|
قال العلماني: أخيرا عرفت الغيب
نضال فاضل كاني
الحوار المتمدن-العدد: 3752 - 2012 / 6 / 8 - 22:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
(الانسان – العالم) هذه هي الثنائية التي قامت عليها الثقافة الغربية بشكل عام، وفيها تم عزل الجانب الديني (الله) ليكون بعيدا عن الواقع الانساني، او ليكون مقصورا على ذاته فحسب. ولما كانت الافضلية في هذه الثنائية للإنسان على العالم، اصبح الانسان هو القيمة العليا في كل شيء، اصبحت حقوقه ومكانته واهميته في الكون هي العليا، ويجب تسخير الكون كله لخدمته ومنفعته. في المقابل نجد ان ثنائية (الله – الانسان) هي جوهر الثقافة في العالم الاسلامي، وفي هذه الثنائية، القيمة العليا لله تعالى على الانسان وعلى كل ما سواه. بمعنى ان الغاية من الحياة الانسانية هي اعلاء كلمة الله، وطاعته ومحبته وتوظيف كل شيء لأجله. وبسبب ذلك غُيبت قضايا الانسان وهمومه إزاء القضايا الدينية الكبرى. وعلى هذا فيمكن القول اجمالا بان النظرة الغربية جعلت "الدين في خدمة الانسان"، بينما فعلت النظرة الاسلامية العكس فجعلت "الانسان في خدمة الدين". او بتعبير آخر: أن الغرب جعل الدين وسيلة بينما جعل المسلمون الدين غاية. من الواضح ان الفرق بين هاتين النظرتين اللامتماثلتين، قد ادى الى نتائج متعاكسة تقريبا بين العالمين، فبينما اشتغل الغرب على العالم لفائدة الانسان في الدنيا، اشتغل الشرق على مرضاة الله تعالى لفائدة الانسان في الاخرة. وبينما ازدهرت الحضارة العلمية والتكنلوجية في الغرب على حساب القيم الروحية والغيبية، ازدهرت الحضارة الدينية في الشرق على حساب القيم العلمية.. صحيح ان الغرب لم ينكر الدين الا انه قام بعزله وتحجيم دوره في الحياة، وصحيح ان الشرق لم ينكر العلم الطبيعي؛ لكنه ايضا لم يجعله اكبر همه.. لذلك تقدموا في العلم والمدنية وتقدمنا في الايمان والروحانية.. ويبدو ان التناسب عكسي ومتبادل بين الطرفين. والسؤال الذي قد تتقاطع عنده الافكار هو: أي من هاتين النظرتين هي الصحيحة؟ وايهما خاطئة؟ يرى العلمانيون غربيون كانوا او شرقيون، ان النظرة الغربية هي الصحيحة لأنها تهدف الى اعلاء شأن الانسان في الكون، وقد اثبتت نجاحها في الميادين التي اشتغلت بها على المستويين العلمي والاجتماعي. في الوقت الذي يرى فيه المسلمون خلاف ذلك تماما لأن رفعة الانسان عندهم تأتي من الله للإنسان وليس مما سواه، لهذا كانت عندهم عمارة الاخرة أولى من الدنيا كيف لا والاخرة خير من الدنيا وابقى. ولكن، علينا ان نتساءل: لِمَ يجب ان تكون احدى النظرتين صحيحه والأخرى خاطئة؟ افلا يمكن ان تكون النظرتان صحيحتين معا؟ الا يمكن اعتبار عمارة كل من الدنيا والاخرة في الوقت نفسه صحيحة؟ قد يسارع البعض الى القول: ان هذا ما يأمر به الاسلام بالفعل، فهو يأمر بطاعة الله تعالى، كما يأمر بالعلم والتفكر في خلق الله وآياته.. الواقع ان المشكلة ليست في الدين فتعاليمه متوازنة في ذلك تماما، انما مكمن المشكلة في فهم الدين وتفهيمه، وما يدل على ذلك هو ان الفهم المنفتح على الاخر وعلى العالم لتعاليم الدين الاسلامي في عصوره الاولى، قد سمح ببناء حضارة علمية عريقة ذات ابعاد روحية سامية، فكانت بمثابة نهضة كونية في زمن كان الفهم الديني الخاطئ بالنسبة للغرب قد اوقعهم في أوحال الجهل والتخلف والظلام قرون عديدة. اذا، الفهم للدين هو ما يمكن ان يؤدي الى تعطيل الحركة العلمية او تفعيلها، وليس الدين نفسه، لأن الدين بحد ذاته لا يتعارض مع العلم الطبيعي. كان الفهم الخاطئ للدين في الغرب