|
من الأبوات إلى الأنوات... جيلان من السياسة والثقافة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3750 - 2012 / 6 / 6 - 22:06
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
زمن الأبوات لم تكد سورية تعرف ظاهرة الأبوات: رجال بشوارب، يُعرفون عموماً باسم أبي فلان وأبي علان، ولا تكاد تُعرف أسماؤهم الحقيقية. الأبوات قادة أو كوادر في منظمات كثيرة، تشبه بعضها، وتقول بنبرة عالية كلاما يستعصي تبيّن دقائق فوارقه على الغرباء. وتتكاثر منظمات الأبوات بالانقسام، وتجيب “فصائلها” إجابات مختلفة على الأسئلة ذاتها. لكنها لا تطرح أسئلة خاصة بها. شكلت المنظمات الفلسطينية الوسط المثالي لظاهرة الأبوات، التقت فيها عقيدة التحرر الوطني والسلاح وجيل الشباب. منظمة فتح هي الحاضن الطبيعي للظاهرة، والعمل الفدائي عموما هو تجسدها الأصفى. وكان يلتقي في شيوع التكنّي بلقب أبي فلان الاسم السري للثوري المحترف، وشجاعة القبضاي حامي الجماعة المحلية، وموقف أبوي حيال المجتمع، سهّلت من أمره حينها الشيوعية السوفييتية وعقيدتها في الطليعة الثورية. ومن هذا الباب، ومن باب النضال والتحرر عموماً، هيمنت الظاهرة في كل مكان من المشرق، وفي أوساط شيوعية وقومية عربية. وإسلامية أيضا. يوحد إيديولوجيات الأبوات نازعها العملي والنضالي والسري، والطابع الرسولي لوعيها الذاتي، والروح القيادية الأبوية حيال المجتمع. وبينما قد لا تمارس العنف، فإن “العنف الثوري” (“الجهاد” عند الإسلاميين) جزء من عقيدتها، وقد تمارسه حين تواتي الظروف. ليس في تكوينها ومذاهبها ما يضاد العنف، بل هناك غالبا ما يحث عليه. لكن يلزم التمييز بين منظمات أبوات مسلحة، في الوسط الفلسطيني بخاصة، بلغت الظاهرة فيها تمام تفتحها، ومنظمات أبوات غير مسلحة، هي عموم التنظيمات الشيوعية والقومية العربية خلال نحو ربع قرن، يبدأ باستيلاء حزب البعث على الحكم في سورية والعراق وتشكل منظمة فتح، وينتهي في ثمانينات القرن العشرين. وعلى مستوى آخر نميز بين منظمات أبوات تقدمية ومنظمات إسلامية. كانت نظرية الطليعة الثورية مشتركة بين الجميع وقتها، الناصريين والإسلاميين والبعثيين، فضلا عن الشيوعيين. وبهذه النظرية تأثر إسلاميون مثل مروان حديد (1934- 1976) الذي يعتبر الأب المؤسس لتنظيم “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”. وستكون لهذا التنظيم سيرة مكلفة في مواجهة نظام حافظ الأسد في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. المنظمات التقدمية التي أدارها الأبوات لا تفكر في ذاتها كحركات تحرر وطني واجتماعي فقط، بل كحركات خلاصية، تعمل على تغيير كلي للمجتمعات، وفي فلسطين على “تحرير الأرض والإنسان”. ولقد انخرط فيها رجال (ونساء) من الأكثر شجاعة وغيرية في مجتمعاتنا، لكنها حررت القليلين، ورفعت من كفاءة وقدرة أعداد أقل بكثير ممن انجذبوا إليها. ورغم لقب “الرفيق” الذي كان الأبوات التقدميون يتخاطبون به، فإن منظمات الأبوات قلما وفرت أجواء رفقة حقيقية في منظماتها. حملت منظمات الأبوات التقدمية في داخلها تناقضات عميقة انهارت تحت وطأتها: تناقض بين التحررية الاجتماعية والثقافية التي تدعو إليها وتجتذب الأنصار باسمها، وبين أطرها السياسية الهرمية والأبوية وغير التحررية، والقائمة على الطاعة. كان يجري الثناء كثيرا على الانضباط الحديدي في المنظمات اليسارية. وعند الإسلاميين تظهر أجلى صورة للتناقض بين واقع كون الإسلام دين البعض وإرادة جعله دولة للكل. كانت الهيمنة الإسلامية تحل المشكلة في زمن ما قبل الحداثة. الواقعة الجوهرية التي لم يستوعبها الإسلاميون هي زوال الهيمنة الإسلامية. لذلك تغريهم معالجة المشكلة بالعنف. العنف لا يحل المشكلة طبعا. يشارك الإسلاميون منظمات الأبوات التقدمية إنكار الواقع المركب والتعددي لمجتمعاتنا، وهو ما يترجم سياسيا بنظام الحزب