|
الحق في الجمال
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3743 - 2012 / 5 / 30 - 21:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما حصل في أفغانستان والعراق بعد الاحتلال، ربما يتكرر في مصر وسواها من البلدان، لاسيما بعد الإطاحة بالأنظمة الحاكمة وشيوع بعض مظاهر الفوضى والانفلات وبروز توجّهات متزمتة ومتعصبة، إزاء الآخر، وخصوصاً بما له علاقة بالفن والجمال والمرأة والتنوّع الثقافي (ولاسيما للمسيحيين وغيرهم من المكوّنات الدينية أو الإثنية) . وقد اتّسمت الفوضى الجديدة، بانتشار دعوات وأطروحات أخذت تطير على جناح السرعة بل وتتردد على لسان بعض رجال الدين والمتعصبين من الإسلامويين أو السلفيين أو “الإسلاميين”، أو غيرهم بالتكفير بدل التفسير والتأثيم والتحريم والتجريم، وما أسهل إصدار الفتاوى وتحشيد الناس وشحنهم دينياً أو طائفياً أو غير ذلك، خاصة في ظروف التخلّف والفقر وشحّ الحريات والمعارف .
لم تصغ حكومة “طالبان” إلى مناشدات العالم كلّه وهو يدعوها إلى الإقلاع عن فكرة تدمير التماثيل البوذية في باميان التي هي تراث يهمّ البشرية برمتها، ولا يخصّ أفغانستان وحدها . وكانت أوضاع النساء وصلت إلى أسوأ مستوياتها من العزل والتهميش، ناهيكم عن ممارسة العنف والإكراه وحجب الحقوق وذلك باسم “الإسلام” وتعاليمه السمحة التي لا يجمعها جامع مع مثل تلك الأطروحات المتخلفة، والتي كان الاسلام الأول قد تجاوزها قبل أكثر من 1400 سنة، فما بالك اليوم حيث حصلت المرأة على حقوقها في كثير من البلدان، وأبرمت العديد من الاتفاقيات الدولية، التي وقّعت عليها العديد من البلدان العربية والإسلامية، التي تمنع التمييز ضد المرأة وتناهضه وتؤكد مساواتها مع الرجل وتمكينها من أجل نيل حقوقها كاملة .
وإذا كان العراق قد شهد تطوراً قانونياً إزاء حقوق المرأة ووضع نسبة “كوتا” خاصة لها بمقدار 25%، فإن أوضاع النساء الاجتماعية واستمراراً لفترات طويلة من الحروب والحصار الدولي إزدادت سوءًا، وقد ارتفعت أصوات مؤثرة تدعو إلى منع الاختلاط في الجامعات لوضع حد للميوعة والتسيّب، سواءً كانت تلك الدعوات من بعض الأوساط الدينية أو من جانب جهاز التعليم العالي، أو في بعض دوائر الدولة التي تجاوزت على حقوق المرأة بحجة الحشمة في اختيار ارتداء الثياب والملابس، وقد تعرّضت النسوة إلى مضايقات كثيرة على هذا الصعيد وذكرت منظمات نسوية وحقوقية تفاصيل كثيرة، وتم التعبير عنها بصورة احتجاجات وأعمال رفض .
لقد واجهت دعوات عدم الاختلاط ومبرراتها “الدينية” ردود أفعال شعبية قسم منها عفوي، لاسيما في قطاع الطلبة وتنظيماتهم الطلابية، حيث احتدم المشهد بين الطلبة أنفسهم، فقسم منهم مؤيد للقرار انطلاقاً من توجهات دينية وآخر معارض من توجهات علمانية، حول مغزى ودلالة تلك الإجراءات، التي ترافقت مع حملة ضد وجود تماثيل ومنحوتات وبعض الأعمال الفنية في أكاديمية ومعهد الفنون الجميلة، حيث امتنع أحد المسؤولين عن زيارتها بسبب ذلك، بزعم أنها محاكاة للجاهلية، وهي صنف من الأصناف التي ينبغي أن تُزال .
ويتكرر اليوم مثل هذا الأمر في مصر، بعد دعوات لمنع كتب وتأثيم تصرفات وهدر دماء مثقفين وعقوبات بحق فنانين مثل عادل إمام نموذجاً وغيره، أو كما حصل في السابق لنجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، وكتب مثل ألف ليلة وليلة ورواية وليمة لأعشاب البحر وغيرها .
لعل أساس الربيع العربي المنشود كان دفاعاً عن الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وفي ذلك تقديس للجمال في ذاكرة الانسان وليس تدمير وإجهاض رغبات الانطلاق والتحرر، بحجج وذرائع مختلفة، وهو الأمر الذي انتبه إليه التيار الإسلامي، ولاسيما حزب النهضة في تونس، فبادر إلى تأكيد احترام حقوق المرأة ومكتسباتها التي حصلت عليها في العهد السابق وعدم المساس بها .
