|
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع طبيعة المرحلة وقواها وتناقضاتها الملموسة (3)
صالح ياسر
الحوار المتمدن-العدد: 3740 - 2012 / 5 / 27 - 10:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
توقف التقرير السياسي الذي اقره المؤتمر الوطني التاسع للحزب الشيوعي العراقي عند الاوضاع الاقتصادية – الاجتماعية التي شهدتها الفترة التي تلت انعقاد المؤتمر الثامن (ايار 2007) واجرى تحليلا مركبا وشاملا لها. ومن بين القضايا التي تناولها التقرير الازمة البنيوية الشاملة وتفاعلات مستوياتها المختلفة وما افرزته من تجليات وصراعات محتدمة ومتفاقمة على الجبهة الاقتصادية.
تنطلق الموضوعات في بناء معرفتها بشأن الاقتصاد العراقي من تحديد سمته الاساسية والمتمثلة بكونه اقتصاداً احادي الجانب وريعياً وخدماتياً في آن. على المستوى الفعلي، ودون الدخول في التفاصيل، تتمثل المعالم الكبرى للمشهد الاقتصادي الراهن في ما يلي: 1- مواصلة تفاقم الاختلالات الهيكلية للاقتصاد العراقي. ويتجلى ذلك في عدة مؤشرات من بينها: - انحسار القدرات الإنتاجية وتراجع مساهمة القطاعات السلعية في توليد الناتج المحلي الاجمالي. حيث لا تزيد الايرادات غير النفطية المتوقعة لسنة 2012 عن 7 في المائة، على الرغم مما يعلن منذ سنة 2004 عن ان الدولة تتجه الى تنويع مصادر الدخل، والابتعاد عن التبعية المفرطة لقطاع النفط. - تواصل ضعف بل تدهور قطاعات الإنتاج المادي ولا سيما قطاعا الزراعة والصناعة التحويلية وتدني وتائر نموهما، حيث لا تشكل حصة الصناعة التحويلية في الناتج الاجمالي سوى 1.7بالمئة في حين تبلغ حصة الزراعة اكثر قليلا عن 5 بالمئة فقط. - وعلى اساس هذا الواقع المختل حظي قطاع الخدمات بالنصيب الاكبر في الناتج المحلي الاجمالي بعد القطاع النفطي اذ يشكل حوالي اكثر من 20بالمئة من مكونات ذلك الناتج. وباستبعاد قطاع النفط من تركيب معادلة الاقتصاد الوطني ترتفع مساهمة قطاع الخدمات في تكوين الناتج المحلي الاجمالي الى نسبة تزيد على 60بالمئة منه مما يؤشر الى ان الاقتصاد العراقي لم يعد ريعيا فقط بل بات ايضا اقتصادا خدميا ضعيف الإنتاج وتأتي خطورة مثل هذا الاختلال بالاتجاهات التالية : أ- سيادة القطاع الخدمي دون توافر جهاز انتاجي متطور ومرن، مما يعني توليد دخول نقدية تمثل قدرات شرائية تزيد من ضغوط الطلب. ب- الانفاق الاستهلاكي المتزايد دون استجابة مناسبة من الجهاز الانتاجي المحلي قد اصبح القوة الدافعة لنمو الضغوط التضخمية التي تترك اثارها النسبية على حركة الانتاج و مستويات المعيشة وقدرات الفرد الشرائية. 2- تعاظم الطبيعة الريعية والأحادية الجانب للاقتصاد العراقي. ويتجلى ذلك بازدياد اعتماده على العائد النفطي، الذي يمثل، في المتوسط، أكثر من 90 بالمئة من ايرادات الموازنة العامة، وحوالي 60 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي. 3- ومن جانب اخر تنعكس الاختلالات الاقتصادية البنيوية في تجارتنا بشقيها الخارجي والداخلي. فمثلا في الوقت الذي لا تزيد قيمة الصادرات غير النفطية عن نصف مليار دولار (500 مليون دولار) نجد ان الاستيرادات الاجمالية قاربت الـ 44 مليار دولار (عام 2010)، منها اكثر من 5 مليارات لاستيراد المواد الغذائية و3.7 مليار لاستيراد الوقود والمشتقات النفطية. 