|
فيزياء الروح وروح الفيزياء
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3745 - 2012 / 6 / 1 - 19:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
وديع العبيدي فيزياء الروح وروح الفيزياء إذا كان التأويل اللغوي وهندسة ببليوغرافيا المعارف، قد حصل في عهد متأخر على أيدي الاغريق، فأن البدايات الحقيقية لمفهوم الروح تسبق ذلك بكثير. أي أنها تسبق ظهور الديانات المتعارفة بالكتابية أو المعاصرة. هذا من جانب، أما الجانب الآخر، فهو ان التعريف الببليوغرافي لمسألة الدين، واعتبار [التوراة]* أقدم الكتب الدينية، أو دالة أقدم الديانات، ينطوي على غبن تاريخي وأبستمولوجي كبير، لا يليق بالبحث العلمي وتوخي الحقيقة. فبقدر تركز الاستكشافات الغربية على منطقة الشرق الأدنى للمتوسط، بقدر ما كان الحيف والاهمال والتجاهل نصيب ثقافات الشرق الأقصى [جنوبي شرق آسيا والهند عودا إلى بلاد فارس]، والتي شكّلت المنابع الثقافية والجذور الفكرية والما ورائية لتأسيس الديانات الابراهيمية. فالبحث في أصول مصطلح الروح، لا يقتصر على المكتبة الاغريقية التي توفرت على التراكم التاريخي لمعارف الشرق القديم، وانما.. المضي قدما، في محاولة التلمّس المباشر لثقافات الشرق عبر معطياتها التاريخية ممثلة في البوذية والهندوسية والتاوية وغيرها من الأفكار والعقائد القديمة. لقد عاش "الدين" مرحلة متراكمة من التأسيس المعرفي الجادّ - طويل الأمد، وباهظ التكاليف؛ مما لا يتناسب مع الصورة المعاصرة للدين – القريبة من الابتذال الشعبي-. ذلك على الرغم، من أن الدين كـ"منظومة" لا يزال هو الأطول عمرا، و- غير المرشّح للاندثار-، في سلسلة الأفكار والمنظومات الفكرية التي ظهرت عبر التاريخ. وإذا كانت "الدولة" كمؤسسة تاريخية عريقة تتعرض اليوم، مع بدايات الألفية الثالثة، لضربات موجعة تكاد تودي بها، فأن "الدين" كمنظومة وإطار معرفي واجتماعي، يطرح نفسه كبديل دائم و – تحدّي مستمر-، إزاء كل الاحتمالات. وكما أن الغرب العلماني، صاحب المنجزات المادية الكبرى في تاريخ الانسان، لم يستطع التحرر والانفكاك تماما من ربقة الفكر الديني (subculture) ، فليس من السهل المتوقع، هزيمة الفكر الديني في الشرق، وهو الأكثر أصالة ومساحة. وبشكل يدفع إلى القول، أنه – إذا كان الفكر الديني يمثل طفولة العقل البشري، فليس من المحتمل، تنصّل المرء من طفولته-، وعلى قدر صوابية سيجموند فرويد [1856- 1939] في تحليلاته، يزداد تعلق المرء بطفولته (وماضيه)، كلّما تقدّم في العمر. ولا شكّ أن البشرية تقدمت كثيرا في عمرها على الأرض، إن لم تكن قد اقتربت فعلا من "الأيام الأخيرة" بحسب الفكر الانجيلي. في هذا السياق، تقتضي الضرورة مستوى مناسبا من التمييز بين نمطين من "الدين"، أو "النزعة الدينية" بتعبير أبسط، وهي الديانات العقلية التأملية، والديانات الروحية القطعية. النوع الأول، هو الذي ترك المجال مفتوحا بين الظاهر والمخفي، بين الموجود والغائب. هذا النوع لم يجد ضرورة لوضع (سياج حديدي) قائم على ثوابت وقوالب قسرية ملزمة لكلّ من يقع في دائرته. وبالتالي، فهو لا يطالب بالغاء أو اختزال العقل أو الحواس ولا يفترض أدلجة مسبقة للفوز الديني. هنا يستطيع كلّ من يريد ويرغب، الوصول إلى غاية الوجود، بطريقته وقدراته الخاصة، وعلى مدى الزمن، بدون توقيت محدد صارم وقطعي. إذن، هنا لا توجد قوالب، لا