علي عبد الكريم حسون
الحوار المتمدن-العدد: 3753 - 2012 / 6 / 9 - 21:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إنحيازا للناصرية , أقول أنها انفردت من دون المدن الأخرى بتذكر الأبناء الذين غادروها إلى مدن العراق الأخرى , أو الى خارج البلاد , إذ يظل السؤال قائما ودائما عن فلان , أحواله , مآله , أين هو من كل ما ألمّ بالعراق ....
يحضرني ذلك بذكرى تشييع مهيب , أواسط الثمانينات لأبن المدينة الضابط الشيوعي (( إبراهيم محمد قلي )) العميد الذي قُتل في الحرب العراقية الإيرانية , رغم أن بيته ببغداد , فيه سيدته وأولاده الثلاثة . فلقد اختارت المدينة أن تشيّعه , وتطوف به شوارع الناصرية , متحديّة سلطة المقبور صدام , مشككة برواية مقتله الرسمية على يد قنّاص إيراني .
كان إبراهيم شيوعيا حد العظم , لا بل نخاع العظم , صلته الفردية كانت بقادة الحزب الشيوعي العراقي المسؤولين عن الخط العسكري : الرفيق ثابت حبيب العاني عضو اللجنة المركزية , ومن ثم ( يوسف حمدان ) أبو عمار , والذي يحفظ له أنه لم يفشي سرّ إبراهيم وبقية الضباط عندما (انشق ) عن الحزب والتقى صدام آنذاك .
عندما خرجت من المعتقل أواخر السبعينات , التقيت صدفة بإبراهيم عند أطراف سوق الغزل ببغداد . أشحت بوجهي عنه خشية عليه من عيون ترصد من أتحدث معه . احتضنني أبو عمر وهنأني على سلامتي بغصة من يعرف ماذا يجري للمناضل في أقبية الأمن . ثم انطلق بحرارة واندفاع , ناقدا كل من ساهم بهذه الغفلة الجبهوية التي أودت برفاق الداخل منهية عملهم السياسي , ومرسلة المئات لا بل الآلاف الى دول المهجر وشتاته . ومنهم أخويه الرائعين المدرس الشيوعي جاسم محمد قلي , والأصغر قاسم , الذي توفي في اليمن , بعد أن ملّ من الاستنجاد بمنظمة الحزب هناك , لكي تعالجه , فبقي قلبه مكلوما من ( فخري كريم زنكنة أبو نبيل ) الذي أكل وشرب في بيت أبي عمر إبراهيم , والآن في اليمن يصدّه ويرفع زجاج نافذة سيارته بوجهه , ليموت بعدها من جراء عجز كليتيه .
ابنان آخران لم يتسنى للناصرية تشييعهما , فلم تكن هناك من جثة ليستلمها أهل الرفيقين الرائعين الخالدين : إبراهيم عبد الوهاب وسيد وليد . إذ نهشتهما قطعان الحرس اللاقومي في 8 شباط الأسود . الأول ببغداد حيث اعتقله البعثيون من داره بمدينة الحرية والثاني قضي على يدهم في حامية الناصرية حيث كانوا يعذبون الشيوعيين بدفن أجسادهم وقوفا في حفر لا يظهر منهم الا رؤوسهم , فصمد سيد وليد ومات ودفنوا جثته على الأرجح في منطقة الخميسية وتل اللحم . كما فعلوا بعدها بالرفيق السبهان ابن مدينة الغراف .
ابن آخر من المدينة هو خالد الأمين , نعم خالد محمود أمين وبين أبناء وبنات الناصرية عرف باسم خالد الكردي , نسبة لقومية والده , زاملته في الدراسة الثانوية بكل مراحلها , وفي الجامعة ببغداد , وإن اختلف اختصاصنا , هو الاقتصاد وأنا الجغرافية . كنا سوية في تنظيمات الاتحاد العام للطلبة في ثانوية الناصرية , ومن ثم في الحزب الشيوعي العراقي , حاصلين على بطاقة العضوية متباهين بها تجاه حقد البعثيين الفاشيست في المدينة والمتعاونين مع الأجهزة الأمنية آنذاك .
