|
الدفاع عن الشعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع )بصدد المجتمع الديمقراطي والايكولوجي -4
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1096 - 2005 / 2 / 1 - 08:44
المحور:
القضية الكردية
العلاقة الكامنة بين الحرية والمساواة مفهومة إلى أبعد الحدود في الديمقراطيات. إنها ليست بدائل بعضها. فكلما تطورت الديمقراطية تطورت الحريات معها. ومع تطور الحريات تتولد المساواة. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية التي تزدهر فيها الحرية والمساواة. وكل حرية ومساواة لا تعتمدان على الديمقراطية، لا يمكن إلا أن تكونا طبقيتَين. حينها تكون طبقة معينة أو زمرة أو مجموعة مختارة هي الحرة والمتساوية. ولا يتبقى للغير سوى أن يكونوا عبيداً مُدارين ومُوجَّهين. أما في ديمقراطية الشعب، ولأن الإدارة الذاتية وإدارة الذات هي الأساس، تكون الحرية والمساواة أيضاً عامتين شاملتين. إذاً، يتواجد أشمل إطار للحرية والمساواة في ديمقراطيات الشعب، وفي الديمقراطيات التي تغيب فيها الدولة والسلطة. الديمقراطيات ليست إنكاراً للدولة. لكنها أيضاً ليست الرداء الذي تتباهى به الدولة. إن المطالبة بالديمقراطية بهدم الدولة مغالطة كبرى. الأصح هو أنها تعني القدرة على تسيير التكامل المبدئي بين الديمقراطيات والدولة (الدولة التي يجب أن تخمد بعد مدة طويلة من الزمن). نحن في عصر الديمقراطيات اللامحدودة. ويتطلب الوفاق المبدئي بين الديمقراطية الممكنة التطبيق وقوة الدولة، في راهننا الذي تغلب عليه وظيفة الدولة بشكل ساحق. والحضارة الأوروبية تسعى لإدارة ديمقراطيتها ودولتها بشكل متداخل، انطلاقاً من هذا الدرس الذي استنبطته وهضمته، ولو بشكل متأخر وناقص. هكذا غدت ترى، بعد خوضها الحروب الكبرى، مدى قوة الحل الفسيحة المجال للديمقراطيات، وكذلك السمات القتالية للسلطة. قد يَدُرّ وضع الثقل على السلطة بالنفع والقوة الكبرى لأقلية محدودة. لكنه في الوقت عينه يجهز لكوارث وفواجع كبرى للوطن والقومية والشعوب، في نهاية المطاف. لم يكن الأوروبيون متحمسين كثيراً للديمقراطية بلا وجود الدولة القومية. لكن التجربة الفاشية أظهرت أنه إن لم تُولَ الديمقراطية الأولوية، فمن المحال حتى تأسيس الدولة القومية. والمفهوم القائل "لنرسخ الدولة القومية أولاً، ومن ثم يأتي الدور على الديمقراطية"، هو مصدر كافة كوارث الفاشية والتوتاليتارية المعاشة. منذ أن نادت أوروبا بحقوق الإنسان والديمقراطية أولاً عبر الاتحاد الأوروبي، حينها فقط رسمت السبيل الراسخ المفتوح أمام الرفاه والسلم. هذا هو موديل الاتحاد الأوروبي. وهذه هي القوة السحرية الحقيقية التي تجذب العالم برمته إلى الاتحاد الأوروبي! وبقدر ما توسِّع أوروبا من نطاق قوتها السحرية تلك وتنشرها في العالم، ستتخلص من ذنوبها المقترفة ماضياً. حينها ستغدو المضامين الجوهرية قيماً لكافة الشعوب، مثلما هي الحال في كل حضارة. لكن علينا ألا ننسى أنه ثمة طبقة بورجوازية ماكرة وخبيرة في وضع ثقلها الدائم في أساس الحضارة الأوروبية؛ بحيث تهرع وراء حساباتها المنفعية الجليدية، ووراء بسط نفوذها. لن يتخلى الأرستقراطيون المعاصرون بهذه السهولة عن ترف الحياة في أعالي الديمقراطيات. لكن الديمقراطيات ستعرف كيف تخمد عروشهم (دولتهم) وتدكها وتُسقِطها رويداً رويداً. لن تقدر أوروبا على القيام بذلك (المقصود هنا بممارسة الديمقراطية – المترجم) لوحدها. فكلما تطورت