|
التجربة الحزبية بالجزائر
عبدالرحمان بينكو
الحوار المتمدن-العدد: 3732 - 2012 / 5 / 19 - 03:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن البحث في التجربة السياسية الجزائرية عامة والتجربة الحزبية الإنتخابية بالخصوص، يتطلب أولا البحث عن الجذور التاريخية التي سمحت بظهور الأحزاب الجزائرية أولا ثم التطرق للجانب القانوني الذي يؤطر حركات وسكنات النسق الحزبي الجزائري وكذا العملية الإنتخابية بالجزائر. فبالرجوع للحزب السياسي كأهم مؤسسة سياسية داخل النسق السياسي العام، لما له من وظائف وادوار تسمح بتفجير التناقضات الإجتماعية والسياسية من خلال لعب دور الوسيط بين الحساسيات السياسية وكذا المدنية والطرف الآخر المتمثل في السلطة، من خلال برامج وتصورات تعددية تفرزها الأحزاب السياسية والخروج بصيغ توافقية أو بتوازنات بين هؤلاء الفاعلين حتى يأخذ النظام شكله الطبيعي وحفظ إستمراريته.
أولا: التصور العام حول بروز الظاهرة الحزبية بالجزائر.
يرجع تاريخ ظهور الحزب السياسي الجزائري كتنظيم مستمر، وكما هو متعارف عليه في أدبيات العلوم السياسية، للفترة التاريخية المرتبطة بالإستعمار الفرنسي، فالفكر السياسي والتنظيمي بالجزائر كان موجودا قبل الإحتلال الفرنسي، لكن غياب الإطار الحزبي كمنبر للتعبير عن التصورات والمفاهيم التي تؤمن بها هذه التنظيمات وبلورتها في شكل برامج سياسية ظل هو الحلقة المفقودة. فالوضعية التي عاشها المجتمع الجزائري من تنكيل، استغلال، اضطهاد وحرمانه من ممارسة حقوقه المواطناتية ضمن السياسة الإستعمارية الفرنسية، كانت بمثابة الإنطلاقة الأساسية التي خلقت شروط نشأة الحركة الحزبية بالجزائر، وحتى يتمكن من أداء وظائفه وإن كانت في تلك المرحلة تهدف بالأساس كحركة تحررية نضالية إلى إرجاع السيادة الوطنية الجزائرية وتحقيق الإستقلال. وإن كان هدف الأحزاب الجزائرية واحدا، إلا أن المقاربات المعتمدة في ذلك تختلف من حزب سياسي لأخر، هذا الاختلاف وبطبيعة الحال هو تأكيد على وجود تعددية حزبية حقيقية، ومحاولة الوقوف على المصادر الفكرية والفلسفية وراء هذا الإخلاف فإن أساسه كان من أحد التصورات التالية: _ التصور الليبرالي المنبثق عن التراث الفلسفي والسياسي الذي كانت تنشره المدرسة الفرنسية في أوساط البرجوازية الوطنية; _ التصور الإشتراكي المتمثل في الفلسفات والتطبيقات الاشتراكية التي انتشرت في الأوساط العمالية والنقابية بعد نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا; _ ثم التصور الديني الذي تمثل في التراث العربية الإسلامي الذي كانت تنشره جمعية العلماء المسلمين;
