|
بصدد الماركسية، حول الأيديولوجيا و التنظيم
سلامة كيلة
الحوار المتمدن-العدد: 1094 - 2005 / 1 / 30 - 12:11
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الماركسية، ما الماركسية؟ مسألة الماركسية باتت مطروحة للنقاش منذ زمن، و قبل إنهيار المنظومة الإشتراكية، لكنها لم توصل الى نهاية. ربما لأن الحوار مجتزأ، أو يميل الى السطحية، لهذا يبقى السؤال ما الماركسية مطروح و مكرّر، و تبقى الإجابة عليه هي مهمة اليوم كما كانت بالأمس. بعد ذلك، لديّ ملاحظتان: الأولى: قلت في النص "كل شيء نسبي" في الماركسية، هذا ما حاولت التأكيد عليه، في عدد من الصفحات، ولقد حاولت حينها الاستناد إلى لينين، الذي يناقش هذه المسألة في "المادية ومذهب…"(13) لكن وجدت حينها أن ما يعالجه يختلف عما أريد. فهو، في ذلك النص، يحارب تفكك الماركسيين من خلال تركيزهم على مفهوم النسبية في الماركسية، لهذا شدد على المطلق، لأن التأكيد على النسبية في حينها كان يهدف إلى تجاوز كل الماركسية، بحجة أنها كلها نسبية، لهذا كان من الضروري التأكيد على أن في الماركسية ما هو مطلق. لكنني كنت أحارب الدوغما، المحوِّلة النسبي إلى مطلق، لهذا شددت على النسبي، وكنت في ذلك، أحارب منطقاً ما قبل رأسمالي، أشبه بأن يكون منطقاً "لا هوتياً"، أو أنه منطق العصور الوسطي (الفلسفي/الديني)، بالمعنى الأوّلي للنسبية حسب ما طرحته الماركسية أواسط القرن التاسع عشر. لأن المنطق السائد، المسمى "الدوغما" يحتاج إلى نقد من هذا القبيل، وربما أبسط منه، لأنه لم يصل حتى إلى المفهومات الأولية التي أدخلها الفكر البرجوازي الحديث (الشك، الذات الموضوع، الأنا/ الآخر…) وهي المفهومات إلى استند إليها المنطق الماركسي، عن طريق هيغل. أما لينين، فقد كان يحارب موجة الانحناء أمام النظرية النسبية، التي قام بها عدد من الماركسيين، بمعنى أنه كان يواجه تأثير العلم الحديث على الماركسية، الأمر الذي كان يفتح أبواب الشك بكلية الماركسية، مما كان يؤدي إلى عدم الركون إلى قانون. من هنا حاول لينين التأكيد على القانون، على المبدأ، على المطلق، لكن في سياق علاقته بالنسبي، كحدين، فالنسبي في حدوده مطلق، وهو نسبي قياساً بالمطلق. بمعنى أن النسبي يتحول في سياق الصيرورة إلى مطلق، كما يرتد المطلق إلى نسبي. كذلك فإن في النسبي ما هو مطلق، وفي المطلق ما هو نسبي. فالماركسية نسبية في سياق الصيرورة العامة لتطور المجتمع والفكر، حيث يمكن أن تفضي الصيرورة ذاتها، إلى نفيها، لكن في الوقت الراهن، في الماركسية ما هومطلق، ونقصد بالتحديد "روحها"، أي أن الماركسية بما هي منهجية هي مطلقة (الجدل المادي)، ما دام تطور العلم لم يفضِ إلى الشك بهذه المنهجية، ولكن ـ ايضاً ـ في هذا المطلق ما هو نسبي، حيث أن تطور العلم يمكن أن يسهم في تعديل بعض قوانين الجدل المادي الجزئية. وهذا لا يعني أن كل ما عدا الجدل المادي نسبي، بل أن هناك ما هو مطلق، مثل صراع الطبقات، والاشتراكية… لكن هذا المطلق نسبي أيضاً. وهذا هو الفارق بين القانون العام، وتمظهره الواقعي، أي القانون العام في سياق الصيرورة الواقعية. ولن أطيل البحث في هذه المسائل، لأنني بحثتها في سياق النص، حيث ميزت بين المنهج والقانون، وبينهما وبين النتيجة، ومتى تتحول النتيجة إلى قانون. لكن لابد هنا، من أن أعيد الأمور إلى نصابها فيما يتعلق بالعلاقة بين النسبي والمطلق، فلا شك أن التأكيد على النسبي يؤكد وجود المطلق، حتى ونحن نقول "كل شيء نسبي"، ولقد أوضحت السبب الذي حدا بي التشديد على النسبي، حيث كانت الدوغما الماركسية هي السائدة، وهي تشدّد، بما هي دوغما، على المطلق، أما الآن فإن الانقلاب قد تحقق، حيث جرى التخلي عن المطلق، وأصبح دعاة "الماركسية السوفياتية" الدوغمائيون، لا يكلّون من التأكيد على أن "كل شيء نسبي"، لكن ليس بالمعنى الذي كنت أريده، بل على الضد منه، فقد كنت وأنا أشدد على النسبي، أحارب الدوغما، من أجل إعادة صياغة الماركسية انطلاقاً من المنهجية الماركسية، أما ما يقصده "النسبيون" الجديد، فهو القول، أنه مادام كل شيء نسبي، فليس في الماركسية ما يستحق أن نتمسك به، على العكس من ذلك فإن التمسك به هو "الدوغما" بعينها، التي من المفترض أننا تجاوزناها. ليبدو ـ وفق هذا المنطق ـ أن كل ما لم تقله الماركسية صحيح. وكل ما قالته خاطىء. لهذا تكون النتيجة الطبيعية لهذا المنطق اعتناق مفاهيم رأسمالية، والدفاع عن الرأسمالية. النسبية هنا، هي الجسر لتجاوز الماركسية، للتخلي عنها، وهذا هو انقلاب الدوغما إلى دوغما معاكسة. والانتقال من ضلالة إلى ضلالة جديدة. إذن، أن التأكيد على النسبي لا يجب أن يلغي المطلق شرط أن تتحدد هذه العلاقة في إطار الصيرورة الواقعية. ولقد بيّنت في النص ما هو مطلق وما هو نسبي في الماركسية. الملاحظة الثانية: رغم أن القسم الذي يختص بالماركسية هو القسم الأساسي في النص، فقد آثرت تناول مسألتين كجزء من رؤية الماركسية، الأولى عن رؤية الماركسية للواقع العربي، ولاشك أنني أشرت إلى عناوين أساسية، لأن الماركسية ـ وهي تؤكد على تغيير الواقع، تؤكد أولاً على وعيه ـ لهذا كان لابد من الإشارة إلى الموضوعات الأساسية، وإلى التأكيد على تصورات، وإن كان هذا التأكيد أولياً، يطرح ضمن "خطوط عامة"، كنت بحثت فيها بشكل أكثر تفصيلاً في نصوص أخرى، لكن كان لابد من الربط بين الماركسية والواقع العربي، لأن نقل الماركسية من التجريد إلى التخصيص يفرض إعادة انتاجها عربياً، من خلال تحليل الواقع العربي إنطلاقاً من منهجيتها. والثانية عن توضّع الماركسية في البنية الطبقية، عن أي الطبقات هي التي يجب أن تحمل المشروع الماركسي، ولاشك أنني ـ أيضاً ـ قدمت رؤية مختصرة، تحتاج إلى تفصيل وتعميق. وهذا ما حاولته في نصوص أخرى، وما سوف أحاوله ثانية وثالثه ورابعة. يبقى أن نقول: أن الماركسية منهجية/ طريقة، يجب أن نفهمها هكذا، ومن هذا الفهم يجب أن نعي واقعنا، لكي نستطيع تأسيس التصورات القادرة على تمهيد طريق التغيير. الهوامش:. (13) انظر، لينين “المادية والمذهب النقدي التجريبي” سبق ذكره (ص147 ـ 154).
حول الايديولوجيا والتنظيم (1)
لاشك أن فرقاً يقوم بين الإرادة والموضوع، العامل الإرادي والعامل الموضوعي، رغم الحاجة إلى توحّدهما. وإذا الصراع الطبقي يجري في الواقع، لهذا تعبّر الطبقات الفقيرة المضطهدة عن ذاتها من خلال أعمال مختلفة، بعضها سلبي وبعضها إيجابي، وإذا كان هذا الصراع يبق مغلقاً، بمعنى أنه يأتي كرد فعل عفوي على حالة الاستغلال التي تحدثها الطبقة المستغِلة الحاكمة، فلا يستطيع التجاوز النوعي لهذه الحالة، حيث تبقى الطبقات المستغَلة، المضطهدة، مستغَلة مضطهدة، برغم ما يمكن أن يحققه نضالها من «تحسّن» معاشي، وبالتالي يجري الصراع الطبقي «موضوعياً» في إطار مغلق. فإن نقطة التجاوز، تتمثل في اتساع التمايز الطبقي، تفاقم الصراع الطبقي. وهنا نحن لا نقصد تفاقم الاستغلال فقط، فهذه خطوة لابُدَّ منها، لكنها لا تؤدي إلى الوصول إلة نقطة التجاوز، وإن كانت تهيء لها. الذي يُحدِث القطيعة ويحقق التجاوز، ويسمح بتفاقم الصراع الطبقي، هو عامل إرادي، يتعلق بالوعي والتنظيم معاً. فإذا كان نضال الطبقة العاملة، والطبقات المضطهدة عموماً، لا يسمح لها بأن تبلور «وعيها» المتناسب مع مصالحها، (وهنا يمكن أن نضيف مسألة «صغيرة» هي الوعي الشمولي، المتناسب مع المصالحة الشمولية، لتجاوز مسألة «الوعي» الجزئي، المنتج عن مصالح جزئية، هي مطلبية، معاشية (اقتصادية في الأساس) إذا كان النضال العفوي، لا يسمح بتبلور الوعي المعبر عن المصلحة الشمولية للطبقة، فإن تبلور الوعي العام في المجتمع، الذي هو انعكاس للتبلور الطبقي أساساً، لكن مع التأكيد أنه ليس انعكاساً ميكانيكياً، هو طريق الخروج من الحلقة المغلقة هذه. وهذا ما أسماه لينين اكتساب الوعي من خارج الطبقة(1). هنا يجب أن نشير إلى أن الوجود الموضوعي للطبقة العاملة يعكس نفسه في صورتين، على الصعيد الفكري، على صعيد الوعي، في صورة وعي جزئي، وهو الذي يؤسس للنضال المطلبي، وصورة وعي شمولي يتبلور في الفلسفة المادية الجدلية، وإذا كان الانعكاس الأول للوعي، يبدو انعكاساً ميكانيكياً، فإن الإنعكاس الثاني، يبدو معقداً. وهذا الذي يميز بين مصلحة «واقعية» لطبقة، ومصلحة «مستقبلية». أي يميز بين «الواقع» والحلم، الواقع غير الواقعي والحلم الواقعي. وهو الذي يميز بين الوعي الزائف، والوعي الحقيقي. هذه الصيغة من الفهم، توجد إشكالية محددة، أو أنها توضح إشكالية محددة، هي إشكالية الوعي الشمولي. فإذا كانت الظروف العامة تسهم في تفاقم الصراع الطبقي، فإن انتكاسة هذا الصراع تبدو نتيجة غياب الوعي الشمولي، الذي يعني الوعي الأيديولوجي، المعبّر عن مصلحة الطبقة العاملة. هنا ننتقل لمناقشة هذه القضية، قضية الوعي المعبَّر عنه في أيديولوجيا، الأفكار والمفاهيم الأيديولوجية، المعبِّرة عن مصلحة الطبقة العاملة. إن نقطة التجاوز هي اكتساب الوعي الشمولي، الوعي العلمي. وإذا كانت الطبقة العاملة لا تستطيع ذلك، بمعنى أن هذا الوعي لا ينمو «ذاتياً» داخلها، فإن بلورته وإيصاله من مهمة فئة قادرة على ذلك، هنا يأتي دور الحزب، من خلال إتحاد هذه الفئة بالطبقة (وليس العكس)، اندماجها فيها. وبالتالي السعي من أجل بلورة تصور أيديولوجي يعبّر عن رؤية الطبقة العاملة، وينطلق من مصلحتها. لكن هذه الأيديولوجيا تتجسد في برنامج نضال طبقي، يحوي مسألتين، التصور الاقتصادي والمطالب الاقتصادية، والتصور السياسي، والنضال السياسي. لذا كان ضرورياً «فحص» السائدة في الوطن العربي، انطلاقاً من جذورها، ووصولاً إلى تجسيداتها. ولاشك أن هذه القضية هامة، خصوصاً بعد التجربة الطويلة التي نشطت فيها الحركة الماركسية، وبعد التطورات السياسية والفكرية التي تحققت. وإذا كانت الماركسية قد أصبحت الأكثر انتشاراً، على صعيد الحركة الساعية نحو التقدم، فقد كان ضرورياً نقد تصور محدد للماركسية، ليس في المجال السياسي فقط، بل وأساساً في المجال الأيديولوجي. ولكن الأهم هو محاولة بلورة تصور أيديولوجي معين يعبّر عن مصلحة الطبقة العاملة العربية، والفلاحين والفقراء العرب. إن تبلور هؤلاء في «كيان» مسألة في غاية الأهمية، بعدما «قزّمت» الحركة الماركسية المعبِّرة عنهم ذاتها إلى الحد الذي جعل دورها ثانوياً ومساعداً ليس إلا. إن التمايز مهمة المرحلة الراهنة، ولا تقدم بدون تحقيق هذا التمايز. فمن هي الطبقة العاملة الراهنة، ولا تقدم بدون تحقيق هذا التمايز. فمن هي الطبقة العاملة العربية؟ وما هي مصالحها، الاقتصادية والسياسية؟ ما هو دورها؟ ما موقفها من الطبقات الأخرى؟ ما هو طرق نضالها؟ هذه مهمة راهنة.... لكن من الضروري البدء بها. لهذا سوف نتناول ثلاث مسائل غدا توضيحها أمراً ضرورياً: الأيديولوجيا ونقد الماركسية الرائجة، الأيدولوجيا والبرنامج، بنية الحزب الطبقية.
