|
العراقيون والعنف..قراءة نفسية-اجتماعية (2-2)
قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)
الحوار المتمدن-العدد: 3740 - 2012 / 5 / 27 - 21:08
المحور:
المجتمع المدني
ان العنف يولّد الكراهية ، فلنتحدث عن سيكولوجيا الحب والكراهية ..ففي داخل كل قلب عراقي صوت يقول : لقد شبعنا من الكراهية فلنفتح قلوبنا للحب ونعيش الحياة كباقي البشر . الحب والكراهية كلاهما انفعال ، ويعني الانفعال Emotion شعور ايجابي أو سلبي نحو شخص أو جماعة أو موضوع يكون مصحوبا" باستثارة فسيولوجية ، وبخبرة عقلية شعورية ، وبسلوك صريح . وكلاهما له أساس مادي ، عضوي، في الجسم هو الجهاز السمبثاوي المسؤول عن الاستثارة والجهاز الباراسمبثاوي المسؤول عن التهدئة . هذا يعني أن البشر جميعا متساوون في المكوّن البيولوجي لانفعالي الحب والكراهية .والاشكالية هي : ما دام الناس جميعا يأتون للدنيا بتكوين بيولوجي واحد ، فلماذا يختلفون في انفعالي الحب والكراهية ؟. وهل يصح القول أن (س) من الناس يأتي مجبولا على الحب فيما يأتي ( ص) مجبولا على الكراهية ، أم أن الناس الذين عاش بينهم (س) ميالون للحب ، فتعلّمه منهم ، فيما كان الناس الذين عاش معهم (ص) ميالون للكراهية فتعلمها منهم ايضا ؟ ..أي أن الحب والكراهية انفعالان مكتسبان ، متعلمان ، ناجمان عن الثقافة وليس عن اختلافات بيولوجية ، مع أن شيخ النفسانيين " فرويد " يرى أن الانسان يأتي مجبولا على العدوان . واشكالية أخرى : هل تختلف الشعوب في انفعالي الحب والكراهية ؟. خذ الشعب الفرنسي مثلا تجده يحب الحب ، بينما الشعب الانجليزي ..بارد في انفعال الحب ، فيما ترانا نحن العراقيين اذا أحببنا ..أحببنا بجنون ، واذا كرهنا ..كرهنا بحقد . ثنائية الانفعالات يمتلك الانسان منظومة ثنائية من الانفعالات : ايجابية وسلبية ، بمعنى أن كل انفعال ايجابي يقابله انفعال سلبي مضاد له ( فرح مقابل حزن..) . ولا يمكن للانفعالين المتضادين ان يظهرا معا " ، الا في بعض حالات المرض النفسي أو العقلي مثل " الهوس الاكتئابي " . ويبدو ان الطبيعة البشرية تميل الى اظهار الانفعالات الايجابية وترغب في ممارستها بحياتها اليومية ، فالانسان يحب ان يكون فرحا" مبتهجا" ويكره أن يكون حزينا" مهموما" . وهذا يعني ان الانسان يرغب ، بطبيعته، في ممارسة الحب وتجنب الكراهية في علاقته بالآخرين . ولهذه الحالة ثلاثة أسباب : الأول : بيولوجي يتعلق بالدماغ . ففي حالة الحب تنشط خلايا الدماغ وتنتعش ويرتاح ، فيما تضطرب حركة الموجات الدماغية الكهربائية في حالة الكراهية ، ويتعب الدماغ ، الذي يميل بطبيعته الى ما يريحه ويتجنب ما يتعبه . والثاني : نفسي . فالشعور بالحب يجلّب المسّرة للنفس ، وينشّط حتى جهاز المناعة فيطيل العمر، ويجعلك تستمتع بالحياة وتراها على طريقة سعاد حسني ( بمبي)، فيما ينجم عن الكراهية الشعور بالتوتر ويعيش الفرد حالة المرعوب الذي يتوقع الشر في أية لحظة ، ويرى الدنيا ( سوده مسخمه) . والثالث : اجتماعي . فالانسان المحبوب اجتماعيا" يكون أكثر ميلا للتعاون ويجد المتعة في مساعدة الناس ، ولهذا فانه يحظى باحترام الآخرين وتقديرهم له فيزيد من احترامه لذاته وتقديره لها ، فيما يكون الانسان الذي يتصف بالكراهية أنانيا وحسودا ، ولهذا يميل الناس الى الابتعاد عنه فيعيش حالة العزلة والنبذ والحقد تنعكس على تدهور احترامه لذاته ، وقد يصل به الحال الى أن يكره حتى نفسه . ولهذه الاسباب ( العضوية المريحة للدماغ والجسد ، والنفسية المريحة للروح ، والاجتماعية في العلاقة الممتعة بين الفرد والآخر ) فأن الغالبية المطلقة من الناس تتجنب الكراهية وتسعى الى ان يكون الحب هو السائد بينهم ، بأستثناء الحالات المصابة بامراض عقلية أو اضطرابات في الشخصية ، وهم قلّة . غير أن هنالك كثرة بين الناس يبدون لنا طبيعيين ولكنهم عصابيين ، والعصابي تتحكم به الكراهية رغما عنه وتثير فيه الانفعالات السلبية أكثر من الايجابية . هذا يعني أن الطبيعة البشرية السليمة نفسيا تختار الحب عفويا" وتسعى الى ان تجعله يسود بين الناس ، ولا تلجأ الى الكراهية الا مضطرة أو مجبرة .. فما اسباب ذلك ؟
