الاثنين 23 سبتمبر 2002 03:38
برهنت المسيرتان السياسية والاجتماعية في العراق الحديث على متانة وعمق الروابط بين الاطياف والألوان العراقية المتنوعة، لا سيما بين عرب العراق واكراده. تشهد بذلك النضالات الطويلة والشاقة المشتركة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما دخلت الحركة الوطنية العراقية مرحلة جديدة من الوعي والتجربة والعمل المنظم على طريق استكمال السيادة الوطنية العراقية، وبناء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي المناسب لموارد البلد وطاقاته البشرية ولحاجات المرحلة.
وناضل العرب والاكراد معا (مع ممثلي بقية عناصر المجتمع)، في الشوارع والتحشدات، وفي السجون والمعتقلات والمنافي، رافعين عالياً شعارات "الاخوة العربية ـ الكردية"، و"تحت راية الاتحاد العربي ـ الكردي تتحطم مؤامرات الاستعمار"، و"من أجل الديمقراطية في العراق والحكم الذاتي في كردستان".
كان الوطنيون العراقيون والجماهير المتحركة، من عرب ومن كرد وتركمان وآشوريين وأرمن، ومن مسلمين شيعة ومسلمين سنة، ومن مسيحيين، ويهود، وصابئة، وغيرهم من مكونات المجتمع العراقي، يناضلون معا في سبيل عراق أفضل للجميع، لازالة الاضطهاد العرقي والمذهبي والديني، واطلاق الحريات، والاصلاح الزراعي، والخروج من حلف بغداد، وغير ذلك من الاهداف الوطنية المشتركة. لقد كانوا يعملون معا في وجه تحالف فئة حاكمة متشبثة بالامتيازات وباساليب الحكم المنافية للديمقراطية، وبالتحالف غير المشروط مع بريطانيا. وكانت تلك الفئة الحاكمة مكونة من عراقيين عرب كأكثرية، ومن كرد ايضا. فلم يكن الصراع عربيا ـ كرديا، بل نضال قوى وطنية وشعبية عراقية متعددة الالوان في وجه فئة حاكمة ملونة هي الأخرى وبأكثرية عربية.
ففي المظاهرات العامة لسنة 1956، انتصارا لمصر ضد العدوان الثلاثي، شاركت جماهير الوسط والجنوب وكردستان معا، في حين كانت حكومة نوري السعيد تضم عددا من الاكراد. وعندما كانت الحكومات العراقية المتعاقبة تشن حملاتها الدموية ضد الاقليم الكردستاني، فإن مشاعر وعواطف الشعب، في بقية مناطق العراق، كانت مع الاكراد المستباحين وضد الحكومات وحملاتها. وهذه حقيقة تسجلها الوثائق والتاريخ العراقي الحديث.
صحيح، كان هناك متطرفون وافكار ضيقة بين بعض المثقفين الاكراد، غير ان اكثرية المثقفين والساسة الاكراد دعوا الى التعايش العربي ـ الكردي خصوصا منذ عشية الحرب العالمية الثانية. وحتى قبل ذلك، كان عرب العشائر الجنوبية العراقية يرفعون من مقام "الكاكة أحمد" ابي الشيخ محمود برزنجي، وذلك في "الهوسات" العامة.
وهناك حقيقة اساسية أخرى وهي ان اكراد العراق جزء من أمة كردية يتجاوز مجموعها الثلاثين مليونا، يشتركون في قواسم قومية مشتركة، وأن من حقهم المبدئي في عصرنا ان يمارسوا حق تقرير المصير بالصيغ المناسبة، بما فيها قيام دولة كردية كبرى في المنطقة، هذا حق مشروع أقرته كل الشرائع الدولية الحديثة. وإذا كانت شعوب لا يتجاوز عدد نفوسها المليون والمليونين ذات دولة مستقلة فلماذا يظل الاكراد وحدهم موضع تمييز وحرمان واتهام؟!