الديمقراطية في العالم، ستصبح عندئذ أوروبا عالمية بمعناها الإيجابي. وكلما تم دمقرطة العالم، سيصبح أوروبياً. وكأن التاريخ سيشهد هذه التجربة أثناء الخروج من الفوضى. فبدون وجود دمقرطات العالم الطازجة الطرية، لا يمكن ورود احتمال في خروج أمريكا من الأزمة عبر الحروب والشركات (مثلما كان عليه الأمر سابقاً)، أو خروج أوروبا منها بالقانون والديمقراطية. من الضروري التقرب بحساسية فائقة من المضمون الاجتماعي لمصطلح الديمقراطية. حيث لا يُعمَل داخل المصطلح بالتصنيفات والتمييزات الطبقية أو الجنسوية أو الإثنية أو الدينية أو الثقافية العامة أو المهنية… الخ. من الممكن الانضمام إليها على الصعيد الفردي أو المجموعاتي. فمثلما لن تؤخذ مواطَنة الفرد أساساً في الديمقراطية، لن يكون بالمقدور إعاقة احتلال القواعد المجموعاتية أيضاً مكانها فيها. لا تشكل القوة الفردية أو المجموعاتية فرصة قيِّمة فيها. فادعاء الأفراد بالقوة تجاه بعضهم ليس ذا معنى، وكذلك بالنسبة للمجموعات. المبدأ الأولي الذي سيُعمَل به هو ألا تشكل كل من المنفعة العامة (المصالح المشتركة العامة للمجتمع في كافة المواضيع) والمبادرة الفردية عائقاً لبعضهما البعض. أي أن يتحقق اتحاد الفردانية والعمومية في النقطة المثلى (الأكثر عطاء). بمعنى آخر، فهو يعني في مضمونه تكوين الفرد المتوازن والمبادِر والخلاق عبر الخاصية المشاعية المقتاتة على الفردانية، والتي تستمد قوتها من القيم الشماعية للمجتمع. فإذا ما وُضِع الثقل على الخاصية المشاعية فحسب، قد تنزلق وقتئذ الديمقراطية إلى التوتاليتارية. مقابل ذلك؛ إذا ما أُبيح كل شيء من أجل الفردانية، فهذا ما يفضي إلى الفوضوية من جانب، وإلى تعزز موقع الفرد المفرط على حساب المجتمع من الجانب الآخر. في الخلاصة، فكلا التيارين يقودان إلى ممارسة الديكتاتورية، والإدارة المزاجية، والتردي على المجتمع. تشعر الديمقراطية بحاجة ماسة ومصيرية للشخصيات العميقة المعرفة، الطوعية، والشغوفة حتى الهيام بمصالح المجتمع وسلامة الأفراد معاً. لا يمكن تسيير الديمقراطية بالمؤسسات والمبادئ فحسب، دون وجود الديمقراطيين (لا الأحزاب) المحافظين على حيوية وديناميكية المجتمع، والمعبِّئين الشعبَ على الدوام بموضوع الديمقراطية، والمحفِّزين إياه على اليقظة والحساسية. فالديمقراطية، كظاهرة ديناميكية، أشبه بالنبتة التي تتطلب الري (التعليم والتعبئة) على الدوام. فإذا لم تُرفَق بعناية أولادها الهائمين بها؛ تجف وتذبل، وتتردى لتصبح قبل كل شيء أداة للتطورات المناهضة للديمقراطية. لا جدال في أن الديمقراطية هي الوسيلة الأكفأ في حل القضايا الاجتماعية، وعلى رأسها مسألة السلام. وتستنهل قدرتها وكفاءتها من قابليتها في الإقناع، لا من الحروب (عدا حالات الدفاع المشروع الاضطرارية). إذ بمقدورها في كل الأوقات صياغة الحلول المناسبة لمصالح الشعوب الذاتية، بمقايستها بين القيم الممكن خسارتها مع الحرب، والقيم الممكن اكتسابها على خلفية الإقناع. فالنقاشات الجريئة والواقعية تنوِّر المشاكل. أما المشاكل المنوَّرة، فيمكن ولوجها في درب الحل عبر الوفاقات الجذرية المتمخضة من المشاركات الواسعة للأطراف المعنية. ما من نظام تكثر فيه الجدالات والنقاشات، وينجح في إبراز الحقائق على وجه الماء؛ بقدر ما هي عليه الديمقراطية. الديمقراطية هي الواحة الحقيقية لتطور العلم والفن. شكلت الديمقراطية في أثينا أفضل الأوساط من أجل الفلسفة. لا