وراء الثورة عليه حتى انتهى به الامر الى حجبه خلف جدران الكنائس. صحيح ان تعطيل الفهم الخاطئ قد فتح المجال كاملا امام الحركة العلمية فازدهرت، ولكن ذلك كان على حساب تغييب القيم والجوانب الروحية. وبالمقابل فأن الفهم الاحادي لاتجاه او غير المتكامل للدين الاسلامي، ادى الى تنشيط الجوانب الايمانية الغيبية على حساب الحركة العلمية. فبات الغربي ينظر الى الشرق وكأنها بلاد العجائب والغرائب من معجزات وخوارق وسحر وروحانيات، وصار الشرقي ينظر الى الغرب على انه معقل العلميات والفلسفات والتجريدات والماديات الجوفاء.. وعلى هذا، يمكن القول بأن كل من النظرتين قد اخذت بنصف الحقيقة فحسب. ومن هنا يطرح السؤال القائل: افلا يمكن ان تكون هناك نظرة ثالثة تتوسط المسافة بين هاتين النظرتين المتعاكستين؟. من وجهة نظر فلسفة التضامر، وجود النظرة الثالثة أمر حتمي لا شك فيه، لكن ما ليس بحتمي هو طبيعة تلك النظرة، فهي تندرج ضمن عدة احتمالات ممكنة مضمرة. ولكي نعرفها علينا ان نقوم بعملية التوقع. في التضامر يتم التوقع بناءً على قاعدة بسيطة وهي: النظر في المعطيات المظهرة ثم توقع للامثيل المضمر لذلك المعطى المُظهر. ولما كانت المعطيات المظهرة أمامنا هي النظرتين الملخصتين في العلاقتين اللامتماثلتين: (الله – الانسان) و (الانسان – العالم) فان المتوقع من المضمر لهما ان يكون لا مماثل لهما، ولكي يكون كذلك فعليه ان يتضمن الشروط الاتية: اولا: ان تكون هناك علاقة واحدة لهما معا بدلا من علاقتين. ثانيا: ان تكون موحدة لهما معا بدل ان الفصل الموجود الآن بينهما. ثالثا: ان لا تبخس شيئا من حق أي منهما او مستحقه. لاستنباط مثل هذه العلاقة عدة احتمالات ممكنة كما اشرنا، وقد اخترنا احد تلك الاحتمالات في مقالنا هذا. وهذا الاحتمال يتمثل في علاقة الاشتراك الثلاثية: ( الله – الانسان – العالم) في هذه العلاقة الثلاثية يفترض ان يكون دور الانسان مزدوج، فهو من جهة يفترض ان يكون مؤمنا بالغيب وبكل مقتضيات التسليم التي يتطلبها الإيمان. ومن جهة أخرى، يفترض به ان يكون علمانيا يعطي العقل الحرية الكاملة في سبر اسرار الطبيعة عن طريق التجربة وفق مناهج البحث العلمي. وما يمكن ان يطلق على مثل هذا الانسان هو (المؤمن العلماني) أي الذي لا يتعارض ايمانه بالغيب مع علمانيته، هو الشخصية الانسانية الحضارية المتكاملة والتي يمكن ان تجتمع فيها عقلانية الغرب وروحانية الشرق.. ان هذه الصيغة يمكن ان ينظر لها بطريقة سلبية من جانبين، فالمؤمن قد يظن ان ذلك يعني القبول بمناهج الكفار، والعلماني قد يعتقد ان ذلك يمهد لقبول الخرافة من جديد.. ولكن ومن جهة أخرى يمكن النظر لها من الجانب الايجابي، وهو الجانب الذي من شأنه ان يعطي الفرصة لتجسّير العلاقة بين الانسان الشرقي واخيه الانسان الغربي من جهة، وبين الانسانية وخالقها من جهة أخرى. وغير ذلك، يمكن للبعض ان يتساءلوا قائلين: كيف يمكن للعقل ان يسلّم للغيب وفي الوقت نفسه لا يسلم له بل ينفصل عنه؟ افلا يعد ذلك دعوة الى الشيء ونقيضه؟ الواقع ان التناقض يرتفع اذا ما اخذت مفهوم النسبية بنظر الاعتبار، فالتسليم للغيب يفترض ان يكون في قضايا الايمان بينما اعمال العقل يكون في قضايا العالم، وهما مستويان مختلفان، وهذا يعني ان العقل يقوم بدورين مختلفين، يتعامل مع الغيب بطريقة معينة، ويتعامل مع العالم بطريقة أخرى. والامر شبيه بكون الانسان أب وابن، فهو اب نسبة لأبنه، وابن نسبة لأبيه، وهو واحد في نفسه غير منقسم او متناقض. وكذلك يكون دور العقل في هذه العلاقة، (يسلم لا يسلم)؛ أي يسلم نسبة للخالق ولا يسلم نسبة للمخلوق. غير ان لي صديق صوفي اقترح مقاربة أخرى، من شأنها تحقيق صيغة (المؤمن العلماني). فقد ذهب الى القول بضرورة تفعيل الملكة الحقيقة المسؤولة عن التعامل مع الدين، وهي القلب، اذ وكما يرى الصوفية؛ ان المخاطب من الناحية الدينية في الانسان هو القلب، والمقصود بالقلب هو اللطيفة الروحية في العضو اللحمي الواقع في الجانب الايسر من الصدر. وعندهم ان ما يدلّ على ذلك هو العديد من الآيات القرآنية كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). فإذا ما افترضنا –جدلا- ان ذلك صحيح، أي ان القلب هو أداة الايمان في الانسان وليس العقل، فيمكن بحسب هذا الافتراض ان يرتفع الاشكال، اذ فليسلم القلب ما شاء له التسليم للغيب، وليبق العقل حرا في طلب العلم. الأمر حينها يكون اشبه ما يكون بحاستي السمع والبصر مثلا، فلا تناقض في عملهما، لأن وظيفتيهما مختلفتين. وبهذا الشكل يمكن ان للإنسان ان يتعامل مع العلوم الغيبية قلبيا، ومع العلوم الكونية عقليا. بالإمكان التعبير عن هذا الرأي بالصيغة (الله – قلب الانسان عقله- العالم)، أي ان الانسان يقابل ربه بقلبه ويقابل العالم بعقله. ليكون مؤمن بقلبه، وعلماني بعقله، لا يسمح للعقل بان يتدخل في الغيبيات، كما لا يسمح للقلب في ان تتدخل في العلميات. وأيا يكن سواء الرأي الأول القائل بالتسليم النسبي للعقل او الثاني القائل بتوظيف القلب للآخرة والعقل للدنيا او ما يمكن اقتراحه من احتمالات اخرى، فالمهم فيها ان تكون مستوفية لشرط التوقع التي اشرنا لها، وان كان الامر كذلك كما في المقترحين المعروضين ففلسفيا لا يوجد ما يعارض اعتماد احدهما او حتى كلاهما، اذ يمكن ان يأخذ البعض بالرأي الأول كما يمكن ان يأخذ آخرين بالثاني، وعلى نفس الوتيرة يمكن ان يأخذ غيرهم بغيرهما من الآراء اذا ما استوفوا شرط التحقق بـ(المؤمن العلماني). لم يبق لنا في هذا المقال الذي طال شيئا ما الا ان نشير الى أمر نظنه جدير بالذكر وهو: قد يمتنع تطبيق هذه الآراء على ارض الواقع لأنها تتعارض مع منطلقات النظرات الاحادية سواء اكانت ايمانية او علمانية المتأصلة في الضمير المجتمعي، الا ان ذلك لا يمنع من تسليط الضوء عليها، اذ ليس من شأن النظرة الفلسفية ان يتم تطبيقها او لا، بل من شأنها ان تقدم التفسير الذي تراه مناسبا، وان تتوقع ما تعتقد انه ممكنا. وهذا ما حاولنا القيام به، والسلام.
#نضال_فاضل_كاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة؟ - الجزء الخامس والاخير
-
هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة؟ - الجزء الرابع
-
هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة؟ - الجزء الثالث
-
هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة ؟ - الجزء الثاني
-
هل تمكن العلم من ان يسبق السلحفاة ؟ - الجزء الأول
-
النظريات والحقائق.. وفاق ام افتراق؟
-
درس المصير - قصة قصيرة
-
لماذا يا رب ؟ .. حتى الكوخ احترق !!
-
الطرق اللامألوفة لمعرفة ارتفاع ناطحة السحاب
-
اللعنة حين تستولد ذاتها
-
لماذات زينب وعائشة..!! - قصة قصيرة
-
هكذا اكتشفت عنواني الذهبي - قصة قصيرة
-
هل مزقت الجمعة خيوط العنكبوت؟
-
إمي .. هل نحن سُنّة أم شيعة ؟ - قصة قصيرة
-
المقدس - قصة قصيرة
-
صرير الباب
-
طيور الحقيقة - قصة قصيرة
-
هل يمكن ان يستعمر التصوف العقل؟
-
الخلود بين عقلنة الفلاسفة وروحنة أهل الطريقة
-
الثورات الشعبية واضمار الثقوب السوداء
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|