|
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع (2) .. ماذا بعد انعقاد المؤتمر ؟
صالح ياسر
الحوار المتمدن-العدد: 3737 - 2012 / 5 / 24 - 09:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بداية لا بد من التذكير بأن البرنامج الذي اقره المؤتمر الوطني الثامن قد شخص المرحلة التي تمر بها بلادنا بعد 9/4/2003، بأنها مرحلة انتقالية ذات طابع استثنائي يعيشها مجتمعنا واقتصادنا، و تنطوي على أزمات موروثة من النظام المباد وسياساته، وأخرى مستحدثة افرزها الاحتلال وانهيار مؤسسات الدولة والتناقضات والصراعات الجارية بشأن عملية إعادة بناء الدولة واتجاهات تطورها ومضامينها.
يهمنا في هذه الحلقة أن نتعرف بشيء من التفصيل عن القضايا الجديدة التي تناولها التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني التاسع وهو يواصل التعمق في تحليل طبيعة المرحلة و " استثنائيتها " وما تحمله من تناقضات جديدة اضافة الى القديمة منها. ضمن مسعاه لتشخيص طبيعة المرحلة الراهنة التي تمر بها بلادنا ينطلق التقرير السياسي من التحديدات التالية: - انها مرحلة بالغة التعقيد والصعوبة. - يتداخل فيها العديد من العوامل الداخلية والخارجية. - انفتاحها على احتمالات عدة وذلك بسبب الصراع المحتدم المتواصل فيها عن المستقبل وشكل الدولة والنظام السياسي- الاقتصادي- الاجتماعي. - ان افق هذه المرحلة ليس محسوما لصالح طرف او اطراف عدة بل " يبقى مرهونا بمدى قدرة جماهير الشعب والمجتمع المدني بكل مكوناته على التحرك والضغط للإصلاح والتغيير لإخراج البلاد من ازمتها ، وفتح فضاءات التطور الديمقراطي الحقيقي للبلد، السياسي والاجتماعي، والسير على طريق الاعمار والبناء وإقامة دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية، الدولة المدنية الديمقراطية الاتحادية، كاملة السيادة. ومن جانب آخر فان المرحلة التي تعيشها البلاد هي مرحلة انتقالية استثنائية وبالتالي – وبسبب هذه الطبيعة الانتقالية – فأن المرحلة المذكورة تجمع بين مهمات ذات طبيعة متباينة تندمج فيها المهمات ذات الطبيعة الوطنية العامة بالمهمات ذات الطبيعة الديمقراطية، أي تصفية تركة الاحتلال " واستعادة السيادة الكاملة من جهة بإخراج العراق من احكام الفصل السابع، الذي ما زال تحديده لوضع العراق نافذا – رغم كل التغيرات التي حصلت بعد 2003 - بإعتباره يمثل " تهديدا للسلم والأمن الدوليين "، وإعادة بناء الدولة العراقية على اسس دستورية ديمقراطية اتحادية وتطمين رفاه المواطنين من جهة أخرى". وتتأتى " استثنائية " هذه المرحلة من طبيعة العملية السياسية التي نشأت بعد 9/4/2003 وطبيعة قواها وتناسبات القوى السائدة في حينه التي كانت تميل لصالح قوى الاحتلال. وفي توصيفه لطبيعة العملية السياسية المشار اليها يشخص التقرير انها " شقت.. طريقها عبر مسارات متعرجة، وفي خضم صراعات حادة بين القوى المشاركة فيها، ودموية في مواجهة القوى المناهضة لها - من إرهابيين وبقايا النظام السابق ومن خلفهم أطراف متنفذة، داخلية وإقليمية ودولية ". ويسعى التقرير الى رد هذه الصراعات الى جذورها الطبقية العميقة، وليس الى مظاهرها فقط مشيرا الى انه ورغم تنوع اشكال وأطراف هذه الصراعات، فإن محورها الأساس يكمن في