خمسة عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنا ؟ ..
خامـساً : الاستبداد : الطاعة – القوة – السلطة
ارتبط مفهوم الاستبداد اثناء تطوره بعدة مفاهيم ، وقد ارتبط بصلة وثيقة مع مفاهيم الطاعة والقوة والسلطة حيث ان المستبد يعتمد في الاساس على السلطة التى يعتبرها حكرا له وان له الحق وحده في التصرف في الدولة وشئون الرعية وبالتالي يؤدى الى التوسع في الاستبداد والانفراد بالحكم وفي حال اذا خالف اي من المواطنين او عارض سلطة هذا الحاكم المستبد فانه يتجه الى استخدام القوة والعنف وكما اشرنا في السابق ان المستبد يعتمد على القوة في الحفاظ على سلطته متجاهلا تأييد الشعب ورأيه ومن ثم فيصبح على الشعب مجرد الطاعة لهذا المستبد ويقتصر دورهم على مجرد التنفيذ لاوامره .
سادسـاً : الاستبداد في الفكر الاسلامي
قدم القرآن الكريم الكثير من المفاهيم التي يجب أن تقوم عليها الأنظمــة والمؤسسات الاجتماعية هدايةً للبشرية، وترك لهم أمر أسلوب تحقيقها، ووسائلها المتغيرة المتطورة، على ما يقتضيه تطور أحوال الزمان والمكان .وقد اهتم الاسلام بالحديث عن الحكم ووضع الاسس التي من شأنها ان تعمل على اصلاحه وعلى الرغم من القول بان الدين الاسلامي هو دين سياسي وان السياسة الاسلامية هي سياسة دينية الا ان الاسلام لم يعرف الحكم الديني اي الحكم الثيوقراطي الذي يستند في حكمه على الشرعية الدينية وبالتالي فالحاكم من طبيعة البشر وليس منزه عن الخطأ . بدأ استخدام مفهوم الاستبداد في الفكر الاسلامي عند تطور مؤسسة الخلافة في الفترة الاموية والتي كانت نتيجة تفاعل وصراع ، وقد شهد المفهوم في الفكر السياسي الاسلامي توسعا في المفهوم دون الخلل في المضمون ويرجع هذا الى اتساع بقعة الاستبداد في المجال الاقتصادي والديني والاجتماعي فضلا عن السياسي وقد ظل المستبد ينحي شرع الله واتخاذ الهوى مكانه حتى يحقق مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية فالفساد لايقف عند حد معين وكلما بعد الناس عن اوامر الله وتطبيق اوامر الدين الوسطى زاد القمع والتسلط والاستبداد . ولذا يمكن القول ان مفهوم الاستبداد في الفكر السياسي الاسلامي لم يختلف عن الفكر الغربي فكلاهما يرى الاستبداد تنحية القانون سواء الالهي او الوضعي وتسخير صاحب السلطة – اي المستبد – كل مصالح الدولة ومواردها لخدمته ولذا لم تسقط روح مفهوم الاستبداد فهو المفهوم نفسه الذي عرفه الله تعالى في القران عند تناول قصص فرعون وقوم صالح وقوم نوح ... وغيرهم . وقد تعلم المسلمون من دينهم ان طغيان الفرد في امة ما جريمة وان الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ولا يستحق ذرة من التأييد الا اذا كان معبرا عن روح الجماعة ومستقيما مع اهدافها . ومن ثم فالامة وحدها هي مصدر السلطة والنزول على ارادتها فريضة والخروج على رأيها تمرد ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على تاكيد ذلك . لم يتم التعرض لمفهوم الاستبداد مباشرة في القرأن والسنة وانما من خلال مفهوم الطاغية الذي يحمل مفهوم الاستبداد وقد وجد لفظ الطاغية ومشتقاته في سبع ايات فقط الا ان القران الكريم اهتم بوضع ضوابط للمارسة السياسية تتمثل في و ضوابط الممارسة السياسية : 1- الشورى 2- الرضا الاجتماعي 3- العدل 4- حكم القانون والمساواة وهنا نجد ان القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وضعا اسس قيام الدولة العادلة التي ترتكز على المساواة والعدل والشورى والحرية وكل هذه المفاهيم تقوم على اساس الحفاظ على المقاصد الشرعية كالعقل والدين والنسل والمال والنفس ولكن كما سبق القول فان المستبد جنب اوامر الله تعالى ورسوله واعتدى على المقاصد الشرعية وهذا ما نهى الله ورسوله عنه ولذا نجد ان مفهوم الاستبداد لم يتغير منذ عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم – ولكم ما تغير هو آليات المفهوم .
ومن ثم فإننا نجد من خلال ذلك ان الاستبداد ليس بالضرورة مفهوما سلبيا واما هو يدل على التفرد في اتخاذ القرار دون مبالاة برأي الرعية ففي الفكر اليوناني نجد مثلا حديث افلاطون عن الحاكم الفيلسوف والذي كان له السلطة المطلقة وقد كان يرى انه افضل انواع الحكومات على الاطلاق ثم في الفكر الاسلامي فيتحدث الامام محمد عبده عما يسمى بالحاكم المستبد العادل الذي رأى انه ضروري لإقرار العدل ودفع الظلم وحمل الافراد على مافيه سعادتهم بحيث يكون هدفه الاساسي صالحهم لا صالحه الشخصي وبالتالي فمثل هذا النوع من الحكم ليس سيئا بل انه يعلي المصلحة العامة على مصلحة الشخصية للحاكم ولكن ارتبط مفهوم الاستبداد في الاذهان بالطغيان والافراط في استخدام القوة وتسخير السلطة من اجل تحقيق الصالح الخاص والهيمنة على كرسي الحكم ففي البداية يعد الاستبداد الحل – او يتوهم انه الحل – للتناقض بين وحدة المجتمع وتعدد الافراد فيه وذلك بإلغاء احد طرفي التناقض فيستأثر المستبد بكل او باغلب امكانات المجتمع دون الناس ثم ثحولونها الى ملكية خاصة ويستبدون بالتصرف فيها فيكون المجتمع لهم دون غيرهم ويصبح لهم وحدهم المجتمع فكما قال لويس الرابع عشر الذي يضرب به المثل في الاستبداد الملكي " الدولة هي أنا " وبالتالي اصبح غير مستحب حتى وان كان عادلاً .
المراجع : - هناء عبد الرحمن البيضاني ، مفهوم الاستبداد في الفكر السياسي الاسلامي الحديث والمعاصر :دراسة مقارنة، جامعة القاهرة ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، اطروحة دكتوراة ، 2007 . - "معجم العلوم الاجتماعية". إعداد نخبة من الأساتذة. تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور. الهيئة العامة للكتاب. 1975. مادة طغيان. - ناصيف نصار. "الموسوعة الفلسفية العربية". نقلاً عن كمال عبد اللطيف. في تشريح أصول الاستبداد – قراءة في نظام الآداب السلطانية. دار الطليعة. بيروت – لبنان. ط 1 1999. - دولة خضر خنافر، " في الطغيان والاستبداد والديكتاتورية " ، بيروت ، دار المنتخب العربي ، 1995. - سيف الدولة ، عصمت ، الاستبداد الديمقراطي ، بيروت ، لبنان ، دار الكلمة ، 1981. - محمد الغزالي ، الاسلام والاستبداد . القاهرة ، نهضة مصر . 2007 .
#ياسمين_كامل_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستقبل الصوفية السياسية في مصر
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|