الواحد. تناقض آخر وسم منظمات الأبوات: شجاعة جسدية لا تنكر وخور فكري شديد. إذ قلما أنتج الأبوات معاني ورموزا عامة، وثقافة تفيض على منظماتهم الخاصة. أظهر غير قليل من الأبوات استعدادا للتضحية برؤوسهم، وكانوا أقل استعدادا للتضحية ببعض ما في رؤوسهم. الإسلاميون منهم يموهون على فقر إنتاجية المعاني والرموز بعقيدة الأصالة، التي لا تعني الابتكار، بل التكرار اللانهائي لما كان أنتج يوما في بواكير الزمن الإسلامي. لكن من جانب آخر، جرى اختراع إسلام مغاير للإسلام الموروث، وإن يكن متشكلا من عناصره نفسها، وعلى صورة الحزب السياسي الحديث، الشيوعي والقومي، ويشاركهما التطلع إلى إعادة تشكيل الأمة على صورته ومثاله. على أن هذا الاختراع انبنى بصورة جوهرية على إنكار طابعه الصنعي، بل على نسبة نفسه إلى أصل قديم ثابت. والتيار الأشد اختراعا من حيث عقيدته (الحاكمية الإلهية) وبدرجة ما من حيث بنيته، السلفية الجهادية، هو الأشد إسنادا لنفسه إلى أصل قديم. ثم إن كل منظمات الأبوات كانت أقرب في وعيها الذاتي إلى “الملة الناجية”، الجماعة الوحيدة التي على حق، والتي تحتكر ولاء المنتسبين إليها وتفكيرهم. العلاقة بينها علاقة استبعاد طبعاً. ويتمثل تناقض ثالث في أن تلك المنظمات جمعت بين اليقينية وقلة التفاؤل التاريخي الذي تقضي به مذاهبها. كنا في زمن هزيمة حزيران، ثم حلول نظم استبداد فاحشة والحرب اللبنانية، والتدهور النفسي والسياسي للعرب والرابطة العربية. وكانت منظمات الأبوات تكثر من اللوم، لوم العالم ولوم الظروف، ولوم العرب أيضاً. الخطاب الطقسي الثالب للعرب نشأ في تلك المرحلة وعلى يد عروبيين غالباً. لكن لعل الأساس في قلة التفاؤل هو ضعف إنتاجية هذه التيارات من المعاني والقيم والرموز التي تؤسس للثقة بالعالم والتاريخ، وتقوم عليها جماعات جديدة أو تجدد حياة الجماعات القائمة. أنتجت منظمات الأبوات القليل من الثقافة وتكونت على أرضيتها جماعات صغيرة، ضعيفة الثقة بنفسها وبالعالم من حولها، ومتوجسة من التاريخ. أما الإسلاميون فأعرق في التشاؤم، رغم أن المزاج الإسلامي الأصلي أميل إلى التفاؤل منه إلى التشاؤم (الإنسان ليس ملعونا، هو خليفة الله، لكنه مغرور ونفسه أمارة بالسوء). فهم ورثة انقسام وصراعات إسلامية قديمة لم يجر تنظيمها فكرياً وقيمياً في أي وقت بحيث يكون الانفصال عنها ممكنا؛ وهم يستبطنون موقفاً فكرياً ونفسياً متشككاً حيال العالم الحديث، إن لم يكن نافياً له بفعل هيمنة الغرب فيه؛ وهم ثالثا في صراع عنيف، سياسي وفكري، ومسلح أحيانا، مع الأبوات التقدميين، الناصريين والبعثيين، والشيوعيين، خرجوا منه مثخنين بالجراح. منظمات عمل وغير متفائلة؟ هذا تناقض لا ينحل إلا بالتحلل والموت، وهو مصير الأبوات التقدميين؛ أو بالعنف العدمي، وهو الحل الذي فضله الإسلاميون الجهاديين. نزعة اليقين والامتثالية الفكرية الواسمة لظاهرة الأبوات منعتها من تطوير فكر وثقافة تحرريين إلا فيما ندر. كان من شأن ظهور ثقافة جديدة منفتحة على عالم التجربة الحي والقيم الإنسانية أن يُحوِّل الأبوات إلى ظاهرة اجتماعية أوسع، ذاتية المنشأ والتطور. ومن دون تطوير هذا السند الاجتماعي، آل الموت السياسي لظاهرة الأبوات إلى موت فكري وثقافي لقيمها التحررية المفترضة. شاركت نساء في منظمات الأبوات، لكن لم يحصل أن قادت امرأة إحداها، وندر أن كانت لأي منهن دورا أساسياً فيها. التكوين النضالي المحتفي بالعنف والشهداء والدم الأحمر حال دون مشاركة نسوية واسعة وفاعلة. إن في صيغتها التقدمية (شيوعية وقومية عربية) أو في الصيغة الإسلامية، ليست ظاهرة الأبوات ظاهرة أبوية، أو مظهرا للنظام البطريركي التقليدي. الواقع أنها أقرب إلى الخروج عليه، إيديولوجية وحساسية ونمطا للشخصية. الأبوات التقدميون هم أبناء ثاروا على آبائهم، وأرادوا تأسيس رهط جديد أكثر تحررا، و”تبنّوا” عقيدة جديدة، وإن يكونوا