متى يضطر الانسان الى كراهية الآخر ؟ الانسان منظومة من حاجات متنوعة ومترابطة ، تتمثل بالآتي : • حاجات البقاء : طعام ، سكن ، ماء ، هواء ... • حاجات اقتصادية : مصدر رزق يكفيه ولعائلته . • حاجات نفسية : الشعور بالحب والامن والراحة وعدم توقع الشر أو الخطر . • حاجات اجتماعية : التمتع بمكانة اجتماعية تمنح التقدير والاحترام والاعتبار الاجتماعي . • حاجات معرفية وجمالية: الحصول على العلم والمعرفة والثقافة والاستمتاع بالجمال. • حاجات انتمائية : انتماء الى : جماعة ، عشيرة ، حزب ، قومية ، دين ، مذهب ، ... يكون الفرد في حالة اندماج أو توحّد بها ، ويشعر ان ما يصيبها من خير أو شر ، يصيبه .
فاذا حّرم الانسان أو أحبط أو منع أو حيل بينه وبين تحقيقه لهذه الحاجات المشروعة ، وشعر ان الآخر ( فرد ، طائفة ، حزب ، حكومة ، ... ) كان هو المسؤول ، اضطر الى ان يكره من كان هو السبب . وأخف درجات الكراهية هي التي يشعر بها الفرد ويستطيع اخفاءها أو التعبير عنها بشكل خفيف ، واوسطها درجة الغضب الذي يجري التعبير عنه لفظيا" ( السب ، التشهير .. ) أو جسديا" ( الضرب بالايدي.. ) . ويحصل الغضب حين يشعر الفرد بأن صديقا له قد خانه أو خذله ، أو أنه لا يعامل بشكل عادل ، أو حين يتوقع حصول اعتداء عليه . واقوى درجات الكراهية حين تصل الى حالة " الحقد " التي تدفع صاحبها لممارسة العنف ضد الآخر الذي يرى فيه المستلب أو المغتصب أو المانع لحق أو حاجة مشروعة تخصه أو تخص الجماعة التي ينتمي اليها . اما الظروف التي تساعد على التعبير عن الكراهية بين الجماعات أو تكبحه ، فتتعلق بالآتي : • طبيعة السلطة وسيادة القانون . • سيكولوجية طرفي أو اطراف الكراهية . • النتائج الناجمة عن مواقف الكراهية . • اطراف أو جماعات التحريض على الكراهية .
فحين تكون السلطة دكتاتورية أو قاسية في ظلمها ، ويكون القانون سائدا" ، وحكومة السلطة قابضة على النظام بيد محكمه ، فأن الناس المقهورين أو المظلومين يكبتون كرههم نحو السلطة بدافع الخوف منها . ويحصل ان الكراهية بين الجماعات في المجتمع الذي تحكمه سلطة دكتاتورية ظالمة ، تتراجع أو تدخل في دورة " سبات " لأن هذه الجماعات ، برغم اختلافها في الدين او القومية او المذهب..، توحّدها الكراهية نحو السلطة الظالمة التي تحكمهم. وحين تكون السلطة ديمقراطية وقوية في تطبيقها للقانون وسيادة النظام ، فأنه يجري التعبير عن الكراهية بين الجماعات ولكن بوسائل سلمية في الغالب ( مظاهرات ، ندوات ، مقالات في صحف ، احاديث في الاذاعة والتلفزيون .. ) . اما اذا تضاءلت هيبة السلطة وكانت ضعيفة في تطبيق القانون وفرض النظام ، فأنه يجري التعبير عن الكراهية بين الجماعات بأساليب العنف والعدوان . وفيما يخص سيكولوجية طرفي أو اطراف الكراهية ، فان لانفعال الكراهية مكونين ( معرفي – عقلي) و(حضاري ـ اجتماعي )، بمعنى انه كلما زاد الوعي والتفكير بعواقب الامور بعقلانية وواقعية زادت سيطرة العقل على التحكم بانفعال الكراهية ، والعكس صحيح ، ولهذا يتعطل دور العقل في التحكم بانفعال الكراهية بين الفئات الاجتماعية التي يكون فيها مستوى الوعي متدنيا" ، ومستواها الحضاري واطئا" أو معدوما".
