|
مآزق الأردوغانية
محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن-العدد: 3748 - 2012 / 6 / 4 - 02:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما انتهت الحرب الباردة في عام 1989،وبعد سنتين حصل تفكك الاتحاد السوفياتي،بدأت تركية بالتفكير في إعادة النظر في دورها الاستراتيجي،بعد أن كانت جزءاً أساسياً من استراتيجية (الناتو) في مواجهة السوفيات:في عام1993،وقبيل وفاته بقليل،تحدث الرئيس التركي توركوت أوزال عن سعي أنقرة "إلى بناء عالم تركي يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية" من أجل ملء الفراغ في الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة التي تنتمي كلها،ماعدا طاجكستان ذات العالم اللغوي- الثقافي الفارسي،إلى العالم اللغوي- الثقافي التركي،وهو هدف لم يكن بعيداً عن استراتيجية واشنطن في منع طهران من تحقيقه مفضلةً أنقرة (وتل أبيب)من أجل احتواء تلك الجمهوريات التي كانت الكثير من المعطيات قد أشارت إلى أنها ستكون المنطقة المنافسة للخليج كمصدر رئيسي للطاقة(النفط والغاز)العالمية،ومن أجل انشاء حاجز جغرا- سياسي بين الصين وروسيا بعد أن بدأت المؤشرات إلى تقاربات بينهما في مرحلة مابعد الحرب الباردة. كان أوزال من بقايا الرعيل الذي كان قد خرج من تحت عباءة عدنان مندريس،رئيس الوزراء التركي الذي أطاح به العسكر العلمانيون الأتاتوركيون في انقلاب 1960،والذي كان يجمع بين الليبرالية الاقتصادية والميل السياسي للغرب مع تدين فيه ملامح من اسلامية خفية معتدلة ممزوجة بعداء يظهر ويختفي للعلمانية الأتاتوركية.كان أوزال ايذاناً مبكراً ببدء غروب شمس أتاتوتورك عن أرض الأناضول.في عامي 1996و1997تولى الاسلامي نجم الدين أرباكان رئاسة الوزراء بعد أن أصبح (حزب الرفاه)، الاسلامي الأصولي النزعة،الأول في مقاعد البرلمان بانتخابات كانون أول1995 بنيله(21,3من الأصوات).لم تتحمله واشنطن بعد خرقه استراتيجية إدارة كلينتون في "الحصار والاحتواء المزدوج "للعراق وايران من خلال دعوته إلى قمة رباعية (لم تنعقد) لرؤساء تركية وايران والعراق وسوريا من أجل بحث مشاكل المنطقة ثم توقيعه في آب 1996 اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي الايراني بقيمة 23مليار دولار على مدى 23عاماً،وهو ماشكَل الجو الملائم للعسكر الأتاتوركيين لتنظيم انقلاب 28شباط1997ضد أرباكان. لم يكن سقوط أرباكان قادراً على وقف عملية غروب الأتاتوركية،التي كان واضحاً أن الاسلاميون هم البديل الوحيد لها في أنقرة. عند تأسيس (حزب العدالة والتنمية)في شهر آب2001كان رجب طيب أردوغان واعياً لأسباب سقوط معلمه القديم أرباكان:عدم تجاوز الخطوط الحمر الأميركية.عندما تجاوز حزب أردوغان(الفائز بغالبية مقاعد برلمان انتخابات تشرين ثاني2002) هذه الخطوط الحمر من خلال رفض البرلمان التركي في يوم1آذار2003لفتح جبهة شمالية للقوات الأميركية ضد العراق فقد كان هذا من خلال تمرد نصف برلمانيي الحزب ضد إرادة زعيمهم وبالتعاون مع نواب(حزب الشعب الجمهوري)الأتاتوركي الاتجاه. لم يكن أردوغان قادراً على منع هذا التصويت مادام رئيس البرلمان بولنت أرينج،ورئيس الوزراء عبد الله غول، مع ذلك،وذلك قبل أيام من انتهاء حظر ترشح أردوغان للبرلمان(بسبب مفاعيل حكم سجن سابق بالتسعينيات) وتوليه بعدها لرئاسة الوزراء في 14آذار أي قبل خمسة أيام من بدء الغزو الأميركي للعراق الذي جرى بالتعاون مع غريمي أنقرة في طهران وأربيل. كانت الأردوغانية ،كنزعة واعية لغروب الأتاتوركية وفشل اتجاه مصطفى كمال أتاتورك نحو أوربة تركية،متساوقة مع دور يضع تركية في مدارين:شرقي(القفقاس وآسية الوسطى السوفياتية السابقة حتى تركستان