فدراسة وظيفة الحزب الجزائري بناءا على هاته التصورات يمكن تقسيمها إلى أربه تيارات أساسية: أ) التيار المطالب بالإستقلال: يترأس هذا التيار نجم شمال إفريقيا بعد أن كان حركة سياسية ليصير حزبا سياسيا على العموم قام هذا الأخير بأدوار ووظائف طلائعية، من خلال نشر أفكاره والتعبئة للقضية الوطنية الجزائرية في المنتظم الدولي تحت قيادة "مصالي الحاج" من خلال المطالبة بالإستقلال وإلغاء مسألة الإندماج الفرنسي الجزائري. ب) التيار الإصلاحي الديني: يتمثل هذا التيار بالأساس في جمعية العلماء المسلمين بالجزائر سنة 1931، والذي أعلن في مادته الثالثة من قانونه الأساسي انه يمتنع عن ممارسته للفعل السياسي، وإن كان يعي جيدا حسب مرجعيته الدينية مدى إرتباط الأمور الدينية بالدنيوية _الدين/الدولة_ حتى لا يدخل في صراع مع المستعمر، حقيقة لقد قامت هذه الجمعية بدور طلائعي في فترة الإستعمار يمكن تشبيه هذا الدور بالوظائف التأطيرية التي تقوم بها الأحزاب الحديثة، فلمواجهة الإستعمار كانت تعي جمعية العلماء المسلمين أن الشعب الجزائري غير قادر على المواجهة العسكرية، هو ما دفع بهذه الأخيرة إلى تبني إستراتيجية مغايرة لتحقيق الإستقلال من خلال نهج تكتيك تغيير العقليات أولا والتشعب داخل المؤسسات ونشر الثقافة الدينية معتبرة إياها الطريقة المثلى لتجنيد المجتمع الجزائري ضد الإيديولوجيا الإستعمارية. ت) التيار اللبرالي الإندماجي: ظهر هذا التيار في مطلع القرن العشرين، والمتشبع من المدرسة الفرنسية، يحمل أفكارا عربية ويؤمن بقيم فرنسية، طالب هذا التيار بإصلاحات إجتماعية في إطار النظام الإستعماري وتحت سيادة الحكومة الفرنسية، أو بصيغة أخرى أن يصبح الشعب الجزائري يتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن الفرنسي المقيم بالجزائر، فمطالب هذا التيار تطالب بإصلاحات تحت سقف السيادة الفرنسية غير مطالبين بالإستقلال وغير مدافعين عن القضية الوطنية الجزائرية. ث) التيار الإشتراكي: يتمثل هذا التيار في الحزب الشيوعي الجزائري سليل الحزب الشيوعي الفرنسي، إرتبطت وظائف هذا الحزب السياسي بالمطالب الإجتماعية وتغيير الوضع الراهن حيث تسود العدالة الإجتماعية ، وذلك من خلال التعبئة السياسية والتغلغل الإجتماعي واكتساح أكبر قاعدة جماهيرية، يرى أن القضية الوطنية مرتبطة أساسا بالقضية السياسية الفرنسية، والتي معها لا يمكن حلها إلا بعد وصول البلوريتاريا للسلطة بفرنسا. على ضوء هذه الإختلافات والرؤى كان لا بد من إطار تنظيمي يتجاوز الإختلالات النظرية والإديولوجية حتى لا تخرج هذه التيارات عن الاهذاف المرحلية والمتمثلة أساسا في تحقيق الإستقلال والسيادة الوطنية، ليظهر تنظيم سياسي وطني تنصهر فيه كل هاته الألوان السياسية، والمتمثل في حزب جبهة التحرير الوطني كقيادة ثورية جزائرية، فبغض النظر عن مسار تعامل الجبهة مع هاته التيارات في خضم مواجهة الآلة الإستعمارية الفرنسية، إلا انه لا يمكن ان ننكر جدارتها في تحقيق الهدف الأسمى الذي اتفقت عليه الأحزاب الوطنية الجزائرية، تحقيق الإستقلال الجزائري سنة 1962. فبعد الإستقلال وبعد أن سيطر تحالف الأركان مع بن بلة، رفض هذا الأخير العودة للتعددية الحزبية، ففرض نظام الأحادية الحزبية، حتى أن الحزب التحريري العريق _حزب الجبهة_ لم يكن إلا واجهة لهذا التحالف مما أبعده من أي دور سياسي ريادي، هذا النمط الحزبي الجديد الذي أعطى للجبهة واجهة للنظام العسكري جعل منه "نظام حزب الدولة" أي الحزب الوحيد الذي يحمل الشرعية السياسية للجزائر، في أطار