4- تفاقم مستويات الفقر. فقد كشفت المسوحات الإحصائية الاقتصادية والاجتماعية التي أجريت خلال العامين الأخيرين من طرف عدة مؤسسات من بينها وزارة التخطيط العراقية أن حوالي ربع السكان يعيشون تحت خط الفقر. 5- استمرار المعدلات المرتفعة للبطالة على خلفية تعطل القسم الأعظم من الإنتاج الصناعي والأنشطة الإنتاجية الأخرى. ويبدو تأثير البطالة أكثر وضوحا على الشرائح الشبابية (ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً) حيث تجاوزت نسبتها الـ 57بالمئة. ومن المتوقع ان تزداد نسبتها على المدى القصير في حال الانتقال الى الخصخصة. كما تبقى النسبة مرتفعة بين النساء، وتتجاوز 33 في المئة. هذا مع العلم انه ووفقا لآخر تقرير رفعه ممثل الامين العام للأمم المتحدة لحقوق الانسان في العراق (فالتر كالين)، فان نسبة البطالة في البلاد تجاوزت 28 في المئة في حين تشير التقديرات الى ان البطالة الناقصة (العمل بساعات قليلة، أي اقل من 35 ساعة في الاسبوع الواحد) قد يتجاوز الـ 30 في المئة . فيما يقدر البنك الدولي نسبة البطالة بحوالي 39بالمئة. وبهذا يمكن القول ان البطالة لا تزال تشكل احدى التحديات الكبرى التي تواجه عملية التنمية في العراق في ظل واقع اتسام السياسة الاقتصادية للحكومات المتعاقبة بغياب الرؤى والستراتيجيات والسياسات الموحدة للدولة في مجالات التنمية والمالية وغيرهما، وبالإضعاف القسري لدور الدولة، وخاصة ما يتعلق بدور الدولة في الميدان الاقتصادي. فيما استمرت المغالاة في تأكيد مزايا السوق الحرة في اقتصاد البلاد، دون معاينة للواقع الملموس واستحقاقاته، الامر الذي يعيق عملية الاعمار وإعادة بناء القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، وكذلك الخدمية، وتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة. 6- ومن المفارقات الصارخة التي انتجتها السياسات الاقتصادية الحكومية منذ 2003 التي تعلن التزامها بالانتقال إلى اقتصاد السوق، التدهور المتواصل في امكانات وقدرات القطاع الخاص، فرغم ان القطاع الخاص يستحوذ على نسبة تشغيل للقوى العاملة في العراق تزيد على 85بالمئة ، مقابل 15 بالمئة للقطاع الحكومي، إلاّ إن حصته في توليد الناتج المحلي الإجمالي لا تزيد عن 15بالمئة، وحصته في تكوين الرأسمال الثابت في العراق لا تزيد عن 4,5 بالمئة حسب آخر احصائيات متوفرة لعام 2007 . 7- بينت حصيلة الفترة المنصرمة تفاقم التفاوتات الاجتماعية وتعمق الفرز الطبقي والاجتماعي. فقد أسهمت الوقائع أعلاه في تعميق التفاوتات الدخلية التي هي نتيجة منطقية لنوعية علاقات الملكية والسلطة، حيث يلاحظ وجود فوارق كبيرة في مستويات الدخل لصالح الفئات التي راكمت الثروة وحصلت على المداخيل العالية عبر أنشطة ريعية لا صلة لها بالإنتاج، فضلاً عن الإيرادات غير المشروعة المرتبطة بالفساد المالي والإداري. وتشير الحصيلة الملموسة حاليا لتراكمات آثار هذه السياسات إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل قد بدأ بالتبلور ولا يحتاج الى عناء كبير للتدليل عليه. فبحسب آخر مسح متاح لدخل الاسرة في العراق، وهو يعود الى عام 2007، يظهر ان