الصينية)،وجنوبي يستعيد المدار العثماني عبر"عثمانية جديدة". في القفقاس(نقل نفط أذربيجان عبر خط تركي أم روسي- دعم جيورجيا المتصادمة منذ عام2004مع روسيا) وآسية الوسطى(خط غاز تركمانستان عبر تركية لأوروبة بدلاً من روسيا)،دخل أردوغان كغريم لموسكو ،و كمنافس ومحجِم لطهران،وكحليف لواشنطن. في أعوام2004-2006 كان تقارب أردوغان مع دمشق،الرافضة للعراق المغزو والمحتل،على غير انسجام مع التوجهات الأميركية مادام أن التقارب التركي- السوري قد كانت حساباته مبنية عند طرفيه على مواجهة خساراتهما من تداعيات سقوط العراق:عند أنقرة التي شعرت بتعاظم قوة ايران والأكراد،وعند دمشق التي أعطتها أحداث12آذار2004بالقامشلي صورة عن التداعيات السورية لتنامي نفوذ أكراد العراق في مرحلة مابعد صدام حسين،وأيضاً عندها لماأرادت تحصين نفسها بأنقرة،المتضررة من تداعيات مافعله الأميركان ببلاد الرافدين،من رياح المواجهة الأميركية – السورية،غير المسبوقة منذ عام1970،التي أعطت نذرها زيارة كولن لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد،وهو ماتحقق في أرض الأرز مع صدور القرار1559في 2أيلول2004. منذ ذلك الوقت كانت حسابات أردوغان جنوباً تتعلق بموازنة النفوذ الايراني الذي تعاظم في مرحلة مابعد صدام حسين،وبالتأكيد هو آنذاك أراد استغلال التناقض الذي كان قائماً في الملف العراقي بين طهران(وقواها العراقية المحلية المتعاونة مع الغازي والمحتل الأميركي)وبين دمشق التي دعمت المقاومة العراقية،من أجل ضرب ذلك التحالف السوري- الايراني الذي كان العمود الفقري والمدخل لطهران الخمينية إلى العالم العربي منذ عام1979،ومن أجل جعل دمشق مدخلاً(كماكانت في عام1516)لبلاد الأناضول إلى العالم العربي. انقلبت هذه اللوحة مع الانشقاق الايراني- الأميركي في شهر آب2005مع استئناف طهران لبرنامج تخصيب اليورانيوم،وقد كانت حرب2006تعبيراً بوكالة اسرائيلية عن هذه المواجهة الأميركية – الايرانية،وليقود عدم نجاح اسرائيل فيها،بخلاف دورها الوكيل في حربي1967و1982،إلى انقلاب الموازين الاقليمية ضد واشنطن لصالح الرباعي:طهران- دمشق- حزب الله- حركة حماس.هنا،أدت هذه اللوحة الاقليمية الجديدة إلى اتجاه عند واشنطن نحو تعويم الدور الاقليمي التركي لمواجهة التمدد الايراني،بعد أن أدى مجيء واشنطن المباشر لإقليم الشرق الأوسط إلى تصادم أميركي- تركي. كان الاتكال الأميركي على أنقرة تعبيراً عن فشل واشنطن في "دورها الاقليمي المباشر"مع غزو العراق،وعن عودتها إلى أدوار الوكلاء،كماكانت مع شاه ايران بالسبعينيات ومع اسرائيل منذ عام1964،وقد حسبت حساباً بأن "المخفر اليهودي"لم يعد ناجحاً كماأثبتت تجربة 2006وبأن "المخفر السُني التركي"هو الأكثر فعالية في مواجهة طهران وربما في تحقيق ماقاله كولن باول قبل قليل من غزو العراق حول"إعادة صياغة المنطقة". منذ عام2007كانت الأردوغانية هي المعتمد الأميركي الأول في الاقليم الشرق أوسطي:محاولة تحجيم ايران عبر ابعاد دمشق عنها أوعبر تشكيل موازن تركي- سوري أكثر اغراءاً من العلاقات الايرانية- السورية.محاولة أردوغان لاحتواء حركة حماس بعيداً عن ايران من خلال صورة جديدة ل"العثماني الجديد" في مواجهة شمعون بيريز في دافوس بعد أيام قليلة من فشل اسرائيل في حرب غزة،كان يراد منها أيضاً اعلان تركي عن اغلاق ذلك"المخفر اليهودي"عند واشنطن. محاولة تشكيل بديل "ملائم"بعيداً عن ايران في العراق عام2010عبر"قائمة العراقية"التي كانت في انتخابات برلمان آذار2010نتاج جهد تركي- سوري- سعودي،قبل أن تنفض دمشق عنها في صيف2010معلنة بداية انفكاك هذا الثالوث،وهو ماأدى عملياً كتداعيات إلى انهيار الحكومة اللبنانية في الشهر الأول من