مروان عبد الرزاق
كاتب
(Marwan)
الحوار المتمدن-العدد: 3730 - 2012 / 5 / 17 - 16:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تحتفل الشعوب العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن, منذ بداية العام, بالذكرى السنوية الاولى لانتصار ثوراتها على رموز الاستبداد التاريخية, ودخولها مخاض البناء الجديد للدولة والمجتمع.
أما الثورة السورية المستمرة, والتي قدمت حتى الآن عشرات الآلاف من الشهداء والمفقودين والمشردين, تدخل عامها الثاني, ومازالت تراوح في منتصف الطريق. ولم تتوضح ملامح المستقبل بعد.
وهذا يثير أسئلة عديدة تتطلب الإجابة عليها وقفة متأنية لمسار الثورة خلال الأربعة عشر شهرا الماضية, وأهم الدروس التي يمكن التوقف عندها, في محاولة لفهم مايجري على الأرض ومحاولة الإجابة على السؤال الهام: مع استمرار الصراع المفتوح بين السلطة والشعب, هل الحرب الأهلية في سوريا حتمية؟.
-1-
فالنظام مازال يشعر بقوته الأمنية والعسكرية, وقدرته على ضبط المدن الكبرى وساحاتها الرئيسية, وحصاره للمدن والبلدات والقرى المنتفضة, وقصفها بالأسلحة الثقيلة, وقتل المتظاهرين بدم بارد, وأمام أعين العالم كله. وكذلك يحاول البحث عن ثوب جديد, بتعديله للدستور حتى يناسب مقاسه الجديد, وانتخابات جديدة...الخ. وكأنه لايوجد شعب ثائر داخل سورية. وهذا يؤكد لمن لم يحسم رأيه حتى الآن, بأن النظام الإستبدادي كتلة صماء غير قابلة للتعديل, وإن أي شرخ حقيقي فيها يجعلها تتفتت كالزجاج. ولذلك فهو لن يقبل بأي إصلاح حقيقي يمكن أن يؤدي إلى أن يشاركه أحد في السلطة. ومازالت عقلية الإستبداد الآسيوي الممتدة في تاريخنا لمئات القرون هي التي تحكم سلوكه ونظرته للشعب بأنه رعاع, أو قطيع أغنام. وهو يعمل وفق شعار" إما أنا أو الفوضى", "إما أنا, أو لا أحد", "إما أنا, أو الشعب", مما يؤكد على أن الصراع بين النظام والشعب, هو صراع حياة أو موت, صراع وجودي بين نقيضين, لم يعد ممكنا أن يتعايشا معا.
-2-
أما بالنسبة للثورة, ورغم ماحققته من إنجازات, إلا أنها مازالت تُراوح في المكان, وهذا يُشير إلى أن الثورة السورية في أزمة. وأخطار هذه الأزمة تتزايد كلما ابتعد افق الانتصار. ويمكن التوقف عند أهم ملامح هذه الأزمة:
أولها: المقصود بالمراوحة في منتصف الطريق, هو توقف انتشار الانتفاضة عند حدود الأقليات الدينية والقومية, والذين يشكلون ثلث السكان في سورية. وعند حدود مراكز المدن الكبرى وخاصة حلب ودمشق, والتي تضم الطبقة الوسطى والفعاليات الثقافية والدينية, وكذلك الأغلبية الصامتة التي لم تنضم للثورة حتى الآن, بالإضافة للبرجوازية الاقتصادية الصناعية والتجارية المتحالفة مع السلطة, والتي نشأت اصلا في حضنها, وشريكتها في نهب ثروات البلد.
وثانيها: وبدلا من ان ينضم الجيش للشعب, ويحسم المعركة لصالح الثورة, كما حدث في تونس ومصر, استطاعت السلطة أن تحافظ على تماسكه والسيطرة عليه لصالحها ضد الشعب. والانشقاقات القليلة التي حدثت في صفوف الجيش, وشكلت "الجيش السوري الحر", الذي لم يمتلك حتى الآن القوة الكافية لحماية الثورة, مقابل قوة النظام العسكرية والأمنية. وإنما أصبح في كثير من المواقع عبئا عليها, وحاجته إلى حاضنة إجتماعية مدنية تحميه من بطش النظام, كما حصل في "باب عمرو" في حمص, وكل المدن السورية المنتفضة.
