علي الأسدي
الحوار المتمدن-العدد: 3746 - 2012 / 6 / 2 - 08:53
المحور:
الادارة و الاقتصاد
المحافظون في الاتحاد الأوربي أعضاء كانوا في منطقة اليورو أم خارجها مثل بريطانيا والدنمارك يعتقدون أن انهيار اليورو سيدفع ببلدانهم الى الركود الاقتصادي ، مؤكدين في الوقت نفسه ان الالتزام بتنفيذ سياسة التقشف وتجميد النفقات على المنافع الاجتماعية وتقييد حقوق العمال سيساعد على النمو الاقتصادي. وكغيرهم من أنصار رأسمالية الليبرلية الجديدة ما يزالون ينظرون للنمو والربح والرخاء الاقتصادي كنتاج لقوى السوق وحدها ، اما الدولة فليس لها ما تفعله غير تسهيل عمل السوق وعدم التدخل في مكانيكية مساره. لكنهم بنفس الوقت يعطون الحق لأنفسهم بالتدخل في حياة الناس والتضييق على مصادر قوتهم وتقييد حرياتهم النقابية التي انتزعها العمال بكفاحهم الجماعي انتزاعا من أرباب العمل خلال عشرات السنين. لكن حتى هذه السياسة التي يتصورون بأنها ستأخذهم الى النمو ، لم تتقدم بهم خطوة واحدة نحوه. فالى أي مدى ستأخذهم هذه السياسة؟
إن مشاكل الاتحاد الأوربي تزداد تعقيدا ، والبحث عن مخرج لأزمة اليورو توشك على نهايتها ، ويبدو أن قادة الاتحاد الذين بيدهم الحل والربط قد واجهوا واقعا جديدا ليس من السهل تجاوزه ومواصلة التقدم الى أمام. فاليونان تحزم أمرها لمغادرة اليورو في وقت تتهاوى أمام العالم النظم المصرفية في اسبانيا وايطاليا ، وما قدم من اموال لانقاذ أيرلندا والبرتغال قد أخر قليلا انهيارها واعلان افلاسها. اليوم تخيم على اسبانيا حالة من الفزع لم تشهدها أوربا حتى ابان أزمة الثلاثينيات ، فخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط تم سحب أكثر من مائة بليون يورو من مصرف اسباني واحد ، وما تزال طوابير المودعين تتقاطر امام مكاتب البنوك لسحب ما أمكن وبأقرب وقت. واذا لم يجري اتخاذ اجراءات لزرع الثقة في اليورو فان ملايين الناس ستحاول التهرب منه كما يهرب الأصحاء من الوباء. وبرغم كل هذه الأدلة على فشل رأسمالية الليبرالية الجديدة تستمر حكومات الاتحاد الأوربي على نهجها الحالي المعبر عنه بسياسة التقشف التي يتبعونها بعناد.
المتحدث باسم حزب العمال البريطاني الذي يعارض توجهات حكومة المحافظين بخصوص اجراءات التقشف التي تتبعها انتقد اصرار الحكومة عليها بقوله : " في الوقت الذي بدأت أوربا برفض سياسة التقشف وادانتها يحاول المحافظون في بلادنا الاستمرار فيها". ما عناه المتحدث من حزب العمال هو التوجهات الاقتصادية المهمة التي كشف عنها الرئيس الفرنسي الجديد على لسان رئيس وزرائه جين مارك أيرولث بقوله : " ينبغي التركيز على زيادة الاستثمارات في الاقتصاد أولا فهي التي تحقق النمو، وتاتي سياسة التقشف بالدرجة الثانية ، وبنفس الوقت لابد من تعزيز سياسة الحماية التجارية".
من جانب آخر تتزايد الضغوط من جانب القوى اليسارية في البرلمان الأوربي وكذلك في برلمانات الدول أعضاء الاتحاد الأوربي على حكوماتها اليمينية للانتقال الى ما سمي المرحلة ( ب) من سياساتها الاقتصادية الحالية التي تمتنع عن التدخل قي ميكانيكية عمل قوى السوق الحرة. المرحلة ( (ب ) هي التوجه الذي تقوم خلاله الحكومات اليمينية في الاتحاد الأوربي الى التدخل مباشرة في حدود ضيقة ، عبر استثماراتها في البنية التحتية وفي مشاريع بناء العقارات التي تتلائم وقدرات ذوي الدخل المحدود وفي تحديث الخدمات ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة بالقروض الميسرة ومساعدتها في الوثوب الى السوق العالمي. ومن السابق لأوانه توقع تنفيذ مثل هذا البرنامج وهذه السياسة من حكومات لا رغبة لها للبحث عن حلول لمشاكل شعوبها خارج مصالح المشروع الرأسمالي الخاص ، وان اشارات الرئيس الفرنسي الجديد حول دور الاستثمارات في معالجة الأزمة الاقتصادية تظل عبارات بدون معنى حتى نرى تعبيرا عنها على أرض الواقع، ما عدا ذلك فالحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يقوده رئيس فرنسا الجديد ليس أقل رأسمالية من رأسماليي الليبرالية الجديدة المهيمنون على دول وقيادات الاتحاد الأوربي.