2 نقد الأيديولوجيا تنبع أهمية القضية الأيديولوجية، من ارتباطها ببرنامج النضال الثوري. إن قيمة المنهج الأساسية تقوم، في قدرته على تحليل الظروف الواقعية، وفهم الإشكالات القائمة، ومن ثم تحديد أساليب التغيير الثورية، القادرة على تحقيق التغيير المطلوب. ولقد كانت مشكلة الخط الشيوعي التقليدي(*)، أنه لم يستطع تحليل الظروف الواقعية، بسبب الجمود النظري الذي استشرى. ولهذا فإن الاهتمام بالقضية الأيديولوجية، نابع من الحاجة لبلورة البرنامج القادر على توحيد الجماهير الشعبية، وعلى تحقيق الانتصار. والبرنامج ليس الأهداف العامة فقط، بل التصور النابع من رؤية مرحلة تاريخية، ومعرفة حركة الأمة الصاعد. وهو بذلك، ليس الشعارات العامة فقط، بل الرؤية التي تكون الشعارات نتاجاً لها. وكذلك الخطوات التي تسهم في تحقيق تقدم الأمة. وقضية الأيدولوجيا هي القضية الأكثر أهمية في التنظيم، لأنها أساس العمل كله، فهي «الزاوية» التي ينظر من خلالها، وهي الرؤية التي يقوم على أساسها العمل الثوري كله. فالأيديولوجيا أولاً وأساساً منهج في التحليل، وهي ثانياً منظومة الأفكار حول العالم والحياة عموماً(2)، وانطلاقاً من ذلك فإن تبني أيديولوجيا ثورية سوف يفرض تبني برنامجاً ثورياً، وبنية تنظيمية ثورية. والأيدولوجيا الثورية في عصرنا الحاضر، هي الأيديولوجيا العلمية، التي أرسى أسسها كل من ماركس، إنجلز ولينين. ومن هذا المنطلق، فإن تحديد رؤية صحيحة فيما يتعلق بالأيديولوجيا، هو أساس تحديد البرنامج وبناء الحزب، وتحقيق الثورة القومية الديمقراطية. وفي هذا المجال لم يعد هناك خيار، خصوصاً بالنسبة للشعوب المتخلفة، ليس لسبب إلا لأن التطورات العالمية، وتطور العلم قد حسما المعركة نظرياً، من خلال ارتباط التقدم بالخيار الاشتراكي. فقد أصبحت الماركسية هي الأيديولوجيا الثورية الوحيدة، ولهذا نشأت ظاهرة التحوّل، من القومية والليبرالية إلى الماركسية، انطلاقاً من رؤية واعية، أو على أساس عفوي(3)، لكن النقطة الجوهرية هنا، تتمثل في وجود رؤيتين متناقضتين تسودان صفوف الماركسيين، الرؤية الأولى: وهي الرؤية الجامدة، التي تقوم على أساس «النقل» وترديد الشعارات. والثانية: هي الرؤية العلمية الثورية القائمة على أساس التحليل الملموس للواقع الملموس. ولما كانت الرؤية الأولى لها جذورها وامتداداتها، وهي الرؤية السائدة، كان من الضروري نقدها، نقد منطق النقل، والتمسك بالشعارات، ونقد الجمود لأنه يخرج التحليل عن كونه مادياً، ويحوّله إلى تحليل مثالي، غير واقعي، يرى ما قيل في الماضي، أو في ظروف مختلفة عن ظروفنا أنه واقعنا، وبالتالي فهو لا يحلل واقعنا. كما أنه لا يستطيع تحديد أسس التطور المستقبلي بجعله الماضي هو المستقبل. لذلك يجب نقد الجمود الذي لحق بالفكر الماركسي، خلال السنوات الخمسين الماضية، أي يجب نقد الخط الشيوعي التقليدي، بهدف إعادة الروح العلمية للماركسية، ضد الجمود، وإعادة الروح الثورية لها ضد الإصلاحية، والروح الديمقراطية، روح البحث والدراسة، النقد والنقاش، هذه الروح التي غابت منذ هيمن ستالين على الحزب الشيوعي السوفييتي، وفرض وحدانية الفكرة، ووحدانية القائد. إن المنهج المادي الجدلي، هو المنهج لتحقيق الذي يرتبط بمصالح الطبقات الجذرية دائماً، في سعيها لتحقيق أهدافها، وصولاً إلى تحقيق الاشتراكية. وهو المنهج الصحيح، الذي من خلال امتلاكه نستطيع فهم ظروف بلادنا، وتحديد أهداف ثورتنا لذلك فإن نقد الجمود الذي أصبح سمة لدى الأحزاب الشيوعية عموماً، مهمة أساسية، لكي يبقى المنهج طريقة في الوصول إلى فهم دقيق لظروفنا، وللظروف العالمية المحيطة. إن ذلك هو المدخل الحقيقي لتحديد أهداف نضالنا، وفهم واقعنا فهماً علمياً، يسهم في تأسيس نظرية ثورية، تهيئ الظروف لتحقيق ثورة جذرية، تحقق مصالح الجماهير الشعبية، مصلحة الأمة أساساً، وكذلك مصلحة الطبقة العاملة العربية. المنهج المادي حقيقة واقعة: إن اعتماد المنهج المادي الجدلي، منهجاً في التحليل تحديد المواقف السياسية والأيديولوجية، ناتج عن أنه المنهج العلمي الوحيد(4)، الذي تأكدت صحته خلال قرن من الزمان. ولقد جاء المنهج المادي الجدلي، تعبيراً عن مسار التطور الفلسفي(5)، الذي بدأ منذ القرون القديمة، وبشكل خاص منذ نشأت الفلسفة اليونانية. وكان هذا المسار، يحمل في أحشائه، اتجاهاً مادياً، كان جنينياً زمن اليونان، لكنه تطور مع تطور الحياة الاجتماعية، وتقدم العلوم. وظهر واضحاً في الفلسفة العربية خلال عصور ازدهارها، مما جعل الربط ممكناً بين الفلسفة اليونانية، والفلسفة الأوروبية الحديثة. إن التقدم الفلسفي الذي حدث خلال العصور المختلفة، كان يبرز الجانب العقلاني، ضد الاتجاهات الغيبية المثالية. وكانت الثورة البرجوازية، القابلة التي أنجبت الفلسفة المادية، لأنها أسهمت، في تقدم العلوم الطبيعية، إسهاماً كبيراً، ولأنها أسهمت في تطور الفلسفة عموماً، من خلال الظروف الملائمة التي أوجدتها، نتيجة إسقاطها كل أشكال القمع الأيديولوجي، التي كانت سائدة خلال العصور السابقة لها، ومنها عصر الإقطاع، بشكل خاص، حيث تحكمت الأيديولوجيا اللاهوتية، بكل تطور. فسمحت بحرية الرأي والتعبير والبحث، رغم أنها عادت وفرضت قيوداً على ذلك، بعدما عاشت الرأسمالية أزمة حادة كادت تطيح بها، وساعدت هذه الظروف على نقد السماء، ونقد الأرض. كما جاء المنهج المادي الجدلي، تعبيراً عن ارتباط الإنسان بالحياة المادية في مرحلتها المتقدمة، مرحلة الصناعة الحديثة، فأصبح أداة تحليلها. وكان نشوء الطبقة العاملة تعبيراً عن هذه المرحلة من الارتباط. لقد كان انتصار الرأسمالية، يعبّر عن انتصار فئة اجتماعية قليلة العدد، تملك رأس المال، والصناعة، وتوجِّه الدولة لخدمة صالحها. في المقابل، أوجد هذا الوضع، الطبقة العاملة، التي أصبحت تمثل أكثرية السكان. وهي أكثرية مسحوقة، لا تملك سوى مجهودها العضلي، ولا تعيش إلا إذا وجدت عملاً. وهي مجبرة على بيع قوة عملها «بالمفرق»(6). أما وقد برزت الطبقة العاملة، وازداد عددها لتمثل أكثرية المجتمع في الدول الصناعية المتقدمة، فلقد أصبح انتصارها يعني انتصار الأكثرية، وكان المنهج المادي الجدلي، يعني خدمة الأغلبية الساحقة في المجتمع، ولهذا إتحدا...(7). وأصبح المنهج المادي الجدلي، منهج الطبقة العاملة، المنهج الذي ترى من خلاله العالم، وأخرى الظروف الاقتصادية الاجتماعية، السياسية المحيطة وتحدد من خلاله النظرية الثورية، نظريتها من أجل التغيير الثوري. وإذا كان تطور الفكر الفلسفي، منفصلاً عن تطور الطبقة العاملة «إذ أنه لا يمكن للعمال أن يحصلوا على هذا الوعي إلا من خارجهم»، «أما التعاليم الاشتراكية فقد انبثقت عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات المالكة، وضعها المثقفون»(8)، فإن مهمة الحزب الماركسي الثوري، تقوم أولاً في الربط بين «التعاليم الاشتراكية»، والطبقة العاملة، و إدخال الوعي للطبقة العاملة. وهذا الدور هو الذي أدى إلى انتصار ثورة أكتوبر في روسيا، لكن بالتحالف مع الفلاحين الفقراء، كما أشار لينين. لقد جاءت التطورات التي شهدها العالم، خلا القرن الماضي، لتبرز أهمية المنهج المادي الجدلي، وتؤكد صحته. ويمكن ملاحظة ذلك من الظواهر التالية: أولاً: إن العلوم الطبيعية، أثبتت صحة ما جاء به المنهج المادي الجدلي، وأكد ما قام عليه. رغم أن أبرز نقاط ضعف فيه، لاشك في أنها تحتاج إلى بحث. ثانياً: ولقد انتصرت الشعوب التي اعتنقته، فأصبحت الاشتراكية نظاماً عالمياً، ينافس النظام الرأسمالي، وتزايدت الأمم المتجهة صوب الاشتراكية(*). ثالثاً: كما أن مفكري النظام الرأسمالي، اتجهوا للاستعانة به، لفهم أزمات النظام الرأسمالي، ولمعالجة إشكالاته، وحاولوا الاستفادة من ذلك في إطالة عمر نظامهم. ولاشك في أنه كل النظريات التي عبّرت عن البرجوازية بهذه الصيغة أو تلك استندت إلى فكرة ما في الماركسية، كما أصبحت مفاهيم ماركسية جزء عضوي من علم الاجتماع البرجوازي، علم الاقتصاد البرجوازي. لقد شهدت المنهج المادي الجدلي، موجة عارمة من التشكيك، والاستخفاف، حين توصل إليه ماركس وانجلز، حيث سنَّت