نهاية الأخير، في " التنافس على السلطة والثروة والقرار، وعلى تحديد شكل الدولة الجديدة ومضمونها ". لقد افضت هذه الصراعات بين الكتل والقوى السياسية المتنفذة، وما رافقها من استشراء للفساد في المؤسسات الحكومية، واستمرار تعقيدات الوضع الامني وترديه، والتدهور المريع في الخدمات العامة، وارتفاع الأسعار وتصاعد نسب الفقر، وتفشي البطالة، واتساع التدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية، الى تفاقم التناقضات المجتمعية وانفجارها في مجالات مختلفة، مما جعل البلاد تعيش ازمة بنيوية عامة تطال مختلف جوانب التشكيلة الاجتماعية التي بدأت بالتبلور بعد 2003. واليوم، وبعد مرور ما يقارب العشر سنوات لم نعد امام ازمة حكومة بل امام ازمة نظام محدد وملموس هو نظام المحاصصات الطائفية – الأثنية. يشخص التقرير بعض مظاهر هذه الازمة ممثلة في جوانب عدة من بينها " غياب الرؤى والاستراتيجيات القريبة والبعيدة، وفي الخلل الكبير في تطبيق مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب ، وما يترتب على ذلك من استبعاد للعناصر الكفوءة المخلصة والوطنية، وتفشي الترهل والفساد والبيروقراطية في اجهزة الدولة ومؤسساتها وأجهزتها الادارية. كذلك غياب ارادة العمل المشترك، وتقلص فضاءات التعاون والعمل الجماعي، وتنامي مظاهر الفردية، وتداخل الصلاحيات، وتقاطع التشريعات والتعليمات، وما يفضي اليه ذلك كله من ارباكات تعمق جوانب التأزم والعجز ". وتتيح هذه التشخيصات الاستنتاج بأنّ النظام السائد اليوم، نظام المحاصصات الطائفية – الأثنية، قد استنفذ مبررات وجوده ليفتح الطريق امام تبلور نظام جديد عابر للطوائف وخنادقها المتقابلة، انه النظام الوطني والديمقراطي في آن. طبيعة تناقضات المرحلة ان فهم طبيعة المرحلة الراهنة يستلزم من بين ما يستلزمه معرفة تناقضاتها الناظمة. كما اشرنا في عمل سابق فانه وبعد سقوط النظام الدكتاتوري المقبور في 9/4/2003، وقيام سلطة الاحتلال بموجب القرار الأممي 1483، بدأ في التشكل واقع اجتماعي/اقتصادي وسياسي جديد، وبالتالي تبلور تناقضات جديدة واجهت العملية السياسية يمكن ادراجها ضمن ثلاثة أنواع من التناقضات أو الصراعات:- < النوع الأول التناقض مع قوى الاحتلال وتتنوع أشكال ووسائل حله. < النوع الثاني يتمثل في الصراع بين مكونات العملية السياسية مجتمعة مع القوى المناهضة لها، من أتباع النظام السابق والإرهابيين والتكفيريين بالدرجة الأساس. < والنوع الثالث يمثل التناقضات بين القوى المكونة للعملية السياسية تتمحور حول الرؤى والمشاريع المجتمعية المختلفة لمكوناتها والقوى والتيارات المشاركة فيها. بعد 9/4/2003 انهار أحد أطراف التناقض الرئيسي (أي النظام الدكتاتوري)، وحل محله تناقض رئيسي جديد بأطراف جديدة في مقدمتها وجود الاحتلال الذي تم عبر خيار الحرب، وما ترتب عليه من استحقاقات للقوى التي قامت بالتغيير، فقد تم تحويل العملية السياسية برمتها وفق اتجاهات حدّدها ميزان القوى الجديد وعنصره المقرر – سلطة الاحتلال المشرعنة لاحقاً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 هكذا، إذن، جاءت سلطة الاحتلال لتدفع بتبلور التناقض الرئيس ِ في هذه المرحلة وتكسبه بعداً جديداً، وتصبح جزءاً مقررا من البناء