الخمس الأغنى من الأسر يحصل على 43 في المئة من مجموع الدخل على مستوى البلاد، بينما يحصل الخمس الأفقر على 7 في المئة منه، وتبين بيانات نسبة الفقر وجود تفاوتات شديدة فيها بين المحافظات، وبين الريف والمدينة. وعلى اساس الملاحظات اعلاه يستنتج التقرير السياسي ان مجتمعنا يشهد حالة من الحراك في بنيته وتركيبته الطبقية ووزن وثقل مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. ففي الوقت الذي تستعيد الفئات الوسطى دورها تدريجيا ، لاسيما العاملة في قطاع الدولة، يتعزز دور الكمبرودار التجاري والفئات الطفيلية والبيروقراطية على حساب الكادحين وذوي الدخل المحدود. وتشير الحصيلة الملموسة حاليا لتراكمات آثار هذه السياسات إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل يجري الآن لصالح رأس المال وضد صالح العمل في محوره الرئيسى وهو ما يعبر عن الشكل الرئيسى للتناقض الأساسي المحرك لهذه المرحلة. وقد نجم عن ذلك، بالتبعية، أن هناك تباينات شديدة تحدث الآن في مستوى معيشة الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة طبقا للتغير الذي حدث في مداخيلها وأثّر على مواقعها الاقتصادية. فهذه السياسات أثّرت سلبا على دخول ومستوى معيشة الطبقات الكادحة والفئات الوسطي، في حين أدت – في المقابل- إلى تحسن واضح في دخول واستهلاك بعض الشرائح وعلى الخصوص بالنسبة لمن يعملون في أنشطة ذات العلاقة بالمشاريع التي تطرحها سلطة الاحتلال أو المرتبطة بقطاع التجارة الخارجية الرسمي أو المضاربات أو بالتهريب وغيرها من الأنشطة. ولم يكن عمق تأثير هذه السياسات أفقيا فحسب، أي على مختلف الطبقات الاجتماعية فقط، وإنما امتد للتأثير عليها بشكل عمودي، أي داخل فئات الطبقة الواحدة. فهناك، داخل الطبقة الواحدة، فئات معينة تضررت ضرراً كبيرا من تلك السياسات، في حين استفادت اخرى، داخل نفس الطبقة. فالتمايز الاجتماعي الذي نجم عن هذه السياسات، لم يكن قاصرا على التمايز بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وإنما أيضا داخل صفوف تلك الطبقات. وتحتاج هذه الملاحظة إلى مزيد من الدراسات العيانية لتكشف العمق الفعلي للتأثير المشار إليه أعلاه. 8- وبالمقابل يرجع التقرير السياسي جذور استفحال الاستقطاب في توزيع الثروة والدخل، الى سياسة اطلاق العنان لآليات السوق غير المنضبطة، التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة في بلادنا بعد 2003، وغياب الرؤية التنموية. وتتضافر عدة عوامل وآليات لتشديد هذا الاستقطاب والتفاوت في المداخيل والثروة. فاطلاق حرية التجارة، وغياب الضوابط، والارتفاع المستمر في حجم الاستيراد، ادت إلى ظهور فئات فاحشة الثراء بفضل تمتعها بمواقع شبه احتكارية في السوق، وتحقيقها هوامش ربح غير طبيعية، مستفيدة من غياب الضوابط المنظمة للسوق وضعف الرقابة واستشراء الفساد، ومن صلاتها بأوساط نافذة في الدولة. كما تراكمت ثروات كبيرة، بصورة غير مشروعة، لدى بعض الفئات التي استغلت حالة الانفلات الأمني بعد 2003، ولاحقاً في فترة الصراع الطائفي (2006-2007)، للاستحواذ على اموال وممتلكات عامة وخاصة، عن طريق التجاوز وارتكاب اعمال منافية للقانون. ويلجأ أصحاب الثروات التي جرت مراكمتها بهذه الصورة، إلى طرق وأساليب مختلفة لاضفاء الشرعية عليها، وتبييضها وإعادة ادخالها في السوق المحلية بعناوين واطر قانونية، وتوظيفها في قطاعات العقار والتجارة والمقاولات وغيرها. 