يمكن التفكير بأرسطو أو أفلاطون أو سقراط دون ديمقراطية أثينا. ولولا وجود ديمقراطيات المدن في النهضة، لما تطورت الثورات العلمية والفنية. بإمكان الشعوب أن تُحيي تقاليدها الثقافية الغنية في أفضل الديمقراطيات. حينها لا تبقى الثقافة مجرد ماضٍ للشعب، بل تغدو شكل وجوده الذاتي الذي يلفه ويحيط به. فإذا ما جَرَّدْتَ شعباً من ثقافته، فإنك لا تقطعه من شكله فحسب، بل تكون أفنيت روحه المؤدية إليه أيضاً. بالتالي، فالديمقراطية هي النظام السياسي الأنسب لإحياء الشعب على أسس الحرية والمساواة بموجب ثقافته. تتميز المشاكل القومية والإثنية والدينية النابعة من القمع القومي أساساً، بفرصتها في بلوغ أفضل الحلول معنى عبر معايشتها ثقافاتها بحرية في الديمقراطيات. لا يُرى داعياً لممارسة أي شكل من أشكال القمع في البلدان والمناطق التي تَدْرُجُ فيها الديمقراطيات الحقة، ولا يُسمَح باستثمارها كأداة منفعة. بل يُتَّخَذ التكامل الديمقراطي أساساً، عوضاً عن قوموية الساحق والمسحوق. لا يمكن الاستهانة بمساهمة الديمقراطيات من الناحية الاقتصادية. فإن كان نظام الديمقراطية سارياً في المجتمع، لا يمكن سريان احتكار القيم الاقتصادية فيه، ولا ترك الأفراد يتخبطون في عقم الإنتاجية. فالديمقراطيات لا تصادق على جشع الربح المفرط، ولا على الكسل واللامبالاة؛ سواء على الصعيد الفردي أو المؤسساتي. في هذا الميدان أيضاً تؤسَّس النقطة المثلى بأفضل أحوالها. فتوازن الاقتصاد العام والخاص سيبلغ النقطة المثلى، عاجلاً أم آجلاً. وقد برهنت الكثير من البحوثات على العلاقة الكامنة بين الديمقراطية والعطاء والتطور الاقتصادي. فالتوزيع العادل بقدر وفرة الإنتاج، والبحوثات اللازمة بقدر الإيداع الملائم؛ إنما يجد وسطه اللازم في أفضل الديمقراطيات. والإنتاج الذي يلبي احتياجات الشعب الحقيقية، هو العامل المؤثر الأساسي في تأسيس التوازن بين العرض والطلب. هكذا تصبح أسعار السوق حاظية بفرصة التمأسس بمعناه الحقيقي. وتحل روح السباق والمنافسة محل الرقابة المميتة. أما ظواهر الخلل الموجود بين العرض والطلب، الأسعار، والتضخم المالي وغيرها من ألاعيب التمويل، والتي تعد من أهم دوافع الأزمات؛ فبالإبقاء عليها في الحدود الصغرى، سيكون بمقدورها إبداء القدرة على الخروج من تلك الأزمات وإيجاد الحلول المناسبة لها. عندئذ ستعثر البطالة المنظمة على حلها الأساسي. من المهم التقرب بخصوصية أكبر من صنف الشبيبة خلال الكفاح الديمقراطي للمجتمع. حيث تبقى الشبيبة وجهاً لوجه أمام كمائن كبيرة، منصوبة لها على درب مجتمعيتها. إذ ثمة من الجانب الأول مشروطيات المجتمع الذكوري السلطوي التقليدية، ومن الجانب الثاني تتخبط تحت عبء المشروطيات الأيديولوجية للنظام الرسمي السائد. مع ذلك فهي تتمتع ببنية ذات ديناميكيات منفتحة لكل حديث. إنها غِرّة لأبعد الحدود إزاء المجريات الحاصلة، وبعيدة كل البعد عن كشف ما يُرسَم لها بتأثير مجتمع المسنين. ولا تستطيع التقاط أنفاسها تجاه الآلاف من مكائد وحيَل المجتمع الرأسمالي التي تسلب العقول. كل هذه الحقائق تستلزم بالضرورة تعبئة الشبيبة بتعليم اجتماعي خاص مناسب لخصوصياتها، بحيث يجذبها وينقذها من الشراك المنصوبة. وتعليم الشبيبة عمل يتطلب الصبر والجهود المضنية. مقابل كل ذلك، فهي تتميز بجرأة مِقدامة تخولها لتدوين الملاحم بديناميكياتها. ما من عمل يستعصي عليها النجاح فيه، إن هي استوعبت الأهداف والأساليب المؤدية