هذا الواقع السياسي بدأت أحزاب سياسية في التأسيس والعمل في السرية، إلى أن دخلت الجزائر في الأحداث السياسية التي وقعت سنة 1988 بسبب الإنهيار الإقتصادي وتراجع أسعار البترول والصراع الإديولوجي أساسا. هذه العوامل دفعت بالنظام الجزائري إلى إدخال إصلاحات على المشهد السياسي الحزبي من خلال التنصيص في مقتضيات الدستور 1989 على نضام التعددية الحزبية، إلا أنه وبالرغم من ذلك لم تسفر تلك الإصلاحات في الحقيقة الواقعية عن نظام حزبي تعددي يكون فيه الحزب الحاكم نتيجة للإحتكام لصناديق الإقتراع المحايدة، فهذه التعددية لم تكن إلا شكلية لأسباب سياسية كما سنرى فيما بعد. فوظائف الحزب السياسي الجزائري في ظل نظام التعددية الحزبية لم يقم إلا بنفس الادوار والوظائف التي كان يقوم بها حزب الجبهة وهو دعم شرعية النظام الحاكم، وان التعددية الحزبية التي تم الإعلان عنها لا تعدو ان تكون سوى واجهة للممارسة الديمقراطية، لهذا نجد أن الحزب الذي فاز في انتخابات 1991 قد تم حله، ليس لأنه كان يحمل توجها إسلاميا، بالقدر ما كان حزبا مستقلا عن التصور الذي يتبناه النظام ويسعى إلى تطبيق برنامج سياسي البعيد كل البعد عن الهدف الذي كان يعمل به الحزب العريق والمتمثل في خدمة السلطة العسكرية التي تتحكم بزمام الأمور وبقبضة من حديد.
ثانيا: الإكراهات التي تحول دون ممارسة الحزب الجزائري لوظائفه.
يلاحظ أن الظاهرة الحزبية في الجزائر تتخبط في مشاكل تحول دون أدائه لوظائفه السياسية، ويعزى هذا الأخير لمركب مجموعة من العوامل المتداخلة التي تجمع بين ما هو ذاتي داخلي والأخر خارجي، فغياب الدوران السلس للنخبة الذي معه ترك إرث "شخصنة السلطة" وفق غياب منطق التناوب على السلطة، سواء تعلق الأمر بداخل الحزب أو بمفهوم السلطة المرتبط بمؤسسات الدولة، فهذا الواقع الذي تعيشه الأحزاب السياسية داخليا، سينعكس هو الأخر على العلاقة بين الحزب والمجتمع، فكيف يمكن أن نتصور أحزاب تفتقد معظمها إلى ديمقراطية داخلية وتواصل داخلي مبني على الحوار والتوافق أن يكون عكسه هو منطق العلاقة بين المجتمع والحزب ؟ هذا التصور يظهر جليا في ضعف الصلة بين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، مما يجعل الأحزاب الجزائرية تبتعد كل البعد عن أدائها لوظائف الوساطة أو ما يسمى في أدبيات العلوم السياسية بالوظيفة المنبرية، وبذلك أصبحت منبرا للسلطة الفعلية من خلال شرعنة قراراتها السياسية التي لا تمت بصلة للواقع الإجتماعي، فالوصف الذي يمكن تقديمه للواقع الحزبي هو أن هناك واقع أوليغارشي للأحزاب السياسية في ظل طموح ديمقراطي وتغييري. أما الملاحظات التي يمكن تقديمها من خلال قراءات للبرامج الحزبية في الإنتخابات التشريعية الأخيرة 2012 هي حقيقة غير واضحة مما دفعت بالمجتمع المدني إلى فقدانه أهمية تتبعها ناهيك عن البرامج التلفزية التي فضحت بالملموس ضعف قوة الإقناع ورداءة الخطاب السياسي والغير الموزون لأغلب مقدمي هاته البرامج هو ما يطرح للعيان تساؤل: كيف يمكن هكذا لقيادة أن تنوب على الشعب الجزائري وهي لا تجيد لا القراءة ولا فن الخطابة ؟ حتى لا نسمح بأنفسنا بفتح تساؤلات حول الأدوار الكاريزمية التي يجب أن تتوفر لهذه القيادة. فهناك غياب تصورات واضحة من خلال البرامج التي قدمتها الأحزاب الجزائرية، بل أن بعضها إكتفى فقط بإعادة صياغة نفس الخطاب السياسي في برامجها الحزبية، مما جعل المتتبع الجزائري يجد نفسه أمام حزب واحد عوض التعددية الحزبية الشكلية، فالتعددية الحزبية التي دخلت فيها الجزائر حقيقة لم تعكس تعددية في البرامج الحزبية، بالقدر ما أعادت تكريس منطق برنامج الحزب الواحد. إن الواقع الحزبي بالجزائر يدفعنا كباحثين في الظاهرة الحزبية بالجزائر إلى التساؤل: من يصنع الواقع السياسي بالجزائر ؟ إن الطابع الذي يطبع النظام السياسي عامة والحزبي خاصة منذ 1991 إلى اليوم من خلال قراءة أولية له، يدفعنا نحو الخلاصات التالية: عدم الإستقرار وميل النظام الحزبي نحو نظام الحزب المهيمن والتسلطي، وهو بطبيعة الحال تكريس فرضته السلطة وفق هندسة إنتخابية تعكس توزيع الحصص أكثر مما تعكس إنتخابات فعلية، ولعل النتائج الإنتخابية التشريعية الأخيرة خير دليل على ذلك حيث حصل الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني" على 220 مقعدا من أصل 462 بينما حصل حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يترأسه رئيس الوزراء أحمد أوحيي على 68 مقعدا ليقتصر حظ الإسلاميين المنضوين تحت تحالف الجزائر الخضراء على 48 مقعدا فقط. هذه الهندسة التشريعية أفرزت أصواتا معارضة تنادي بفساد إنتخابي وتزوير للنتائج وهو ما تزامن مع اعتقال احد القيادات الأساسية في جبهة الإنقاذ الإسلامية "علي بلحاج" وهي بمثابة سابقة خطيرة جدا لم تحدث في أعتى الديكتاتوريات العالمية، فالحزب الواحد لا يمكنه أن يعبر عن جميع التناقضات الاجتماعية، وما يقع ألان في النظام السياسي الجزائري لا يعدو أن يكون سوى محاولات لتغطية التصدعات الإجتماعية، عوض عرضها على المسرح السياسي لتجد التعبير التعددي المؤسساتي الحقيقي. فالنظام العسكري الجزائري لا يسمح إطلاقا بممارسة ديمقراطية تمثيلية، هو ما يجعل النسق الحزبي الجزائري في غير موضعه الطبيعي، فالسلطة العسكرية الجزائرية المتحكمة بزمام الأمور من خلال ممارستها للدور المزدوج للسلطة الفعلية في الباطن وممارسة السلطة المدنية في إطار قالب تعددي شكلي كانت نتائجه واضحة على مجموعة من المستويات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية. على النخبة السياسية الجزائرية أن تتجند بكل أطيافها وحساسياتها السياسية نحو مشروع جديد من خلاله يمكن أن يتنازل الجهاز العسكري عن تعنته وتحكمه الكامل بالسلطة السياسية، وهذا الأخير لن يتأتى إلى من خلال مشروع مبني على توافقات وتنازلات بعض القيادات الحزبية، حتى يتم وضع تصور جديد يمكن به أن تأخذ الجزائر إستقلالها الثاني من الآلة العسكرية بعد أن أخذته سنة 1962.
#عبدالرحمان_بينكو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين الكائن والممكن صوت وصدى ...
-
السياسة والاخلاق
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|