9- الضعف الشديد لنظام الحماية الاجتماعية واستمرار المعاناة اليومية لشرائح واسعة في المجتمع. وتشتد هذه المعاناة بفعل العجز الفادح في ميدان الخدمات، لا سيما الكهرباء والماء، وفي ميادين الصحة والتعليم، وفي توزيع مفردات الحصة التموينية ". فمثلا تشير الاحصائيات المثبتة في التقرير السياسي، الى تحديات كبيرة تواجه قطاعات الصحة والتربية والتعليم، بمؤشراتها الكمية والنوعية. كذلك معدلات تجهيز مياه الشرب، حيث لا تزيد التغطية عن 90 بالمائة في المناطق الحضرية، و 65 بالمئة في المناطق الريفية. اما في مجال الصرف الصحي فالمشكلة أكبر حيث بلغت نسبة التغطية في مدينة بغداد حوالي 75 بالمئة، وفي بقية المناطق الحضرية 30 بالمئة لا اكثر، مع حرمان كامل للمناطق الريفية منها، الى جانب النقص الواضح في التعامل مع النفايات في كافة المناطق. هذا مع العلم ان العراق لا يزال يعاني من ازمة سكن حادة وعجز كبير يصل الى ما يتراوح بين 3 و3,5 مليون وحدة سكنية. 10- ومن جانب آخر، يتواصل الخلل في الجمع والتنسيق السليمين للسياستين النقدية والمالية. وفيما يعتمد البنك المركزي توجها لتقوية العملة العراقية، ولإدامة استقرار سعر الصرف وتحديد سعر الفائدة ومكافحة التضخم، تبدو القيود التي يتبعها صارمة في مرحلة يسعى البلد فيها للنهوض والبناء. ويتطلب الامر في العموم مرونة وتناغما افضل بين السياستين النقدية والمالية، في اطار توجه استراتيجي واضح ومحدد المعالم للدولة ، وبالشكل الذي يؤمن للاقتصاد العراقي ديناميكية نمو، ويشجع الاستثمار والتصدير. 11- ونتيجة لغياب الرؤية الاستراتيجية الاقتصادية والتنموية التي تشمل مختلف القطاعات الاقتصادية، وضعف الاهتمام بالأنشطة الانتاجية الوطنية، لم يحظ قطاعا الزراعة والصناعة إلا بحصة ضئيلة من التخصيصات في الموازنات العامة. حيث لم تتجاوز هذه الحصة 2 إلى 3 بالمئة من النفقات العامة بالنسبة للزراعة، واقل من 1.5بالمئة للصناعة. كما انعكس ذلك في قلة تخصيصات الموازنة الاستثمارية. وبالمقابل حظيت القوات المسلحة بالحصة الأكبر من التخصيصات. ففي موازنة 2011 شكلت تخصيصات وزارتي الدفاع والداخلية ومكتب القائد العام للقوات المسلحة وجهاز المخابرات الوطني ومديرية دمج الميليشيات ما يزيد على 15بالمئة من مجموع التخصيصات، في حين بلغت تخصيصات وزارتي التربية والتعليم العالي 9.5بالمئة والصحة 6.5بالمئة ، اي ما يكاد يعادل تخصيصات وزارات التربية والتعليم العالي والصحة مجتمعة، وما يساوي 75 ضعف تخصيصات وزارة الثقافة التي لم تزد تخصيصاتها عن 0.2بالمئة . أما تخصيصات قطاع الكهرباء والطاقة، فهي رغم ضخامتها فشلت حتى الآن في معالجة الشحة الكبيرة في التجهيز، وفي تقليص الاعتماد على اسيتراد الطاقة الكهربائية من الخارج. 