|
في مصر، صراع وجودي بين الله والإنسان
عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3744 - 2012 / 5 / 31 - 17:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ثمة صراع محتدم الآن على بر مصر بين تصورين عن العلاقة بين الله والإنسان متضادتين بالأساس، يلغي كل منهما الآخر ولا يتعايشان سلمياً بسهولة في غياب الحدود والقواعد القانونية والدستورية الصارمة والرادعة للطرفين. الفكرة القديمة، التقليدية مؤمنة بوجد كيان إله مستقل، ملموس أو غير ملموس لا يهم، هو خالق الكون كله ومن ضمنه الإنسان؛ من ثم هو الأعلم بصناعته وما على الإنسان أفضل من التوجه إليه بالشكر والعبادة وطاعة الأوامر. الطاعة هي نتيجة منطقية للخلق. دائماً المخلوق مطيع، أو هكذا ينبغي أن يكون، لخالقه. على الجانب الآخر ثمة فكرة جديدة على الواقع المصري، علمانية ديمقراطية، لا تنظر للعلاقة بين الله والإنسان على هذا النحو التقليدي العتيق. بحسب النظرة العلمانية، لا توجد، ويستحيل أن توجد، أي علاقة معرفية مباشرة أو غير مباشرة بين الله والإنسان. بالتالي، كل الكلام حول خلق الله للإنسان والتعاليم السماوية للإنسان، وكذلك وجوب الشكر والطاعة من الإنسان تجاه خالقه، مجرد لغو في لغو دون أي أساس معرفي متين.
في التصور العلماني، الله وكتبه ورسله وكل ما يتصل به هو من ابتكار الإنسان نفسه، عبارة عن تراث ثقافي تراكم عبر آلاف السنين وشاركت في صنعه وتقاسمت في الانتفاع به آلاف وربما ملايين البشر والشعوب والأقوام من جهات متفرقة حول المعمورة. طبقاً لهذا التصور، الإنسان، في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض، وحيد دون رب يراقبه ويكترث له ويعتني بأموره ويلبي له احتياجاته مقابل الدعاء والاستخارة وتقديم الأضاحي والقرابين؛ على العكس، الإنسان، بالنظر إلى عدم الوجود الفعلي لهذا الكيان الإله المتصور، مطلوب منه أن يتدبر شؤونه ويشبع احتياجاته وينظم حياته بنفسه. ليس ذلك فقط، بل هو المسؤول أيضاً عن المحافظة على كل ما تحيط به قدرة الإنسان من الكون بما فيه وعليه، لأن في دمار الكون والحياة عليه دمار للإنسان نفسه. حسب التصور العلماني، الإنسان في هذه الحياة وعلى هذه الأرض هو الفاعل، وربما الفاعل الوحيد والأكثر تأثيراً حتى مع الأخذ بقوى الطبيعة بعين الحسبان.
على النقيض تماماً، في التصور التقليدي، الإنسان مفعول به دائماً، ببساطة شديدة لأن هناك فاعل أزلي موجود دائماً هو الآخر. هكذا سيظل الإنسان مجرد مفعول به طالما ظل ذلك الكيان الخالق متربعاً مطلقاً على الطرف الآخر من العلاقة. يستحيل أن تقوم علاقة الندية أو المنافسة بين الطرفين، الخالق والمخلوق. بالتالي، المجتمعات المؤسسة على مثل هذه العلاقة العمودية من الصعب أن تكون مجتمعات متسامحة وتعددية وديمقراطية. هي دائماً تتضرع بأيديها إلى السماء في انتظار الغيث أو الهدي؛ أو تفتش في تراثها القديم بحثاً عن الإرشاد والتوجيه. هي دائماً وأبداً تبحث عن خالقها، الأعلم بها وباحتياجاتها.
باختصار، في التصور العلماني لا توجد علاقة رأسية بين الإنسان والله، بل توجد علاقات متعددة أفقية بين الإنس وبعضهم، بين الشعوب وبعضها، حتى بين الإنسان ومفردات الكون من حوله. على العكس من ذلك، في التصور التقليدي العلاقة أحادية ومطلقة بين إله واحد أحد من طرف، وجميع الخلق البشر والكون كله من الطرف الآخر. لهذا يكون من الصعوبة، ومما ليس له أهمية أو قيمة تذكر، بناء العلاقات التعددية بين الإنس وبعضهم أو بين الشعوب والأقوام وبعضها، أو بين الإنسان ومحيطه الكوني الفسيح. في هذا التصور الرأسي العمودي، العلاقة مع الله تغني عن كل علاقة أخرى، والعمل على إعلاء مكانة الله هو العمل الأهم على الإطلاق في هذه الدنيا، وربما حتى في ما بعدها.
الله، في التصور العلماني، غير موجود على الإطلاق في أعمدة أو حتى تفاصيل النظام السياسي، وإن كان موجوداً على الهامش داخل المجتمع كممارسة لبعض مواطنيه يكفلها لهم الدستور ضمن حرية العقيدة. هذا الإقرار من التصور العلماني بوجود الممارسة الدينية وسط المواطنين واحترامها وتنظيمها لا يعني أبداً إقراره بوجود كيان أياً كان من خارجه ينظم ويدير له منظومته السياسية أو الاجتماعية أو الحياتية بوجه عام، أو حتى الممارسة الدينية ذاتها. حسب هذا التصور، الإنسان هو الحاكم المطلق لنفسه، بما في ذلك حاجاته وممارساته الدينية.
من هنا يأتي الصراع الدائر الآن في مصر على الدستور بين التصور الإسلامي من جهة والتصور العلماني من جهة أخرى. أين الله؟ التصور الإسلامي يريد، ويسعى باستماتة، لكي يكون الله مركزياً ومحورياً في هذا الدستور، تماماً على شاكلة علاقة الخالق بالمخلوق المشار إليها أعلاه، العلاقة الرأسية الأحادية. على الجانب الآخر، العلمانيون يقاومون، باستماتة أيضاً، لكي يخرجوا الله من المعادلة، لأنه حسب تصوريهم غير موجود فيها أصلاً بأكثر من مجاملة شكلية لا تقدم ولا تؤخر. هم لا يرون ولا يريدون علاقة بين إله وإنسان، العلاقة الممكنة الوحيدة هي بين الإنس بعضهم ببعض والشعوب بعضهم ببعض. من هنا يأتي التسامح والتعددية والحرية والديمقراطية والتعايش السلمي بين الأفراد والشعوب، في تصورهم.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شفيق ومرسي، بالكرسي...إلى الجحيم
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|