أخبار الشرق - 22 أيلول 2002
في حياتنا السياسية، كما هي الحال في الحياة الاجتماعية عامة، ذلك القانون الصارم الذي تعمق في تقريبه للذهن البشرية بشكل روائي رائع الكاتب الروسي الكبير دوستويفسكي، وأعني به قانون الجريمة والعقاب.
فهناك من ينطق بكلمة يعبر بها عن رأي يخفق في عقله ويحرك أمواج مشاعره وسرعان ما تصبح هذه الكلمة "جريمة شنيعة" يعاقب عليها مرتكبها بالسجن مدى الحياة أو بالتصفية الجسدية أو بالهجرة رغماً عن الأنف أو بممارسة الصمت في أدنى الخانات الاجتماعية، رغم كل مواد الدستور ومواثيق المنظمات الدولية والأمم المتحدة وعهود الزعماء بأن الإنسان حر في التعبير عن رأيه. وينقلب هذا الإنسان من مواطن حر إلى جمل أجرب أو متمرد على العشيرة ومصاب بالجذام، بلا أصدقاء ولا أقارب، بلا معين ولا مساعد، حتى يدفن في يوم من الأيام في زواية مهملة من التاريخ، بعيداً عن أضواء المسارح وصالونات التصفيق.
وهناك من يتحمل شتى صنوف العقاب دون أن يكون قد ارتكب "جريمة" حتى أصبح الناس يرددون متحسرين ومغتاظين "يا ما في السجن مظاليم!!". وهذا مع الأسف حال بعض مثقفي الأمة، في هذا البلد أو ذاك من هذه الأمصار التي كانت في فترات ما من التاريخ البشري تعتز باتساع صدرها للتعددية المذهبية والفكرية والسياسية ومشهورة بالمناظرات الواسعة تحت أعين الحاكم، بل في حضرته، حيث كان يوزع هداياه الثمينة على هذا وذاك ويشارك بنفسه أحياناً في الحوارات في مختلف المجالات ومنها بعض المسائل العويصة المتعلقة.
لقد تعلمنا في حياتنا الأسرية والمدرسية والعسكرية أن لكل خطأ نرتكبه عقاباً نستحقه. فالطفل الذي يسكب الحليب على ثيابه يتلقى صفعة من أخيه الأكبر أو من أمه الحنون. والتلميذ الذي لا يجتهد يرسب في صفه، والعسكري الذي يهرب مولياً الأدبار في الحرب يُقدم إلى محكمة عسكرية فيسجن أو يُرمى بالرصاص، والرجل الذي يلعب القمار ويخسر ماله ولقمة عيش أطفاله تهجره المرأة ويكرهه الأطفال. ومع الأيام تعلمنا أن السياسي الذي لا يحصل على عدد من الأصوات في الانتخابات لا يدخل البرلمان.
وفي أوروبا تعلمنا أكثر وأكثر .. فالسياسي الذي لايحقق لشعبه مجالات أوسع للعمل وتحسين معيشة وتخفيض التضخم المالي خلال السنوات الأربع الأولى من حكمه يُعاقَب بانتزاع الحكم منه وتسليمه إلى منافسه الذي قد يكون أفضل منه أو أتعس منه حظاً في تحقيق الأهداف المعينة، فيُحاسَب هو الآخر على ما اقترفته يداه من جرائم مالية وإهمال اقتصادي وتراجعات في مستوى المعيشة، أو حتى عدم خفض عدد العاطلين عن العمل!
ولكن في الحقيقة هناك عالم آخر تحدث فيه الجرائم الصغيرة والكبيرة ولا يُعاقَب مرتكبها أبداً. بل قد يعلو مقامه في نظر شعبه درجات قد تصل إلى حد اعتباره عظيماً من العظماء ومجاهداً أكبر وشخصية وطنية خالدة، تُصنَع له التماثيل وتكتب عنه صفحات في سجلات الأمة بحروف من ذهب. ومن هؤلاء "المحظوظين" من أباد مدينة كاملة وقتل مئات الألوف من البشر، ودمر اقتصاديات بلاده وغيرها، كما أعلنها حرب إبادة ضد معارضيه فقتل من قتل وعذب من عذب وشرد من شرد ودمر القرى والقصبات وقاد شعبه إلى سبل الهلاك إلى الفقر والحرمان والتخلف، بعد أن كانت بلاده وافرة الغنى. ومع ذلك يعتبر مثل هذا الذي فاق جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك والحجاج في طغيانه أمل الأمة والسلطان الناصر المرتقب. فأي عقاب عوقب به هذا الذي لم يترك نوعاً من أنواع الجرائم إلا وارتكبها بحق الأمة؟! والغريب أن الذي يُعاقَب عوضاً عنه شعبه البريء.