اعتنقوها، ولم يضيفوا إليها شيئاً. الإسلاميون أيضا ثائرون على آبائهم التقليديين، ومنظماتهم حديثة، أكثر شبها من الناحية البنيوية بما يزامنها من “أحزاب عقائدية” أخرى منها إلى أصل إسلامي لا يكف عن مشابهة نفسه. ولعل ظاهرة الأبوات أوثق صلة بتحلل البنى الأهلية، العشيرة والطائفة والمحلة المعزولة، منها بانعكاس لها. ورغم ما يبدو اليوم من صعود للطائفية والعشائرية، فإنهما تعيشان اصطناعياً بفضل السياسة وخطط أطقم الحكم، وليس لأي قوة استمرار خاصة بهما. يبتئس شيوخ العشائر اليوم من أنه لا كلمة لهم في عشائرهم، وتُخيِّب قلة تضامن عموم الطائفة ظن المناضلين الطائفيين الراديكاليين، فيواجهون المنشقين والفاترين بأشد سخطهم. قبل الأبوات كانت النخبة السياسة والثقافية أكثر ذكورية بعد، يرتدي أفرادها طربوشاً أحمر، وينتسب أكثرهم إلى أسر معروفة، تحمل غالبا ألقابا تركية: باشا، آغا، بيك. كانوا يتخاطبون بهذه الألقاب على كل حال. وكان شيخ العشيرة جزءا من هذه النخبة، لكن نفوذه كان في تراجع. ومثله أيضا رجل الدين. بلغت ظاهرة الأبوات ذروتها وختامها في آن في الحرب اللبنانية. اقترنت بالسلاح والشهداء والمعارك، وانتهت حين لم تعد المعارك ممكنة. نقطة النهاية السياسية هي احتلال بيروت وخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان. في سورية انتهت صيغتها الإسلامية في الوقت نفسه تقريبا، في مأساة حماه في شباط 1982، وهي أيضا آخر مغامرات التنظيم الطليعي الذي بناه مروان حديد. أما ظاهرة الأبوات التقدميين فقد وُجدت في سورية على مستوى النخبة السياسية الحاكمة بعد الانقلاب البعثي الأول، ثم ضمن نطاقات ضيقة ومتنحية، شيوعية وبعثية مناضلة، بعد عام 1970. بعد هذا العام هيمن في البلد أب واحد، حافظ الأسد، رد السوريين جميعا إلى أبناء قُصَّر. هناك أبناء متمردون، وضعوا في السجون لتأديبهم، ومن حاولوا أن يكونوا آباء فعلا سحقوا وقتلوا. هذا ينطبق بخاصة على الإسلاميين. ربما يفيد التذكير هنا أن اللحية، وهي عنصر إضافي في التكوين الجسدي للأبوات الإسلاميين، كانت شبه محظورة في سورية في أيام من سيعرف في ثمانينات القرن العشرين بـ”الأب القائد”. كان قد قتل الألوف وصار في خمسينات العمر، وهذه مؤهلات مناسبة لأبوة الشعب. واكتمل تحلل الأبواتية التقدمية، منظمات وعقيدة ونمطا مثاليا للشخصية (شوارب، نبرة عالية، يقين بالصواب الذاتي، شجاعة جسدية…)، في أواخر ثمانينات القرن العشرين. الأب الرمزي لجميع الأبوات مات. المقصود الفكر والمثال الاشتراكي، وما يميزه من منزع عملي وجمعي، وليس بالضرورة الاتحاد السوفييتي. كان الأبوات مرهقين سياسياً بعد بيروت، وهاهم يتيتّمون رمزياً بعد سقوط “المعسكر الاشتراكي”. وكان جيل الأبوات تجاوز الشباب، وفقد زمام المبادرة الفكرية والسياسية. نقطة ضعف الأبوات التقدميين أنهم لم ينتجوا المعاني والرموز التي عرفوا أنفسهم بها. مات الاتحاد السوفييتي فمات ما بقي منهم معه. كانت فكرة التقدم نفسها تفقد هيمنتها، وتتعرض لنقد سياسي وفكري نال من صلاحيتها كأساس جامع لحركة تاريخية. أما الأبواتية الإسلامية فقد اندغمت فلولها في حركة الجهاد الأفغانية والعالمية. هناك يقيم المثال القديم العريق لكل أبو: رجال بلحى طويلة غير مشذبة، وثياب يفترض أنها تقليدية (أفغانية في الواقع)، اسم الواحد منهم أبو فلان منسوباً إلى بلد، أبو مصعب السوري مثلا، مصطفى نصار الست مريم. يدفع الجهاديون التشاؤم الإسلامي المتعدد الطبقات إلى أقصاه، ليتحول إلى حركة عدمية عنيفة ومتطرفة، “القاعدة” وما يشبهها. يلزم التوضيح هنا أن مدرك الأبوات مستخدم في هذه المحاولة بثلاث دلالات غير متطابقة. أولاها دلالة ضيقة، تحيل إلى منظمات مسلحة يكنى أفرادها فعلا باسم أبي فلان، ونموذجها حركة فتح؛ وثانيتها دلالة أوسع وتتمثل في جملة الأحزاب الإيديولوجية العملية، ذات البنية