وثالثها: عدم وجود قيادة سياسية حقيقية موحدة على الأرض للثورة. والتنسيقيات التي أفرزتها الثورة, ورغم وجود التنسيق فيما بينها, وتشكيل الهيئة العامة للثورة, إلا أنها مازالت تتمتع بالصفة المحلية المناطقية, دون أن تفرز حتى الآن رموزا سياسية , تقود فعاليات الثورة على المستوى الوطني, وأن تكون مقنعة للأغلبية الصامتة, وللأقليات.
وجاء المجلس الوطني الذي تشكل في ظرف كانت الثورة في حاجة ماسة لقيادة سياسية تعبر عنها وتقودها, وحصل على دعم الثوار في عموم سوريا. إلا أنه تبين بعد أكثر من نصف عام على تشكله, أنه لم يكن قادرا حتى الآن, على ان يكون قائدا حقيقيا سياسيا للثورة السورية وذلك لمجموعة من الأسباب,أهمها:
- وضع نصب عينيه مهمة وحيدة وهي العمل على استجداء التدخل الخارجي (الأمريكي-الغربي), مستلهما التجربة الليبية, كمثال راهن, تحت عنوان حماية المدنيين. وكأنه نفض يديه من إنضمام باقي الشعب للثورة. دون أن يدرك حتى الآن أن الغرب لن يتدخل عسكريا في سوريا لأسباب عديدة وأهمها: أن الغرب وأمريكا خاصة لم يتدخل تاريخيا لصالح أي شعب في ثورته لنيل الحرية والديمقراطية. وأن هذا الغرب لن يتدخل إلا إذا انزاح ميزان القوى في الداخل لصالح الشعب. عندئذ يتدخل لإحتواء الثورة والسيطرة على ثمارها. ومع ذلك مازال المجلس يكرر حتى الأن استجدائه للتدخل تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة الذي يسمح بالتدخل العسكري. وبذلك وضع الثورة السورية على مائدة القوى الدولية والعربية (الخلجية خاصة), كشحاذ يتيم بستجدي المعونة, تتقاذفه الصراعات الدولية والعربية. ورافقها بعض التصريحات المجانية, حول ضرورة تسليح الثوار, ليكمل بذلك دائرة عسكرة الثورة التي يسعى إليها النظام منذ البداية. وبذلك قدم للنظام خدمة مجانية على صعيد العسكرة من جهة, وعلى صعيد الإرتباط بالخارج من جهة اخرى, والتي يصفها النظام بالمؤامرة الخارجية.
- لم يقدم أي برنامج سياسي واضح ومقنع للأغلبية الصامتة, والأكراد بشكل خاص الذين استطاع النظام أن يسخر قسم كبير منهم لصالحه.
- لم يعمل في الداخل من اجل تطوير فعاليات الثورة وآلياتها.
- فشله في توحيد المعارضة. ونقلها من حالة المعارضة المسترخية, إلى حالة الثورة, إلى العمل تحت شعار إسقاط النظام.
وهذا لم يقلل من شجاعة الشباب في التنسيقيات, وشجاعة الشعب المنتفض في أغلب المدن, وبطولاته, واستبساله في الدفاع عن ثورته وحريته وكرامته. إنما بالعكس, لقد سطر هذا الشعب وبصدور عارية أروع الملاحم البطولية, في العصر العربي الحديث, في مواجهة البطش والقتل, وكل انواع الفظاعات التي يمارسها النظام ضد الشعب.
وهذا يعني أن الثورة السورية, رغم أزماتها, ودون أن تجد لها من يساعدها من العالم, لن تعود إلى الوراء, وقد حشرت النظام في النفق الضيق الذي لن يخرج منه. إلا أن الشعب السوري سيقدم المزيد من الشهداء, الذين قد يصل عددهم إلى مئات الآلاف.
