|
شهادة البكالوريا بالمغرب: بين القيمة و الثمن!!
عبد القادر ملوك
الحوار المتمدن-العدد: 3737 - 2012 / 5 / 24 - 19:32
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
لا أحد باستطاعته أن ينكر، إلا جاحد أو مضمر لنية مبيتة، أن شهادة البكالوريا المؤشر عليها من قبل وزارة التعليم بالمغرب، كانت في السابق تحضى بقيمة تكاد تضاهي نظيراتها في الغرب، نظرا لما كانت تتمتع به شكلا و مضمونا، و نظرا للهالة التي كانت تسبق إجراء امتحاناتها، و الحظوة التي كان ينالها من يظفر بها. لقد كان طلبة العقود الثلاثة التي أعقبت الاستقلال، يرون في هذه الشهادة حلما لا ينال إلا ببذل الغالي و النفيس، جهدا و مثابرة و ليال بيضاء، حلم لا يظفرون به إلا وقد صارت علامات التعب و الإرهاق بادية على سحناتهم و كأنهم قد خرجوا لتوهم من حرب. و لعل السبب في ذلك القيمة التي كانت تحظى بها هذه الشهادة في حينها، و الآفاق التي كانت تفتحها. فما الذي تغير الآن؟ حقا لقد تغيرت أمور كثيرة؛ فلقد كثر حاملو الشهادات العليا، و ازدادت أعدادهم، و معها ازدادت بطالتهم و كثر تدمرهم و ارتفع حنقهم بل و اشتد ندمهم على الأوقات التي ضاعت منهم أو بالأحرى هم من أضاعوها في دراسة لا تغني و لا تسمن من جوع. كل هذا صحيح، و لكن ذلك لا ينبغي أن يخفي عنا أمرا أعظم، وواقعا أمر صرنا نعاينه و لا نقوى على أكثر من التأفف و الاستعادة بالله منه، فما ذاك؟ إنه ببساطة الوضع الذي آلت إليه امتحانات البكالوريا بالمغرب، فنحن و إن كنا لا ننكر الأسباب و العوامل المشار إليها أعلاه ، بل و نراها أسبابا موضوعية، إلا أننا نكون كمن يخفي الغابة بشجرة، إن نحن اكتفينا بها وحدها في تبرير التدني الذي آلت إليه شهادة الباكالوريا في بلادنا، و بقية الشواهد الأخرى، مادامت هذه من تلك. [ نشير فقط إلى أننا لا نعمم، بل نرصد الوضع الذي استحوذ على المشهد، دون أن ننكر أن هناك طلبة يجدون و يجتهدون و يصنعون نجاحهم]. لا ينبغي، رغم ذلك، أن يفوتنا أن هذا التدني ما هو إلا مؤشر على أزمة بنيوية تطال قيم المجتمع ككل، لكن قبل أن نتعرف على هذا الوضع لنتفحص العنوان قليلا: لماذا هذا التمييز في العنوان بين القيمة و الثمن و نحن ألفنا أن نستعملهما كمترادفين، هل ثمة اختلاف بينهما بالحجم الذي يشي به عنوان المقال؟! يشير المرحوم الجابري إلى الفروقات الموجودة بين الكلمتين قائلا:"القيمة ما قوم به مقوم. و الثمن قد يكون مساويا للقيمة و قد يكون زائدا عليه و قد يكون ناقصا. و إذن فثمن الشيء يحدده البائع و المشتري، و هو موضوع للمزايدة، و يتحكم فيه قانون العرض و الطلب، و قد لا يعكس القيمة الحقيقية للشيء. أما القيمة فهي المساوي الحقيقي للشيء، و يحددها أهل السوق. و من هنا يمكن القول: الثمن فردي أما القيمة فهي اجتماعية (العقل الأخلاقي العربي ط 1 2001 ص 54)". إذا نحن قمنا بنقلة للقيم من المجال الاقتصادي إلى المجال الأخلاقي سنجد أن شهادة البكالوريا بالمغرب انتقلت من كونها قيمة ثابتة محددة بشكل مسبق من قبل أهل السوق(الدولة و بشكل أخص الوزارة الوصية) و كما لا يخفى، أهل السوق يدافعون بما أوتوا من فنون الصنعة عن قيمة منتوجاتهم، إلى منتوج أو سلعة (شهادة) لها ثمن قد يزيد أو يقل بحسب قانون العرض و الطلب. لنوضح أكثر مضمون هذا القول، و لنضرب لذلك مثلا بسيطا يعكس واقع الحال؛ إن إطلالة بسيطة على كشوف نقط المراقبة المستمرة الخاصة بالتلاميذ المرشحين لاجتياز امتحانات البكالوريا، تكشف بجلاء عن عمق الهوة بين القيمة الحقيقية لمستوى التلميذ و النقطة التي تحصل عليها أو بالأحرى التي منحت له. فالمفروض أن القيمة الحقيقية لمستوى التلميذ منوطة بالأستاذ على اعتبار انه هو من يلازم هذا التلميذ على مدار السنة و هو من يقوى على معرفة مستواه الفعلي و لو نسبيا. نعم ذلك ما كان، و لكنه للأسف لم يعد، إذ أصبحت هذه القيمة تعير بثمن، قد يزيد وقٌد ينقص بقدر شطارة التلميذ أو من يقومون مقامه، فمرحى بالتفاوض الذي يبدأ أولا بأنواع و أشكال من الأخذ و الرد و الجدال بين الأستاذ و التلميذ و قد تتدخل أطراف أخرى، في صورة تذكرنا بالجدال الذي