الفوقي السياسي والحقوقي (قوانين وقرارات الحاكم المدني بريمر) الذي " تقاسمته " هذه السلطة مع السلطة العراقية الجديدة ممثلة بـ (مجلس الحكم الانتقالي) الذي كان ينتظر منه، رغم تواضع صلاحياته، أن يكون طرفا في الصراع مع هذه السلطة لإنجاز المرحلة الانتقالية واستعادة السيادة والاستقلال. وفي ظل توازن القوى الجديد المائل بقوة لصالح الطرف الرئيسي في التناقض الرئيسي، ونعني به سلطة الاحتلال، فقد دشنت هذه السلطة ممارساتها الملموسة على الأرض ضمن مسعى الانفراد بوضع وصياغة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية وفق رؤى "جديدة" أشرفت على تنفيذها عبر مستشاريها وأجهزة السلطة المتعددة وتحالفاتها الجديدة ، في سياق نهج سياسي وممارسات متنوعة على الصعيد الداخلي. هذه الاصطفافات التي تأثرت كذلك بعوامل أخرى ساهمت في تعرض العملية السياسية الناشئة الى جملة من العراقيل والبطء والاستعصاءات والمنعرجات الخطرة. ورافق هذه العملية على الجانب الآخر، كما اشرنا سابقا، تراكم مظاهر الفساد والفوضى وغياب سيادة القانون وسوء الخدمات وانعدام الأمن والعديد من المظاهر السلبية الأخرى. هكذا، إذن، أدت هذه العملية البالغة التعقيد الى تبلور تناقضات جديدة ناجمة عن الانزياحات والحراك الطبقي/الاجتماعي الجديد الذي غذته، إضافة الى العوامل السابقة، ثلاثة عوامل أخرى مهمة:- - أزمة بنيوية عميقة. - وضع أمنى متوتر واحتقان طائفي متصاعد. - وعدم تبلور البديل القادر، لحد هذه اللحظة، على تجاوز هذا الوضع، رغم محاولات كثيرة. على صعيد الاقتصاد، يصبح التناقض المحرك، بين ضرورة نمو القوى المنتجة لكافة الأشكال الاقتصادية، وبين علاقات الإنتاج المفككة الناجمة عن تفجر تناقضات المرحلة السابقة وتنامي دور الهويات الفرعية ممثلة بالعلاقات الطائفية والاثنية والعشائرية على حساب الهوية الوطنية العراقية وما يرتبط بها من العلاقات الاجتماعية الطبقية العادية. منذ سقوط النظام الدكتاتوري، أصبح الوجه الرئيس ِ للتناقض على صعيد الاقتصاد هو القطاع النفطي الذي كانت تهيمن عليه الدولة. منذ هذه اللحظة تصبح السيطرة عليه محور الصراع بين مشروعين: خصخصته أو إبقاءه تحت هيمنة الدولة. ولا شك ان شكل ومحتوى السيطرة على هذا القطاع تمثل الشرط الذي لا غنى عنه لكل تطور لاحق لعملية إعادة بناء الاقتصاد ووجهتها. ولعل ما يؤكد هذه الأطروحة الصراعات الدائرة منذ سنوات حول مشروع قانون النفط والغاز الذي تعطل اقراره مرات عدة ولم تنجح " التوافقات الكبرى " بين القوى المتنفذة للتوصل الى رؤية مشتركة بشأنه وذلك بسبب اختلاف المصالح والتي لا تنحصر فقط بالجانب المحلي وإنما لها ابعاد اقليمية ودولية. و الصراع نفسه والجدل المتناقض دار ولا يزال حول عقود التراخيص التي وقعتها الحكومة مع الشركات العالمية. لقد تغيّرت الآن " عقدة المسألة "، ولكن المسألة ظلت كما هي ( ما الذي سينتصر، اهو شكل الاقتصاد الحكومي/الدولتي أم شكل الاقتصاد الرأسمالي ؟). ليس هناك، إذن، سوى تغيير في وضع الوجه الرئيسي لهذا التناقض. هكذا اذن لم يعد التناقض الرئيسي الذي كان سائدا في المرحلة السابقة (أي مرحلة النظام الدكتاتوري) هو المقرر بل حل محلة تناقض رئيسي جديد فرضه مضمون التغيير الذي حدث والقوى التي