جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3749 - 2012 / 6 / 5 - 17:43
المحور:
حقوق الانسان
أنا لا أكذب على نفسي أو أضحك على نفسي من أجل تخفيف وزني بل من أجل أن لا أشعر كثيرا بالاغتراب محاولا إخراج نفسي من عزلتها الطويلة ومن أجل أن أشعرَ بأنني واحد من الناس وبأنني لا أختلف عن أي مواطن عادي,أنا أكذب على نفسي إذا أنا واحد من الناس, لقد باعدت ثقافتي الكثيرة بيني وبين الناس وأشعر بأنني بعيدٌ عنهم أعيش في عالمي الخاص وصحيح أنه عالم متنور ولكن في حقيقة الأمر أنا أستوحش من غربتي تلك وأود لو يعود بي الزمن للوراء لكي أعيد إنتاج ذاتي فلا أزيد من القراءة كثيرا لكي أبقى على الأقل ضمن الناس وبينهم وليس بعيدا عنهم.
وأنا لا أكذب على الناس بل أكذب على نفسي,ولا أكذب على نفسي لكي يزداد وزني بل لكي أشعر بأن وزني مساويا لوزن الناس جميعا ولستُ مختلفاً عنهم ودائما ما أعود من بين الناس إلى عقلي وقلبي وديني لأقول لنفسي ):اكذب يا جهاد على كل الناس ولا تكذب على نفسك) ولكني لا أستطيع أن أشعر بأنني واحد من الناس إلا حين أغمس لساني بالكذب على نفسي لكي أشعر بأنني لست غريبا وبأنه مرحبٌ بي بشكل جيد فأكذب كثيرا وأنا أردد خلف كل قصة وكل حكاية وكل موضوع يفتحونه بجملة:( نعم صحيح) فتجدون على لساني هذه الكلمة التي تخفف عليّ كثيرا من المناقشات ومن المداخلات ولا تجعلني هذه الكلمة أن أشعرَ بنفسي وكأنني غريب عن هذا العالم المحيط بي من كل الاتجاهات,وإنها لصعبة جدا على رجلٍ مثلي ولكن ما العمل وما هو الحل؟إن هذا العالم الذي حولي والذي اختبرته بقوة أعصابي قد جعل أعصابي تفلتُ مني حين أشعرُ وأنا بين أهلي وقومي بأنني غريبٌ بينهم,وإن أصعب أنواع الكذب هو الذي يكذبه الإنسان على نفسه,وأنا أكذب على نفسي كثيرا حين أخرج من عزلتي محاولا الاختلاط بالناس ولكي أصدق نفسي أتنازل كليا عن ما أومن به وحين أكتشف كذبي على نفسي أعود إلى ذاتي وعقلي وقلبي وطبيعتي الحقيقية ولكنني أشعر بالألمِ وبالمرارة,وكثيرٌ من الكتاب الذين آثروا العزلة فقد كان أبو حيان التوحيدي محبا للعزلة وكان يعيش مغتربا عن الناس وقد روى ذات مرة قصة عن(جميل بن مرة) الذي اعتزل الناس لسنين طويلة وحين سُئلَ عن ذلك قال :(لقد صحبتُ الناسَ أربعينَ سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنباً,ولا ستروا لي عيباً,ولا حفظوا لي غيباً,ولا أقالوا لي عثرةً,ولا رحموا لي عبرةً,ولا قبلوا مني معذرةً,ولا فكوني من أسرةٍ,ولا جبروا لي من كسرةٍ,ولا بذلوا لي نصرةٍ,ورأيتُ الشغل بهم تضييعاً للحياة,وتباعدا من الله تعالى,وتجرعاً للغيظ مع الساعات,وتسليطاً للهوى في الهنات بعد الهنات),ولو أراد جميل بن مرة أن يخرج من عزلته فإنه سيكون مضطرا غير بعيد في أن يكذب على نفسه وليس على الناس وهذا هو أصعب أنواع الكذب على الإطلاق.
وأنا كذلك الأمر ليس لي صديق يؤنسني في وحدتي وأقضي معظم وقتي بين الكتب أو في مشاهدة أفلام السينما وخصوصا القديمة وأرى في ذلك لي خيرا من مصاحبة الناس ذلك أنني أشعر بحالة من الاغتراب وأنا بينهم وليس لي من صديق غير بعض الأصدقاء على الإنترنت وهؤلاء وحدهم من يؤنس وحدتي ولولاهم لمتُ من القهر وأنا أعيش وحيدا بين الناس لا أجد لي صديقا ولا رفيقا للدرب ولا رجلا واحدا فكره من فكري وقلبه مثل قلبي , حتى أنني أشعر بأن هنالك تباعد قد بدأ يظهر بيني وبين أولادي إذ حتى أولادي أشعر بأنهم كلما كبروا كلما ازداد التباعد والفارق الكبير بيني وبينهم بفضل مناهج التعليم في المدارس والبيئة المحيطة بي وبهم التي يتعلمون منها على أشياء أراها أنا غير ضرورية وتفسد أخلاقهم وطباعهم عليّ,ولكي أقترب منهم أكذب على نفسي كثيرا وأجاريهم وأهادنهم