إليها. فإذا ما رأت في الحياة المميَّزة بالأهداف والأساليب المحددة انضباطاً أولياً لها، واستنفرت طاقاتها بموجبها، وإذا لم تثبط من همتها وصبرها؛ فبمقدورها إبداء أهم المساهمات البارزة في الدعاوي والقضايا التاريخية. والحملة التي ستتطور في الحركة الشبيبية الديمقراطية، بريادة الكوادر المتحلين بهكذا ميزات، هي حلقة الضمان للانتصار في النضال الديمقراطي للمجتمع. إذا ما افتقرت الحركة الشبيبية لمجتمع ما لديناميكية الشبيبة، ستكون فرصتها في النصر محدودة. فخبرات المسنين وديناميكية الشبيبة ظاهرتان تفرضان وجودهما في كل فترة من فترات التاريخ. ومَن فلح في إقامة الأواصر السليمة بين الظاهرتين في مسيرته، كانت نسبة النجاح لديه مرتفعة في كل زمان. لا يمكن لخيالات شبيبتنا الراهنة السامية أن تجد معناها، إلا في حال إدراكها كيفية نفاذها من أزمة النظام الاجتماعي القائم. وأي شبيبة تنعدم لديها الخيالات، لن تنجو من التردي والانحطاط، ومن خسران الحياة برمتها؛ إلا إذا عادت إلى خيالاتها الحقيقية. الشرط الأولي بالنسبة للشبيبة كي تقوم بانطلاقتها، هو استيعاب حالة الفوضى العارمة للأزمة الأخيرة التي يمر بها النظام الرأسمالي. بالإضافة إلى أن هضمها لقيم المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي، ولقيم حرية الجنس، سيمدها بإمكانات النصر التاريخية، وسيجعلها الصاحبة الحقيقية للدور المنوط بها في بناء المجتمع الذي تتوق إليه، أثناء بنائها لذاتها على نحو صحيح وسليم. كل شيء منوط بالمشاركة الكفوءة والقديرة والصائبة للشبيبة من جديد في الحملة الاجتماعية التاريخية. يتميز الشكل العملياتي والتنظيمي للديمقراطيات بأهمية تماثل ما لتعريفها الجوهري، بأقل تقدير. فبينما يؤدي تعريف الذات إلى تنوير الهدف بالأرجح؛ فالشكل العملياتي والتنظيمي يستدعي التعريف الصحيح للوسائل اللازمة كشرط لا غنى عنه. وبدون تحقيق التناغم بين الهدف والوسيلة، وبدون تحليل التوازن في مقابلتهما بعضهما البعض بشكل صحيح؛ سيكون من الصعب قطع الأشواط في درب الديمقراطيات. تذكّرنا الديمقراطيات المرتكزة إلى الأهداف فقط، أو الوسائل فقط، بالأعرج السائر على قدم واحدة. ولكن، كم ستسير بقدم واحدة، وبأية قوة؟! يمكننا سرد الأشكال الأولية للتنظيم الديمقراطي على النحو الآتي: المؤتمر كسلطة عليا، وفي القاعدة تكون المشاعات المحلية، الجمعيات التعاونية، منظمات المجتمع المدني، ومنظمات البلدية وحقوق الإنسان. ثمة احتياج لمنظمات كثيرة التعدد وواسعة النطاق حسب المواضيع المعنية بها. تتطلب الديمقراطياتُ المجتمعَ الأكثر تنظيماً. إذ، لا غنى عن التنظيمات بغرض الإعراب عن المطاليب الاجتماعية. والمجتمع العاجز عن تنظيم ذاته، لا يمكنه أن يتدمقرط. الشرط الأساسي هو أن تخلق كافة الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تنظيماتها الخاصة بها. لا غنى عن الأحزاب كتنظيمات سياسية أولية للديمقراطية. ومنظمات المجتمع المدني هي الشكل المتصدر للتنظيمات في الميدان الاجتماعي. وفي الميدان القانوني تبرز أهمية منظمات حقوق الإنسان ونقابات المحامين والدُّور والرابطات. أما التنظيم الرئيس في الميدان الاقتصادي، فهو الجمعيات التعاونية والمجموعات الناشطة والعديد من التنظيمات التجارية والمالية والصناعية وطرق المواصلات، ذات الأهداف العامة. الصحة والتعليم هي المؤسسات العامة التي يتوجب على الشعب أن ينتظم فيها بالأغلب. والكيانات