12- وقد طغى الطابع التوزيعي والاستهلاكي على توجهات الموازنات الاقتصادية، حيث استحوذت الرواتب والأجور والتعويضات المتنوعة والإعانات على ما بين 70 و 80 بالمئة من الموازنة التشغيلية. معالم خطاب اقتصادي جديد بمقابل ما ميّز المشهد الاقتصادي الفعلي من تحولات، يلاحظ خلال الفترة الأخيرة بروز عناصر خطاب اقتصادي تحاول بلورته بعض مراكز صناعة القرار ليكون بمثابة المرجعية النظرية للتحولات الفعلية المتحققة على الأرض مما يطرح ضرورة التوقف عنده وتفكيكه ونقده. وثمة جملة من الموضوعات يتكئ عليها هذا الخطاب، رغم اختلاف أشكاله وتجلياته، نشير إليها بتكثيف. الموضوعة الأولى: الرهان على الخصخصة مقابل إقصاء الدولة وتحويلها الى مجرد خفير! الموضوعة الثانية: الترويج لـ " الإصلاحات الاقتصادية " بحسب طبعة الصندوق والنقد الدوليين، أي طرح" التكييف الهيكلي والخصخصة دون قيد أو شرط " وبمشيئة خبراء المؤسستين. الموضوعة الثالثة: نظرة جديدة الى القطاع النفطي وموقعه في الخيارات الإستراتيجية الكبرى. هذه الرؤية مسكونة برهان الخيار على الاستثمارات الأجنبية لـ " تنمية وتطوير هذا القطاع ". الموضوعة الرابعة: نظرة جديدة للقطاع الزراعي، يتمثل جوهرها في الرسملة وتحويل الأرض الى سلعة. ويعني ذلك ان هذه المقاربة للقضية الزراعية تراهن على اعتماد سياسات تقوم على مبدأ العمل حسب آليات المنافسة في سوق ما زالت قيد التشكل وغير مقننة مما سيؤدي إلى الآثار التالية: - هجرة الفلاحين المستبعدين عن الإنتاج الريفي إلى أحياء عشوائية، وستظهر مجددا نماذج من " مدن " تساهم في إعادة إنتاج الفقر والتهميش بمديات جديدة بكل ما يحمله ذلك من مخاطر اجتماعية على السلم الأهلي. - تهميش نسبة متصاعدة من الفلاحين لصالح التركيز على إثراء أقلية. - انتقال الفقر من الريف إلى المدن: أحياء عشوائية، بطالة، أعمال غير ثابتة. والسؤال: بعد كل هذا هل نحن أمام خطاب جديد يراهن على بناء استراتيجيات للتغلب على الازمة البنيوية أم إعادة إنتاج خطاب الأزمة بطبعة جديدة تمثل تجليا لنوع من" الأصولية الاقتصادية الجديدة " ؟ سؤال برسم الإجابة لمن يراهنون على هذا الخيار. الطريق الى تنمية مستدامة لا تكتفي الموضوعات السياسية بإستعراض الواقع الاقتصادي ومعالمه الاساسية، بل تقدم بديلا لهذا الواقع ينطلق تأكيد الموضوعات على انه وبعد تسع سنوات على التغيير تبرز الحاجة الملحة لوضع خطة اقتصادية – اجتماعية إستراتيجية واضحة المعالم، تعتمد معرفة عميقة بخلفيات وإمراض الاقتصاد العراقي، وتوجهاً بناءً يوظف امكانيات مختلف القطاعات (قطاع الدولة والقطاع الخاص والتعاوني والمختلط) في مسار منسق، وفي اطار نهج سياسي ديمقراطي ثابت، لانتشال البلد من تخلفه وتبعيته الاقتصادية، وتخليصه من الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للثروة، ويبعث فيه الديناميكية ويحفز تطوره المستدام، ويطلق طاقاته الانتاجية الكامنة، وينوع مصادره وينابيع غناه، ليحقق لشعبنا، والأجيال القادمة، مستوى معيشيا وثقافيا لائقا، يتيح لبلدنا الاسهام بشكل فعال في قسمة العمل الدولية، واللحاق بركب الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي. وفي هذا المجال ترتكز الموضوعات على الاسس التالية: - لا بد من بدايات جادة ومنسجمة مع واقعنا الموضوعي، بعيدا عن استنساخ النماذج الاجنبية وتكرار التجارب التي لا تلائم خصائصنا التاريخية الملموسة، ولا مكونات وظروف اوضاعنا الاقتصادية. - تجنب معالجة المشكلات