يدور بين البائع و المشتري، فهي إما توسلات و نحيب و أصناف من الدعاء، و إما تعلل بنقط الامتحان الجهوي، الذي هو قصة أخرى، و إما استنجاد بواسطة لها تأثير من نوع معين على الأستاذ، أو، و هذه صورة أخرى لتحصيل النقطة، ترهيب و تهديد، توعد ووعيد، ناهيك عن الكرامات التي يظفر بها من يؤدون ثمن الساعات الاضافية. و كل هذا دون الحديث طبعا عن الطرق و السبل التي يتحصل بها التلميذ على نقطته الأصلية (فروض المراقبة المستمرة) قبل بداية مسلسل التفاوض السابق الذكر. أما بعد كل هذا، و بعد أن يخرج التلميذ غانما من الجهاد الأصغر، فإنه يبدأ في عد العدة للجهاد الأكبر (الامتحان الوطني) و هنا يعمد إلى تطليق الأخلاق و القيم طلاقا لا رجعة فيه، و يتوسل بمقولة ميكيافيلي الشهيرة: الغاية تبرر الوسيلة، التي تجعل من الغش، في تحول عجيب، حقا يدافع عنه بقدر ما استطاع، فيبدأ الأساتذة المكلفون بحراسة التلاميذ في الامتحانات، في إمتاع أعينهم و صقل خبراتهم بما كانوا قبلا يعرفون بعضه و يجهلون معظمه، أو يجهلونه كلية؛ صنوف وأشكال من الغش في الامتحانات، لم تزدها التقنية إلا إبداعا و تفننا، و لم تزد أصحابها إلا تألقا في سماء الخداع و التحايل إلى درجة يبدو معها جيمس بوند(007) في حاجة إلى مزيد من التعلم. إن المكتوين بنار التعليم ببلادنا ليدركون فحوى قولي و يعلمون أنني لا أبالغ فيما ذكرت بل لربما يرونني قد قصرت في التوصيف. و لكن ليس هذا ما أردت الخلوص إليه، فهذا بات مألوفا في مغربنا الحبيب، كما أنني على وعي تام بأن تلامذتنا ليسوا وحدهم من يتحملون وزر ما آلت إليه وضعية الامتحانات الاشهادية هذه، فالأمر كما أسلفت يرتبط بأزمة قيم مجتمعية، لا نستطيع أن نلقي فيها باللائمة على طرف بعينه أو على طرف دون آخر، بل للكل فيما يقع نصيب قد يقل و قد يكثر.لذلك نعتقد أن الخطورة الأعظم تتجلى في الانتقال بهذا النوع من القيم (التي استحوذ فيها الثمن على القيمة الحقيقية للشيء) من الفرد إلى المجتمع، إذ من المعلوم أن قيما كهذه تبدأ شخصية بناء على حاجة الشخص و ميولاته و رغباته و منفعته، لتتحول شيئا فشيئا، و هنا الطامة الكبرى، فتعمم و تصبح ذات طابع اجتماعي، لتنتقل من المجال السيكولوجي إلى المجال الاجتماعي، فتصبح كما قال سارتر تعكس بنية المجتمع ككل. و لعمري هذا ما صرنا نلحظه في كل ثنايا مجتمعنا، فلا شيء ثبت على حاله و حافظ على قيمته، بل استشرى البيع و الشراء في المناصب كما في الشواهد، في الأصوات كما في الذمم، و كيف لا و المجتمع يؤمن بأن الشيء الذي لا يباع و يشترى حرام. أخشى ما أخشاه أن نبقى سجناء ماضينا، نتغنى به في كل لحظة و حين و لسان حالنا يردد: ما كان بالإمكان أبدع مما كان، و هذا ما تكشف عنه شهادة البكالوريا في بلدنا حيث لم تعد تقبل في العديد من الجامعات الغربية بعدما كانت ذات قيمة تسمو بها عن أي ثمن!!!
#عبد_القادر_ملوك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عناصر معاداة السامية أو حدود التنوير قراءة في فصل بنفس العنو
...
-
عناصر معاداة السامية أو حدود التنوير قراءة في فصل بنفس العنو
...
-
عناصر معاداة السامية أو حدود التنوير (قراءة في فصل بنفس العن
...
-
الدولة الكاملة هي التي تنصت لهمس الضمير
-
ديموقراطية أم تسوية خلاف
المزيد.....
-
بدولار واحد فقط.. قرية إيطالية تُغري الأمريكيين المستائين من
...
-
عوامل مغرية شجعت هؤلاء الأمريكيين على الانتقال إلى أوروبا بش
...
-
فُقد بالإمارات.. إسرائيل تعلن العثور على جثة المواطن الإسرائ
...
-
واتسآب يطلق خاصية تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص
-
بعد العثور على جثته.. إسرائيل تندد بمقتل إسرائيلي في الإمارا
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام المختفي في الإمارات
-
هكذا يحوّل الاحتلال القدس إلى بيئة طاردة للفلسطينيين
-
هآرتس: كاهانا مسيحهم ونتنياهو حماره
-
-مخدرات-.. تفاصيل جديدة بشأن مهاجم السفارة الإسرائيلية في ال
...
-
كيف تحوّلت تايوان إلى وجهة تستقطب عشاق تجارب المغامرات؟
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|