راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 3747 - 2012 / 6 / 3 - 21:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يا حسرة، أن عالم البشرية قد تعذب بشدة وحاد ع جادة الصواب -سواء من حيث أخلاق أفراده أو من حيث علاقاته الإجتماعية- على نحوٍ يجعل حتى من مساعي السياسيين المحنكين وتدابير الرؤساء المحايدين عديمة الجدوى في إنقاذها. فلا الخطط والمشاريع التي رسمت من قبل السياسيين الأكفاء، ولا المبادئ والأصول التي وضعها الخبراء أصحاب الباع الطويل في مجال الإقتصاد، ولا التعاليم التي يسعى الأخلاقيون لترويجها بقادرة في النهاية أن ترسي أساساً متيناً يمكن أن يشيد فوقه مستقبل هذا العالم الحائر.
إن محاولات العقلاء حسنو النية -الذين ما إنفكوا يدعون الناس إلى التسامح والتفاهم فيما بينهم- سوف لن تسكن هذا العالم ولن تعيد إليه قواه المهدرة، وإن جذور الفساد الضاربة الإطناب -والتي قلبت موازين الجامعة البشرية- لا يمكن أن تقلع بواسطة الخطط العمومية في التعاون والتعاضد العالميان مهما كانت تلك الخطط واسعة وحكيمة حتى أنه يمكننا القول بأن تشكيل منظمة عالمية لتوحيد الجهود السياسية والإقتصادية - لهي عاجزة عن تحويل السم الزعاف الذي يهدد حياة الناس الإجتماعية والسياسية إلى درياق شفاء. إذاً فلم يتبق من حلٍ سوى أن نتقبل -ومن صميم قلوبنا- العرض الرباني الذي قدمه لنا حضرة بهاءالله بمنتهى الوضوح والبساطة في القرن التاسع عشر لأنه يتضمن خططاً إلهية من أجل ضمان وحدة البشر في هذا العصر. وإن أياً من أجزاءها المركبة لهي قادرة لوحدها على مواجهة قوى هدامة من شأنها -لو أتيحت لها الفرصة- أن تجر البشرية اليائسة نحو حتفها المحتوم. أذا لم يتبق من حل أمام هذه البشرية الحائرة المنهكة سوى أن تولي وجهها شطر هذا النظم الرباني البديع. هذا النظم الذي أساسه رباني ومداه عالمي وأصوله مستندة على العدل والإنصاف وعناصره وأجزاءه بلا مثيل.
فليس بإمكان أحد أن يدرك اليوم مدى عظمة نظم حضرة بهاءالله البديع ومختلف تفاصيله ويعرف سعة إمكانيته ونفوذه حتى ونحن في هذا العصر المترقي، أو أن يتصور مثلاً نتائجه المستقبلية وعظمته وجلاله. إن كل ما يمكننا الحصول عليه الآن عن ذلك النظم البديع لن يكون أكثر من مجرد لمحة سريعة عن بزوغ أول فجر موعود، ذلك الفجر الذي سيزيل -في الميقات المعلوم- ظلمة العالم الإنساني.
أن السبب الحقيقي لإضطراب هذا العالم هو بسبب عجز قادة الدول -الذين أمسكوا زمام دولهم ومصير شعوبهم بأيديهم- عن مواءمة نظمهم الإقتصادية وآلياتهم السياسية مع متطلبات عصر دائم التحول وسريع الإيقاع. لنا أن نتساءل: ألا يعود -بالدرجة الأولى- سبب هذه الإضطرابات التي تزلزل أركان العالم المعاصر إلى عجز قادة وزعماء العالم عن تشخيص حاجات عصرهم هذا بشكلٍ صحيح وعجزهم أيضاً عن التحرر الكامل من الأفكار الجاهزة التي تحد من حرية حركتهم، وعجزهم أيضاً عن تغيير آليات حكوماتهم على نحوٍ يتطابق تماماً مع موازين ومعايير وحدة الجنس البشري الذي كان ولا يزال المقصد الرئيسي لدين حضرة بهاءالله؟!! حيث أن تحقق مبدأ الوحدة البشرية -والذي يعتبر حجر الزاوية في نظم حضرة بهاءالله البديع- لهو أمرٌ مستحيل إلا عن طريق إخراج الخطة الفريدة التي سبق الإشارة إليها إلى حيز الوجود.
يتفضل حضرة عبدالبهاء بما مضمونه: "عند كل إشراق لصبح الهدى كان جوهر ذلك الإشراق أمراً من الأمور ... أما في هذا الدور البديع والقرن الجليل فإن أساس دين الله ولب شريعة الله هو الرأفة الكبرى والرحمة العظمى والألفة مع جميع الأقوام والصداقة والأمانة والمحبة الخالصة غير المشوبة تجاه كل الأمم والطوائف وإعلان وحدة العالم الإنساني ...".