التراتبية (شيوعيين، بعثيين، ناصريين، إسلاميين) بدءاً من تشكل حركة فتح والحكم البعثي في كل من سورية والعراق إلى وقت ما من ثمانينات القرن العشرين، وما يسوغ توسيع الدلالة على هذا النحو هو ما سبقت الإشارة إليه من موقف أبوي مشترك من مجتمعات تعمل منظمات الأبوات على تثويرها وتحريرها وتغييرها؛ وتحيل ثالثة الدلالات إلى تلك الفترة ذاتها كإطار تاريخي للظاهرة، وقد هيمنت فيها مدركات التحرر الوطني والتغير الاجتماعي والثورة، والحزب والتنظيم، وكانت الإيديولوجيات المشار إليها قوية الملامح وممتلئة باليقين. ماذا حل بمنظمات الأبوات؟ لم يكد ينقرض شيء منها، لكنها تبدو عائشة في غير زمانها وفي غير مائها. منظمة فتح باقية، لكن كجسم بيروقراطي لسلطة فلسطينية بلا سلاح ولا سلطة، وحزب البعث السوري باق، لكن كاستطالة جسيمة لنظام طغيان أمني. وهناك أحزاب شيوعية، وهناك تنظيمات ناصرية، لكنها مفتقرة جميعا إلى الاعتزاز بفكرها وتنظيماتها، وأشد افتقارا إلى التفاؤل والثقة بالنفس. تشبه شيوخا حائرين وعاجزين، أكثر من آباء واثقين. هناك أيضاً الإخوان المسلمون. كانوا في استنفار دائم في مواجهة الثالوث البعثي الناصري الشيوعي، اليوم يبدو أنهم يؤتون من مكمنهم، من إسلاميين آخرين، سلفيين أو سلفيين جهاديين، ويبدون مثل غيرهم خارج مائهم. وخلال عشرين عاما بين مذبحة حماة 1982 و”ربيع دمشق” (2000- 2001)، لم يبق للإخوان السوريين شكل، جماعة تائهة مهزومة، فقدت صوابها، تتحرك في كل الاتجاهات في الوقت نفسه. أما من اعتقل منهم فقد تحول إلى مسحوق وهو حيّ، قبل أن يتحول إلى تراب في مقابر جماعية مجهولة الأماكن. فقدان الشكل هذا ليس واقعة استثنائية بخصوص منظمات الأبوات، في الثمانينات وما بعد، أو منذ بدء الحرب اللبنانية. لنفكر في الشيوعيين السوريين في السجون أو في “الجبهة الوطنية التقدمية”، في البعثيين في الحكم، في الناصريين الذين لم يعرفوا أين يكونون. في الشيوعيين اللبنانيين، أو العراقيين، في فتح أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لم يعد أحد يطابق نفسه أو يستطيع تعريف نفسه. قد يكون هذا تعريفا صالحا لانتهاء زمن الأبوات. زمن الأنوات مع تفكك الأبواتية التقدمية، تناثر “الأعضاء” في كل اتجاه. انزوى بعضهم، وتقطعت السبل ببعضهم، وانقلب بعضهم بشراسة على ماضيهم، ولم يعد هناك ما يضبط الجميع أو يشدهم إلى بعضهم. ومن تحلل الأبوات أخذت تبرز ظاهرة الأنوات. كان الانخراط في منظمة والولاء لعقيدة والعمل مع “رفاق” (أو “إخوة”) يُقيِّد أنا الأشخاص. الآن وقد انفرط عقدنا و”تحررنا” من أبينا الحزب أو التنظيم الثوري، ومن أبينا المذهب المعصوم، كيف لا تتضخم ذواتنا ونصبح آباء أنفسنا؟ الأنوات غير مسلحين، قليل منهم بشوارب، أدنى يقينا، ولا إيديولوجيون غالبا. مذهب نهاية الإيديولوجيات يأتي على ذوق عموم الأنوات لأنهم يحررهم من أي مبدأ، أو التزام فكري ثابت. ولأنهم لا يطيقون التزاما، فليس صحيحا أن الأنوات ليبراليون، وإن تكن الليبرالية أقرب إلى ذوقهم. ليبراليتهم هذه وجهة عامة من دون معنى محدد، مزيج من فردانية وأولوية الحرية الشخصية وضمور للحس العام. لكن حتى من بقي من الأنوات حاملاً الراية الماركسية فإنه أقرب إلى متوحّد، يؤكد أناه عبر تمسكه بمذهب قلما ينعكس فعليا في تفكيره وسلوكه. لقد تغيرت الشروط الاجتماعية والنفسية للاعتقاد باتجاه أكثر فردانية، وإن حافظت العقائد ذاتها على نفسها دون تغيير، وإن ثابر المعتقدون على إعلان ولاء غير منقوص لها. “اليساري السابق” من الأنوات تعريفا. لكن اليساري الدائم الذي لا يكف عن مخاصمته من الأنوات أيضاً. وغير قليل من هؤلاء الآخرين أنوات مطلقون، انقلب غرور العقيدة وغرور الحزب إلى غرور شخصي لديهم، وهم منشغلون بحروب المكانة أكثر من أي شيء آخر. مسار الإسلاميين مختلف. في سورية سحقوا بالكامل وقتل الألوف منهم. بعض من