نفذته (القوات الأجنبية) والاصطفافات السياسية والطبقية الجديدة التي نشأت في المرحلة الجديدة " الانتقالية والاستثنائية " بعد انسحاب القوى الاجنبية من العراق في 31/12/2011 بموجب الاتفاقية الامنية الموقعة بين العراق والولايات المتحدة. هكذا، إذن، أصبح مفهوما كيف أن التعديلات الواردة في ترتيب التناقضات تعتبر بمثابة تغييرات حاسمة تفتتح استراتيجية جديدة ومرحلة جديدة في تطور التكوين الاجتماعي الراهن واليات اشتغاله وقواه الفعلية المحركة. فالمعركة بشأنها ليس معركة بين الطوائف كما يبرز ظاهريا، بغض النظر عن عناوينها المختلفة، والتي لو جمعناها لتبين لنا أنها ليست سوى تجليات لمعركة البدائل المختلفة حول شكل ومضمون الدولة الجديدة وإعادة بناء الاقتصاد وكيفية التصرف بالريوع النفطية. المهمة المركزية في هذه المرحلة جـــدل العلاقة بين الوطني والديمقراطي يتعين الانتباه الى أن المهمات والأهداف المحددة في البرنامج والتقرير السياسي اللذين اقرهما المؤتمر التاسع بعد نقاش ثري ومتنوع وفهمهما فهما عميقا ودقيقا إنما ترتبط برؤية الحزب وخياره الوطني الديمقراطي الذي هو اليوم الحل الأمثل القادر على إخراج بلادنا من أزمتها البنيوية الراهنة، وتجنيبها المزيد من المخاطر والمشاريع الاستبدادية. فهذا الخيار يسعى، كما معروف، الى الدمج بين مهام وطنية عامة ومهام ذات طابع ديمقراطي ومن دون إهمال العلاقة العضوية والضرورية التي تربط بين نوعي المهام، بل انه يعمل على إنجازها في إطار تركيب جديد. ولا شك أن هذا التركيب تحدده: - طبيعة المشروع ذاته؛ - المرحلة التي بلغتها الأزمة البنيوية التي تعيشها بلادنا؛ - طبيعة الصراعات السائدة اليوم وعمليات الاصطفاف، والانزياحات الجارية داخل القوى المنخرطة في العملية السياسية بفعل طائفة من العوامل الداخلية والضغوطات الإقليمية والدولية. تحديد المهمة المركزية كل هذا يرتبط بالتحديد الدقيق للمهمة المركزية لهذه المرحلة بما يساعد في تحديد دقيق للقوى السياسية والاجتماعية. وكما جرت الإشارة سابقا، فانه ارتباطا بالحقائق الجديدة التي نشأت على الأرض بعد 9/4/2003، وفي مقدمتها شرعنة الاحتلال بموجب القرار 1483، اضافة الى نشاط القوى الارهابية والتكفيرية، أصبحت تواجه العراقيين مهمة مزدوجة تجمع بين الوطني والديمقراطي، ونعني بها مهمة إنهاء الاحتلال واستعادة السيادة والاستقلال من جهة، والنضال ضد قوى الإرهاب بمختلف تجلياتها وعناوينها، وتدشين العملية الديمقراطية وصولا الى بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد من جهة أخرى. واستنادا الى قراءة سليمة لطبيعة التناقضات وضرورة ترتيبها ترتيبا صحيحا، بما فيها التحديد الدقيق لأطراف التناقض الرئيسي الناظم لهذه المرحلة، فإنه ليس هناك أي انفصال بين المهمات الوطنية ممثلة باستكمال عمليات استعادة السيادة والاستقلال الناجز من جهة، وعملية البناء الاجتماعي الديمقراطي الداخلي من جهة أخرى ، بل على العكس ينبغي النظر الى طرفي هذه المهمة نظرة جدلية، في وحدتهما وتأثيرهما المتبادل. فالنضال من أجل إنجاز المهمات الوطنية من ناحية، والنضال من اجل إنجاز المهمات ذات الطابع الديمقراطي من أجل بناء عراق جديد ديمقراطي اتحادي من ناحية ثانية يشكلان معاً وحدة