يحكم أحد على أحد، لا يوجد حدّ للزمن!. ويتمثل هذا النمط بالديانات غير الابراهيمية، والتي اصطلح الفكر الديني الابراهيمي عليا بالوثنية. وبديهي، عقب ذلك، أن النوع الثاني، هو النظير المعاكس للأول. أي الديانات السائدة والمتعارفة اليوم. وهي: في حين تعيش في حالة حمى المنافسة، لاستقطاب أكثر البشر في حظيرتها، فأنها تقسرهم على التخلي عن طرز حياتهم وأفكارهم وأحاسيسهم، والانصياع لتعليماتها ومعاييرها الصارمة للنجاح. ورغم مبدأية تعليم النوع الثاني على أن الاله السماوي خلق كلّ شيء وهو حسن، فأنه يطالب المرء بالتخلي عن ذاته وخصائص وجوده للدخول في نير "عبودية" التعليم الديني. * لقد استغرقت مفردة "الروح"، أحقابا زمنية، تدرجت خلالها من الأصل اللغوي/ الفيزياوي المجرد، لتستبدّ بطابع ديني صرف، مقصور عليها، وبشكل يمثل [جوهر، فعالية] كلّ ما في الوجود، بدء من العلّة العظمى، إلى آخر ظاهرة مادية أو معنوية طارئة. فالروح، ليست رمز أو أكسسوار جامد، في المكتبة الدينية، انما هي الأصل والموجه لكلّ شيء. انها حجر الأساس، في انشاء/ اعلان وجود (روحي)/ غير مادي، يوازي ويضاهي ويفوق، الوجود المادي الفيزياوي للطبيعة. واليوم، مع ذكر أو سماع تلك الكلمة، يتجه الذهن بعيدا، عن المادة، إلى نقطة في قعر الغيب. ورغم عدم يقينية بؤرة المجهول تلك، فما تزال تحظى بجاذبية وخدر لذيذ، للهرب من صعوبات الواقع ومتاهات الوجود وخيبة الحياة. فالروح- تعبير آخر عن الغيب، بل هو أكثر شمولا وعمقا باعتباره تعبير عن الآلية والجوهر، فيما الغيب [لغة: من غاب يغيب فهو غائب وغيب، كناية عن غير المنظور]، هو توصيف فيزياوي لخصائص الحواس البشرية. ولا يختلف "الروح" عن "الغيب" في احتلاله الحيز السماوي، الفوقاني، العلويّ، المتسلّط على كلّ ما دونه –بما فيه الأرض ومكوناتها المائية والحيوية-. وبارتباط الروح بالمسكن السماوي (الواقع هو ما وراء السماوي/ ميتا- فيزيقي)، فأنّ كلّ ما يظهر من السماء، انما هو صور وعلامات ووسائل وسيطة بين السماء والأرض. وإذا كانت الريح (الهواء) هي أبرز الوسائط حضورا وفعالية، - كما سبق القول-، فأن الأنوار السماوية [شمس، قمر، نجوم، كواكب، شهب، ونيازك]*، تأتي بالدرجة الثانية من حيث الأهمية، في توثيق سلطة السماء على الأرض، وتبعية الأرض لسلطات السماء. يقول آرثر بينك [1889- 1952] أن "الشمس" تسود الأرض طيلة النهار، وفي الليل يتولى "القمر" النيابة عنها. فالنور أحد الخصائص الفيزياوية للروح، وذلك مصداق وصف التوراة.. "على وجه الغمر ظلمة، و"روح" الربّ يرفّ على وجه المياه. وقال الربّ ليكن نور!"/ (تك 1: 2). فالظلمة التي تكتنف المياه - الأرض-، كناية عن الخليقة البعيدة عن عناية السماء، وسيادة "الروح" الالهية يجعلها مشمولة بالرعاية والهداية، بحسب قول بولس.. " لأنّ الربّ الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الربّ في وجه يسوع المسيح"/ (2كو 4: 6). فالنور- الظاهرة الفيزياوية السماوية الخارجية، المنبعثة من "الروح"، تنير فضاء الأرض المحيط بالبشر، كما أنها تنير أعماق الانسان ومداركه المعرفية. ويذهب يوحنا اللاهوتي أبعد من هذا بالقول: " فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة."/ (يو1: 4-5). وقد تكررت لفظة الروح كثيرا في الأسفار الدينية، وبمعاني واتجاهات مختلفة، سواء بنسبتها إلى أشياء وأشخاص، أو بنسبة أشياء وأشخاص إليها. روح الله، روح الربّ، روح من قبل الله، طويل الروح، روح الحكمة، روٍح رديّة، روح المعرفة، روح حسد وغيرة.. ويمكن تمييز أربعة مراحل رئيسة في الفكر الديني، بحسب تطور استخدامات "الروح"، كالآتي.. - الروح كرمز للقوة السماوية غير المادية وغير المرئية، وهي تعمل باتجاهات مختلفة –الخير كما الشرّ-، ولها تمظهرات وخصائص فيزياوية متعددة. ومجالها التطبيقي : التوراة!. - الكلمة- الكلمة المتجسد- ابن الربّ- يسوع المسيح.. ومجاله التطبيقي: الانجيل. - الروح القدس: سلطان الكلمة- المعزي.. ومجاله التطبيقي: أعمال الرسل. - الوحي- وسيط سماوي - حامل الكلمة الالهية.. ومجاله التطبيقي: القرآن. وقد سبق التنويه إلى مرحلتين [الآباء، والانبياء] في التواصل بين السماء والأرض، ويلحظ هنا استمرار الاتجاه التراجعي من العام إلى الخاص، ومن الاتصال المباشر إلى غير المباشر- عبر وسيط. وسوف أعود لهذا الموضوع في مكانه. وهكذا يستمرّ عمل الروح بفعالية تشحن الفكر الديني وتدفعه من مرحلة لأخرى، بفعل آلية تطورية، في محاولة لمضاهاة تطور الأسئلة العقلية والقدرات البشرية، دون أن يسمح لنفسه بالسقوط في هاوية التخلف أو الجمود. لقد كان لاصطلاح "الروح" أهمية خاصة في وسم الفكر الديني بملامح (روحانية) تميزه عن الخصائص المادية للفكر والتداول البشري، وهي حجر الزاوية في مثلث [روح- نور- كلمة] والتي بها استكمل تأثيث المعمار الديني/ التسلّطي والقائد في حركة التاريخ البشري. وباعتباره تعريفا موجزا للاهوت (الله روح!)، فقد أمكن به توحيد أسماء الدلالة والاشارة المتعددة لغويا ودينيا عن (ذات الجلالة) في مسمى واحد، رغم أن ذلك لم يكن ضمن الأغراض الأولية لتأسيس المصطلح!. ان صراع الدين والعلمانية في حقيقته، هو صراع حول القيادة والسيادة، [مَنْ يقود مَن، ومَنْ يسود مَنْ؟!!]. وطالما ناب رجل الدين عن سلطة السماء، والسياسي عن سلطة الأرض، يكون السؤال بصيغة أقرب: من الذي يقود البشرية/ رجل الدين أم السياسي؟.. وهذا هو جوهر الصراع الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم، بصورة واضحة أم مستترة؛ ومحور التنافس بين كلّ من الشيخ محمد مرسي والجنرال أحمد شفيق، لانتخاب رئيس لمصر عقب حسني مبارك!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ • (Instance), David Norton- The KJB- A Short History From Tyndale To Today, Cambridge University Press, NY, 2011 • أسهب القرآن في الإشارة للأجرام السماوية المنيرة، كالشمس والقمر والنجم والبروج وسواها. • آرثر بينك- الوحي الالهي للكتاب المقدس- دار النشر الأسقفية- القاهرة- 2008
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يسألونك عن الروح..
-
المفهوم المادي لسرعة الزمن..
-
الدين.. وعبادة الموتى
-
مصطفى سعيد الآن!..
-
الدين.. وتغليف فكرة اللا جدوى بالشوكولاته
-
هل الدولة شرّ؟!!
-
عمال بلا عيد
-
الدين.. والحرية
-
الدين والسياسة
-
الناس بين الإله وموظفيه!
-
علم الأديان المقارَن.. والدرس الديني
-
الدين والعقل
-
قطار البصرة
-
هل الدين علم؟!..
-
رسالة من شهيد
-
فردتا حذاء
-
من عذابات حرف السين
-
الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته
-
موسوعة الوطن الأثيريّ..
-
اليسار والتعددية.. والابداع واللامركزية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|