فروا خارج البلد تحولوا إلى “مجاهدين”. أما من كانوا أقرب إلى الإسلاميين ونجوا من الاعتقال فقد تحول بعضهم إلى أنوات. يهتمون بالثقافة، ويأخذون “مسافة نقدية” من الإسلاميين، فكرا وسياسة، وينفتحون على غيرهم من التيارات العلمانية، ويحصل أن يصف بعضهم نفسه بأنه “إسلامي مستنير”. أما الإخوان المسلمون فلم يبق لهم شكل واضح كما سبق القول، يمارسون توفيقا لا يستقر بين تيارات ليبرالية وحداثية من جهة وتيارات إسلامية متشددة من جهة أخرى. ويبدو أن وقوعهم في المدار التركي في زمن الثورة يزيدهم فقداناً للشكل يوحد الأنوات ويقرب بينهم شعور بالعزلة وفقدان زمام المبادرة. الأنوات مثقفون، ومهتمون بالشأن العام عموماً. لكنهم فردانيون إلى أقصى حد، يصعب أن يعملوا معا، وغالبا ما تفشل المجموعات المنظمة التي يشكلونها. كان أهمها في سورية “لجان إحياء المجتمع المدني”، وقد ظهرت في عام 2000، ثم تلاشت بعد سنوات. لكن هذا ينطبق أيضا على أكثر المجموعات الناشطة في مجال حقوق الإنسان، وهذا ميدان عمل مفضل للأنوات. التجربة المكونة للأنوات هي تحلل منظمات الأبوات، لذلك الانفراط والتباعد عن الأصل المشترك، وليس التقارب لتشكيل تجمعات جديدة، هو النازع الأقوى في تكوينهم. ومن المحتمل أن الأنوات أكثر ظهورا في البلدان التي كان هيمن فيها أب واحد غليظ، مثل صدام حسين وحافظ الأسد. الأبناء القُصّر المقموعون يظهرون تضخما أنويا تعويضيا. على أنه لا يبدو أن الأنوات قلة في فلسطين أو لبنان، أومصر. بعد المناضل، المقاتل غالبا، والمنظمة الثورية، لدينا اليوم رجل حديث المظهر، وناشط في NGO (منظمة غير حكومية) ذات روابط دولية. تكوين الأنوات لا يتوافق مع السرية. نازع الظهور لديهم يتعارض جذريا مع مناخات العمل السري، فوق أن كثيرين منهم سليلو منظمات أبوات سرية فاشلة. الأنوات ينخرطون في العمل العام، لكنهم أكثر نرجسية وأنانية من أن ينضبطوا بقضية عامة. هذا ظاهر في سورية اليوم. المعارضة السورية التقليدية، وقبلها العراقية، مكونة أساساً من أبوات سابقين مقموعين، انقلبوا إلى أنوات. لذلك انقساماتها كثيرة وخصوماتها كثيرة، ويتعذر أن تجتمع وتتعاون. ويغلب أن يكون السبب الأهم للمناكفات هو الظهور والشهرة والرغبة بالسلطة، وإن انتحلت هذه النوازع اعتبارات عامة لتسويغ نفسها. لا ترتد خصومات المعارضة السورية اليوم حصراً إلى التكوين الأنوي لأكثر شخصياتها، لكن لعله لم يمر يوم كانت النوازع الشخصية فيه أكبر والاعتبارات العامة والإيديولوجية أدنى في شرح تلك الخصومات من اليوم. لم تتلاش الإيديولوجيات ولم تفن، لكنها فقدت كثافتها وانفصلت عن العمل وتدهورت طاقتها التعبوية، وجف منها اليقين، اليقين المعرفي واليقين الأخلاقي واليقين التاريخي. أصبحت إيديولوجيات لايت، تفضيلات ذاتية وعناصر مكملة لهوية أنوات أفراد. والمشكلة هنا ليست في الفردانية بحد ذاتها، بل في نظام الأنا المطلق المميز لعموم الأنوات المتحدرين من منظمات أبواتية: أنوات غير مقيدة أو غير دستورية، تفككت ضوابطها الأبواتية ونظام “نكران الذات” الذي كانت تطلب منظمات الأبوات، ولم تتطور لها ضوابط ومعايير سلوك جديدة. وبينما تنشغل بالقضايا الثقافية والسياسية والحقوقية المتداولة، فإنها أشد اعتناء بالتكرس الذاتي. كل الأسماء المعروفة في المعارضة التقليدية السورية اليوم هي من الأنوات، وأكثرهم أبوات سابقون، أو كانوا في محيط منظمات الأبوات، التقدمية منها والإسلامية. والأشد عبادة لأنفسهم من بينهم هم الأكثر تسببا بالخصومات وتسميم الأجواء العامة. ليس لهم قضية تعلو على أنفسهم، والثورة ليست إلا مناسبة جديدة للظهور وتبجيل الذات. لكن من الأنوات من لم يكونوا في منظمات الأبوات. قادمون متأخرون إلى النشاط العام، يعملون في الثقافة أو الإعلام (وقد قربت بينهما أدوات الاتصال الجديدة)، أو في أنشطة حقوقية. وبقدر ما إن الظهور والشهرة