الفنية والرياضية أيضاً ميادين لا يمكن الاستغناء عنها من ناحية التعبئة العامة للشعب. هذا ومن الضروري تنظيم المختارية وهيئات المسنين على صعيد القرى، كأدوات ديمقراطية أكثر منها أدوات دولة. ضروري أن يتواجد في كل قرية "دار الثقافة الشعبية". وفي المدن، وإلى جانب تلك الأشكال، يجب أن تجد المشاعات معناها كتنظيمات، بدءاً من القاعدة. هذا ولا غنى فيها عن مؤسسات مجالس المدينة أيضاً. تتميز اتحادات البلدية فيما بين المدن بمعناها على الصعيد الإقليمي. كل هذه المؤسات والمنظمات يجب أن تمثل ذاتها في "المؤتمر الشعبي العام" كسلطة عليا. "مؤتمرات الشعب العامة" هي نماذج تنظيمية خاصة لا غنى عنها في حل المشاكل الأساسية لكل شعب. لا يمكن الحديث عن ديمقراطيات الشعب، ما لم تتواجد مؤتمرات الشعب. يجب عدم النظر إلى مؤتمرات الشعب كبدائل للدولة، ولا كمؤسسات تابعة للدولة. فمثلما لا توجد دولة الشعب، فمن غير الممكن أن يهدف مؤتمر الشعب إلى احتلال مكانه محل الدولة الموجودة. الدولة، مثلما تناولناها كثيراً، هي التنظيم الأولي الأقدم والأعلى للمجتمع. وهي لا تتشكل على نحو ديمقراطي. بل تُسيَّر بشكل تقليدي وعبر التعيين والترفيع. قد يطبِّق المجتمع الفوقي الديمقراطيةَ في داخله. ويمكن تسميتها بديمقراطية الطبقات الفوقية، والتي تعد الغطاء الذي تتدثر به الدولة وتستتر. تتخذ هذه الديمقراطيات الموجودة في أغلب نماذج الجمهوريات الغربية، من الدولة أساساً لها. فحسب قناعاتها، تأتي الدولة قبل الديمقراطية. وهي لا تستطيع التفكير في الديمقراطية بدون الدولة. أما في ديمقراطية الشعب، لا يمكن اتخاذ السلطة والدولة كهدف. والديمقراطية الهادفة إلى تكوين دولة، تكون قد حفرت قبرها بيدها. شوهدت الديمقراطيات القصيرة المدى في دول أوروبا الحديثة وأمريكا، وفي أيام تأسيس السوفييتات في روسيا. لكن، وبمجرد العبور إلى الدولة، بقيت ديمقراطيات أيام التأسيس ضامرة قاصرة دون أن تتحول إلى نظام. هذا هو الوضع المعاش بالأغلب عبر التاريخ. لقد خاف المجتمع الفوقي من الديمقراطية على الدوام. إن مخالفة أزمتنا الراهنة لإرادات الشعب، والعجز بالتالي عن تخطيها؛ يستدعي بالضرورة مشاركة الشعب. والمشاركة تعني أن يكون الشعب ديمقراطياً. لا تسير الديمقراطية بدون وجود المؤتمر. كان من الممكن ألا تتشاطر الدولة الرأسمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين سلطة المجتمع عبر مؤتمرات الشعب. لكن دول الأزمات في راهننا ليس بمقدورها خطو خطوة واحدة إلى الأمام في الحل، في حال أخذت الشعب في مواجهتها، أو لم تعترف بمبادرة الشعب. فالشروط الثقيلة الوطأة للأزمة تتطلب بالضرورة الانضمام الشمولي للشعب، وبشكل مؤسساتي راسخ. من هنا، فمشاركات الشعب في القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي كانت ذات معاني محدودة للغاية؛ يمكن أن تجد معانيها في ظروفنا الراهنة عبر مؤتمرات الشعب، لا غير. والمؤتمرات بماهيتها هذه، ليست أحزاباً، ولا أشباه دول. إنها ليست كلاهما. بل هي مؤسسات الشعب الوظائفية المتولدة من الشروط التاريخية. وقد ابتعدت الشعوب أكثر فأكثر عن المذاهب الرأسمالية – الاشتراكية المشيدة، الديمقراطية الاجتماعية، التحررية الوطنية – ومن ثم عن الدولة؛ لتلج مرحلة المؤتمر. ومثلما لا تُرفَض الدولة بشكل قطعي، فإنه لا يُقبَل بها على حالتها القديمة أيضاً. لذا، من الممكن الاشتراك معاً في حل الأزمات الاجتماعية ضمن إطار