-3-
يُضاف إلى ماسبق أن النظام عمل على حرف مسار الثورة منذ بداياتها ودفعها في اتجاهات مختلفة متكاملة:
- الأول حصرها في مراكز انطلاقتها وهي الجوامع, وهو المكان الوحيد المسموح فيه للتجمع من أجل الصلاة, ثم الانطلاق منه للتظاهر, كي يوصفها بالسلفية الدينية التي لاتلائم الشعب السوري, ثم أضافت بعض الفضائيات, مثل العرعور وغيره, بإكمال ماعجز عنه النظام, حيث أعطى للثورة السمة الإسلامية. وهذا واضح على الأقل من تسميات أيام الجمعة الثورية في سوريا, خلال الشهور الأخيرة. وللتوضيح أن الخوف ليس قادما من الإسلام المعتدل, إنما من التطرف الديني, مثل القاعدة وغيرها الذي يمكن أن يستغل التدين الشعبي, والذي قد يزداد تعمقا, وتعصبا, مع ازدياد البطش السلطوي الذي يتعرض له الشعب.
- والثاني: القتل والتمثيل بالمتظاهرين, وقصف المناطق السكنية بالاسلحة الثقيلة, وأُضيف اليها حديثا, التفجيرات الكبيرة في حلب ودمشق, من أجل خلق جو رعب وقتل متواصل, مما دفع بالثوار الى حمل السلاح للدفاع عن النفس, ثم جاءت الإنشقاقات القليلة في الجيش وتشكيل الجيش لسوري الحر, لتدفع بالثورة نحو العسكرة, في ظل ميزان قوى لصالح السلطة بشكل كاسح.
- كذلك عمل النظام على تحويل مسار الثورة نحو صراع طائفي بافتعاله بعض الصراعات الطائفية.
كل ذلك حتى يُوجد لنفسه مبررا أمام أنصاره, وأمام المجتمع الدولي, بأنه يقاتل "عصابات سلفية مسلحة", مرتبطة بمؤامرة خارجية, وهي اللازمة التي دأب عليها منذ البداية وحتى الآن.
يبدو من حيث النتيجة أن النظام نجح حتى الآن في كسب الأقليات إلى جانبه, وفرض مناخا مرعبا في المدن الكبرى, أعاد حاجز الخوف فيها من جديد, والذي حطمته الثورة في المناطق المنتفضة. إلا أنه فشل حتى الآن في عسكرة الثورة, وتحويلها إلى "عصابات سلفية مسلحة", وكذلك فشل في تحويل الثورة إلى حرب أهلية, ليختبأ خلفها كمنقذ للوطن! لقد أفشل الثوار حتى الآن, تحويل الثورة إلى حرب أهلية عدمية, والحفاظ على أن الثورة هي ثورة الشعب كله بكل مكوناته المختلفة, وأن الشعب السوري واحد. لكن إلى متى يمكن الحفاظ عليها هكذا, دون أن تحرفها عن مسارها أجندة داخلية وخارجية ستدخل في الصراع حتما, طالما أن هذا الصراع يمكن أن يستمر لسنوات قادمة وليس بعض الشهور كما يعتقد بعض المتفائلين؟.
-4-
إلى متى يمكن أن تستمر المراوحة في المكان بالنسبة للسلطة وللثورة؟ إلى متى يمكن أن يستمر هذا الصراع المفتوح بين الشعب والسلطة؟
بالتأكيد, لا يمكن لأحد أن يتكهن بمسار الصراع في المستقبل. لكن هناك بعض المقدمات التي أصبحت واضحة جدا:
- النظام لايملك أي حل سياسي يقدمه للشعب. والحل الوحيد عنده هو الإستمرار في الحل العسكري-الأمني حتى يسحق الإنتفاضة.
- والمعارضة أيضا لا تملك أي حل سياسي, لأن الشعب لم يعد يقبل بأية إصلاحات يقوم بها النظام, ويرفض أي حل لايتضمن رحيل بيت الأسد عن السلطة.
- النظام لن يكون قادرا على إبادة الشعب, والثورة لن تتراجع للوراء.
ولأن الصراع وجودي بين الشعب والسلطة, بين نقيضين لم يعد ممكنا التعايش السلمي بينهما. فالسلطة ستستمر في حلها العسكري حتى النهاية, وخيارها الوحيد أن تتلاءم مع وجود الشعب المنتفض, الذي قد يطول لسنوات. وهذا ليس لأن النظام قويا ومتماسكا, كثيا أو قليلا, بل لأنه الخيار الوحيد أمامه, إلى أن ينزاح ميزان القوى في الداخل لصالح الشعب.