وليست الدعوات التي تريد النيل من حقوق المرأة أو من بعض مظاهر الجمال والفن والأدب والحرية، سوى شكل من أشكال التوحّش الاستبدادي، وهو لا يختلف في جوهره عن التوحّش السلطوي الذي مارسته الأنظمة السابقة، ولا يمكن محاكمة الفن والأدب وفقاً لمعادلات رياضية أو أرقام صمّاء، لقياسهما بالمسطرة، فعالمهما فسيح ويملك من الخيال والرمزية والتوريات وزوايا النظر الكثير، بحيث لا يمكن حصره أو تقنينه في أطر ضيّقة أو قوالب جامدة .
لقد أطلق الصحافي البريطاني روبرت فيسك تعبير “موت التاريخ” عندما تحدث عن تدمير الآثار العراقية، من جانب قوات الاحتلال وسرقة ونهب ممتلكات ثقافية لا تقدّر بثمن، وأي عمل بهذا الشأن يتجاوز على حق الإنسان في الجمال، إبداعاً أو استمتاعاً، أو تأثراً أو تجلّياً أو غيره، ويصبّ في هذا الاتجاه، إنما يراد به “موت الحرية” أيضاً .
ما يحصل في مصر التي تعرّضت هي الأخرى متاحفها للنهب والسرقة والتخريب، ليس سوى شكل متشابه في الجوهر مع ما حصل في أفغانستان والعراق وبلدان أخرى، وإنْ كانت التجربة العراقية قد حرّضت بعض النخب المصرية ودفعت جمهوراً واسعاً لحماية المتاحف عشية الثورة وخلالها وبعد انتصارها، في حين أن القوات المحتلة تركت الأبواب مفتوحة ومشرّعة، “وكل مال سائب يغري بالسرقة كما يقال”، فما بالك ببلد محتل ومنكوب بعد دكتاتورية طويلة، وتتحمل قوات الاحتلال مسؤولية هذه الخسارة العراقية الفادحة للممتلكات والآثار الثقافية والتي لا تقدّر بثمن، وقد أكدت ذلك التقارير الدولية طبقاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 7791 .
إن تدمير الجمال والفن ومعاقبة التاريخ والحرية ليس سوى اعتداء آخر على خصوصية الإنسان وكرامته وتاريخه، وهي فصول موازية للقهر السياسي والفقر الاقتصادي والإذلال الاجتماعي، بشحّ الحريات والعوز والتهميش .
ويعني الانتقام من التاريخ محاولة محو الذاكرة الجماعية للشعوب ومناخاتها وفضاءاتها الطبيعية حيث عاش الإنسان الأول، لاسيما في الحضارات القديمة المعروفة ببلاد الرافدين والنيل وغيرها، والهدف هو تصحير الذاكرة وتجفيف منابعها، وإحلال العنف، بل وغريزته الحيوانية، وذلك خلافاً للأهداف التي انطلقت الثورات من أجلها . ولعل كل عنف منفلت يولد الخوف، وهذا نقيض التطور الإنساني والأخلاقي لتحقيق السلام والتسامح واحترام الكرامة الانسانية ومبادئ المساواة .
إن تنمية عوامل الجمال والإحساس به وتمثله وجعله عنصراً ملازماً لحياتنا وحقوقنا الثقافية، هو حق من حقوق الإنسان، وينبغي على الحكومات حمايته، وهو واجب عليها أيضاً، فرغبة الانسان في استحضار طفولته واستعادة طفولة الأرض ذاتها وأسرارها وخباياها، هي رغبة أصيلة لدى البشر، لاسيما في مواجهة القبح والعنف والخوف .
إن الدولة مسؤولة عن حماية الجمال والفن والأدب وكل ما يضمن الخصوصية والتنوّع والتعددية، ولا يمكن لأية جهة مهما أطلقت على نفسها من مسمّيات أن تقرر بأنها صاحبة الحق في التصرف بذوق الانسان وعقله، لاسيما إزاء قيم الجمال والحرية، مهما كانت دعاواها، وفي الوقت نفسه فهو واجب على المجتمع الدولي لمنع سيادة العنف والقبح والتخلّف وفرض قيم محددة، والاّ فإن الدولة ستنتهي كونها دولة، لأن من واجبها الأول حماية أرواح وممتلكات الناس وأمنهم وتقدمهم، كما هو حماية النظام والأمن العام، ومن دون هاتين الوظيفتين، فإن الدولة ستكفّ أن تكون دولة، ولا بدّ للمجتمع الدولي أن يتوقف عن التعامل معها كدولة ذات سيادة، طالما تقوم على العنف والقبح والخوف وفرض نمط حياة معين، والأمر لا يتعلق بالدول المتخلّفة وحدها التي تتصرف نقيضاً للجمال أحياناً في بلدانها، لكن بعض الدول المتقدمة تسلك سلوكاً متوحشاً إزاء أمم أخرى، تحت واجهات تمدينية أو استعمارية استيطانية أو غيرها .