إنني لم أعد أفهم هؤلاء الذين يدافعون عن الطغيان، وبخاصة أولئك الذين لا يحترمون مشاعر كل فصائل المعارضة الوطنية بمختلف ألوانها وأطيافها.
ولا أفهم كيف يمكن أن يقضي المرء على سكان مخيمات كاملة باسم الدين اليهودي والدفاع عن المقدسات اليهودية ويعتبر العالم ذلك دفاعاً عن النفس، في حين أنه جريمة بحق الإنسانية حسب كل القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بالحرب والسلم وحفظ حياة المدنيين.
كما لا أفهم كيف يقدم المسلم المؤمن بالسماحة الإسلامية وبآية "ولا تزرُ وازرة وزر أخرى" أو "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"؛ على وضع قنبلة في حافلة تنقل عمالاً مدنيين أو مطعم يأكل فيه الأطفال والنساء، أو يحول طائرات مدنية إلى قنابل حارقة لتقضي على عمارات شاهقة فيها أناس من مختلف الأديان والطوائف والبلدان والأعمال التجارية، فيها نساء حوامل ولربما أطفال .. فهل يستحق هؤلاء الثناء والشكر أم العقاب على جرائم بحق الإنسانية، من منتسبي أي شريعة كانوا؟
ولربما يستغرب المرء أن هناك أطفالاً أكراداً يلدون من أمهاتهم معاقَبين من قبل الدولة دون أن تكون في رقابهم جريمة ارتكبوها. أبرياء لا يدرون ما حولهم، وفي سورية مركز تلاقي الحضارات العظيمة، لمجرد أنهم ولدوا من أم كردية أو أب كردي.
يعيش عشرات الألوف من هؤلاء الأطفال ويترعرعون حفاة عراة لفقر ذويهم ومنعهم من كثير من الحقوق الإنسانية ويخدمون في سلك الجندية، ولكنهم ليسوا بمواطنين، منهم لا سجل لهم في أي مكان على وجه الأرض ووضعهم أدنى من وضع "اللقيط" حسب القانون السوري، إذ يُعتبرون "مكتومين" ويُمنع تسليمهم وثائق النجاح في الاعداديات والثانويات إلا بعد الحصول على موافقة من الأمن السياسي، وإذا تقدم أحدهم بدعوى تخص وضعه اللاقانوني فإنه بعد دفع الرشاوي وتقبيل الأيادي والأحذية يحصل على وثيقة "لاجئ أجنبي"!! وهذه ليست طرفة أو نكتة، بل واقع مرير لم يُعاقَب عليه مرتكب الجريمة، ذلك الموظف العنصري الحاقد على الإنسان الكردي، بل يُعاقَب هذا البريء الذي لا حول ولا قوة له.
ولذلك فإنني لم أعد أثق إلا بالعدالة الإلهية، التي ستحيط بالظالمين ولو كانوا في بروج مشيدة وستدك عروشهم وتحرر الشعوب منهم. ولم أعد أثق في كل هذا البحر الضخم من السخافات الإعلامية الهادرة التي تتملص من قول الحقيقة وتتستر بادعاءات الدفاع عن الوطنيات والمقدسات والحدود والحكومات، وهي تدري أن المجرم في هذا الطرف أو ذاك الطرف مجرم يجب إدانته ومعاقبته.
في الفترة الأخيرة انقلب معظم أدعياء الحرية والتقدمية والوطنية إلى حماة لعروش الطواغيت وضد شعوبهم التي تعاني الأمرّين على أيادي هؤلاء وتدفع أثمان معاركهم الخاسرة واحدة بعد الأخرى، والذي يوزع من المال أكثر يجمع حوله أكبر عدد من المدافعين، حتى ولو كان عرشه عائماً على دم الشعب. وذهب بعضهم إلى اختزال الأمة العربية ومعها الأمة الإسلامية جميعاً في النظام العراقي. والغريب أن من بين هؤلاء لا يوجد مثقف عراقي واحد ذو نضال وطني.
__________
* كاتب كردي سوري - ألمانيا