لكن أيضا كيف يمكن للثورة أن تُسقط النظام؟
فالتظاهرات السلمية الجزئية والتي يبلغ عددها المئات, والتي حصرها النظام في الشوارع الضيقة, والبلدات والقرى, لن تكون قادرة على إسقاط النظام. ولا العقوبات الإقتصادية والسياسية التى فرضها الغرب على رموز النظام, ولا المراهنة على تردي الوضع الإقتصادي الذي يتدهور تدريجيا, ولا قرارات مجلس الأمن والجامعة العربية, والمراقبين العرب, ومراقبي الأمم المتحدة, وخطة كوفي عنان وغيره.. كل هذا لن يُسقط النظام.
وكما تُشير التجارب التاريخية الحديثة, فإن النظام السوري لن يسقط إلا في واحدة من الحالتين التاليتين:
الأولى: أن يتدخل الناتو عسكريا, كما حصل في العراق ولبيا. وهذا لايرغب به أغلب السوريين, لأنه سيحدث تدميرا فظيعا لكل مابناه السوريون في العقود الماضية, وسيحدث شرخا عميقا على كل المستويات بين مكونات المجتمع السوري, وهذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى حرب أهلية طاحنة, لا أحد يعرف متى ستنتهي.
والثانية: أن تنهض المدن الكبرى, ويميل بذلك ميزان القوى لصالح الثورة. وهذا سيحصل, إن لم يكن نهوضا سلميا, سيكون نهوضا بفعل إنتشار السلاح المتسارع بين أفراد الشعب, سواء من ناحية النظام, أو من ناحية المعارضة. لكن النظام لن يستسلم حتى لوحصل ذلك. وسيستمر في الحل العسكري, وعندئذ ستحصل إنشقاقات كبيرة في الجيش,. حيث سيتم تعميم السلاح على الجميع, وتبدأ الحرب الأهلية, والتي يراها النظام منفدا أخيرا له, لكن دون أن يُدرك أن الأوان يكون قد فات. ولم يعد ممكنا أن يكون النظام هو العدو والحكم في الوقت نفسه.
وأعتقد أن هذه الرؤية مستمدة من مؤشرات الصراع المفتوح بين الثورة والنظام خلال العام الماضي, والتي تؤكد الصراع الوجودي بين النظام, أو بدقة أكبر بين "بيت الأسد" والشعب. ومن التركيبة الأمنية والعسكرية الخاصة للنظام, التي تدفع بسورية نحو الحرب الأهلية. بما فيها الطبيعة الأمنية للمؤسسات المدنية للدولة, وهذا يشمل حتى النقابات المختلفة, ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية, والمرتبطة بالنظام عبر فروع الأمن المختلفة. هذه البنية أيضا, هي التي تُفسر عدم تفكك هذه المؤسسات المدنية وانضمامها للشعب حتى الآن, مثل النقابات, والسفراء, والجامعات, واتحاد الكتاب, والفنانين...الخ. إلا أنها ستتفكك مع نهوض المدن الكبرى, والتي ستؤشر إلى بداية سقوط النظام.
والسؤال الأخير: إذا كانت الحرب الأهلية هي النتيجة المنطقية, والواقعية, لمستقبل الصراع المفتوح بين السلطة والشعب, فهل يمكن لأحد, أو جهة, ان يُوقفها؟ على مستوى التمنيات, لا أحد في سورية يتمنى أن يصل الصراع في سورية إلى الحرب الأهلية, لأنها ستعيد سوريا إلى الوراء لعشرات السنين. لكن واقع الصراع أقوى من التمنيات. وليس هناك من يملك القوة الفعلية لوقف الحرب القادمة, سوى المراهنة على وعي الشعب السوري بكل مكوناته, والذي يبدو أنه الحل الوحيد, الذي سيكون قادرا على إحتواء شراراتها الأولى وإيقافها, كما يفعل حتى الآن.
#مروان_عبد_الرزاق (هاشتاغ)
Marwan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