البرجوازية، كل حرابها لإثبات بطلانه، وهزيمته، لكنها فشلت. وهي أليوم، تعترف شيئاً فشيئاً به، وإن حاولت الاستفادة من نقاط ضعفه، ولكن أساساً، من أخطاء التجارب التي قامت على أساسه، لإضعافه وهزيمته. وإذا كان الهجوم منصّباً في بداية الأمر، على جوهر المنهج، أي على قوانينه الأساسية، تحوّل اليوم إلى الهجوم على التجارب التي تعتمده طريقة في التحليل، كما على إثارة كل النعرات ما قبل الرأسمالية ضده أي نعرات القبلية والطائفية، خصوصاً في البلدان المتخلفة حيث يمكن إثارة مثل هذه النعرات. وهذا يعبرّ عن عجز في مواجهته وجاهة. إن صحة المنهج تنطلق من أنه يقوم على العلم والعلم يبحث في الظروف الواقعية، ويدرس القضايا الملموسة، ولا يبحث في الغيب أو يدرس التخيلات. وكلما تقدمت العلوم الطبيعية، وتطورت الصناعة، ازدادت أهمية هذا المنهج، وتوطدت أركانه. البلدان المتخلفة وارتباط التحرر بالاشتراكية: وفي البلدان المتخلفة تبرز القضية بشكل جليّ، فلقد ارتبط تحررها، بالاشتراكية، فانتصرت الشعوب التي قادتها أحزاب ماركسية، وهزمت كل التجارب الأخرى، غم التقدم الذي حصل، والذي يتفاوت من تجربة إلى أخرى، ومن موقع إلى آخر. وإذا كان ممكناً الاستقلال السياسي لبلدانها، فلقد اختلفت الأمور، منذ أن أوجدت الرأسمالية نظاماً عالمياً، يعتمد السيطرة الاقتصادية، بدلاً عن الاحتلال العسكري. إن أوجه الصراع بين البلدان المتخلفة، والبلدان الرأسمالية، لا تقتصر على الصراع السياسي، أو الاقتصادي الاجتماعي، بل تطال الجانب الايديولوجي، حيث ارتبط التحرر من الاستعمار الإمبريالي، بالصراع ضد الايديولوجيا البرجوازية. فالبرجوازية هي التي تستعمر الأمم المتخلفة، وأي تبن لايديولوجيتها، يفقد الصراع صفته الجذرية، ليتحول إلى صراع من أجل الاستقلال السياسي، وزيادة الدور الاقتصادي للفئات البرجوازية المحلية، ضمن علاقات الارتباط بالسوق الرأسمالية. وهذا ما حدث في السنوات الماضية، حيث استطاعت البرجوازية، أو البرجوازية الصغيرة إيجاد أشكال من «الدول المستقلة»، لكن الامبريالية استطاعت في المقابل ايجاد علاقات تبعية جديدة، أعادت السيطرة عليها. ضمن ذلك فإن الماركسية هي الايديولوجيا الجذرية، في الصراع الجذري بين الاستعمار (قديمه وحديثه)، وبين الجماهير الشعبية، التي تعبر عن إرادة التغيير. فالماركسية هي الأيديولوجيا النقيض، للايديولوجيا البرجوازية، والتي تعبّر عن مصالح الطبقات الأكثر سحقاً وفقراً. ولما كان التطور الرأسمالي المستقل، في زمن غدت فيه الرأسمالية نظاماً عالمياً، غير ممكن(9)، بسبب طابع المنافسة الحرة، الذي يمثل جوهر الرأسمالية، فإن المشروع الماركسي، يبدو هو الوحيد الممكن. لأنه الوحيد الذي يتأسس على الضد من النظام الرأسمالي العالمي، لأنه ينطلق من الحاجة للخروج من سيطرة هذا النظام. أما على الصعيد العربي، فقد ارتبط التحرر بالاشتراكية، وحسمت هذه القضية لدى أقسام أساسية من المثقفين، ولدى الطليعة السياسية، بعد انهيارات كبيرة شهدتها الحركة القومية العربية، خلال الأعوام المائة الماضية، لقد فشل المفكرون البرجوازيون في بناء ثقافة برجوازية متماسكة، مندمجة بالواقع العربي، وتسهم في إيجاد أرضية التغيير الرأسمالي المستقل، نتيجة افتقاد البنية الرأسمالية، ونتيجة استثارة الاحتلال الرأسمالي الأوروبي للوطن العربي للأيديولوجيا الدينية، وكذلك نتيجة محاربة القوى الاستعمارية ذاتها لهذا الاتجاه، لأنها حرصت على بقاء البنية ما قبل رأسمالية، أي بقاء البنية الإقطاعية والعشائرية (البدوية)، وبقاء تعبيراتها الايديولوجية (الاتجاهات الأكثر سلفية في الدين). وجاءت الفئات المثقفة والقيادات السياسية من البرجوازية الصغيرة بعد اندحار المثقفين البرجوازيين، وضياع أفكارهم لتطرح أفكاراً أكثر تشويهاً، نتيجة تشربها بالأفكار الايديولوجية السائدة، وتعلمها على يد المثقفين الرأسماليين، في مرحلة انحطاط الفكر البرجوازي، وخصوصاً بعد تفاقم أزمات الرأسمالية، وفي ظروف اتضح فيها عجز البرجوازية المحلية، وبالتالي عجز المشروع الرأسمالي، ولأنها لا تطرح مشروعاً غير المشروع الرأسمالي، بسبب طبيعتها كفئة مالكة، وتسعى لزيادة ملكيتها.. لهذا لم تؤسس فكراً راسخاً، ولم تستطع تحقيق التغيير المنشود. ولذلك اتجهت أقسام منها إلى الماركسية، بعد التجربة المرة التي عاشتها، والفشل الذي واجهته. وقد أسهم هذا الفشل في إقناع فئات متزايدة من المناضلين بأن الماركسية هي طريق الخلاص. لكن أية ماركسية؟ فقد تواجدت الأحزاب الشيوعية، منذ ستة عقود، ولم تحقق أي انتصار، وكان هذا الفشل من الأسباب التي جعلت المناضلين، ينخرطون في صفوف الأحزاب القومية. فكيف يمكن العودة إلى ماركسية فشلت؟ رغم ذلك عاد المناضلون لها في ثوبها الماوي، بعد الثورة الثقافية في الصين التي أدت إلى انتشار موجة اليسار الجديد، أو في ثورها الفيتنامي. لكن الأزمة طالت اليسار الجديد، فانقسم، وتفتت، ولم يحقق أية خطوة إلى الأمام. لهذا يطرح السؤال، أي ماركسية؟ الصراعات في الماركسية: إن السؤال حول «أية ماركسية؟» ليس جديداً، ولا هو نتاج الصراع الايديولوجي في الوطن العربي، فقد عاشت الماركسية منذ نشأتها صراعاً، تمحور حول اتجاهين: الأول جامد وشكلي، يتمسك بالشعارات، ويبتعد عن التحليل، ويردد النصوص ويهمل المنهج، والثاني علمي ثوري، ينطلق من أن الماركسية منهج أساساً، منهج لتحليل الظروف الواقعية، بهدف إجراء عملية تغيير ثورية تخدم الطبقات الأكثر فقراً. بدأ الصراع زمن ماركس، مما دعاه إلى التأكيد أنه ليس ماركسياً(10)، حين وجد من يتمسك بالمقولات الجاهزة، أي بالنتائج، ويتناسى منطق التحليل الذي قاد إليها،منطلقاً من أن العلم يقف ضد الجمود، ويقوم على التحليل، تحليل الظروف الواقعية، وينطلق من أن الواقع هو «المادة الخام»، التي جيب تركيز المجهر عليها «لفحصها». ودراستها، للوصول إلى نتائج علمية. ولا يقوم على التمسك بالأفكار المسبقة التي تطوّع الواقع لمصلحتها. بعد ماركس مرّت الماركسية بأربع مراحل، المرحلة الأولى كانت مع ظهور برنشتاين، ثم الأممية الثانية، ورغم التناقض بينهما في مرحلة محددة، فقد مثلا حالة واحدة. برنشتاين «طوّع» الماركسية للرأسمالية، بتحويلها إلى ايديولوجيا إصلاحية، هدفها ليس التغيير الثوري الجذري، بل «ترقيع» عيوب الرأسمالية، وجاءت الأممية الثانية لكي تكمل ما بدأه برنشتاين، بتكريس الايديولوجيا الإصلاحية. لهذا أكد لينين أن هذه النزعة «ترمي إلى قتل الماركسية عن طريق اللطافة ـ وخنقها بالمعانقة، بالاعتراف المزعوم بجميع ـ الجوانب والعناصر، العلمية فعلاً ـ في الماركسية، باستثناء جانب ـ التحريض ـ وـ الديماغوحية ـ وـ الطوبوية البلانكية ـ وبتعبير آخر، تقصد هذه النزعة أن نستخلص من الماركسية كل ما هو مقبول بنظر البورجوازية الليبرالية، بما في ذلك النضال من أجل الاصلاحات والنضال الطبقي (باستثناء ديكتاتورية البروليتاريا)، والاعتراف (العام) (بالمثل العليا الاشتراكية)، والاستعاضة عن الرأسمالية (بنظام جديد)، وإن تنبذ ـ فقط ـ روح الماركسية الح، روحها الثوري ـ فقط»(11)، ولقد كرس هذا الخط، الذي كان خطاً عالمياً، شمل البلدان الرأسمالية، وروسيا، وامتد إلى البلدان المختلفة فيما بعد، كرس منطقاً جامداً، يعتمد النصوص، ويبتعد عن التحليل. رغم أنه ابتسر الماركسية وأخذ منها ما يخدم تصوراته. وكانت المرحلة الثانية، مع ظهور لينين والحزب البلشفي. فقد لعب دوراً أساسياً في الصراع ضد الجمود النظري، وفي تكريس علمية الماركسية(12). وضد الإصلاحية السياسية، من أجل تأكيد الروح الثورية للماركسية(13). ولقد انتصر نظرياً كما انتصر سياسياً، حين استولى على السلطة في روسيا القيصرية. لقد تكرس الخط العلمي الثوري في الصراع ضد القيصرية، وضد الرأسمالية العالمية، ومن خلال الممارسة الثورية. وكان منطلق لينين الأساسي يقوم على نقطتين، أولهما: التحليل الملموس للواقع الملموس، وثانيهما أن الواقع أغنى من كل تصوراتنا. لذلك اعتمد التحليل والبحث والدراسة، لفهم الظروف الواقعية، على الضد من الجمود القاسم على تأليه النصوص وتقديسها. فكان مع الثورة