جدلية في إطار عضوي متداخل، ومن هنا تصبح عملية التوازن بين هذين البعدين في الصراع ذات أهمية قصوى. وبالمقابل ، فانه في مواجهة استحقاقات المرحلة الراهنة وتفاقم التناقضات الداخلية وتعقد العملية السياسية واستعصاءاتها المتكررة، فإنه من الضروري تكثيف الفعل السياسي الديمقراطي – الميداني والجماهيري والاحتجاجي- وكافة وسائل النضال السياسي التي يتعين أن تشمل وتغطي كافة العناوين المجتمعية والقضايا المطلبية. إن الملاحظات السابقة تتيح التمييز، وليس الفصل، بين التناقض الرئيسي بمكوناته المشار إليها في بداية حديثنا ، والتناقضات الثانوية في بلادنا في هذه المرحلة. فبالرغم من القناعة والوعي بتداخلهما وتشابكهما معا في إطار مهام التحرر الوطني والديمقراطي في أن، إلا أن لكل منهما سماته الخاصة ومكوناته وعناصره وتمايزه من حيث الجوهر والشكل، ومن حيث أسلوب وآليات التعامل مع كل تناقض منهما على حده ، إلى جانب الاستقلالية النسبية لكل منهما من حيث طريقة أو شكل التعامل معه أو مواجهته. إن وعي جدل علاقة وحركة التناقضات التي تنطوي عليها المرحلة الراهنة وفي صيرورتها وتحولها ، يعد أمرا في غاية الأهمية ، مما يدفع الى التأكيد على ضرورة تعميق الوعي والقناعة بأهمية الاستخدام الصحيح لأشكال النضال طبقا للأطروحة اللينينية المعروفة: التكتيك الملموس للوضع الملموس، بعيدا عن الوصفات الجاهزة والمقاربات المقطوعة الجذور عن واقع يتحرك باستمرار وتتفاعل فيه وتتقاطع فيه مصالح متنوعة ومتضاربة في الوقت نفسه، وتكتنفه الكثير من الأخطار والانعطافات التي يتعين إدراكها والتحضير الجيد لمواجهتها. طبيعة القوى المؤهلة لتحقيق اهداف المرحلة كما جرت الإشارة سابقا، تتحدَّد طبيعة المرحلة التاريخية التي يجتازها العراق الآن، بأنها مرحلة النضال من أجل إنجاز مهام ذات طابع وطني وديمقراطي في آن واحد. وهنا ينطرح سؤال عن طبيعة القوى المؤهلة لتحقيق هذه الأهداف ؟ وقبل تحديد هذه القوى دعونا نتوقف عند اتجاهات التحولات الطبقية – الاجتماعية خلال المرحلة الراهنة ذلك لأنه لا يمكن فهم طبيعة هذه المرحلة دون معرفة المعالم الاساسية لاتجاهات تلك التحولات. فمن المعروف أن بنية المجتمع العراقي ومكوناته الطبقية تعرضت إلى تبدلات متواصلة فرضتها حالة عدم الاستقرار، وأطلقت حراكاً اجتماعياً أفضى إلى طمس المعالم والحدود الفاصلة بين الفئات والشرائح الطبقية وأعاق عملية تبلورها. فقد أزيحت بعض القوى والمجموعات الاجتماعية التي كانت تحظى بدعم النظام الدكتاتوري المقبور ورعايته. وبالمقابل ظهرت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتداخل أنشطتها التجارية مع عمليات السطو والنهب التي ترافقت وانهيار النظام والدولة العراقية. واتخذ هذا التحول - بين ما اتخذ - طابعا طفيليا، ذلك أن النشاطات المذكورة تتركز بصورة رئيسية في مجال التداول وليس في مجال الإنتاج وخلق القيم. وتحصل الفئات المشار إليها على مداخيل وتجني أرباحاً من تلك الأنشطة القائمة على الوساطة فضلاً عن الأنشطة اللاشرعية كالتهريب وفرض الإتاوات والاستحواذ على ثروات الآخرين. إن الفئات الطفيلية التي نمت بعد سقوط النظام السابق هي – مع بعض الاختلافات غير الجوهرية - امتداد لتلك التي كانت قد ترعرعت في