عرفنا خالدا شابا تميز عنا بالوسامة الرجولية التي جعلت منه محط أنظار صبايا الناصرية الممتلئات سمرة محببة مجبولة من أديم أرض مدينتهن . كذلك تميز بالصراحة التي تجعلنا آنذاك نشعر بالحرج من انسيابيتها تجاه تقاليد المجتمع .وفي العودة الثانية للبعث في 1968 , قدّر لخالد أن يصبح صيدا ثمينا للأمن الفاشي , فسرعان ما اعتقله مفوض الأمن جبار ( الذي أصبح بعد سنوات عضو فرع حزب البعث في الناصرية ) . جاء اليه في نادي الموظفين في الناصرية آخذا إياه لزيارة أبدية لأقبيتهم التي تلقفته الى بغداد , حيث ذوى في أجهزة ناظم كزار ولم تشفع له وساطات أخيه الدكتور في علم النفس شاكر الأمين ولا نسيبه زوج أخته مدرس الرياضيات البعثي سليم ذياب , فانتهى صارخا في أحد مستشفيات بغداد , وهو يعاني ( الكنكرينا ) في ساقه أثر التعذيب : أنا خالد الأمين من الناصرية . فارتحل شهيدا بدون جثة .
الابن الآخر هو الشاعر كمال سبتي الشيخ إبراهيم المهاجر لبغداد أولا للدراسة , ومن ثم الى هولندة هربا من دكتاتور متريف ... كمال شيعته المدينة في 2006 متذكرة قوله الرائع الذي فضل فيه الأبناء الباقين في المدينة . فوصف المثقفين منهم : بأن الواحد منهم عندما سيكتب عن تأريخ وواقع الناصرية (( سيبدأ من نقطة في الزمن غير النقطة التي سأبدأ منها حتما ولأنه ابن المدينة وأديبها بالواقع الحسي اليومي , بينما أنا ابنها بالحنين والتذكر . )) كان هذا القول يشير به تحديدا للرائع أحمد الباقري ملقبا إياه بالقاص والمترجم الستيني , رابطا إياه بالشاعر الخمسيني الراحل رشيد مجيد . ولم ينس كمال من غادر المدينة مختارا مصيراً آخر بعيداً عنها , منهم الشاعر عبد القادر رشيد الناصري الذي توفي ببغداد , والشاعرين الراحلين : قيس لفتة وعناية الحسيناوي , الذين جمعهما مناكد لهما في الشعر ببيت هجاء مقذع لم يقلل من أهميتهما الشعرية . كذلك لم ينس ابن ريف الناصرية الأديب المقيم بلندن منذ مايقرب من النصف قرن ( صلاح نيازي ) . مارّاً بفاضل عباس هادي الذي غادرنا الى لندن , وهو بالمناسبة عصاميّ قاريء للإنكليزية متعلما إياها عن طريق التثقيف الذاتي كصنوه المرحوم جبار رجب مدرس الإنكليزية المتوفي في سجون النظام الإيراني حيث قادته قدماه وهو يقرأ كتابا بالإنكليزية , فابتعدت به الى خلف الساتر , فأسّره الإيرانيون .
نتذكر معلم الرسم الذي درسنا في المتوسطة والمهاجر لبغداد ومن ثم لتونس ( عبد الرحمن مجيد الربيعي ) والراحل الفنان عزيز عبد الصاحب الذي غادر الناصرية بداية السبعينات مع عدد ضخم من آل عمران , سكنوا في البداية بيتا فخما واسعا كبيرا في منطقة الكرادة الشرقية يقع بين شارع أبي نؤاس من جهة وشارع إرخيته من الجانب الآخر . وأتذكر إنني عندما زرتهم في بيتهم هذا عام 1973 تعجبت من كثرة غرفه , فعلقوا مازحين , بأنها بالكاد تتسع لهم , وقد دعوني للبقاء معهم عندما حدثت مجازر ( أبو طبر ) الليلية . اعتذرت لهم بأنني أسكن في الفندق وهو أأمن من البيوت . بعد ذلك حدثني زميلي المدرس المرحوم عيسى رشيد الملا عمران , أن جارهم صاحب العائلة الصغيرة والذي كان جافا معهم , ولم يقم بواجب الجيرة عندما سكنوا جواره . وهي كما نعرف نحن أبناء الجنوب , أنها تتعدى الترحيب , الى تجهيز الأكل وتقديمه لأيام ثلاث على الأقل للجار الجديد ... أنهم فوجؤوا بتبدل مزاج الجار الجاف , فأصبح ناعما متوددا عندما حل العصر , فحضر مع زوجته وطفليه وجلس بينهم , فقاموا بالترحيب به , عندما حل الليل ولم تتزحزح عائلة الجار , عرف آل عمران السر ... إذن فالجار خائف من غزوة أبو طبر الليلية , فأراد أن يحتمي بهذه العشيرة الساكنة الى جواره .
# لي عودة أخرى للحديث عن بدايات الأنتماء وأيام التلمذة
#علي_عبد_الكريم_حسون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