ضد الإصلاح، مع قيادة البروليتاريا للثورة ضد قيادة البرجوازية، لذلك نهضت الماركسية من جديد، وتحوَّلت إلى حقيقة ملموسة، وانتشرت، انتشار النار في الهشيم. جاءت المرحلة الثالثة مع صعود الستالينية، ورغم التغييرات الجوهرية التي أجراها ستالين في الاتحاد السوفييتي، وأسهمت في نهوضه وتقدمه، إلا أنه أعاد تكريس منطق الجمود النظري، وتقديس النصوص، وتعميم «منهج القوالب الجامدة»(14)، حيث لم تعد الماركسية متميزة ـ على الصعيد المعرفي ـ عن الايديولوجيا السائدة قبل ثورة أكتوبر، فقد امتصت «بعض عناصر التقاليد البيزنطية المتأصلة في روسيا، وبعض عناصر أسلوب الروم الارثوذكس»(15)، ولقد ساد هذا الخط في الحركة الشيوعية العالمية لفترة طويلة. ولازال قوياً متماسكاً، ونقده هو المهمة الأكثر أساسية اليوم، لكي يصبح ممكناً تحقيق ثورة جذرية، وإن النهوض الثوري الجديد في الوطن العربي، يجب أن يشمل في احد جوانبه، نقداً جدياً لهذا الخط، من أجل تحقيق عملية التغيير الثورية الجذرية. فالمطلوب هو اكتساب الوعي العلمي القائم على أساس المادية الجدلية، والقادر على «فك الغاز» الواقع العربي الراهن. والستالينية، وبما تعنيه من جمود على الصعيد النظري، لا تسهم في ذلك، بل تقف حجر عثرة أمامه، لأنها تكرس منطقاً، يعتمد النصوص الجاهزة، التي تحدد الواقع قبل أن يوجد، أنها تكرس منطقاً لاهوتياً تماماً. المرحلة الرابعة بدأت مع انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، حيث انفتحت آفاق نقد الستالينية. والسمة الأساسية التي وسمت هذا النقد، هي أنه تركّز على جانب واحد فيها، يتعلق بـ«بدعة تقديس الفرد»، ولم يطل الجوانب الأخرى، لهذا كان تجاوز الستالينية بطيئاً، في الاتحاد السوفييتي، ولم يصل إلى مدياته المطلوبة بعد، ولاشك أن العودة إلى نقد الستالينية في الاتحاد السوفييتي يمثل مرحلة جديدة بحاجة إلى الاهتمام. في مقابل ذلك نشأت ثلاث اتجاهات جديدة، ولقد مثلت اتجاهات جديدة، وإن كان بعضها لم يعتبر أنه يمثل تجاوزاً للستالينية. فقد نشأت الماوية، منذ أواسط الستينات، بعد تفاقم الخلاف الصيني السوفييتي وعلى أثر الثورة الثقافية الكبرى في الصين، وهي تجربة تمسكت بالستالينية(16)، رغم قدرتها على الاختلاف مع ستالين في حياته، وكذلك قدرتها على ربط الماركسية بظروف الصين ووعيها للماركسية وعياً صحيحاً. انتشرت الماوية (التي أطلق عليها اسم اليسار الجديد)، في مناطق مختلفة من العالم على ضوء الهزائم التي كانت تعيشها الشعوب، وإثر الموقف النقدي الذي اتخذته الصين، من «الماركسية السوفياتية»، اللاحقة للستالينية. وأصبح المثال الصيني مثال يحتذى، كما كان المثال السوفييتي، وهكذا ظلت قضية «النقل» هي السائدة، فقد كان الخط الماركسي في الماضي «يستلهم تعليمات موسكو المكتوبة وغير المكتوبة، فأخذ يستلهم أدبيات بكين. والفرق في نظرنا ليس كبيراً، وإن اختلف الخطان، لأن التقليد والتبعية مرضان عضالان داخل المدارس الشيوعية العالمية، جمداها وشلاها وشوهاها..»(17)، ورغم أنها أثرت في مفاهيم القوى الماركسية الجديدة (اليسار الجديد)، وأصبحت مثالاً على صعيد حرب الشعب، والثورة الديمقراطية، فقد برزت كفقاعة سرعان ما انتهت، رغم استمرار تأثيرها في «وعي» بعض الاتجاهات. وفي نفس الوقت ظهرت الشيوعية الأوروبية، التي حاولت موائمة الماركسية مع ظروف أوروبا في العصر التكنولوجي، لكنها اتجهت نحو الاصلاحية، وإلى التكيف مع وضع الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية. كما برزت اتجاهات تدعو إلى تجاوز الماركسية، انطلاقاً من أنها «شاخت»(18). لهذا يمكن القول أن «اليسار الجديد»، حاول ابدال جمل بجمل، ونصوص بنصوص، متجاوزاً قضية المنهج، التي أولاها ماوتسي تونغ اهتماماً لا يستهان به(19). وتبدو الاتجاهات الجديدة كمحاولات لتجديد المنطق ذاته، منطق «النقل» وترداد النصوص، بأشكال وأغطية جديدة. رغم أنه يعبّر عن شعور بضرورة الإشكالية التي عاشتها الماركسية. لكن النقد لم يطل المسألة الجوهرية، لم يوجه نحو «الجمود النظري» الذي اتخذ شكل تغييب المنهج المادي الجدلي، والتمسك بجمل وأفكار. والنقد هنا هو محاولة للعودة إلى «روح» الماركسية، وهذه هي مهمة المثقفين الثوريين العرب، الذين من واجبهم تكريس الروح العلمية الثورية في الماركسية، ضد الجمود، ونقل النصوص، والتمسك بالشعارات العامة. كيف تغدو الماركسية ثورية؟ كيف تحافظ على كونها منهجاً علمياً؟ كيف تقود إلى انتصار الثورة؟ وكيف تستطيع تنظيم الجماهير الشعبية؟ هذا الأسئلة الصعبة، هي التي تفصل بين المنهج المادي الجدلي، والمنهج المثالي. بين الروح العلمية، وروح المنطق الشكلي. في المنهج: إن هدف الماركسية، هو تفسير العالم وتغييره. لأن هدفها ليس إعطاء تفسيرات للظروف الواقعية فقط وهذه هي مهمة الفلاسفة في مختلف مراحل التطور التاريخي، وإن كانت تفسيراتهم تتطابق أو تتناقض إلى هذا الحدّ أو ذاك مع الواقع، بل أن هدفها أيضاً، تحقيق التغيير الثوري الذي يعبّر عن أهداف الطبقات الثورية. لذلك فهي معنية بالظروف الواقعية عناية كبيرة، معنية بتفسير الواقع، لأن عملية التغيير الثورين تتعلق بزمان ومكان محددين، في ظروف محددة وقضايا ملموسة. وفي هذا الإطار، إنها ليست فلسفة وإن كانت الفلسفة جزءاً منها، أو كانت «النواة التي تتجمع حولها مختلف الأجزاء المكونة للماركسية»(20)، وهي ليست تأريخاً، وإن كان التأريخ من بعض مشاربها، كما أنها ليست علم اجتماع، رغم كونه نمى وترعرع في أحضانها، وهي ليست علم الاقتصاد، وإن كان أحد أركانها الثابتين. إنها أولاً وأساساً عملية تحليل الظروف الواقعية لتغييرها. وهدف الفلسفة أو التأريخ أو علم الاجتماع أو علم الاقتصاد، أو علم النفس، الإسهام في تحقيق ذلك(21). وهذا لا يعني أننا ننتقص من حقل الفلسفة، أو التاريخ أو الاجتماع أو الاقتصاد... الخ بل يعني أننا نحاول تحديد القضية الأكثر جوهرية، أما القضايا الأخرى، فإنها تنمو وتترعرع في أحضانها، ليتكون من كل ذلك تصور شامل عن العالم والحياة وهو ما يسمى عادة بالايديولوجيا، أو يتحدد تصور عن الواقع العياني المحدد، وهو ما يسمى عادة بالنظرية، لكن هذا التصور لا يكتسب شموليته، إلى من خلال شمول التجربة العملية وتطورها، أي من خلال تطور الظروف المادية الواقعية. إن هدف الفلسفة والتأريخ وعلم الاجتماع.. ألخ، من منظور ماركسي، هو خدمة عملية التغيير الثورية دائماً(22). هذا هو معنى أولوية المادة على الفكر، وأن الفكر هو انعكاس للمادة. لذلك فإن القضية الأساسية دائماً، هي كيف تخدم حقول العلم المختلفة، قضية التغيير الثوري؟ كيف تسهم الفلسفة في عملية التغيير، لا أن نتفصم عنها، فتتحول إلى مثيولوجيا؟ وكيف يسهم التأريخ في خدمة نفس القضية، مادام التاريخ هو سلسلة متصلة، وما دامت الماركسية توجب وضع «القضية في نطاق تاريخي معين»(23)؟ وكيف يخدم فهم الظروف الاقتصادية الاجتماعية، ووضع الطبقات، عملية التغيير الثوري عينها؟. إن تطور حقول العلم المختلفة، يجب أن يخدم القضية بالذات. إن كل ذلك يعني قضية جوهرية، وهي أن منهج التحليل هو عماد الايديولوجيا، وهو عماد النظرية، وهو أساسهما، أما كل التصورات والمواقف النظرية الأخرى، رغم أهميتها وقيمتها، فإنها ترتبط بهذه القضية، إنها نتاجها، إنها نتاج إعمال العقل في الواقع، ومنهج التحليل هو روح الماركسية، صلبها، جوهرها، وهذا ما حاول ماركس، انجلز ولينين، التأكيد عليه. ولما كان أسلوب النقل هو الرائج منذ نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، فقد كرر لينين، هذه الفكرة كثيراً، وأكد «أن الديالكتيك هي حقاً نظرية المعرفة (لهيغل) وللماركسية. إن هذا الجانب من الأمور (ليس جانباً، أنه جوهر الأمور)، قد أهمله بليخانوف، ناهيك عن باقي الماركسيين»، ويقول «الديالكتيك هي روح الماركسية». ثم يعلق على مراسلات ماركس ـ انجلز، فيقول «إذا أردنا أن نحدد بكلمة واحدة مركز المراسلات، أي النقطة المركزية التي تلتقي عندها جميع الأفكار، فإن هذه الكلمة هي الديالكتيك، تطبيق الديالكتيك المادية على الاقتصاد السياسي، والتاريخ، وعلوم الطبيعة، والفلسفة، وسياسة وتكتيك الطبقة العاملة...»