الاقتصادية بالرهان على خصخصة قطاع الدولة. فكما هو معروف، شرع النظام الدكتاتوري بالخصخصة منذ ثمانينات القرن الماضي، وكان ذلك في الحقيقة عملية ترحيل لاملاك الدولة الى اللصوص من البيروقراطيين والطفيليين. ولم تؤد تلك الاجراءات الى زيادة طاقة اقتصاد البلد. إن معالجة قضية تخلف الاقتصاد العراقي، وهو اقتصاد ذو طابع ريعي، تكمن اساساً في تحسين استخدام موارده، واستثمارها بأسلوب سليم، وتوظيفها بشكل عقلاني وعادل وصحيح، لتكون مصدرا للنمو والتقدم . وهذا يتطلب اعتماد إستراتيجية للتنمية، تتكفل بتحويل القطاع النفطي (الخام) من قطاع مهيمن ومصدر للعوائد المالية فقط (أي للتكاثر المالي وليس للتراكم) الى قطاع منتج للثروات، يكون اساسا لقيام صناعات أمامية وخلفية تؤمن ذلك التشابك القطاعي المطلوب، لتحقيق إقلاع تنموي حقيقي. وعليه فان تنويع الاقتصاد وإيجاد مصادر بديلة لتمويل الميزانية العامة يظلان هدفا مركزيا باعتبارهما شرطا للتنمية المستدامة. فالأمر يرتبط بكيفية توظيف الريوع النفطية وتحويل وظيفة القطاع النفطي من قطاع للتكاثر المالي الى قطاع للتنمية تقام حول شبكة من الصناعات تساهم في تطوير الطاقة الانتاجية وتنويع الاقتصاد، وليس بمشاريع بناء الاجهزة القمعية وعسكرة المجتمع والتسلح وبناء مرتكزات سلطة الاستبداد والدكتاتورية، وليس باستخدام الريوع النفطية لشن الحروب الداخلية والخارجية، ولا بنهج الترف والبذخ والإسراف. - اعادة الحياة للمنشآت والمؤسسات الانتاجية الصناعية والزراعية، عبر اصلاح الادارة الفنية والمالية لقطاع الدولة، وتوفير مستلزمات نهوضه وإعادة بنائه على اسس المردود الاقتصادي والمنفعة الاجتماعية، وتشجيع ودعم القطاع الخاص، وتأمين الحماية له من الاغراق والمنافسة غير العادلة، وتوفير التسهيلات المصرفية والتأمين والخدمات، كي يستعيد هذا القطاع عافيته ودوره في رفد الاقتصاد الوطني. - الانطلاق الحقيقي على طريق تنمية اقتصادية-اجتماعية مستدامة ومتوازنة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والعناية بالكادحين والفئات الاجتماعية الأكثر تضررا، وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل . وهذا يتطلب، من بين امور أخرى العمل على: * مكافحة التفاوت والتهميش الاجتماعي عبر بناء شبكة الضمان الاجتماعي الشامل . * دعم البطاقة التموينية، باعتبارها لا تزال الاسلوب الانسب لدعم المواد الغذائية والاستهلاكية الأساسية، وتحسين مفرداتها وتنويعها، وإصلاح وتطوير الآليات الادارية والمالية والرقابية لعقود تجهيز مفردات البطاقة وخزنها ونقلها وتوزيعها، بما يؤمن افضل استخدام للتخصيصات المقررة للبطاقة، والحد من الفساد، ويضمن جودة المواد ووصولها في اوقاتها المحددة . * وضع برامج ملموسة لمكافحة البطالة وتوفير فرص عمل جديدة، وتنفيذ ستراتيجية مكافحة الفقر. * سن قانون جديد للعمل يضمن مصالح العمال وحقوقهم، وتوفير ضمانات العيش الكريم للموظفين والمتقاعدين، وشمول المتقاعدين جميعا، القدامى والجدد، بالقانون الجديد للتقاعد. * وضع سلم جديد للرواتب، وتقليص الهوة بين رواتب ذوي الدرجات العليا والدنيا. * إعادة الاعتبار لضحايا الاضطهاد خلال الحقب المختلفة، عبر إنصاف المفصولين والسجناء السياسيين