على ان الحقوق القومية المبدئية تخضع للظروف السياسية والاجتماعية ولمصالح الشعوب المتعايشة معا في بلاد واحدة، وقد اختار الوطنيون الاكراد في العراق مطلب البقاء في عراق ديمقراطي يمنحهم حقوقهم القومية دون تميز. وهذا مطلب اتفقت عليه القوى الوطنية العراقية كافة وباستثناء بعض العنصريين المهووسين. فبالأمس اتفق الجميع على شعار الحكم الذاتي الذي اضطر النظام العراقي الحالي نفسه للاقرار به عام 1970. ورحبت بذلك قيادات قومية عربية في مقدمتها قيادة جمال عبد الناصر. ومنذ 1992 (بعد حملات القمع الحكومية وسحب النظام لادارته من المنطقة)، اختارت القوى الوطنية في كردستان العراق صيغة الفيدرالية، في الاطار العراقي الواحد. ان هذه الصيغة حظيت وتحظى بتأييد اكثرية القوى السياسية العراقية. غير ان بعضها لا يزال غير مقتنع بهذه الصيغة خوفا من ان تؤدي للانفصال. وهذا الخلاف داخل القوى الوطنية العراقية، الساعية من أجل قيام النظام الديمقراطي، لم يمنع تعاون جميع القوى في العمل السياسي المشترك. والحوار متواصل، ويمكن حسمه في البرلمان العراقي الديمقراطي المنشود. اما الذين اصيبوا بالذعر والقلق الحقيقي من فيدرالية كردستان فليسوا من الوطنيين العراقيين. وانما بعض عواصم الجوار، خصوصا تركيا التي تضم النسبة العظمى من مجموع الاكراد. وليس صحيحا ابدا الادعاء بأن القوى الوطنية الكردستانية تعلن كونها ضد الانفصال ردا على الموقف التركي الشوفيني. فهذا اعلان قديم جدا، وليس في شعارات الاحزاب الكردستانية العراقية المعروفة كلها حديث عن الانفصال. فالروابط التاريخية، والمسيرة المشتركة، ومتانة النسيج الاجتماعي الملون، والظروف والمقتضيات الوطنية والاقليمية والدولية، تفرض التعايش العربي ـ الكردي في الاطار الديمقراطي الموحد، الذي يعيد لكل قومية واقلية حقوقها كاملة. اما المستقبل البعيد للمنطقة فخاضع لما سوف تحمله التطورات التي لا يمكن التنبؤ بها. وهذا مستقبل بعيد لا يمكن لأحد استشرافه اليوم.
ومع ان اخطاء كثيرة وكبيرة اقترفتها القيادات الكردية في التاريخ العراقي الحديث، فإن الموضوعية والانصاف يلزمان الباحثين والمؤرخين بتسجيل حقيقة ان الحركات والثورات الكردية المتعاقبة اندلعت أولا، بسبب السياسات العنصرية والقمعية للحكومات العراقية المتتابعة، التي لم تلتزم بما كانت تعلنه وتقره من حقوق للقومية الكردية العراقية. وكان الشوفينيون العروبيون المتعصبون يصبون الزيت على النار بإنكار السمات القومية القاطعة للاكراد، ورفع دعوات الصهر القومي والطائفية المذهبية، وهذه افكار كان بعضها موروثا من آيديولوجيا العثمانيين والبعض الآخر كان مستوردا من النازية والفاشية. ومع مرور السنين وتطور الوعي السياسي والتجربة صارت الافكار والتيارات العروبية المتعصبة تنعزل تدريجيا بينما اتسعت دائرة الاعتراف بالآخر بين القوى القومية العربية العراقية، الى حد اقرار بعضها للاكراد، بحق تقرير المصير الكامل. غير ان المؤسف ان افكارا وتيارات كهذه لا تزال رائجة بين اوساط من المثقفين والساسة العرب خارج العراق. وازدادت انتشارا مؤخرا مع تصاعد وتواتر التحركات العراقية من أجل ازاحة النظام القائم واقامة الديمقراطية. فبعض الاصوات والاقلام راحت تروج لمخاوف مصطنعة من "طغيان الشيعة على السنة" في عراق الغد. وآخرون (أو هم أنفسهم)، يروجون لاسطورة "الانفصال" الكردي القادم حتما بمباركة امريكية، متناسين ان امريكا هي في المقدمة من المعترضين