وبالعودة الى موضوع اليونان هناك من المحللين السياسيين والاقتصاديين من يعتقد أن ضآلة الاقتصاد اليوناني الذي لا يتجاوز 2% اقتصاد منطقة اليورو، قد يفجر قنبلة موقوتة لردود أفعال ستشمل كل الدول الأوربية كتلك التي نتجت عن انهيار مصرف ليبمان عام 2008 في الولايات المتحدة. فكبرى المصارف الألمانية والبريطانية واليابانية والفرنسية هم أكبر المستثمرين في الديون اليونانية وبقية دول منطقة اليورو. ولهذا السبب تكتسب الانتخابات القادمة في اليونان والاستفتاء في أيرلندا هذا اليوم اهمية بالغة ، فكلما كانت النتائج معارضة لسياسات التقشف واحزابها ، كلما كانت الفرصة أفضل للمفاوضين للحصول على نتائج جذرية لا تجميلية.الانتخابات المنتظرة في اليونان لانتخاب برلمان جديد قد تنبثق عنه حكومة جديدة بقيادة اليسار أو بالتحالف معهم باعتبارهم قوة حاسمة في البرلمان الجديد. لكن مثل هذه النتيجة سيكون الخبر الأسوء الذي لا يرغب في سماعه قادة الاتحاد الأوربي ، لأن حكومة بقيادة اليسار ليس فقط قد تصوت لصالح خروج اليونان من اليورو ، بل سترغم قيادة الاتحاد الأوربي على اجراء التغيير في السياسات الاقتصادية والمالية لصالح الدول الأعضاء الأقل تطورا اقتصاديا ، ولو حصل هذا بالفعل فالتوقعات ربما تكون أقل تشاؤمية مما هي اليوم.
بصرف النظر عن ما ستأتي به نتائج التصويت في البلدين فان قادة الاتحاد الأوربي ومنذ شهور منخرطون بدون كلل في المناشدات التحذيرية لليونان وأيرلندا من عواقب عدم تنفيذ الالتزامات التي وعدتا بها الاتحاد الأوربي ، فرئيس المفوضية جوزيه مانويل باروسو صرح قائلا : " على اليونان احترام التزاماتها ". وكان كين كلارك وزير العدل في الحكومة البريطانية قد حذر اليونانيين من النتائج الوخيمة اذا ما صوتوا " لليسار المتطرف." و‘يطلب الشيئ نفسه من الأيرلنديين الذين ذهبوا للاستفتاء على حزمة الالتزامات التي وافقت عليها الحكومة الايرلندية السابقة العام الماضي بعد قبولها قرضا ماليا لدعم نظامها المصرفي الذي أوشك على الانهيار. ويجري تخويفهم من عواقب رفض سياسة التقشف أو التقاعس في تنفيذها ، لأن ذلك يعني رفض طلبهم في الحصول على قروض أخرى في المستقبل لمساعدة اقتصادهم الذي يتراجع بسرعة.
لكن هناك بين أعضاء المفوضية الأوربية من يرى ،" ان الضغط باتجاه تنفيذ سياسة التقشف ليس له نصيب من النجاح ، لهذا قد يحاول قادة الاتحاد الأوربي حل الأزمة الراهنة في منطقة اليورو من خلال تخفيض قيمة اليورو داخليا ، وهذا سيخفض الأجور والخدمات في منطقة الجنوب الأوربي بهدف خلق التنافسية ، و لو حصل هذا بالفعل فسيعني كارثة كبرى لأوربا ، لأنه سيسبب الفقر والهجرة الجماعية باتجاه الشمال. فما تحتاجه أوربا هو مشروع على غرار " مشروع مارشال " الذي بدأ بتنفيذه في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية بتمويل أمريكي ، ولو أخذ به ، فسيبدأ بسياسة مالية واستثمارات في البلدان الأقل أو الأضعف اقتصادا ، لكن ألمانيا لن تتجاوب مع هذه الفكرة ، فهي لا تبدو مستعدة لتعريض الاتحاد النقدي الأوربي للضعف لأن المنتفع الرئيس فيه هو رؤوس الأموال الألمانية المستثمرة بكثافة فيه ". فألمانيا بناء على ذلك ليست جزء من الحل الذي قد ينقذ دولا مثل اليونان ، بل هي جزء من المشكلة القائمة فهي تعارض الحلول التي تتعارض مع مصالحها المالية برغم ما يسببه من ضرر لمنطقة اليورو.