(24). إن تأكيد هذه القضية له أهمية كبيرة، لأنه يسمح لنا بأن نحدد الخط الفاصل بين منطق التحليل، ومنطق التمسك بالنصوص. بين المنطق المادي الجدلي والمنطق القياسي الصوري. كيف؟ إن المنهج هو أداة التحليل ـ طريقة في التحليل ـ، والمنهج المادي الجدلي، هو أداة التحليل العلمية الوحيدة(25)، وهي الطريقة التي يقوم على أساسها تحليل الظروف الملموسة في الزمان والمكان المحددين، أما مجمل الأفكار الأخرى في الماركسية، مثل ديكتاتورية البروليتاريا، أو قانون فائض القيمة، أو صراع الطبقات...الخ، فرغم أهميتها، إلا أنها وجدت استناداً إلى تحليل مادي جدلي، وهي خاضعة لهذا التحليل دائماً، فإذا انفصلت تحوّلت إلى شعارات، وإلى جمل طنّانة رنانة، فارغة المحتوى، عديمة الجدوى، وأصبحت نصوصاً محنّطة. لأن المطلوب أساساً، هو تحديد قانون فائض القيمة، أو قانون الصراع الطبقي... الخ، ضمن الظروف المحددة، وليس في الكتب، أو على صعيد المماحكات النظرية، إن الإمساك بهذه القضية الجوهرية، يجعلنا نميز الفرق بين الايديولوجيا، باعتبارها نسق من الأفكار والآراء السياسية والقانونية والأخلاقية والجمالية والدينية والفلسفية، وبين النظرية، باعتبارها «نسق من المعرفة المعممة للجوانب المختلفة للواقع... ترتبط ارتباطاً لا ينفصم بالممارسة التي تضع مشكلات ملحة أمام المعرفة وتتطلب أن تحلها. ولهذا السبب فإن الممارسة جزء لا يتجزء من كل نظرية»(26)، الأولى تشمل القوانين العامة لكون والحياة، والثانية تشكل القوانين الخاصة لواقع محدد(27). ولمنهج هو الذي يسمح بوجود علاقة صحيحة بينهما، لأن غيابه يؤدي إلى أحد موقفين، إما إحلال الايديولوجيا محل الواقع، أي إلغاء الواقع، والتمسك بـ«القوانين العامة»، أو الخضوع للواقع وبالتالي العجز عن «تنظيره»، أي العجز عن رؤية حركته. وهذا يعني ضرورة امتلك المقدرة على التحليل العلمي، المادي الجدلي، وتجاوز منطق التمسك بالشعارات، والنصوص وإهمال «روح» الماركسية، المنهج المادي الجدلي. إن التمسك «بالنتائج»، وأهمال «روحها»، يقود إلى الجمود النظري، وإلى سيادة منطق الشعارات. والنتائج هي القضايا النظرية الأساسية، التي تسهم في تكوين منظومة من الأفكار عن العالم والحياة (التي هي الايديولوجيا)، أو النتائج التي تتعلق بزمان ومكان محددين، لا يرتبطان بالزمان والمكان الذين نعيشهما (أي النظرية). إن منهج التحليل هو أساس العملية كلها، أما «منظومة الأفكار»، فيجب أن تدعمه، لا أن تصبح بديلاً، ونقيضاً له. وبالتالي فإن دراسة الظروف الواقعية وفق المنهج المادي الجدلي، هي الطريقة العلمية المنافية للتمسك بجملة أفكار موجودة في الكتب، لأن التمسك بأفكار مسبقة، تخص ظروف وأزمان أخرى، يعبّر عن منهج مثالي(28)، يقوم على أساس أولوية الأفكار، لا الواقع. إنه ينطلق من «قياس الغائب على الشاهد». وهي «عملية ذهنية يقوم بها الإنسان العربي بطريقة لاشعورية»(29). إن منطق التمسك بالجمل الطنانة، وبالنصوص الجاهزة، هو منطق مثالي في جوهره حتى وأن كانت الجمل والنصوص، من نتاج ماركس، أو انجلز، أو لينين، لأنه يكرس منطق اللاهوت، بمختلف تلاوينه. أما «النتائج»، والعامة منها تحديداً، فبعضها ثبتت صحته بالتجربة العملية، ومن خلال التطور العلمي عموماً، وبعضها ثبت بطلانه، وقد يكون صحيحاً ضمن الظروف المحددة في الزمان والمكان. لكنه لم يصبح قانوناً، نتيجة عدم تكراره في الحياة العملية. والتفريق بين هذه وتلك مهم هنا، لأنه يميز بين ما أصبح في عداد القوانين العامة، وما رسب في قعر آلة الحياة الرهيبة، ودخل مصنفات التأريخ. إن الحديث عن الايديولوجيا بعموميتها، سوف يفرض عدداً من الظواهر، التي يمكن إجمالها بثلاث هي التالية: 1ـ النظر للنتائج التي تحوّلت إلى قوانين، وللنتائج التي دخلت مصنفات التأريخ، نظرة واحدة، فلا تمييز بينها، ولا فروقات، وكلها من تراث الماركسية، بينما الفرق واضح بين المنهج كقضية حيّة، وبين القانون الذي ثبتت علميته، وبين مصنفات التأريخ، التي أدرجت في ملفات المؤرخين لدراستها ضمن دراستهم للتاريخ إجمالاً، بجوانبه المختلفة، الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية، ولتاريخ الماركسية تحديداً. 2ـ تحويل المنهج إلى جثة ميتة، بدراسة جانبه «الفلسفي» فقط وإلغاء دوره التحليلي المرتبط بدراسة الواقع الموضوعي، وبالتالي تحويل المنجل الذي يستخدم في الحصاد، إلى تحفة في معرض(30). 3ـ التمسك بكل ما جاءت به الماركسية أي ما كتبه ماركس وانجلس ولينين تحديداً(31)، واعتباره صحيحاً، ومطلق الصحة. وهنا تظهر النظرة اللاهوتية واضحة تماماً. كل ما جاءت به الماركسية متساوٍ في القيمة النظرية والتاريخية، وكله صحيح ومطلق الصحة، لذلك يجب التمسك به تمسكاً «صارماً». فيصبح نقده زندقة، وفسقاً، وهرطقة، وخروجاً عن «العلم»، وتخلياً عن الماركسية. وكل ذلك يطرج علينا قضية مهمة وهي هل نستطيع تخطىء ماركس، أو انجلز أو لينين في قضية معينة؟ هل نستطيع أن نقول أن واحداً منهم أخطأ مثلاً؟ إن هالات التقديس منعت ذلك في السنوات الماضية، لكن يمكن القول، من منطلق مادي جدلي، ماركسي، أننا نستطيع تخطئة أي منهم، فلقد عاشوا في مرحلة محددة في الزمان والمكان، ووعوا ما استطاعوا وعيه، وفق ظروفهم، وإمكانياتهم، وإمكانيات العصر الذي عاشوا فيه، وحللوا القضايا، وفق ما توصّل إليه وعيهم. إن التأكيد على «النسبية» هنا مهم (وهو في جوهر المنهج المادي الجدلي)(32). نسبة المعلومات التي استطاعوا الحصول عليها، زمانياً أو مكانياً، ونسبية التطور الفلسفي ونسبية الحقيقة أصلاً، إننا الآن ، وبعد أكثر من قرن على وجود ماركس وانجلز، وأكثر من نصف قرن على وجود لينين، نستطيع النظر إلى تراثهم، وآرائهم، وفق معيارين هما: أـ إن الوعي تطور عموماً، وأصبح أكثر شمولية، منطلقين من قانون التطور في المنهج المادي الجدلي. ب ـ أنه أصبح بإمكاننا دراسة آثارهم وفق رؤية أكثر شمولية، سواء على صعيد المكان والزمان، أو على صعيد ثراء المعلومات ونتائج التجربة العلمية. وهذا يؤلهنا لابراز الخطأ والصواب فيها، الخطأ «المطلق» (أي الذي كان خاطئاً وفق ظروفهم التي عاشوها، وظل خطأ مع تطور الظروف بعدهم)، والخطأ النسبي (أي الذي كان صحيحاً، وفق الظروف التي عاشوها، لكنه لم يتحول إلى قانون، لأنه لم يتكرر بعدهم). والصواب «المطلق» (أي الذي كان صواباً ضمن ظروفه) وكل ذلك هو الذي يغني المنهج ويطور النظرية، ويبقي الماركسية حيّة وثورية. وهالات التقديس هي التي قادت إلى الجمود النظري، ونقل النصوص. لقد تحوّلت الماركسية إلى نصوص مقدسة لا يُسمح بنقدها، أو تغيير حرفٍ فيها. وقاد ذلك، إضافة إلى الجمود النظري إلى إسقاط منطق التحليل، لأن التأليه يقود إلى القمع دائماً. إن سمات منطق التمسك بالنصوص هي التالية: 1ـ الطفولية نظرياً، لأنه يتمسك بالشعارات العامة، التي جاء بها ماركس، في ظروف أوروبا الرأسمالية، أواسط القرن التاسع عشر، وهي شعارات تتعلق بدور الطبقة العاملة، والثورة الاشتراكية... ألخ. في ظروف مختلفة. أدى هذا الاختلال إلى تبني المنطق الإصلاحي عملياً، وانطلاقاً من نفس التحليل. 2ـ السلفية، لأنه يردد أفكاراً قيلت في الماضي، قد يكون بعضها صحيحاً، ولكنها بجملتها تعبر عن تحليل لظروف أوروبا أواسط القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين ولا تحلل ظروف العالم نهاية القرن العشرين، ولا تحلل ظروفنا في كل الأحوال. 3ـ تحريم الديمقراطية، وتكريس أسلوب القمع والتسلط، لأن هذا المنطق يرفض التحليل، كما يرفض النقد، انطلاقاً من أن هناك نصوصاً جاهزة، لاشك في صحتها. إن القضية المطروحة علينا اليوم، هي أي خط نريد؟ الشعارات والجمل الطنانة الرنانة، أم التحليل؟ المنطق اللاهوتي، أم المنهج المادي الجدلي؟ وبالتالي، فما هو مطروح علينا اليوم هو، كيف يبقى المنهج المادي الجدلي حياً ومعاصراً؟ كيف يتجاوز السلفي؟ كيف يبتعد عن الجمود، و«الشعارات»؟ وهذا يتطلب أولاً، العودة إلى الأصول، إلى «نقاء» النظرية، بالتخلي عن منطق التقديس، وبتأكيد الروح العلمية في الماركسية.