ولكي تقوم الدولة بهذه المهمات، فلا بدّ من وجود مجتمع مدني قوي، مكمّل وشريك وقوة اقتراح للدولة ورقيب وراصد لها في الوقت نفسه، وإن كان من خارجها، لأنه لا يسعى للوصول إلى السلطة وليس ذلك من مهماته، وهدف هذه المؤسسات هو تطوير المسؤولية الاجتماعية للدفاع عن وجود الانسان (الفرد) وحماية خصوصيته بهدف توسيع ثقافة السلام والتسامح واللاعنف .
إن “رحلة” الدفاع عن حقوق الإنسان هي واحدة من أهم المغامرات الإنسانية في تاريخ البشرية، والتي تعاظمت في منتصف القرن العشرين ولاسيما بعد صدور ميثاق الأمم المتحدة في حزيران (يونيو) 1945 والاعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر/كانون الأول ،1948 وفيما بعد العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العام 1966 .
لكن هذه المغامرة التي أصبح الجميع يقرّ بالانتماء إليها أو على أقل تقدير لا يمكن إعلان الوقوف ضد منظومتها، تعرضت، لاسيما في السنوات الأخيرة إلى محاولات لتدمير القيم الجمالية والأخلاقية المعنوية التي امتازت بها، وخصوصاً الحقوق والحريات، سواءً ما حصل في سجن أبو غريب أو سجن غوانتانامو أو في السجون السرية الطائرة والعائمة أو في بناء جدار الفصل العنصري واستمرار اغتصاب حقوق الشعب العربي الفلسطيني، أو تدمير معاني الجمال والفن والنزوع إلى الغرائز العنفية الحيوانية . ولهذا يبقى الحق في الجمال حق أصيل لا يمكن إخضاعه لأية اعتبارات دينية أو إثنية أو مذهبية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسرى الفلسطينيون والوعي النقدي المطلوب!
-
المساءلة والحقيقة في بعض تجارب العدالة الانتقالية
-
المفكر السيد الصدر حلّق في فضاءات شاسعة وسبح في بحور واسعة*(
...
-
اشتراكي جديد في قصر الإليزيه
-
الهوّية وأدب المنفى !
-
الدولة البسيطة والدولة المركّبة
-
الربيع العربي والأقليّات
-
ليبيا: الفيدرالية المدنّسة والمركزية المقدّسة
-
مواقف خاطئة للحزب الشيوعي
-
القضاء الدولي والقضاء الوطني: علاقة تكامل أم تعارض؟
-
نقد قيادة الحزب الشيوعي
-
50 مادة في الدستور العراقي تحتاج الى إصدار قانوني
-
مواطنة -إسرائيل-
-
عن ثقافة التغيير
-
رسالة الى الحزب الشيوعي السوداني
-
نعمة النفط أو نقمته في الميزان الراهن
-
السياسة والطائفة
-
حقوق الإنسان والمواقف السياسية
-
الأحزاب العراقية بلا قانون
-
3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
المزيد.....
-
التهمت النيران كل شيء.. شاهد لحظة اشتعال بلدة بأكملها في الف
...
-
جزيرة خاصة في نهر النيل.. ملاذ معزول عن العالم لتجربة أقصى ا
...
-
قلق في لبنان.. قلعة بعلبك الرومانية مهددة بالضربات الإسرائيل
...
-
مصر.. غرق لانش سياحي على متنه 45 شخصًا ومحافظ البحر الأحمر ي
...
-
مصدر يعلن موافقة نتنياهو -مبدئيًا- على اتفاق وقف إطلاق النار
...
-
السيسي يعين رئيسا جديدا للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام
-
ثلاثة متهمين من أوزبكستان.. الإمارات تكشف عن قتلة الحاخام ال
...
-
واشنطن تخطط لإنشاء قواعد عسكرية ونشر وحدات صاروخية في الفلبي
...
-
هايتي: الأطفال في قبضة العصابات مع زيادة 70% في تجنيدهم
-
تحطّم طائرة شحن في ليتوانيا ومقتل شخص واحد على الأقل
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|