والمجد الذاتي هو ما يحرك الأنوات، فإنهم ينجذبون إلى وسائل الإعلام التي تشبع هذه التطلعات أكثر من غيرها. وفي هذا ما قد يلقي بعض الضوء على ظاهرة “أعلمة” المعارضة السورية، أعني إشغال من يظهرون كثيرا في وسائل الإعلام مواقع الصدارة فيها. مثال الأنوات الشائع لا يتمثل في أفراد حريصين على استقلالهم، بل في أشخاص طموحين، يهمهم الظهور على حساب غيرهم، وليس التعاون مع غيرهم. هم أقرب إلى أنانيين مبتذلين منهم إلى أشخاص مستقلي العقل والضمير. والمزاج العام للأنوات متشائم بصورة صريحة، لا يجد شيئا صحيحاً أو سليماً حوله. التشاؤم يفرق والتفاؤل يجمع، لذلك التفاؤل والأنا لا يجتمعان. الشيمة الجامعة للأنوات هي التحاسد. وبقدر ما إن الحسد المتبادل قوة تفريق، فإن تفرق الأنوات هو ما يجمع بينهم. كانت الهياكل التراتبية لمنظمات الأبوات وإيديولوجياتها القوية تحد من ظهور التحاسد، بإخضاع الأفراد لمشروع مشترك. والمشكلة الكبيرة التي نواجهها اليوم تتصل بضوابط السلوك في ظل تحلل الروابط الأهلية والمنظمات التراتبية. ليس الضوابط الأخلاقية وحدها، بل النموذج بتمامه، بشكله ودستوره، هويته وقيمه. الأنا المطلق هو الشخص المتروك لضميره الشخصي في مجتمع وفي ثقافة تراجعت فيهما الضوابط التقليدية، وتفككت الأطر الجمعية الحديثة (الحزب ومشتقاته)، ولما تتطور نواظم أخلاقية تحتسب لظهور الفرد وضميره. لن يغدو خروجنا من الأطر التقليدية ومن المنظمات التراتبية تحرراً عاماً دون تطوير أشكال انضباط جديدة، فكرية وسياسية ونفسية. مجتمعاتنا المعاصرة لا تشكو من نقص الحرية وحده، ولكن من نقص الانضباط الذاتي أيضاً. لذلك لا يزال الأنا الدستوري نظاما للشخصية يتعين ابتكاره في مجتمعاتنا وثقافتنا. قد يكون بعضنا أقل انشغالاً بمخاصمة غيرهم وأقل تمركزاً حول ذواتهم، وأكثر انشغالاً بـ”الموضوع”، أي بما يعملون عليه، لكن هذه فوارق فردية هشة، لا تشكل أساساً لأنا دستوري فعلاً، علما أن هذا وحده قابل للهيمنة، والتعميم اجتماعياً. والتخاصم المستمر للأنوات مردّه بالضبط طابعها المطلق. الأنا المطلق عابد لنفسه، لا قضية له غير نفسه، ولا شريك له ولا ند، الآخرون جحيمه، ووجودهم بحد ذاته عدوان عليه. لذلك هو في حرب مستمرة. في سورية غير مثال “مخبري” على هذا النموذج. وبين الأنوات عدد لا بأس به من النساء، يفوق تخاصمهن تخاصم الأنوات الرجال. ومن الوجهة الاجتماعية يحرك الأنوات نازع تمايز عن العامة، وانخراط في النخبة. لذلك أيضاً لا يشكل “الأنا” نموذجاً اجتماعياً أو إنسانياً قابلا للتعميم. لذلك أيضا لا يصلح للسياسة العملية، فإن فعل فسياسته متهافتة ولا محصول لها. والأنا المطلق هو الأساس النفسي للطغيان. هو ذاته أنا طاغ. ثم إن تخاصم الأنوات المطلقة الذي لا ينتهي يزكي الطغيان كحل للتنازع في أوساط النخبة، ويحرم المجتمع من قيادات فكرية وأخلاقية مقنعة. وهنا تناقض ظاهرة الأنوات. فهي بقدر ما تنزع إلى حرية بلا قواعد ولا دستور، تؤول إلى إضعاف الحرية اجتماعيا، وتسهيل أمر الطغيان سياسياً. تحولات المجتمع لا تنفصل ظاهرتا الأبوات والأنوات عن الشروط الاجتماعية والتاريخية لمجتمعاتنا في زمن ما بعد الاستقلال. الواقع أنهما تشكيلان تاريخيان مهيمنان في أوساط الطبقة الوسطى المتعلمة، ينضوي تحت كل منهما نموذج للدور العام ونمط مرغوب للشخصية ومناخ ثقافي مميز. الأبوات رجال “عمل” وتنظيم عموما، وبلغت الظاهرة الأوج بعد حرب حزيران 1967، وانحدرت بعد احتلال بيروت 1982، وانقرضت في أواخر الثمانينات. الأنوات رجال ثقافة أو “ناشطون” سياسيون وحقوقيون مستقلون، وقد ينتظمون في “منظمات غير حكومية”، ولعلهم بلغوا الأوج في مطلع القرن بفضل جزئي من الانترنت، ويحتمل أن تنحدر الظاهرة بعد الثورات العربية، أو تندرج في تركيبات اجتماعية وسياسية وفكرية جديدة، تحوِّرها تحويراً عميقاً. وتعكس التشكيلتان حاجات