3 الايديولوجيا والبرنامج إن البرنامج هو نظرية الثورة لمرحلة محددة، وهو لا يقوم إلى على أساس التحليل الملموس للواقع الملموس. والنظرية بناء على ذلك، هي «اندماج» المنهج المادي الجدلي بالظروف الموضوعية. أي تحليل الظروف الموضوعية هذه، انطلاقاً من استيعاب المنهج ذاته. هذه هي القيمة الأساسية للماركسية، إن عملية التغيير الثوري تقوم على أساس برنامج ثوري، يتعلق بالظروف الواقعية المُعاشة، ولا يتعلق بالأفكار العامة، والجمل «المنشّاة». إن علم الجريمة علم واسع، لكن حين يتعلق الأمر بجريكة محددة، لا تفيد الاستعانة بالكتب، بل بمعاينة الجثة، الجثة المحددة، وإن كانت الكتب القانونية، تعطي مالمح عامة يمكن الإفادة منها، لكن تبقى القضية هي قضية الجثة المحددة. ومنطق التحليل يقوم على أساس الربط بين القوانين العامة، والقوانين الخاصة المحددة، وإن الفصل بينهما يقود إلى أحد اتجاهين: التجريبية أو الجمود. إن المنهج المادي الجدلي، في جوهر عملية التغيير الثوري، وهو موجهها، لكن ليس شعاراتها على كل حال. إنه طريقة التحليل التي تقود إلى بلورة النظرية. إن الصاعق ضمن عملية التفجير. لذلك فإن القضية الصعبة، هي قضية «تحويل» القوانين العامة إلى قوانين خاصة، وليس من الممكن تحقيق ذلك دون الجدل المادي. وإذا كنا لا نريد أن نحدد البرنامج هنا، لأن الموضوع كبير، لا يتسع له المجال في معالجتنا هذه لقضية التنظيم، لكن ما يهمنا هو تحديد ملامح عامة تفيدنا في دراسة قضية التنظيم، مادام البرنامج هو أساس العمل التنظيم، ولأن طبيعة الظروف التي يحددها البرنامج تحدد شكل التنظيم وطبيعته. ولكن أيضاً لتأكيد أن الايديولوجيا، والمنهج، ليسا شيئاً، ذو قيمة، إذا لم يؤديا إلى بلورة نظرية ثورية، للظروف العيانية إذا لم يؤديا إلى تحديد برنامج الثورة. فإذا كان الجمود النظري، قد أدى إلى احلال الايديولوجيا محل البرنامح، واعتبار الايديولوجيا هي البرنامج، مما ألغى الخاص، وضخم من قيمة العام، فإن غياب الايديولوجيا ـ المنهج لن يقود إلى تحديد البرنامج الثوري الصحيح، الذي يعبّر عن حركة الأمة في سعيها للتقدم والوحدة، مما يؤدي إلى خلل واضح في أسس العمل التنظيمي. إن تحديد البرنامج يحتاج إلى رؤية أيديولوجية، وهذه نقطة لا جدال فيها، لكن البرنامج، ليس الايديولوجيا، وليس المنهج، إنه نتاج ذلك، إنه إعمال الفكر في الواقع. والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه في الوطن العربي، يتمثل في تحديد واقعنا. ما هو واقعنا؟ ما هي ظروفنا؟ ما هي إشكالات مجتمعنا؟ ما هي طبيعة الثورة عندنا؟ ما هو دور الطبقات المختلفة فيها؟ لمن القيادة؟ باختصار أن المطلوب هو فهم الواقع العياني، بما يعنيه من تاريخ مخزون، وراهن قائم، ومستقبل محتمل، أي فهم حركة نطور الطبقات، وإفرازاتها الفكرية، بما يسمح بتحديد الرؤية الاستراتيجية، التي تجعل التقدم الثوري أمراً ممكناً. لأن تحديد الرؤية الاستراتيجية هو الذي يقود إلى صنع ثورة حقيقية، فالثورة علم، كما يقول انجلز، وعلينا أن نتقن هذا العلم(33)، وبالتالي فنحن بحاجة إلى الوعي العميق، وعي الماركسية، ووعي الظروف الموضوعية. وإذا كانت الإشكالية الماضية تكمن في غياب الوعي في هذين المستويين، فإن التأكيد على أهمية توفرهما قضية ضرورية لكل عمل ثوري. إن المجتمع العربي، لم يدرس بعد، ولم يصبح المنهج المادي الجدلي، أداة التحليل الأساسية فيه، مما أبقه «غريباً»، ويدرس في إطار «المستوردات» المختلفة، تتبناه فئات اجتماعية محدودة، محدودة العدد، والأثر معاً. ومشكلة الخط الشيوعي التقليدي، في أنه لم يبحث في قضايا المجتمع العربي، وما طرحه لا يعدو أن يكون «هوامش» عامة، أو مواقف مبنية على تحليلات أقرب إلى السطحية، منها إلى ملامسة الواقع، خصوصاً أن منطق النقل جعله، يردد، ما كان «ينتج» في ظروف أخرى. إن المنهج المادي الجدلي، لم يندمج في الواقع بعد، لذلك لم يصبح المنهج الثوري الوحيد عندنا، رغم أنه المنهج الثوري الوحيد على الصعيد الفلسفي، وعلى الصعيد التاريخي. ولأنه لم يندمج في الواقع بعد، فقد ظلت الرؤية العلمية، للظروف العيانية غائبة، مما أدى إلى غياب الرؤية الاستراتيجية، وغياب القدرة على تحديد التكتيك الثوري في كل مرحلة من المراحل. فانعكس كل ذلك، على طبيعة التنظيم، سواء في تحديد طبيعته ودوره، أو في قدرته على التحوّل إلى طليعة مناضلة. وهذه هي القضية التي تهمنا في هذه الدراسة، لأن قضية التنظيم، ليست قضية «تقنية»، بل نابعة من رؤية أيديولوجية ومن استراتيجية سياسية، واضحتين، وإذا غابتا لن يكون ممكناً تأسيس تنظيم ثوري. لأن التنظيم هو عامل توحيد النشاط الثوري، بالأهداف العامة للثورة، من خلال القوة التي تمتلك رؤية شاملة، والقادرة من خلالها على تحديد استراتيجية النضال، وتكتيكه، وتأسيس الأرضية، التي تسمح بتكوين وعي مطابق لمصالح الطبقات التي تعبّر عنها. وفي نفس الوقت تمتلك العناصر الماسكة لزمام النشاط الثوري. وبهذا المعنى فإن قضية التنظيم مرتبطة، بالخط السياسي النظري، بل أنها خاضعة له، ولن يكون ممكناً فهم قضية التنظيم، دون فهم الأساس السياسي النظري الذي يحكمها، وهذا يفرض تحديد الرؤية السياسية أولاً، لكي لا تصبح قضية التنظيم قضية «نظرية» محضة، ويصبح البحث فيها، لا يلمس جوهرها، ولا يضعها في إطارها الصحيح. رغم صعوبات تحديد الرؤية السياسية، في هذا البحث، لأنه يقتصر على دراسة قضية التنظيم، وبالتالي لا يتّسع إلا لدراسة الجوانب التي تمس التنظيم ذاتها. يفترض تحديد الرؤية السياسية، تحديد طبيعة المجتمع العربي، من زواياه المختلفة، وتحديداً من زاوية البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية التي تسكنه، وتؤدي إلى تحديد مدى استقلاله أو تبعيته لمركز محدد، وإلى تحديد وضع الطبقات فيه، ثم شكل الصراع الذي يحكمها. كما يفترض تحديد الرؤية السياسية، دراسة المسألة القومية، وتحديد طابعها، وانعكاسها على مجمل النشاط السياسي، وأساساً انعكاسها على الرؤية السياسية ذاتها. ويفترض تحديد الرؤية السياسية، أيضاً تحديد طبيعة الثورة، على ضوء النقطتين السابقتين، ومن ثم تحديد دور الحزب فيها. البنية الاقتصادية الاجتماعية تكونت البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية، بفعل النظام الإمبريالي، الذي مدّ سطوته نحو البلدان المتخلفة، واتبعها لمركز قوي، هو الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، وكانت السيطرة السياسية للامبريالية، مدخلاً لتعميق السيطرة الاقتصادية، ولتأسيس بنية اقتصادية اجتماعية، مكملة لمتطلبات هذه الشركات. فاتسم الوضع الاقتصادي المحلي، بنمو ما يسمى عادة القطاع الثالث في الاقتصاد، أي القطاع التجاري، على حساب القطاعين الصناعي والزراعي، والمجالات التي تطور فيها القطاع الصناعي، هي مجالات استخراج المواد الأولية، ذات الضرورة للصناعات الرأسمالية، لأن هدف الشركات الاحتكارية، هو الحصول على المواد الأولية الضرورية للنمو الصناعي في المراكز الرأسمالية، ومن ثم توفير الأسواق القادرة على استيعاب السلع، التي تنتجها هذه المراكز. إن ما ينمو في البلدان المتخلفة، الواقعة في إطار السيطرة الإمبريالية، هو كل ما يساعد حركة تصدير المواد الأولية، واستقبال السلع المصنعة فقط، وما عدا ذلك تجري المحافظة على البنى المتخلفة السابقة للرأسمالية. لتصبح هذه المجتمعات، مجتمعات استهلاكية. وهذه هي سمة البلدان الرأسمالية التابعة. تؤدي هذه العلاقة، بين المركز الرأسمالي، والبلدان الرأسمالية التابعة إلى «هجرة رأس المال المحلي (الناتج القومي) إلى الخارج، مما يزيد من تخلفها، ويعمق من تبعيتها. ولكن من جهة أخرى يزيد من فقر الجماهير الشعبية. وفي هذا الإطار تتكون طبقة تعمل في التجارة والسمسرة، وتلعب دور الوسيط بين المركز الرأسمالي والسوق المحلي، وهي في العملية تراكم ثروات كبيرة. وهي في سياساتها الاقتصادية لا تخرج عن إطا أهداف الشركات الاحتكارية، لهذا تركِّز نشاطها في القطاع التجاري تحديداً، ولا تعمل في الصناعة، إلا في المجالات التي تسمح بها الشركات الاحتكارية (الصناعات التحويلية). وإذا كانت عملية التحوّل من نمط شبع إقطاعي، إلى نمط رأسمالي تبعي، قد أفرزت طبقات مختلفة، فإن سيطرة الشركات الاحتكارية، وتكوّن طبقة مستغلة ناهبة، يقود إلى حالة إفقار مطلقة، تطال الجماهير الشعبية كلها. مما يوجد كتلة واسعة معنية بالصراع ضد الإمبريالية، كذلك ضد الرأسمالية المحلية(34). لكن الحديث عن كتلة واسعة، أو عن الجماهير الشعبية، لا يهدف إلى