كنفه، وشكلت أحد مكونات الائتلاف الحاكم آنذاك. وتقوم شرائح من هذا النوع بدور حلقة وصل بين أقسام من رأس المال الدولي في الخارج، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الإنتاجية، وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع وأعمال السلب والنهب في الداخل. ومن جهة أخرى يتعين التأكيد أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى قطاع الدولة، ويعني هذا أن الطفيلية مرتبطة بالشرائح المختلفة للبرجوازية. وبالمقابل فان البيروقراطية أو ما يسميها بعض الكتاب بـ " البيروقراطية المترسملة " متموضعة في الشرائح البيروقراطية الحكومية والسياسية والعسكرية والأمنية العليا التي تنحدر قطاعات كبيرة منها في الأساس من الفئات الوسطى والفقيرة، فان لحظة تكوينها حدثت جراء "حيازتها" لجهاز الدولة. وقد آلت إلى هذه الفئة، بفعل عملية "نهب" المال العام ومن خلال آليات عدة، حصة كبيرة من الانفاق الاستهلاكي والاستثماري. وبسبب طبيعة التشابك بين الثروة والسلطة وإعادة توزيع الادوار لوحظ وبشكل متزايد بروز ادوار اقارب الماسكين بزمام السلطة والحكم من ابناء وأصهار وأقارب ونشوء انواع مختلفة من الشبكات "الزبائنية" التي شكلت مصدراً اقتصادياً جديداً يعزز قدرة هذه الشريحة ويعد واحدا من محددات "قوتها" الاجتماعية. وبالمقابل لابد من الاشارة الى ان اطلاقُ العنان لاقتصاد السوق المنفلتْ (الذي لا تنظم نشاطَه قوانينُ وضوابطٌ محددة)، واعتمادُ سياسةِ الانفتاح التجاري والمالي وبدون حدود وضوابط، في ظل شيوع الفساد المالي والإداري والسياسي، على نطاق واسع، وإبقاء ميزانية الدولة معتمدة ً اساسا على موارد النفط (وبالتالي تأكيد الطابع الريعي للاقتصاد العراقي)، وتردي القدرةِ الانتاجية الوطنية الى ادنى المستويات، وانتشارُ الفوضى في ادارة اقتصاد البلد، وفي جميع مرافق الحياة العامة، ان هذا كله لا يمكن ان ينتجَ إلا اقتصادا رأسماليا مشوها، وحيدَ الجانب، تابعا، ولا يمكن ان يفرزَ إلا استقطابا اجتماعيا وطبقيا، يهمين فيه تحالفُ البرجوازية الطفيلية والبيروقراطية مع الكومبرادور، تحالفُ ذوي الثراء الفاحش وغيرِ المشروع، على مصائرِ البلد. حيث تتراكم بأيدي القلة ثرواتٌ هائلة، مقابلَ الاغلبيةِ الساحقة من ابناء الشعب، وبالخصوص الكادحون منهم، وبالذات الطبقة العاملة والفلاحون المعدمون، الذين يعانون الفقرَ والعوزَ والحرمانْ، والاستغلالَ الظالمْ في ظل غياب القوانين المنظّمةِ للعملية الانتاجية، والضامنةِ للعدالة الاجتماعية. وما يثير الانتباه هنا الى ان المنهج الذي اتبعته الحكومات الثلاثة المتعاقبة (علاوي -الجعفري - المالكي) - مع اختلافات على مستوى الشكل والدرجة - هو رهانها على توزيع الادوار بسبب عدم وجود رؤية ولا استراتيجية واضحة المعالم تعرف ما الذي تريده في اللحظة التاريخية الملموسة. والمتابع لممارسات تلك الحكومات وآخرها حكومة " الشراكة الوطنية " سيلحظ نوعا من الثنائية او بعبارة ادق نوعا من الازدواجية. فمن جهة يجري الترويج للانفتاح على القطاع الخاص، وجذبه وتحفيزه على الاستثمار وتوسيع دوره ولكن بالمقابل ينافح " المستشارون " في المستويات العليا للسلطة دفاعا عن "الخصخصة التلقائية" أي ان تجري هذه العملية في اطار