اجتماعية حقيقية. فظاهرة الأبوات كانت تحيل إلى مطالب التغير الاجتماعي، وعبرت بذاتها عن هذا التغير. واستعارت عتادها الفكري إما من متاح عالمي، اعتنقه كثيرون في أربع جهات العالم؛ أو من إعادة هيكلة للفكر الإسلامي باتجاه راديكالي. وقد سبق القول إنها مرتبطة بتحلل الأطر الاجتماعية التقليدية، العشيرة والطائفة والمحلة. أما ظاهرة الأنوات فترتبط بظهور الفرد الحر، الخارج على الأطر الجمعية القديمة وعلى التنظيمات التراتبية الحديثة. فرد يريد أن يكون مستقلا ويقرر مصيره بنفسه. لكن على نحو ما كان مردود منظمات الأبوات من التحرر الاجتماعي العام محدودا، لا نتوقع مردودا مهما للأنوات على مستوى التحرر الفردي. الظاهرتان معبرتان أكثر مما هما منتجتان. يحول دون ذلك في الحالين انحدار طاقتهما الهيمنية العامة، وتكوينهما المتمركز حول الذات وضمورهما الثقافي. يريد الأبوات أن يقودوا الجماهير. الجماهير افتراض مستبطن في تفكيرهم وتكوينهم. إن زالت الجماهير لم يعد للأبوات لزوم. لعل موت حزب البعث السوري ومنظماته الشعبية يعود إلى انحلال الجماهير في نظام حافظ الأسد وأجهزته، وتحويلها حشود خانعة، تهتف للأب الأوحد. سيسهل هذا على “البعثي” بشار الأسد، أن يقيل الحزب الذي تحول إلى جيفة منذ أيام أبيه من “قيادة الدولة والمجتمع”. المثير للسخرية أن الحزب أقيل ولم يقل، وبقي كل شيء مثلما كان. بالمثل، يريد الأنوات التمايز عن جمهور غفل غير متمايز في نظرهم. وجود الجمهور لازم لتمايزهم، وإن كانوا لا يتطلعون إلى قيادته، ويكتفون بعدم الاختلاط به أو التماثل معه. من الجذور المهمة لظاهرة الأنوات تواري الجمهور طوال عقود وامّحاء ملامحه. التمثيل الثقافي للجمهور (وهو من مذاهب الأنوات المفضلة) يجد شرط إمكانه الأعمق في غياب الجمهور وفي اعتقاد المثقف الأنا أنه يستطيع تمثيله دونما مقاومة منه. الجمهور اليوم يقاوم تمثيلاته السياسية والثقافية في آن. هذا مسوغ إضافي للاعتقاد بزوال الأنوات مع الثورات. هناك اليوم ما لا يعد من نساء ورجال، ولا يبدو أنهم يحتاجون إلى شيء من الأنوات لقول ما يريدون وتمثيل أنفسهم. هذا فوق أنهم يدرجون أجسادهم في صراع مصيري، يتواتر أن يفقدوها فيه، بينما أخرج الأنوات لحمهم من السياسة، ونابت عنها كلماتهم المجردة. رغم أن أطر عمل الأبوات والأنوات التي تكلمنا عليها مستقلة أو معارضة، فإن كونهما تشكيلين تاريخيين أو سمتي عصر غالبتين يطبع حتى نظم الحكم. كان حافظ الأسد، شخصا ونظاما، من الأبوات (جرى تأليهه في زمن انحدار الأبواتية، الثمانينات وما بعد، وهو زمن انحلال الجمهور أيضاً)، وموجة الاعتراض الأقوى التي واجهها حملت طابعاً أبواتياً: التنظيم السري والسلاح والعقيدة الوحيدة الصحيحة، لكن على أرضية إسلامية. أما بشار الأسد فمن الأنوات، ولا يبدو أنه يحمل اقتناعاً عميقاً بأي شيء على ما توحي إيميلاته المسرّبة مؤخراً. ولعل مشكلة نظام بشار الأسد تتمثل في بنية أبواتية لنظامه وذهنية أنواتية لشخصه وأترابه. الفاشية هي الحل. ولا يبدو أن قدرة نظام بشار الأنواتي على القتل تحسد في شيء قدرة نظام أبيه الأبواتي. لكن بينما كان الاعتراض على النظام الأبواتي اعتراضاً أبواتياً، أمكن للنظام سحقه دونما صعوبة، يواجه نظام الابن ثورة شعبية، لا يبدو قادراً على إخمادها، رغم التوسع في استعمال أدوات الأب وأساليب نظامه المتوحشة. أزمنة تتغير ماذا يحتمل أن يكون تأثير الثورة على الأنوات؟ الثورات تخيب الآمال على المدى القريب غالباً، وهذا مناخ مناسب لتكاثر الأنوات، الأفراد المنعزلين الذين يأخذون على العالم أنه لم يسمع كلمتهم. وسيكون لدينا الكثير من القصص التي تروى بضمير المتكلم: أنا كنت وأنا قلت وأنا فعلت. لكن إذا سقط النظام، ستكون الثورة حدثاً تأسيسياً لجيل جديد، من دون عقيدة مقدسة أو ما يقاربها، ومن دون فردانية طاغية. وقد تدشن الأنا الدستوري، أي المسؤول اجتماعياً والأخلاقي والقادر على التعاون مع غيره. وربما تتطور أشكال تنظيم وعمل جديدة، متمايزة عن الحزب أو المنظمة الثورية، كما عن المثقف الفرد المنعزل أو المنخرط في منظمة غير حكومية. هذا مرجح بخصوص جيل الشباب. هؤلاء مستقلون عن الأطر التقليدية وما بقي من منظمات حديثة، ولا ينقصهم الانشغال بأنفسهم، بل لعله أقوى من أي وقت سابق بتأثير المفعول النرجسي للكاميرا (لكل منهم أرشيف من الصور أغنى بما لا يقاس من أرشيف أي كهل ميسور) ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال الجديدة. لكنهم خلافا للأنوات الكهول ليسوا متشائمين ولا موتى القلوب، وغير منخرطين في حروب المكانة، وعلاقتهم بالجمهور العام ليست علاقة قائد/ مقود، ولا علاقة تمايز الفرد الفريد عن الحشد غير المتمايز. الاحتمال قوي لتطور الأنا الدستوري بين الشباب بعد الثورة. أما الأنا المطلق، سليل تحلل منظمات الأبوات، فنرجح أن يكون في سبيله إلى الانقراض. الثورة هي ذروة ونهاية سيرته السياسية. يرجح هذا التقدير أن الأنوات كهول أو شيوخ عمرا. وبقدر ما يرجح أن يكون لإسلاميين دور عام مهم بعد الثورة، فإن من شأن ذلك أن يوسع، لا أن يضيق، دائرة الأنوات المتوحدين، وإن ربما وجّه عتادهم الفكري في اتجاه مضاد للإسلاميين. ظاهرة الأنوات علمانية جوهريا، رغم وجود أنوات إسلاميين (وليبرالية رغم وجود أنوات ماركسيين). غير أن الإسلامية والماركسية مزاجان خاصان هنا أكثر مما هما إيديولوجيتا عمل فعليتان، إسلام لايت وماركسية لايت. “الأنا” الماركسي والإسلامي “مستقل”، لا يعمل في منظمة أما إذا وقعت سورية في حرب أهلية شاملة أو تطاول الوضع الحالي، وهو ضرب من حرب أهلية فاترة، فسيقوي ذلك من الروابط الأهلية، ويحكم على الأنوات بمزيد من العزلة والإطلاق، وإن ضمن الطوائف. اليوم، مع تحول حشود الأتباع إلى جماهير ثائرة جديدة، ومع فرض مدرك الثورة نفسه، وقد كان مركزيا في عالم الأبوات الفكري دون أن يشهدوا ثورات اجتماعية فعلية، هل يحتمل أن نشهد أبواتية جديدة؟ أو تركيبا بين ظاهرتي الأبوات والأنوات؟ ألا تبدو الإسلامية، وفي الصيغة السلفية أكثر من الصيغة الإخوانية، تشكيلاً أبواتياً جديداً (يقين، قيادة، منزع واحدي)؟ وماذا يشبه أبوات “تقدميون” جدد؟ من جهة أخرى، أليس الأنا الدستوري ضرباً من تركيب بين الظاهرتين، يتجاوز انعزال الأنا وأنانيته نحو مسؤولية عامة، ولا ينحل في هيكل تراتبي جمعي ماح للشخصية؟ على أن الكثير مرتبط بالمناخات السياسية بعد الثورات. ظاهرة الأنوات نتاج تحلل منظمات الأبوات في شروط استبداد سياسي خانق وزوال الجمهور النشط. في شروط سياسية أكثر حرية من المحتمل أن تظهر أشكال تنظيم وتفكير وعمل جديد، أكثر ملاءمة وأقبل للتطور.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام الأسد بلا... أسد!
-
صورة -الشوايا- وحال منطقة الجزيرة السورية
-
الثورة وإفلاس نماذج التحليل السائدة
-
أنا والتلفزيون والثورة
-
الثورة والسلاح: خطوط عريضة من القصة
-
التجديد لغليون وحال المعارضة السورية
-
في تمثيل الثورة السورية وواقعها (الثورة هي السياسة الصحيحة)
-
حوار في شأن الثورة والسلمية والعسكرة
-
عودة إلى النقاش حول الثورة والعسكرة
-
حوار عالماشي حول الثورة السورية
-
الثورة السورية بين النزاع الأهلي والصراع الجيوسياسي
-
الثورة والمعارضة في سورية... علاقة انفصام
-
عن الثورة والمستقبل والعلاقات بين السوريين/ حوار
-
ثورة في سورية، سورية في ثورة
-
عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين
-
النظام الطائفي ليس نظام طائفة
-
الإسلاميون السوريون... توجهات منفتحة وتناقض مقيم
-
الثورة كصناعة للأمل
-
حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها
-
الحكم بالتذكر: من أصول المحنة السورية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|