وفيما يتعلق بالنتائج الناجمة عن مواقف الكراهية، فان المواقف اذا تحولت بين اطراف الكراهية الى عدوان ينجم عنه ضحايا ، تطور العدوان الى عنف يشيع بين " رعاع " جماعات الكراهية بعدوى نفسية تأخذ أسلوب العنف العشوائي . اما جهات التحريض على الكراهية من خارج الاطراف المتصارعة ، فأنها - لأسباب تتعلق بانتماءات عقائدية أو عشائرية .. أولمصالح اقتصادية وسياسية - تعمل على تحريض الجماعة التي تنتصر لها وتظهرها كما لو كانت مظلومة أو مستلب حقها أو متجاوز عليها حتى لو كانت الحقائق لا تؤيد ذلك . ثقافتنا الانفعالية ان التعبير عن الانفعالات ، ثقافة نتعلمها من البيت والمدرسة والشارع والمؤسسات الاجتماعية، وأهم الوسائل في اشاعة ثقافة الحب هي تنمية قيم الجمال والفرح والتفاؤل ، لكنك حيثما وليت وجهك في العراق تجد مظاهر القبح والحزن والتشاؤم هي الأكثر..في الناس ، وفي الطبيعة ايضا ، فحتى النخيل حرقت جدائله وما تزال جذوعه متفحمة ، والناس من ألف عام يلطمون وينوحون ..حتى صار التباهي بالحزن حالة تنافسية بين العراقيين! . والمفارقة أن صحفنا ومجلاتنا ، دع عنك مسلسلاتنا التلفزيونية المنشغلة باعادة انتاج فواجعنا ، من النادر أن تجد فيها موضوعات تثير البهجة والفرح وتقدح مشاعر الحب . ان أفدح خسارة في العمر أن يعيش الانسان من دون حب ، واسوأ كارثة اجتماعية أن يضيّع شعب فرصة متوافرة لاشاعة الحب والتعافي من حالة ادمان على الكراهية . هامش: "*"في العام 1994 قمت بتحليل شخصيات عصابة لسرقة السيارات المصحوبة بقتل اصحابها مؤلفة من خمسة اشخاص.كان رئيس العصابة شابا بعمر 28سنة وبجسم رياضي وكان صاحب موبليات في مدينة الموصل..اي انه ما كان بحاجة مادية زمن الحصار.كانوا يمارسون القتل في مدينة بغداد ويبيتون في الليل بجناح خاص في فندق منصور ميليا.ولقد سألت رئيس العصابة الذي قام بست عمليات قتل عن شعوره بعد كل عملية قتل فاجابني (عادي!).وحين سألته:لنفترض انهم البسوك البدلة الحمراء واخذوك فجرا الى الاعدام..فعلى ماذا ستندم؟.أجابني:سأندم أنني لم أقتل أكثر!.ومع ان التحليل النفسي يشخّص حالته انه (سيكوباث) الا أن التحليل الأعمق والأصدق ان قيمة الحياة عند العراقيين تراجعت من عام 1980وانها أدت عبر 32سنة الى استسهال الموت عند العراقيين بقتل بعضهم بعضا لدرجة ان عدد القتلى في تموز 2006 وصل الى مئة شخص في اليوم الواحد!.
#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)
Qassim_Hussein_Salih#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراقيون والعنف..قراءة نفسية -اجماعية (1-2)
-
ثقافة نفسية(63):عاداتك..تحدد نوعية حياتك
-
الكليات الأهلية..حكاية مليارت
-
ثقافة نفسية(62): للمدراء فقط!
-
ثقافة نفسية(61):الأيمو ..ومسؤولية الأسرة العراقية
-
القضية الكردية وحق تقرير المصير(2-2)
-
القضية الكردية وحق تقرير المصير (1-2)
-
تراجع مكانة المبدعين في الزمن الديمقراطي!
-
ثقافة نفسية (60): انتبهي لقلبك قبل أن يتعفن!
-
ثلاثية الفساد في العالم العربي -العراق انموذجا-
-
في سيكولوجيا قمة بغداد
-
استهلال صغير في موضوع كبير-(علاقة الدين بالطب النفسي)
-
قمّة بغداد..واغتراب المواطن عن السلطة
-
الأيمو!..تحليل سيكولوجي
-
ثقافة نفسية(59):سماع الأصوات..أو الهلوسة السمعية
-
ثقافة نفسية(58):عمر الحب بعد الزواج..ثلاث سنوات!
-
العراقيون..صنّاع أرمات
-
ثقافة نفسية(57): الوسواس المرضي
-
دوافع السلوك المنحرف للشخصية غير النزيهة
-
ألف ليلة وليلة..في منهاج دراسي!
المزيد.....
-
الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة
...
-
الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد
...
-
الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي
...
-
الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
-
صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي
...
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
-
-الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|