صحيفة الغارديان البريطانية وجهت الأنظار لأصل الأزمة التي تواجه حاليا الاتحاد الأوربي ، ففي مقال لأحد أهم كتابها هو سوماس ميلني جرى تحميل معاهدة الاتحاد الأوربي ذاتها المسئولية عن المصاعب الحالية التي تواجه منطقة اليورو ، وما أزمة اليونان أو أيرلندا الا أحد نتائجها. فالمعاهدة فرضت الخصخصة على مشاريع القطاع العام ، ومنحت المصارف حرية التصرف بعيدا عن المراقبة والمحاسبة القانونية تنفيذا لرأسمالية الليبرالية الجديدة التي مهدت الطريق للأزمة الاقتصادية في أوربا بما فيها بريطانيا. السياسة الاقتصادية لليبرالية الجديدة التي هيمنت على تفكير قيادة الاتحاد الأوربي منذ تشكيله في الستينيات وما زالت تقود الاتحاد من فشل الى فشل تحتاج الى اعادة نظر وصياغة نموذجا جديدا يقطع علاقاته بالمنظومة الفكرية لليبراليين الجدد دون ابطاء.
وعلى عكس ما خلص اليه الكاتب في صحيفة الغارديان سوماس ميلني يحمل عضو البرلمان الأوربي عن حزب المحافظين دانييل هانا اليونانيين ذاتهم عما يجري في بلادهم. ففي مقاله في صحيفة الديلي ميل المحافظة بتاريخ 17 ايار الحالي عبر عن عدم اقتناعه بنزاهة السياسيين اليونانيين ، فهم في رأيه يبدون شيئا وفي بالهم نوايا أخرى ، الهدف منها هو ابتزاز قادة منطقة اليورو. وقد توصل وفق نظرية المؤامرة الى استنتاج ، وربما كان مصيبا بأن اليونانيين يحاولون التهديد من موقع الضعف المصطنع ، ليخيفوا من يقدم لهم المساعدة متوقعين شروطا أفضل وهي ستراتيجية نفذتها اليونان ببراعة. لكن اليونان كما أوردناه في الجزء الأول من هذا المقال لا خيار لها للحاق بحركة النمو غير العودة الى عملتها القديمة " الدراهما " والمباشرة بطبع المزيد منها بعد اعلان افلاسها وتخفيض قيمة الدراهما الجديدة بالنسبة لليورو والعملات الأخرى ، ففي هذه الحالة لن يطالبها احد بتسديد ما بذمتها من ديون لأنها أشهرت افلاسها. لكن السيد هانا " يرفض خيار اليونان هذا ، ويعتبره الأسوء في العالم ، معتبرا ذلك مناورة سياسية لا أخلاقية ولا ينبغي أن تقدم عليها اليونان.
لكن مشكلة اليورو لن تنتهي في خروج اليونان من اليورو أو افلاسها ، المشكلة أكبر من ذلك بكثير ، فما يتعرض للانهيار حاليا هو اليورو نفسه ليس كعملة نقدية ، وانما كاقتصاد يضم منطقة اليورو جميعها. وليس هذا فحسب ففي الأفق سيناريو يجري الأعداد لتنفيذه بعناية فائقة لأجل حصر تكاليفه الى أدنى الحدود ، السيناريو المتوقع هو انهيار الاتحاد الأوربي ذاته ، فمنطقة اليورو هي قلب الاتحاد ورئتيه ، بدونهما لا أمل في بقاء الاتحاد الأوربي على قيد الحياة. وبناء على هذا تستعد المؤسسات المالية والمصارف الكبرى في العالم لاستقبال بلايين الدولارات التي أخذت طريقها عبر الأطلسي الى نيويورك ، والبعض الآخر فضل عبور بحر الشمال الى لندن. كبار المضاربين الدوليين لاشك ينسقون مع حكومات الدول المعنية التشكيل الجديد لأوربا بعد اليورو ، وللاستعداد لردود الفعل التي يمكن وتلك التي لا يمكن التنبؤ بها ، ففي نهاية المطاف يجب عودة الجميع الى العمل من جديد.
فهل يعيد التاريخ نفسه ، انهيار المنظومة الاشتراكية تم قبل ثلاثة عقود ، وها نحن بعد ثلاثة عقود أمام انهيار آخر لا يقل دراماتيكية عن سابقه ، الفارق الوحيد بين الحدثين أن دول الاتحاد الأوربي تبادلت الأنخاب مع الولايات المتحدة احتفاء بانهيار الاشتراكية ، أما بعد انهيار اليورو فستشرب الولايات المتحدة نخب انتصارها هي ، فقد عاد دولارها سيدا للملعب واللعبة.
علي ألأسدي
لمزيد من الاطلاع انظر-
The Gurdian, 6/2/2012-1 Simon Rogers and Graeme Wearden,
European Union ,Labour Force Survey,( EULFS)-2
The Daily Mail, 17/5/2012-3 Daniel Hanna,
-4 Becky Barrow and James Chapman, The Daily Mail, 17l5l2012
-5 The Times ,20 /5/2012
6-Seumas Milne , The Gurdian ,22/5/2012
7- BBC, 24/5/201
#علي_الأسدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