وصفة صندوق النقد الدولي، ونتائج هذه الوصفة معروفة واقل ما يقال عنها انها تدميرية. وبالمقابل تعزز بيروقراطية الدولة بشقيها المدني والعسكري مواقعها مروجة لشعار "اقتصاد السوق" مع احتفاظها بحيازتها لمؤسسات القطاع الحكومي، واستخدامه لمصالحها الخاصة والزبائنية. تكمن خطورة هذا الاستقطاب في وظيفته الايديولوجية التمويهية من جهة، كما انه يحقق نوعاً من وظيفة "تقاسم السلطة" وإدارة المواقف المختلفة فيها. نحن هنا اذن امام ما يطلق عليه البعض " آليات الاستيعاب/الإقصاء "، معطياً الأولوية لآليات الاستيعاب وتوسيع قنواتها لضمان ديمومة سيطرة الائتلاف الحاكم من دون اية عوائق ! بالملموس، افضى هذا الاستقطاب الى التحول من " نظرية الدور القيادي المركزي للقطاع العام " إلى نظرية "التعددية الاقتصادية" بين القطاع العام والخاص والمختلط والتعاوني، مع الترويج للخصخصة بموجب وصفة صندوق النقد الدولي. وإذا اردنا ان نرد هذه التحولات الى جذورها فانه يمكن القول انها لم يمكن ممكنا حدوثها بمعزل عن جملة عناصر من بينها بل وأهمها: - النشاط الذي قامت به سلطة الاحتلال بقيادة الحاكم المدني آنذاك (بول بريمر) حيث عملت على " إعادة بناء " الاقتصاد العراقي من خلال اتخاذ جملة إجراءات اقتصادية، استهدفت تكييف هذا الاقتصاد وتحضيره لمرحلة جديدة تسمح بدمجه في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. لم يساهم هذا المشروع في تقديم حلول جذرية للازمة الاقتصادية بل فاقمها وعمق تناقضاتها. وتجلى ذلك في جملة من النتائج: < فقد اعاق تطور الاقتصاد العراقي؛ < واغرق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية؛ < وحرم البرجوازية الوطنية الصناعية والبرجوازية الصغيرة والحرفية من النمو وتحقيق التراكم الرأسمالي الوطني المطلوب ؛ < وقلص إمكانية تنشيط تنمية وتوسيع عملية إعادة الإنتاج الموسع في الاقتصاد العراقي؛ < كما اعاق ايضا إيجاد فرص عمل جديدة للعاطلين، بل والاسوأ من ذلك افضى الى تعاظم مديّات البطالة بوتائر غير مسبوقة ؛ < وأبقي المجتمع معتمداً على إيرادات النفط الخام وعلى استيراد السلع المختلفة من الخارج وبالتالي ساهم في اعادة انتاج البنية المشوهة والاحادية الجانب للاقتصاد الوطني؛ < وقلص إمكانيات تغيير البنية الاجتماعية المتخلفة وعطل سيرورات رفع مستوى الوعي الاجتماعي في البلاد؟ وهنا ثمة قضية مهمة لا بد من الاشارة اليها وهي ان احتدام الصراعات الطائفية وحالة الاستقطاب التي ترافقها انعكس على وحدة الانتماءات الطبقية ، وعلى تبلور الوعي الخاص بكل طبقة وفئة ، مؤديا الى تشظي قطاعات منها على اسس طائفية أو جهوية، الامر الذي جعل الولاء والانحياز الطائفيين من المعالم المميزة لهذه المرحلة. وعندما يتكرس الطابع الطائفي- المناطقي لبناء الدولة، ينشأ تناقض بين الدور السياسي التقليدي للدولة، المتمثل في تأمين ديمومة النظام المسيطر دون عوائق، وبين دورها الاقتصادي المتمثل في تأمين "الريع" لـ "الاقطاعات الطائفية - االمناطقية" الطامحة الى السلطة والثروة ، والتي بدأت تحتل مواقع السيطرة على المفاصل الاقتصادية والسياسية والامنية الاساسية. - عدم تبلور استرايجية اقتصادية – اجتماعية لدى القوى المتنفذة التي تتالت على الحكم، استراتيجية