على تجزئة العراق. وبالامكان فهم ما يجري ترويجه اليوم على اوسع نطاق خارج العراق من هذه الاساطير والاوهام من عدة زوايا. فهناك مثقفون لا يزالون ضحايا نزعة "عروبية" "نقية" متزمتة، وعنصرية صهرية، (ظاهرة أو متسترة)، من مواريث ساطع الحصري والارسوزي وغيرهما، واصوات واقلام كثيرة تروج لهذه الاوهام والاشباح خوفا من قيام ديمقراطية حقيقية في عراق الغد وانعكاسات ذلك على عموم المنطقة، أو من خسارة ارباح طائلة من النفط العراقي المهرب. وثمة مثقفون مندفعون بحمى العداء لامريكا، وآخرون محسوبون على النظام العراقي ـ فمهما فعل فإنه المصيب: فإن تعنت مع مجلس الامن صفقوا، وان تراجع هللوا "للحكمة" و"الواقعية السياسية"، وان جميع هذه الاوساط، وعلى اختلاف المشارب والمصالح والغايات، تشن اليوم اوسع حرب تضليل اعلامية وسياسية ضارية للتخويف من ازاحة النظام العراقي، وعواقبها الموهومة دون ان يقف اي منهم ليسأل عن رأي العراقي المذبوح داخل العراق، والملايين الاربعة من العراقيين المهاجرين والمهجرين هربا من الاضطهاد ومن التمييز العرقي والمذهبي ومن البؤس الناجم عن غزو الكويت. ولا نجد ايا منهم يقدم ولو تحذيرا "أخويا" للقادة العراقيين، عندما يعلنون زيفا عن "تنفيذهم الكامل" للقرارات الدولية، في حين انهم خرقوها ويخرقونها باستمرار، بينما يستمر قمع العراقيين في الداخل واستنزاف الثروات العراقية على التسلح بأسلحة تدمير غير دفاعية، وفي بناء القصور، وشراء الاقلام والفضائيات والساسة. فمن ناحية هناك شعب مغلوب على أمره ومن جهة أخرى هناك تجار الحصار والنفط المهرب داخل العراق وخارجه!
وهؤلاء الدعاة وامراء الاعلام والساسة، يتعمدون خلط الاوراق والتشويش بابدال هدف "ضرب النظام العراقي" بـ"ضرب العراق" ـ وكأن الهدف هو الاجهاز على البلد وبناه التحتية وتفكيكه، والزعم بأن الوطنيين العراقيين موافقون على ذلك! علما، وهذا ما يعرفونه جيدا، بأنه لا يوجد وطني عراقي واحد يمكن ان يرضى بذلك، وانما الهدف قيام نظام برلماني تعددي مستقل مسالم، منصرف لاعادة البناء، ويستعيد سيادتنا الوطنية التي تصدعت جراء وصاية مجلس الأمن وقراراته منذ غزو الكويت، وجراء استمرار السياسات الكارثية للنظام. وقد رفض النظام على مدى العقد الماضي كل دعوات التعقل والحكمة والانفتاح، وتعمد تضييع فرص كانت متاحة له لو اراد، مفضلا الاستمرار على النهج الشمولي العائلي، والتلاعب بالقرارات الدولية، وتجنيد الشباب والاطفال والشيوخ والنساء، وكأن حربين مدمرتين والحروب الاهلية، لم تكن كافية للشعب العراقي المظلوم. وبعد عام 1992، اضطرت القوى الوطنية لطلب العون الدولي بشرط ان يصب لخدمة الهدف الوطني العام، وبشرط ان يكون التغيير عراقيا، وان يكون النظام القادم باختيار العراقيين ولمصلحة شعبنا ومستقبله في ظل عراق حر مستقل موحد وآمن بلا حظر وبلا قمع شمولي وبلا تمييز عرقي وطائفي.
إن بعض الاوساط والشخصيات العربية تحسن لنفسها ولمستقبل علاقاتها مع شعبنا لو انها خففت من غلواء تحركاتها وتصريحاتها وخطبها دفاعا عن بقاء نظام أضر بشعبه وبجيرانه. انهم يحسنون صنعا لانفسهم ولشعوبهم وللحقيقة لو فكروا يوما بما تعانيه الاكثرية العراقية بسبب القمع الدموي واستنزاف الثروات وهدر وبذخ الحكام وتعنتهم مع مجلس الامن.
ان الوقت لم يفت لكي يتدارك بعض العرب مواقفهم المسيئة للشعب العراقي ولآفاق علاقاته بالآخرين!!
* كاتب عراقي مقيم في باريس
الشرق الأوسط اللندنية