الأحد 22 سبتمبر 2002 04:58
سيقول الكثيرون إن صدام، كعرفات، لا يفهم الا لغة القوة. استجاب عرفات لخطاب بوش الذي طالبه باعتزال السياسة بعد ثلاث دقائق من سماعه. وها هو صدام يستجيب بلا قيد ولا شرط لعودة المفتشين بعد خمسة أعوام من العناد العصابي. هل سيلعب اللعبة حتى النهاية ويتحرر نهائياً من أسر واقعه الداخلي، أي هواجسه ووساوسه وهذيانه العظامي والفصامي الذي قاده الى المأزق الذي وجد نفسه فيه ومعه العراق وبلدان المنطقة؟ هل ما زال قادراً على وعي متطلبات الواقع الدولي والتمييز بينها وبين أمنياته وتخيلاته؟
الموافقة على عودة المفتشين ليست الا مقبلات الوجبة الدسمة التي ما زالت برسم التناول. التكيف الحقيقي مع الواقع الدولي يتطلب من صدام أن يقوم بانقلاب ثوري على نفسه يغير به نظامه من النقيض الى النقيض، أي السياستين الداخلية والخارجية المتواصلتين بلا انقطاع منذ 35 عاماً والقيادة المسؤولة عنهما: كأنْ يتعهد صدام لمجلس الأمن الدولي وللجامعة العربية القيام باصلاحات جوهرية خلال 100 يوم يقدم في نهايتها استقالته شرط ان يغادر هو وعائلته وأقطاب نظامه العراق الى مصر أو روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية ويتعهد مجلس الأمن بعدم ملاحقتهم كمجرمي حرب مكافأة لصدام ولهم على تجنيب العراق والمنطقة ويلات الحرب.
وكأن يتم تكوين حكومة وحدة وطنية مؤقتة تمثل فيها جميع الاتجاهات وجميع الأقليات برئاسة شخصية مستقلة يتعهد باسم حكومته تحقيق المهام التالية: تحرير من ما زال حياً من السجناء السياسيين والأسرى الايرانيين والكويتيين، عودة جميع اللاجئين السياسيين دونما قيود، الغاء جميع القوانين الاستثنائية، فتح وسائل الاعلام للنقاش الحر والتفكير والاقتراح، إقرار التعددية السياسية والنقابية والجمعياتية وفي مقدمتها جمعيات حقوق الانسان، تحرير البحث العلمي والابداع الأدبي والفني من كل رقابة، تحديد موعد معقول بالتشاور مع مجلس الأمن والجامعة العربية لانتخاب مجلس تأسيسي تحت رقابة الأمم المتحدة والإعلام العالمي مهمته الأساسية اصدار دستور يعلن ميلاد الجمهورية العراقية الثانية، الديموقراطية الفيدرالية، يستلهم الدساتير الديموقراطية وخاصة دستور المانيا الاتحادية غداة تصفية النظام النازي، التعهد دستوريا بالامتناع عن تصنيع أسلحة الدمار الشامل أو السعي للحصول عليها والحد من التسلح التقليدي وتحويل المبالغ الهائلة التي كانت تهدر فيه الى الصحة والتعليم ومقاومة الفقر. ويلتزم العراق الجديد بأن لا يكون مصدراً لأي تهديد استراتيجي لجيرانه أو للعالم وبالعمل من أجل السلم في الشرق الأوسط وفي العالم، ويتعهد التخلي الى الأبد عن المطالبة بضم دولة الكويت ويعترف بحدودها الحالية، ويلتزم بالقانون الدولي وبمواثيق الأمم المتحدة التي طالما انتهكها نظام صدام، وبالمعايير الدولية في معاملة المواطنين والمقيمين والنساء والأقليات.
هذه الاصلاحات الضرورية لجعل العراق معاصراً لعصره كفيلة بقطع الطريق على الحرب التي يبدو أن واشنطن مصممة عليها لتحقيق مآرب أبعد من مجرد اسقاط نظام صدام. قد يقول قائل ما الحكمة من انقلاب صدام على نفسه وتصفيته لنظامه بيديه؟ أليس هذا هو بالضبط ما تريد الولايات المتحدة؟ هذا ايضاً ما يريده المجتمع الدولي وخاصة الشعب العراقي الرهينة. اما الحكمة كل الحكمة من هذه الاصلاحات فهي تجنيب العراق وشعوب المنطقة الحرب وعواقبها الوخيمة خاصة على الشعب الفلسطيني الذي قد يصاب تحت دخانها بنكبة ثانية أعد لها شارون واستعد. لكن صدام كعظامي هاذٍ، أي ذي ضمير أخلاقي ميت، لا يبالي بمصائر شعوب المنطقة أو بمصير شعبه الذي تباهى بتحويله الى درع بشري لحمايته. لكنه ولا شك حساس لبقائه وأسرته على قيدالحياة أولاً، ولحرمان اميركا ثانياً من تحقيق أحد أهم أهدافها من الحرب: الجيوبوليتيكي فرنسوا لافارغ يعتقد أن الهدف الأميركي الأساسي من هذه الحرب هو التحكم في نفط الخليج، لأن ذلك يسمح لها بحشر الصين في الزاوية. هذه الأخيرة ستكون في السنوات القادمة خصمها المحتمل الذي سينافسها عسكرياً وسياسياً، لكن عقب اخيل لدى الصين هو اضطراها بين 2005 و2025 الى استيراد نصف احتياجاتها النفطية من الشرق الأوسط الذي لا سلطان لها على حقوله أو طريق نقله. السيطرة الأميركية السياسية والعسكرية المطلقة التي ستنجم عن حربها على العراق سيجعلها تتحكم بلا منازع في 55 في المئة من احتياطي نفط الشرق الأدنى و20 في المئة من نفط بحر قزوين. وهكذا تغدو الصين تحت رحمتها ولن تستطيع، نظراً لتبعيتها النفطية، تحريك ساكن ضد الهيمنة الدولية الأميركية. إذاً الحيلولة دون ظهور منافس عالمي هدف أساسي من أهداف الحرب.