إن مما يؤسف له فعلاً هو مدى غفلة قادة المؤسسات البشرية عن روح عصرنا هذا، فكل همهم ينحصر في إدارة أمور شعوبهم طبقاً لقوانين وموازين تعد من مخلفات العصور السابقة، بمعنى أنه يناسب عصراً كان بإمكان الناس فيه أن يعيشوا في داخل بلدهم معتمدين على أنفسهم ومتبعين سياسة الإكتفاء الذاتي. بعبارةٍ أخرى فإن هؤلاء القادة يريدون تطبيق تلك الموازين في زمن ليس أمامه إلا أحد خيارين: فإما أن يسلك الدرب الذي رسمه وحدد معالمه حضرة بهاءالله ويصل بالتالي للوحدة الكاملة وإما أن يختار الطريق الآخر المؤدية للهلاك. ولهذا فإن مما يليق بقادة كل دول العالم كبيرها وصغيرها، شرقيها وغربيها، غالبها ومغلوبها أن يفعلوه -في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ البشرية- هو أن يصيخوا السمع إلى نداء حضرة بهاءالله المحيي للنفوس، وأن يجعلوا همهم منصباً على توحيد البشر فيطيعوا أمره الأعظم ويقوموا قيام الأبطال بلا أدنى تردد أو تقاعس ليظهروا تجاهه الوفاء حتى يحصل البشر المتألم المتعذب -نتيجةً لذلك القيام- على درياق النجاة المعد له من قبل الطبيب السماوي. كما يتوجب عليهم أن يرموا بأفكارهم العتيقة في زوايا النسيان وينأوا بأنفسهم عن كل التعصبات القومية ويتذكروا بروحهم نصيحة حضرة عبدالبهاء -المبين المنصوص- التي وجهها إلى أحد ذوي المناصب العليا في الحكومة الأمريكية في معرض رده على استفسار الأخير عن الطريقة المثلى لخدمة دولته وشعبه فيما مضمونه: "يجب عليك أن تسع في خير كل أمم الأرض وشعوبها تماماً كما تسعى في خير أمريكا، وساعة ما تعتبر العالم كله بمثابة وطنٍ لك عندئذٍ ينبغي أن تعمم نظام الحكومة الفيدرالية -بالشكل المتبع في الحكومة الأمريكية- على ملل الأرض وأقوامها". كما ويتفضل حضرته أيضاً في الرسالة المدنية -والتي حوت معلومات جد مهمة عن موضوع تحديد النظام المستقبلي للعالم- بما مضمونه: "إن أعلام التمدن الحقيقي ستخفق مرفوفة في أرجاء العالم متى ما قام بضعة ملوك عظماء كالشموس المشرقة أصحاب الهمم العالية ذوو الحمية والغيرة والعزم الراسخ والرأي الثاقب بوضع مسألة الصلح العمومي على بساط المشاورة. يتشبثوا بكل وسيلة من أجل عقد مؤتمر لدول العالم لتأسيس معاهدة قوية وميثاقاً وشروطاً محكمة ثابتة معلنة مصدق عليها من قبل الهيئة البشرية جمعاء على سبيل التوكيد، كما ينبغي لسكان الأرض أن يأخذوا في الإعتبار قدسية هذا الأمر الأتم الأقوم الذي هو في الحقيقة سبب رخاء عالم الملك وينبغي أن تصب جميع قوى العالم وجهوده نحو تثبيت هذا العهد الأعظم وإبقاءه. كما يجب أن يتم ترسيم حدود كل دولة في معاهدة الصلح هذه وتوضيح برنامج عمل كل حكومة، وتعيين وإقرار جميع المعاهدات والإتفاقيات الدولية وعلاقات الدول بعضها ببعض وكذلك تحجيم القوة العسكرية لكل دولة بحدٍ معلوم ٍ حيث أن إزدياد المقدرات الحربية لدولة معينة يسبب توجساً لبقية الدول، كما ينبغي وضع أساس هذه المعاهدة على نحوٍ لو أخلت إحدى الحكومات من بعد ذلك بشرطٍ من شروطها تقوم ضدها كل دول العالم -بل الهيئة البشرية جمعاء- لتدميرها ومحوها بكل شدة وحزم. ولو نجح جسم العالم العليل في أن يستخلص لنفسه هذا الدرياق الأعظم فإنه بالتأكيد سيسترجع توازنه ويستعيد عافيته وينعم بالصحة الدائمة إلى الأبد".
كما يستطرد قائلاً بما معناه: "إن بعض الأشخاص يستصعبون حدوث هذا الأمر إلى درجة الإستحالة ولكنه ليس كذلك بل أنه لا معنى لكلمة المستحيل في ظل رحمة الله وألطاف المقربين إلى عتبة الخالق سبحانه وبفضل الهمم التي لا مثيل لها للنفوس الكاملة المحنكة والأفكار المتفردة. الهمة الهمة، النخوة النخوة فكم من أمورٍ كانت تعتبر في الماضي من المستحيلات التي لم يكن أحد يجرؤ حتى على مجرد تصور حدوثها وإذا بها نجدها اليوم وقد صارت شيئاً غاية في السهولة. إذاً فلماذا يعتبر حدوث هذا الأمر الأعظم الأقوم -والذي هو في الحقيقة الشمس الساطعة على المدنية الإنسانية وسبب لفوز العالم وفلاحه ونجاته- أمراً مستحيلاً وممتنعاً؟ وفي النهاية لابد أن تتجلى معالم هذه السعادة في عالم الوجود".
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