عام2011. كان دعم العاصمة السورية لتشكيل حكومة المالكي في بغداد بخريف 2010بداية انهيار لمابناه أردوغان مع دمشق منذ عام2004،قبل أن يكتمل هذا بعد ثلاثة أشهر في بيروت ولكن أيضاً بين دمشق والرياض . مع موجة ماأسمي ب"الربيع العربي"بدأ أردوغان في استراتيجية جديدة لم يعد عمادها احتواء دمشق أوخلق حقائق سياسية جديدة ضد طهران في بغداد أوغزة وإنما الانطلاق بالتساوق مع تخلي واشنطن عن حلفائها السابقين،في تونس ومصر،نحو جعل (حزب العدالة والتنمية)في أنقرة بالنسبة للأحزاب الاسلامية،التي أثبتت أنها الأكثر فعالية وقوة في الجسم الاجتماعي العربي المنتفض ضد الأنظمة القائمة،مثل الحزب الشيوعي السوفياتي بالنسبة لباقي الأحزاب الشيوعية،وهو أمر كان بالتساوق مع المصالحة التي ظهرت ،في أكثر من عاصمة عربية ،تجسداتها خلال عام2011بين (التنظيم العالمي لجماعة الاخوان المسلمين)وبين الأميركان. لم يكن حصاد أردوغان مثمراً في عامي2011-2012،بعد أن فشلت سياساته الجنوبية في أعوام2004-2011،مع نجاح نسبي لسياساته الشرقية في أعوام2003-2010: بعد أسبوع من نشر رادارات الدرع الصاروخي الأميركي في الأناضول جاء الفيتو الروسي- الصيني المزدوج ي مجلس الأمن يوم 4تشرين أول2011لكي يعلن بداية تكتل دولي أصبحت مفاعيله قوية في احتواء الجمهوريات السوفياتية الاسلامية السابقة على حساب واشنطن وأنقرة،مع تشكيله حائط صد في وجه العاصمتين الأخيرتين بالموضوع السوري،التي كان يبدو حتى تشرين الثاني الماضي أن الأتراك كانوا ينوون القيام بدور فرنسة في ليبيا في حال حصل السيناريو الليبي بسوريا،وعلى الأرجح أن تشكيل مجلس اسطنبول في يوم2تشرين أول لم يكن ببعيد عن ذلك من أجل جعل رياض الشقفة بالنسبة لأنقرة في دمشق بمثل وضعية نوري المالكي في بغداد بالنسبة لطهران. مع خطة كوفي عنان،التي تبناها مجلس الأمن في 21آذار الماضي عبر بيان رئاسي ثم في قرارين بالشهر اللاحق،يبدو أن السيناريوهات الليبية والمصرية واليمنية مستبعدة عن دمشق.هذا يضع استراتيجية أردوغان،المتبناة منذ بداية الأزمة السورية في 18آذار2011،في حالة ارتطام بالحائط،تماماً مثلما فشت استراتيجيته السورية في أعوام2004-2010 . أيضاً،يبدو أن ثنائية العسكر- الاسلاميون في القاهرة ستميل بغير المجرى الذي سارت عليه لصالح أردوغان في أنقرة بين عامي 2003و2011، وعلى مايظهر من مجرى الأمور السورية والمصرية أن تكرار النموذج التركي في دمشق والقاهرة مستعصياً،وهما عاصمتان مفتاحيتان للمنطقة،وليس تونس أوطرابلس الغرب،فيماكان واضحاً مع انتخابات 10أيار الماضية كم هي حدود الاستثناء الجزائري لغير صالح الاسلاميين.
#محمد_سيد_رصاص (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاستثناء الجزائري
-
خطة كوفي عنان: قراءة تحليلية
-
العلاقة الاشكالية بين اليسار والديموقراطية
-
استقطابات حول سوريا
-
سوريا:المعارض السياسي والشارع
-
موسكو وبكين:الثنائي المستجد في العلاقات الدولية
-
المعارضون الجدد والقدامى
-
نزعة الإستعانة بالخارج في المعارضة السورية(2003-2005)
-
الموجات السياسية
-
حرب باردة من جديد؟..
-
التصلب التركي – الفرنسي حيال الأزمة السورية:محاولة للمقاربة
-
عشر سنوات من الاستقطابات في المعارضة السورية
-
واشنطن والثورات العالمية
-
فراغات الانسحابات الأجنبية من المنطقة
-
تعثر النموذج التركي في ليبيا ومصر
-
العراق:حصيلة احتلال
-
الجزر والمد في السياسة:الاسلاميون مثالاً
-
مابين دمشق وأنقرة 1921- 1957
-
نزعة الاستعانة أوجلب الأجنبي للشؤون الداخلية:العراق نموذجاً
-
استقطابات القوى السياسية السورية أمام مبادرة الجامعة العربية
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|