ترتكن الى رؤية محددة تعرف ماذا تريد، مما افضى الى ان تتخذ اللوحة الطبقية هذا المسار بحيث أصبح يهيمن عليها التحالف الثلاثي: البرجوازية الطفيلية/البيروقراطية/الكومبرادورية. تتيح الملاحظات السابقة الاستنتاج بأن القوى الاجتماعية المؤهلة لتحقيق هذه الأهداف هي مجموعة الطبقات والفئات والقوى الاجتماعية ذات المصلحة الحقيقية في إنجاز هذه الأهداف، وتشمل الطبقة العاملة كافة فئاتها والعاملين بأجر، والفلاحين، والكادحين، والمثقفين، وجميع شغيلة اليد والفكر، والبرجوازية الوطنية، والصناعيين المنتجين ومن يهمهم الانتقال الى الديمقراطية وبناء دولة القانون والنظام. أما القوى السياسية المؤهلة لإنجاز هذه الأهداف فتتمثل بالأحزاب والقوى والمنظمات الوطنية والقومية والديمقراطية واليسارية والمناهضة للإرهاب وكل من يؤمن بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وبناء عراق فيدرالي ديمقراطي موحد ومستقل ومتحرر من كل أشكال الهيمنة والتبعية ويؤمن العدالة الاجتماعية والفرص المتساوية لمواطنيه.
#صالح_ياسر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ضوء المؤتمر الوطني التاسع (1) .. ماذا بعد انعقاد المؤتمر
...
-
ديالكتيك الجمع بين مختلف أشكال النضال..مذكرة الحزب الشيوعي ا
...
-
عادل كوركيس ... سنديانة عراقية أخرى ترحل بصمت
-
في ضوء مداولات اجتماع نيسان للجنة المركزية للحزب الشيوعي الع
...
-
24 شباط 1848 ذكرى صدور(البيان الشيوعي)...
-
الإقتصاد السياسي للميزانية الجديدة للولايات المتحدة
-
المجد للذكرى 160 لصدور (بيان الحزب الشيوعي) ملهم ومنظم ملايي
...
-
المجد للذكرى التسعين لثورة أكتوبر العظمى!
-
بعض معالم التحولات في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة ب
...
-
الجزء الثاني ... بعض الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الحزب ا
...
-
بعض الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الحزب الشيوعي العراقي لل
...
-
الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري
...
-
بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة
بعد 11 سبت
...
-
تحليل : «اعادة تقييم الوضع النووي» - بالون إختبار أم عقيدة ن
...
-
مؤتمر الدوحة : بين وهم الوعود الزائفة وحقائق الواقع الصارمة
-
العولمة تسير وفقا لمنطق قانون التراكم الرأسمالي
-
انعكاسات الأزمة الراهنة على " البلدان النامية "
المزيد.....
-
قمة كوب29: الدول الغنية ستساهم ب 250 مليار دولار لمساعدة الد
...
-
حدود العراق الغربية.. تحركات لرفع جاهزية القطعات العسكرية
-
وقف الحرب في لبنان.. فرص الاتفاق قبل دخول ترامب البيت الأبيض
...
-
أرامكو ديجيتال السعودية تبحث استثمار مليار دولار في مافينير
...
-
ترامب يرشح أليكس وونغ لمنصب نائب مستشار الأمن القومي
-
بالفيديو.. منصات عبرية تنشر لقطات لاشتباكات طاحنة بين الجيش
...
-
Rolls-Royce تخطط لتطوير مفاعلات نووية فضائية صغيرة الحجم
-
-القاتل الصامت-.. عوامل الخطر وكيفية الوقاية
-
-المغذيات الهوائية-.. مصادر غذائية من نوع آخر!
-
إعلام ألماني يكشف عن خرق أمني خطير استهدف حاملة طائرات بريطا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|