وعوائل شهداء وضحايا النظام السابق وأعمال الإرهاب والتخريب، بمن فيهم ضحايا انقلاب شباط 1963 . * توفير الشروط والضمانات لعودة المهجرين والمهاجرين، وتعويض المتضررين. - محاربة جادة للفساد المالي والإداري والسياسي، وملاحقة مرتكبيه، والحد من آثاره المدمرة. وفي سياق التوجه المخطط والمدروس للاستفادة من الطاقات والكوادر الوطنية، لا بد من التفكير الجاد بتحفيز عودة الكفاءات العراقية المخلصة، وضمان الاستخدام الناجع لخبراتها وطاقاتها. - كما يتطلب الامر نهجا وتوجها سليمين نحو اقامة علاقات اقتصادية، تجارية ومالية مع دول الجوار والبلدان العربية والعالم، على أساس المصالح المشتركة والمنافع والاحترام المتبادلين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. إن الأزمة البنيوية الشاملة التي يعرفها الاقتصاد العراقي تكتسي في الجانب الاجتماعي كل أبعادها المأساوية، وتكشف بشكل جلي عن فشل السياسات الاقتصادية المقتصرة على التوازنات المالية (حسب وصفة صندوق النقد الدولي)، والمعتمدة على المؤشرات الماكرو- اقتصادية في غياب أي إستراتيجية تنموية اجتماعية فعالة يدور الصراع حولها، باعتبارها جزءاً عضويا من معركة البدائل. وانطلاقا من الاستراتيجية التي بنيت عليها الموازنة الفيدرالية للفترة التي تلت 2003، فانه يمكن القول ان الموازنة الفيدرالية كانت ولا تزال يتنازعها هاجسان متناقضان، أحدهما مرتبط بالمحافظة على التوازنات الهيكلية والثاني مرتبط بضرورة إيجاد معالجات وحلول ناجعة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن التعبير عن هذا التأرجح بهاجس العجز المالي وهاجس العجز الاقتصادي، والذي هو نتيجة للضغوطات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى. وتظهر كلفة الحفاظ على "التوازنات الاقتصادية الكبرى" أوضاع أمنية غير مستقرة وفشل السياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة، تظهر تلك الكلفة من خلال الضغوطات التي تمارس على النفقات العمومية، وخصوصاً تقليص نفقات دعم المواد الأساسية وفي مقدمتها البطاقة التموينية. بعض الدروس الكبرى استنادا الى التحليل التفصيلي للأوضاع الاقتصادية يمكن بلورة جملة من الدروس المهمة، من بينها ما يأتي: 1- لا توجد حلول سحرية سريعة للمشكلات الفعلية التي يعانيها الاقتصاد العراقي. ويعني هذا أن نجاح استراتيجية معللة للتنمية ينبغي أن يقترن اقترانا وثيقا بإجراء تحليل اقتصادي- سياسي ذي مضمون اجتماعي ، يتعامل مع الطبيعة الشاملة للازمة القائمة. 2- بيـّنت التجربة التاريخية أن الاعتماد الكثيف على النفط ، كمصدر وحيد للدخل والنقد الأجنبي، انما يعكس هشاشة بنية الاقتصاد الوطني . ومن هنا ضرورة العودة الى اعتماد إستراتيجية للتنمية الاقتصادية – الاجتماعية ، تكفل تحويل القطاع النفطي من قطاع مهيمن ومصدر للعوائد المالية فقط (أي للتكاثر المالي وليس للتراكم) الى قطاع منتج للثروات ، يكون قطبا لقيام صناعات أمامية وخلفية تؤمن ذلك التشابك القطاعي المطلوب لتحقيق انطلاق تنموي حقيقي. 