المخرج الوحيد للشعب العراقي وشعوب المنطقة وايضاً لصدام وشلّته هو مباشرة الاصلاحات الضرورية أعلاه لقطع الطريق على الحرب التي باتت محتومة. كيف؟ اميركا لن تستطيع شن حرب إذا كان الرأي العام الأميركي والعالمي ضدها لأن بوش لن يعاد انتخابه وهو رهان غال عليه. وإذا ركب رأسه مع ذلك وغامر بشنها رغم انسحاب صدام من الحياة السياسية ورد الأمانة الى الشعب العراقي فانها ســــتكون حــــرباً بلا شـــرعية شعبية أو دولية، قد تصــــيب النــــظام الأميركي مجدداً بلعنة وعقدة الحرب الفيتنامية التي ظلت تلاحقه طوال 15 عاماً ولجمت شهيته للتدخل الخارجي الى أن قدم له صدام باحتلال الكويت على طبق من ذهب فرصة التخلص منها.
لا شيء في تاريخ صدام أو خصائص شخصيته النفسية ما يؤهله لتحقيق الاصلاحات المطلوبة منه. وقد لا يكون قبوله عودة المفتشين، الذي لم تطالب به واشنطن التي لن ترضى بأقل من زوال نظامه، إلا مجرد مناورة قصيرة النظر. فهو كعظامي، مدمن على ارتكاب الأخطاء الاستراتيجية والتوغل دائماً أبعد وأعمق في العمى السياسي، لا يرى في السياسة أبعد من أنفه. وكما كان بعد غزو الكويت غير مقتنع بحتمية الحرب وجازما بحتمية انتصاره فيها اذا حدث وأعلنت، فإنه هذه المرة ايضاً يستبعد الحرب ولا يستبعد انتصاره فيها إذا اندلعت! فما العمل؟ على الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ان يستجمع شجاعته فيطالب صدام علناً بتطبيق جميع قرارات مجلس الأمن المتوقعة في الأيام والأسابيع القادمة. شخصية صدام مهووسة بانتهاك القانون الدولي وقلب القيم الانسانية. فشلت الأمم المتحدة وقبلها الجامعة العربية في اقناعه بالخروج من الكويت بالتي هي أحسن. اذاً فرص النجاح معه ضئيلة لكن لا بديل من مطاردته بالمطالب لكشفه أكثر أمام شعبه وشعوب المنطقة والعالم عسى أن يتجنب الشرق الأوسط والعالم اهوال حرب ذات مجاهيل عديدة.
مطلوب من المثقفين والاعلاميين المشاركة ايضاً في توعية العناصر الأقل عمى في النظام العراقي بضرورة التضحية بنظامهم المدان في جميع الأحوال: إذا لم يتشجعوا على تصفيته بأيديهم سلماً، تطبيقاً للمثل الحكيم: (بيدي لا بيد عمرو)، فإن الولايات المتحدة الأميركية مصممة على ازالته حرباً، واقناعهم بأن الشارع العربي الذي يعولون عليه لنسف استقرار الشرق الأوسط والحاق الهزيمة بالثنائي الأميركي - الاسرائيلي لن يحرك على الارجح ساكناً خاصة إذا رأى على شاشات الفضائيات الشارع العراقي المسحوق - وهذه احتمالية عالية - يستقبل الجنود الأميركيين لا كمحتلين بل كمحررين له من كابوس نظام صدام العائلي الدموي الذي جثم على صدره ثلاثة عقود ونصف.
أولى عواقب الحرب الأميركية على العراق ستكون تدمير القوات المسلحة العراقية جيشاً وحرساً جمهورياً. في سوسيولوجيا الأزمات والأوضاع الساخنة المعنية بدراسة تصرفات الجيوش خلال الأزمات قانون يفترض ضرورة تدخل الجيش لازاحة القيادة السياسية العاجزة عن الوفاء بالتزاماتها في حماية البلاد من الأخطــــار الداخلـــية والخارجية إذا رأى خطر الموت يحوم فـــوق الدولة التي يضـــمن بقاءها والبلاد التي يحمي حـدودها. فلماذا لا تتحرك القوات المســـلحة لانقاذ العراق من حرب هزيمتها فيها هي اليقين الوحيد؟ لماذا لا تحاسب صدام اليوم على مغامرته الكويتـــــية وهزيمــــــته في (أم المعـــارك) التي ما زال العراقيون يدفعون فاتورتها الباهظة؟ لماذا لا تسائله، في غياب المؤسسات الديموقراطية، عن مسؤولية تحويل العراق الذي حبته الطبيعة بأغلى موردين، الذهب الأسود والأزرق، الى أكثر بلدان العالم بؤساً؟
تدخل الجيش سيقطع الطريق على أول تجـــربة اميركية لتطبق استرايتجيا الحرب الوقائية المرصودة لإعادة رسم خريطة العالم بالقوة، التي قد تؤدي الى مزيد من الفوضى الدولية الدامية.
الوقت يعمل ضد العراق وضد فلسطين وضد شعوب المنطقة، فلماذا يكون العرب آخر الأمم التي لا تحسن الا تفويت الفرص السانحة والهروب الى الأمام وسياسة النعامة وعدم استباق الأحداث وعدم ترتيب سلم الأولويات وعدم قطع الطريق على الكوارث المؤكدة قبل حلولها؟
الحياة اللندنية