مبادئ محددة. فتَقَوُّض الدول وتَقَزُّمها التدريجي، وبروز نماذج جديدة منها؛ يشير إلى الحاجة الأكبر لنموذج المؤتمر. هذا وبإمكان نماذج المؤتمرات أن تكتسب مرتبة مصيرية كصمامات أمان في البلدان التي تعاني من المشاكل القومية الثقيلة. المؤتمرات ضرورية في المستويات الأدنى أيضاً من أجل العديد من الجماعات والمجموعات. فخصائص كل حزب في توحيد كافة المشاركين من جميع الآراء والمعتقدات، إنما هي مؤشر لاستحالة تسيير الديمقراطية دون ذلك. خلاصة؛ يتلخص التقرب الأكثر واقعية في النظر إلى المؤتمر كنموذج حل يتوازى مع الدولة – بدلاً من التضاد معها – في أوقات المشاكل الثقيلة الوطأة التي لا يمكن للدولة أن تنوء عن حِملها لوحدها؛ وليس كبديل للدولة. تتحلى الديمقراطية داخل التنظيم بأهمية مصيرية لا يستغنى عنها، بقدر تعددية الأحزاب؛ بحيث تماثل المعايير الديمقراطية العامة في ذلك كأقل تقدير. فالتكون والإدارات الديمقراطية شرط أساسي للتنظيمات. والشعوب التي تكون تنظيماتها غير ديمقراطية، يستحيل أن تكون ديمقراطياتها أيضاً ديمقراطية. من هنا، فالضمان الأسلم للديمقراطيات العامة هو ديمقراطيات التنظيمات التابعة لمراقبة الشعب المشددة، والمجدِّدة ذاتها عبر الانتخابات الدائمة (مرة في السنة كأقل تقدير). من الصعب سريان مفعول آليات نظام الديمقراطيات، دون استيعاب طرازها العملياتي. فالديمقراطية المفتقرة إلى العملية أشبه بالإنسان الأبكم. العملية هي لغة الديمقراطية. وكل تحرك للشعب، وكل نشاط للتنظيمات هو عملية. لا يمكن تسيير الديمقراطيات دون القيام بالعمليات المتتالية في زمانها ومكانها المناسبين؛ من أبسطها إلى أعقدها: المظاهرات، الاجتماعات، المسيرات، الانتخابات، التظاهرات والاعتصامات، الاحتجاجات، الإضرابات، وحتى المقاومات والانتفاضات القانونية أثناء الظروف الملائمة. نخص بالذكر هنا أن العمليات وسائل ضرورية للحل في حال التغاضي عن المطاليب الأولية للشعب، أو تدمير وإفساد الكثير من مؤسسات وقواعد وأهداف الديمقراطية. لا يمكن لأي شعب (أو تنظيم) عاجز عن القيام بالعمليات، أن يحقق دمقرطته. حينها يكون في الحقيقة قد مات وزال. هذا وجلي جلاء النهار أن العمليات تكون عبر التنظيمات، وأن العمليات المفتقرة إلى التنظيم ستبقى جوفاء وفاشلة. بقدر ما تكون الشعوب منظمة، تكون حينئذ عملياتية. يجب عدم النظر إلى العمليات على أنها مجرد احتجاجات ومقاومات فحسب. فأغلب عمليات المجتمع المدني بنّاءة. أي أن مفهوم العملية الإيجابية هو الأساس.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع) بصدد ال
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية (مشاريع)بصدد الم
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني ب- افكار تخطيطية(مشاريع) بصدد الم
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والد
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا
...
-
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة
...
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دمر تماما
-
عاصفة انتقادات إسرائيلية أمريكية للجنائية الدولية بعد مذكرتي
...
-
غوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
سلامي: قرار المحكمة الجنائية اعتبار قادة الاحتلال مجرمي حرب
...
-
أزمة المياه تعمق معاناة النازحين بمدينة خان يونس
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|