3- وبالمقابل لا يمكن للمعالجات الاقتصادية، حصرا،ً أن تحقق الأهداف التنموية ما لم تقترن بسياسات وإجراءات تتناول البعد الاجتماعي، وتركز على إشكالية الديمقراطية ومؤسساتها التي ينبغي أن توفر الشروط المثلى لتحقيق رقابة مجتمعية، قادرة على مراقبة كيفيات التصرف بالعوائد المتأتية من تصدير النفط، بما يخدم تحقيق التنمية بوتائر متصاعدة من جهة، ويؤمّـن التوزيع العادل لثمار هذه التنمية. ومن هنا يتضح أهمية الربط الصحيح بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في ظروف بلادنا الملموسة، فذلك هو السبيل الوحيد القادر على إخراج بلادنا من محنتها وأزمتها البنيوية. 4- أما على الصعيد الاجتماعي، فإن أية استراتيجية يراد لها النجاح، يجب أن تعمل على تحديد طبيعة الحاجات الأساسية والضمانات الاجتماعية للمواطنين، كالخدمات الصحية والتعليمية الأساسية وتقديم الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة. 5- توفير فرص عمل جديدة لا بد ان يحتل مكانة خاصة في المرحلة الراهنة، بسبب البطالة الواسعة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمع. ولا شك أن مكافحة البطالة تتطلب دعم إنشاء وتطوير المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة، التي تستثمر مزيدا من الأيدي العاملة ولا تحتاج إلى رؤوس أموال أو عملة صعبة كبيرة، ولكنها تساهم في معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية. 6- التوزيع العقلاني للموارد الاقتصادية المتوفرة على صعيد الأقاليم والمحافظات، باعتماد منظومة من المعايير تجمع بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبما يضمن نمواً متوازناً لمختلف المناطق ، ويسهم في تقليص التفاوتات الاقليمية ، وتركيز الصناعات والمشاريع في مناطق جغرافية محددة دون أخرى، الامر الذي يؤدي الى تنامي الشعور بالغبن والتهميش والإقصاء.
#صالح_ياسر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع (2) .. ماذا بعد انعقاد المؤتمر
...
-
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع (1) .. ماذا بعد انعقاد المؤتمر
...
-
ديالكتيك الجمع بين مختلف أشكال النضال..مذكرة الحزب الشيوعي ا
...
-
عادل كوركيس ... سنديانة عراقية أخرى ترحل بصمت
-
في ضوء مداولات اجتماع نيسان للجنة المركزية للحزب الشيوعي الع
...
-
24 شباط 1848 ذكرى صدور(البيان الشيوعي)...
-
الإقتصاد السياسي للميزانية الجديدة للولايات المتحدة
-
المجد للذكرى 160 لصدور (بيان الحزب الشيوعي) ملهم ومنظم ملايي
...
-
المجد للذكرى التسعين لثورة أكتوبر العظمى!
-
بعض معالم التحولات في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة ب
...
-
الجزء الثاني ... بعض الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الحزب ا
...
-
بعض الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الحزب الشيوعي العراقي لل
...
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
-
بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة
بعد 11 سبت
...
-
تحليل : «اعادة تقييم الوضع النووي» - بالون إختبار أم عقيدة ن
...
-
مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة
-
العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي
-
انعكاسات الأزمة الراهنة على " البلدان النامية "
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|