وفي كثيرٍ من الأحيان أميلُ إلى العزلة والإنفراد والتوحش وأحيانا أبقى أسبوعين دون أن أحلق ذقني ولا أخرج من البيت إلا للضرورة القصوى مثل أيام الشتاء الباردة والماطرة جدا,فأجلس وحيداً في البيت إذا لم يكن عندي عملٌ رسمي أقوم به بل أن 99% من حياتي أكونُ فيها بعيدا عن الناس والناس بعيدةٌ عني كأني في الضفة الأخرى من النهر وهم في الضفة المقابلة لي أو كأنني أعيش في جزيرة شبه معزولة عن الناس ملتزما بيتي لا أخالط أحدا ولا أحدٌ يخالطني لأنني لا أجد رفيقا مستواه الفكري بمستوى فكري ليس تكبرا على الناس ولا ترفعا ولكن السبب هو عدم الانسجام مع البيئة المحيطة بي ,وإذا شعرت بالوحدة كثيرا وأردت الخروج إلى الناس أجد نفسي أنافق كثيرا وأكذبُ كثيرا على نفسي وعليهم لكي أشعر بأنهم مني وأنا منهم يعني كالذي يضحك على نفسه فأنا من جملة الناس الذين يضحكون على أنفسهم أو يكذبون على أنفسهم وسواء ضحكت على نفسي أو كذبتُ على نفسي فإني أرى بأن الموضوع كله واحد,والمهم أنني أكذب على نفسي لأخرج أيضا من الأزمة النفسية التي أشعرُ فيها ولا أكذب على نفسي من أجل أن يزداد طولي, أنا رجلٌ كثير الكذب والضحك على نفسه ومن غير الكذب والضحك على نفسي أشعر كثيرا بالمرارة ولا أستطيع أن أشعر بالسعادة إلا حين أكذب على نفسي وأنا أحس كثيرا بالمرارة وأنا أجالسهم لذلك أكسر تلك المرارة بمجاراة الناس وبضم رأيي إلى رأيهم لكي لا أشعر كثيرا بالوحدة أو بحالة التوحد التي أعيشها مع نفسي,وأنا لستُ منافقا ولكني كثير الكذب على نفسي وكل موضوع يطرحه الناس أردد معهم جملة واحدة وهي(نعم صحيح) فلو أقول غير هذه الكلمة فإنني سأتجرع المرارة في داخلي ولا يمكن أن أشعرَ بالسعادة الحقيقية على الإطلاق فالسعادة التي أحصل عليها هي الكذب على نفسي من أجل تخفيف حدة التوحش والبعد عن الناس وهذا لا يحدث لي إلا حين أكذب على نفسي وليس على الناس...
إن صحبة الناس فعلا مضيعة للوقت فهم حتى وإن كنتُ ملازما لهم غير أنهم لا يرفعون عن ظهري شدةً ولا يجبرون لي خاطرا ولا يسامحوني على زلات لساني وإذا أخطأت مع أحدهم خطئا واحدا يبقوا يحفظون خطئي لعدة سنين أما ما أقوم به من أعمال فيها فائدة للناس فإنهم سرعان ما ينسونها ولا يذكرونها لي,وأنا بذلك أشعرُ بأنني كئيبٌ وحزين فأجامل الناس كثيرا وأداري هذا وأداري ذاك وأقول جملة واحدة لهم وراء كل قصة وكل خبر وكل موضوع وهي كلمة(نعم صحيح) وأبتسم لهذا وأبتسم لذلك مشيرا إليهم أنني متفقٌ معهم في الرأي رغم أني من النادر أن أتفق معهم في الرأي وإنما إحساس بأنني ذا طبعٍ غريب فأجد نفسي بين الناس غريبا وأنظر إليهم وكأنهم قادمون من عالمٍ آخر وكأنني أشاهد فيلما عن غرباء قادمين من الفضاء ومن قصص الخيال العلمي, وحتى أشعر أنني واحدٌ من الناس أضطر كثيرا للكذب على نفسي والمصيبة أنني سرعان ما أكتشف كذبي على نفسي فأعود إلى الغربة الفكرية فأجلس في البيت وحيدا مستوحشا وخائفا من الناس والناسُ خائفةٌ مني ,إن الناس يعيشون في جوٍ وفي عالمٍ يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي أعيش به وكأنني فعلاً قادمٌ من دولةٍ أجنبية لا أعرف العربية ولا العربية تعرفني,وكذلك الناس أغلبهم يرونني غريبا عنهم غير مؤانسٍ لطبيعتهم وينظرون لي كأنني قادم من عالمٍ آخر أو من كوكبٍ آخر تماما كما أنظر إليهم أنا,ولا أختلط في الناس إلا بالمناسبات الكبيرة التي تدوم يوما واحدا أو لثلاثة أيام إذا توفى أحدٌ من أقربائي وقضى أجله ففي مثل هذه المناسبات أرى الناس ويرونني أما عدى ذلك فلا أرى أحدا ولا أختلط بأحد.
والغريب أن في المجتمع الذي أعيش به رجال يحبون العزلة كثيرا مع أن طباعهم متوافقة مع طباع الناس وأفكارهم منسجمةٌ مع أفكار الناس ومع ذلك لا يحبون الاختلاط بالناس وهؤلاء هم الصادقون مع أنفسهم,وهنالك رجل عمره يناهزُ على الثمانين عاما ومحبٌ للعزلة وقد سألته مرة عن سبب عدم اختلاطه بالناس فأجابني:(يا عمي الناس ما بيجيش منها غير وجع الراس...شو بدي بالناس!!!!!!أفضل شيء أبلش في حالي أحسن من كل الناس),ومما يحزنني جدا أن هذا الرجل دينه من دين الناس وطعامه من طعام الناس وشربه من شُرب الناس ومع ذلك يشعر بالضيق منهم فكيف مثلا أنا الذي فكره ليس من فكر الناس أشعر بأن طعامي ليس من طعام الناس!!! كيف لي أن لا أهجر الناس ولا يهجرونني.
وربما أنه يوجد بين الناس أمثالاً لي يكذبون ويضحكون على أنفسهم.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