القفز عن الطبقات وتجاوز وضع كل منها، والتناقضات فيما بينها، ومدى قدرة كل منها في الصراع ضد الإمبريالية، ومن أجل تحقيق التقدم الداخلي، بل يهدف إلى توضيح قضية هامة، هي تبلور كتلة واسعة من الجماهير، معنية بالصراع ضد الإمبريالية، وهذه مسألة بحاجة إلى الفهم، لتحقيق أهداف الأمة كلها. رغم ذلك لابدّ من توضيح وضع كل طبقة بشكل موجز. الفلاحون: كان المجتمع العربي، قبل بدء التوسع الاستعماري الأوروبي، مجتمعاً فلاحياً، تحكمه علاقات شبه إقطاعية، توضحت أكثر في القرن التاسع عشر، بعد اتجاه الدولة العثمانية، بفعل الضغط الاستعماري، إلى تمليك الأرض للإقطاع. وكان المجتمع الفلاحي، يحوي ـ على هامشه ـ مدن اتسعت لنشاط الحرفيين، إضافة إلى طبقة من التجار الذين كانوا يلعبون دوراً في التجارة الداخلية، ومع الخارج. لذلك كانت هناك مدن تجارية كبيرة، لها تقاليدها، وعلاقاتها. ثم انهار الريف بفعل أكثر من فاعل أهمها تطور متطلبات الرأسمالية العالمية، وتمحور حاجتها على المواد الأولية (النفط، الخامات) تراجع حاجتها لمنتجات زراعية، هذه الحاجة التي دفعتها في مرحلة إلى التركيز على تطور الزراعة (القطن، الحرير، وفي بعض المراحل القمح...). مما قلل اهتمامها بالريف، فأهمل، ولعب وصول فئات من البرجوازية الصغيرة في عدد من الدول العربية إلى السلطة، واتجاهها إلى تصفية الفئات المالكة في الريف (بقايا الإقطاع)، وسعيها إلى التصنيع، وبنائها لأجهزة دولة ضخمة (مؤسسات دولة، أجهزة أمن، جيش)، لعب كل ذلك دوراً في انهيار الريف، وهجرة الفلاحين للعمل في المدينة. وجاء ارتفاع النفط الذي أوجد فرص عمل وفيرة، وبمغريات كبيرة، ليكمل الانهيار. فتبلور وضع، في الريف، يتسم بانخفاض حجم سكانه لمصلحة المدن، ولم يعد يشكل غالبية السكان كما كان في السابق، إضافة إلى تناقض حجم الأراضي المزروعة، وتراجع نسبة دخل الريف في الناتج القومي الإجمالي، تراجعاً كبيراً. مما أدى ارتباط الريف بالمدينة، من خلال حاجته لسلعها وخدماتها. وفي إطار هذا الوضع، تناقص عدد الفلاحين، وأخذت القيم التي كانت سائدة في التهدّم، وأصبح الفلاحين يعتمدون على مصادر دخل غير الأرض، لأنها لم تعد مصدراً يسمح بتجديد الحياة، خصوصاً بعدما اتسعت الملكيات الفردية، التي لا تسمح بنتاج يعيل عائلة طيلة أيام السنة. وفاقم المشكلة الإهمال من قبل الدولة، سواء من أجل توفير مستلزمات تطور الزراعة (البذار، المكننة) أو مستلزمات توفير شروط حياة معقولة (الاهتمام الصحي، التعليم، وسائل الترفيه). فأصبح الريف على شفا الفروغ لولا الأموال القادمة من العاملين في المدينة، أو في دول النفط. لهذا تضررت فئات واسعة، شملت الفلاحين الفقراء، والمتوسطين (إضافة إلى العمال الزراعيين)، حيث لم تعد قادرة على العيش، بسبب قلة دخلها من جهة، وارتفاع أسعار السلع، والمواد الأساسية، والمواد الزراعية (البذار…)، نتيجة ارتباط الريف بالمدينة، وبالتالي بالسوق الرأسمالي العالمي، من جهة أخرى. ولقد وجد الفلاحون، في السنوات الماضية، الحلّ في الهجرة إلى المدينة والعمل في أجهزة الدولة، أو التحوّل إلى عّمال، أو الهجرة إلى دول النفط. وكان هذا الحل يفرغ الريف، ويزيد من خرابه، لكنه يوجد وسائل العيش لهؤلاء «المهاجرين»، لكن انخفاض أسعار النفط من جهة، وتفاقم الأزمة الاقتصادية العامة في المجتمع، أخذ يحدّ من ذلك، لأنه يقلل من فرص العمل. مما يعني تفاقم مشاكل الفلاحين، واستعصاء حلّها. الطبقة العاملة: بدأت الطبقة العاملة في النمو، مع بداية الاصطدام بالرأسمالية الأوروبية، حيث أقامت، في إطار سعيها لاستغلال المجتمع، المشاريع التي أسهمت في هذا النمو. ثم جاء توسع المدن لكي يوع من هذه الطبقة، بفعل الحاجة إلى الأيدي العاملة، في البناء، والتجارة، والصناعات المختلفة. وازداد توسعها مع مرحلة التصنيع، التي قامت بها «الدولة الوطنية»، في إطار سعيها لتحديث المجتمع، وتلك التي قامت بها الرأسمالية المحلية، في إطار علاقتها بالشركات الاحتكارية. لكن هذا التوسع، ظل غير كبير النتائج. وإذا أضفنا العمال الزراعيين، يمكننا القول أن نسبة الطبقة العاملة بلغت25%من القوى العاملة تقريباً(*). لكن ثقل الطبقة العاملة الأساسي تركز في الزراعة، ثم القطاع الثالث، ومن ثم في الصناعة. ولقد شهدت الطبقة العاملة، في الوطن العربي، خلال السنوات الأربعين الماضية، ظاهرتين متناقضتين، أولهما تحقيق بعض مطالبها الأساسية، وتوفير ظروف صحية ملائمة نسبياً، في حالة استقرار لديها، خصوصاً، وأن السياسة الاقتصادية التي اتبعتها هذه الدول أدت إلى استقرار نسبي للأسعار. وثانيهما تفاقم حالة معمعان النضال النقابي المطلي، والسياسي، في معظم الدول الأخرى، عدا الدول النفطية. اختلف الوضع منذ بداية السبعينات، حين أفل نجم «الدولة الوطنية»، وشملت السيطرة الامبريالية معظم الدول العربية، مما فاقم من مشاكل الطبقة العاملة في مختلف الأقطار. لهذا أصبحت مشكلة انخفاض الأجر مشكلة حقيقية، في ظل الارتفاع الهائل لأسعار السلع والمواد الأساسية، على ضوء الارتباط بالسوق الرأسمال العالمي، والخضوع لمستوى الأسعار فيه. لكن هذه الطبقة، تعيش مجموعة إشكالات هامة، أهمها صلاتها بالريف، سواء العمال الزراعيين، أو حتى مختلف شرائح الطبقة العاملة، لأن التكوّن الحديث لهذه الطبقة ـ عدا قطاعات محددة ـ، يجعل صلاتها الريفية قوية، مما يسهم في استمرار تأثير الريف فيها (العادات الريفية، الايديولوجيا والمفاهيم)، ثم تمركزها في القطاع الثالث (البناء، المواصلات، المالية والتجارة، الإسكان، المرافق العامة، الخدمات الأخرى)، الذي لا يساعد على توحدها، ولا على تماسكها، رغم أن الأزمة الاقتصادية تطالها، وتزيد من انسحاقها، ليس بسبب تناقص درجة تناسب الأجور مع الأسعار فقط، بل لأن الأزمة الاقتصادية، تؤدي إلى حالة الركود الاقتصادي تشمل مختلف قطاعات الاقتصاد، مما يزيد من حجم العاطلين عن العمل. البرجوازية الصغيرة: إذا كان المجتمع الفلاحي، يوجد برجوازية صغيرة فلاحية، وحرفيين يقطنون المدن، فإن انهيار الريف، مع محدودية نمو الطبقة العاملة، وسَّع من حجم البرجوازية الصغيرة المدينية، التي تمركزت في مؤسسات الدولة أساساً، لكنها شملت القطاعات المتعلمة، التي عملت في القطاع الخاص (الأطباء، المهندسون، المعلمون...). ولقد ازدهرت هذه القطاعات مع ازدهار حركة رأس المال، والنشاط الاقتصادي الذي حدث بفعل النفط. فتكونت كتلة كبيرة من البرجوازية الصغيرة، التي عاشت حالة من البحبوحة. ولاشك فإن الأزمة الاقتصادية سوف تطالها أيضاً، من جوانب مختلفة، منها بطىء حركة رأس المال، وتراجع النشاط الاقتصادي، إفلاس العديد من الدول وبالتالي العجز عن زيادة الأجور، أو اللجوء إلى التسريح، لتهلك الفئات الدنيا فيها، وينحدر مستوى الفئات الأخرى. وفي المقابل يزداد عن قليلة، لا تتجاوز نسبتها 5% من مجمل السكان، هذه الفئة التي غدت تحصل على أكثر من نصف الدخل القومي والتي تعمل على إخراجه إلى البلدان الرأسمالية، لتكديسه في البنوك الإمبريالية، ويتقوم نشاطها الأساسي في القطاع الثالث أي التجارة والخدمات. القضية القومية
ما يعتور القضية القومية اليوم، مشكلتين مترابطتين، التجزئة والاحتلال. حيث غدت الأمة الواحدة، إثنتين وعشرين دولة، وأجزاء أساسية محتلة (فلسطين، الجولان، الأهواز، الاسكندرون، سبته ومليلة). ولقد تبلورت هذه الصيغة، في إطار السيطرة الاستعمارية الماضية، وتكرست في إطار السيطرة الإمبريالية. لكن مشكلة التجزئة ليست حديثة، فقد وجدت مع انهيار الدولة المركزية، بعد سقوط الدولة العباسية، بفعل أزمة «نمو» البنية الاقتصادية الاجتماعية، وأزمة «سيطرة» العرب على القوميات الأخرى، هاتان الأزمتان عبرتا عن نفسيهما، من خلال صراعات مذهبية، أو قومية مذهبية، أو طبقية، أو سياسية. لكنهما قادتا إلى انهيار الدولة المركزية، مما فتح آفاق، «إنقسام» الشعب إلى قبائل، وطوائف، وتحوّل الدولة، إلى دويلات متنازعة. وتكوّن نمط انتاجي، يسهم في الجزيىء (الإقطاع الشرقي). إلا أنها كرست نمط الإنتاج التجزيئي، الذي أبقى الدويلات، والعلاقات القبلية الطائفية. وحين بدأ الاستعمار مدّ سيطرته، بدأ انطلاقاً من مخطط مسبق، يهدف إلى «تطوير» التجزئة. من خلال إعطائها صيغة سياسية. لهذا عندما رحل ترك دولاً عديدة. ولتأكيد نجاح ذلك عمل على ربط الاقتصاد المحلي، بالمركز الرأسمالي، من خلال «تطوير مستقل» لاقتصاد كل بلد، وبشكل يجعل هذا الاقتصاد بحاجة للمركز الرأسمالي. حيث طوّر، في المرحلة الأولى، أصناف محددة في الزراعة (القطن، الحرير..) وجعلها زراعة أحادية، مما جعل المزارعين يقعون تحت وطأة الحاجة لتصديرها للمركز الرأسمالي، لأنه الوحيد القادر على استيرادها. ثم طوّر، في المرحلة الثانية، استخراج الخامات والنفط، ليصبح مصدر الدخل الأساسي، وهو بدوره بحاجة للمركز الرأسمالي لتسويقه. ويكمن الهدف الاستعماري ـ الإمبريالي، من تكريس التجزئة، في إيجاد كل الظروف التي تسمح بالسيطرة على الوطن العربي، من خلال ضمان تشتت قواه الأساسية البشرية، والاقتصادية والسياسية. لهذا ارتبطت التجزئة بتكريس التخلف الاقتصادي الاجتماعي، والسياسي الفكري، من أجل خلق الظروف المناسبة لاستمرار التبعية للمركز الإمبريالي. إن تقسيم الوطن العربي يهدف تحقيق غرض إستراتيجي ـ عسكري، يتمثل في التحكم بكل منطقة من خلال عزلها عن المناطق الأخرى، وتوفير القوى اللازمة للسيطرة عليها. كما يهدف تحقيق غرض اقتصادي اجتماعي، يتمثل في تنمية فئة اجتماعية محلية، تستفيد من واقع التجزئة، لتؤسس كل مصالحها على هذا الأساس، من خلال كونها الوسيط الاقتصادي بين المركز الرأسمالي والسوق المحلي، ومن خلال كونها الحاكم السياسي، الذي يعمل في إطار السياسات الإمبريالية. وضمن هذا الإطار، يأتي التدخل العسكري الإمبريالي، الذي يسعى للحفاظ على المصالح الإمبريالية، التي هي في جوهرها مصالحها في إبقاء السوق المحلي جزءاً من نظامها الكوني، أي بقائه خاضعاً «للاحتياجات الأساسية للديمقراطية الصناعية»(35). كما أنه ضمن هذا الإطار، دعم الفكرة الصهيونية، ومن ثم تأسيس الكيان الصهيوني، الذي يقوم بدور «مانعة الصواعق» بالنسبة للدول الرجعية النفطية، «عن طريق تحويل أنظار وطاقات العرب الراديكاليين عن الدول العربية»(36)، يقوم بدور الحاجز الذي منع تحقيق الوحدة. ويسهم أيضاً في كل عمليات الإمبريالية، الهادفة إلى مواجهة القوى الثورية، ومنع التقدم الاقتصادي. إن القضية القومية العربية، هي قضية تحرر العرب، وتحقيق وحدتهم القومية، في سياق السعي لتحقيق النهضة التي تسمح بالتقدم الاقتصادي الاجتماعي، والثقافي السياسي، بما يهيء الظروف للانتقال إلى الاشتراكية، هذا الهدف الأسمى بالنسبة للطبقة العاملة، والفلاحين الفقراء، والشرائح الديمقراطية الثورية من البرجوازية الصغيرة. ونحن لم نناقش هنا قضية وجود «أمة عربية» أو لا، لأن اتجاهات الحركة الوطنية المختلفة لم تعد تختلف حول هذه القضية، رغم الاختلاف في عمق القناعة فيها. والقوى التي تطرح غير ذلك، هي القوى الإمبريالية عموماً، والقوى الطائفية، وتبقى الحاجة لدراسة تاريخية، وانطلاقاً من رؤية مادية جدلية، لتاريخ ونشوء الأمة العربية، لكننا معنيون اليوم بدراسة القضية القومية، وفي وضعها الراهن، حيث تصبح قضيتا الوحدة القومية والتحرير جزء من البرنامج القومي الديمقراطي الهادف إلى إنجاز الثورة القومية الديمقراطية. الثورة الديمقراطية
على ضوء ذلك ما هي طبيعة الثورة في الوطن العربي؟ لقد جرى تداول أكثر من صيغة لطبيعة الثورة، فاعتبرها البعض ثورة تحرر وطني، اعتماداً على الدور الخارجي (الاستعمار ـ الإمبريالية)، واعتبرها البعض ثورة «وطنية» ديمقراطية (بمعنى ثورة محلية قطرية) كما اعتبرها نفر ثالث ثورة اشتراكية. ونحن على ضوء دراستنا العامة للبنية الاقتصادية الاجتماعية، وللقضية القومية، معنيون بتحديد طبيعة الثورة، لكي يكون ممكناً تحديد أهدافها. ثورات وطنية أم ثورة قومية:
وأولى القضايا في هذا المجال هي قضية من يطرح هذا البرنامج قضية المصريين، أو السوريين، أو... أم قضية الجماهير العربية؟ وكان الاتجاه الأساسي يؤكد على الثورات الوطنية، بينما كان التحليل الموضوعي يشير إلى ضرورة الثورة الواحدة، فللأمة حركتها التاريخية الواحدة، بغض النظر عن التجزئة، أو اختلاف الظروف، وهي تسير دائماً في اتجاه الوحدة والتقدم، ورغم تزايد الاتجاه القطري نتيجة عجز القوى القومية وانقسامها، واتجاه أقسام منها نحو الماركسية بأفقها الشيوعي التقليدي، ونتيجة بروز المقاومة الفلسطينية وتكريسها منطقاً «كيانياً» ضيقاً، برغم كل ذلك فإن التجربة الماضية أكدت أهمية الثورة القومية الشاملة، وكان لتزايد دور الكيان الصهيوني والولايات المتحدة دوراً في إبراز أهمية النضال القومي، كما أن مأزق كل الأنظمة العربية، يؤكد ذلك أيضاً. إن الوطن، ليس الأقطار والدول التي قامت على أساس معاهدة سايكس ـ بيكو، ونظرتّ ايديولوجياً من قبل الاتجاه الشيوعي التقليدي، وعلمائه الأساسيين في الاتحاد السوفييتي في مرحلة محددة، بل أنه الوطن العربي الذي أخذ شكله الجغرافي نتيجة التطور التاريخي الطويل. ولقد جاءت تسمية الثورات «الوطنية» انطلاقاً من الانتماء «لوطن» هو «القطر»، والوطن أحد عناصر تشكل الأمم، وكذلك المجموعات البشرية التي هي الشعب. ولذلك فقد كان التنظير الأساسي ينطلق من وجود أمم، رغم عدم تنظير ذلك بشكل واضح أو نفيه. فما دام الوطن هو القطر والشعب هم السكان القاطنين فيه، والحديث يجري عن تطور هذا الوطن وهذا الشعب، فهو «أمة». ولذلك كان الحديث عن الأمة العربية سطحياً وشعارياً، أما الممارسة فقطرية ضيقة. وكان كل ذلك يؤشر إلى اختلال تصورات القوى وهشاشة في تحليلاتها. إن الوطن هو الوطن العربي، والشعب هو الشعب العربي (وليس الشعوب العربية). قضاياه واحدة وهموم جماهيره الفقيرة وطموحاتهم واحدة، بغض النظر عن الفروقات الجزئية (أو ما يسمى الخصوصيات)(37)، وبغض النظر عن درجة وعي هذه الحقيقة من قبلهم، رغم اقتناعهم بالقضايا الأساسية الجوهرية مثل الوحدة وفلسطين والتقدم العربي. وهذا يقتضي تحقيق ثورة قومية تطرح قضايا الوطن، ومشاكل الجماهير الشعبية. وتحقيق الوحدة القومية هدف من أهداف الثورة، في أمة مجزأة، والتجزئة لا تسقط إلا بالقوى الموحِّدة والنضال الموحَّد، لأن تكريس «الدول» بالثورات القطرية لا يسقط التجزئة، بل يكرسها. إن إسقاط التجزئة لا يكون غلا بحركة قومية شاملة. هذا ما أكدته الوقائع (الثورة الديمقراطية البرجوازية، ألمانيا، فيتنام)، وهذا ما تؤده ظروف وطننا. ثورة تحرر وطني أم ثورة ديمقراطية؟ القضية الأخرى هي حول طبيعة الثورة هل هي ثورة تحرر وطني فقط أم ثورة ديمقراطية؟ لقد غدا واضحاً أنها ثورة ديمقراطية لأسباب عديدة أهمها: أولاً: ارتباط الفئات المستغلة داخلياً بالعدو الأجنبي (الإمبريالية والكيان الصهيوني)، وتحول الأنظمة والقوى الرأسمالية التابعة إلى أدوات تخدم المخطط الإمبريالي عموماً. مما فرض معركة مزدوجة، ضد الإمبريالية وعلى رأسها الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني كقوى خارجية، وضد الأنظمة والقوى الرأسمالية التابعة كقوى طبقية مستغِلة ومضطهدة داخلياً، مما جعلها معركة وطنية طبقية في آن معاً. ثانياً: كون الإمبريالية لم تعد تسيطر بقواها العسكرية فقط (الاحتلال المباشر) بل غدت السيطرة الاقتصادية ركناً أساسياً في سياستها، ليصبح النضال ضدها سياسي طبقي أيضاً، إنها لم تعد رأسمالية محلية (وطنية) فقط، بل غدت رأسمالية عالمية تضطهد الشعوب. ثالثاً: كون مواجهة الإمبريالية والصهيونية الرأسمالية التابعة العربية، ارتبطت بتحقيق نهضة عربية حديثة تقوم على تجاوز التخلف، وإقامة نظام ديمقراطي علماني، وتحقيق الوحدة القومية. إنها لم تعد ثورة ضد مستعمر خارجي فقط، بل غدت ثورة من أجل استقلال الأمة وتحقيق نهضتنا ونقدمها ووحدتها. لذلك فهي ثورة وطنية ضد الإمبريالية والصهيونية ومن أجل الاستقلال القومي وتحرير الأرض المحتلة، وديمقراطية من أجل تحقيق الوحدة القومية، وإقامة نظام يمثل الجماهير الشعبية ويعبّر عن مصالحها، ويسعى لتحقيق تقدمها. ثورة ديمقراطية أم ثورة اشتراكية؟ وهي ثورة ديمقراطية وليست ثورة اشتراكية، لأن الوطن يعيش مرحلة «الرأسمالية المشوهة»، متخلفاً وتابعاً، مجزأ ومحتلاً. والثورة الاشتراكية بحاجة إلى الوحدة القومية أولاً، والتقدم وخاصة الصناعي ثانياً. ولأنه يعاني من ضعف الطبقة العاملة صاحبة المصلحة الأولى في تحقيق الاشتراكية، وحزبها أداتها في تحقيقها. وما دامت الثورة الديمقراطية لم تنجز بعد، فإن الحديث عن الثورة الاشتراكية يغدو طفولياً. وبالتالي فإن الثورة الديمقراطية هي عتبة الثورة الاشتراكية، وهي مرحلة ضرورية لإنجاز مهام الثورة البرجوازية التي لم تتحقق، وإزالة كل المعيقات التي تمنع تقدم الوطن وتحرره، وهي ضرورية لبناء القاعدة الصناعية، والبنية السياسية الأيديولوجية التي تسمح بالانتقال إلى الاشتراكية. حول طبيعة الثورة: إنها إذن ليست ثورات «وطنية»، ولا ثورة تحرر وطني، ولا ثورة اشتراكية، إنها ثورة قومية ديمقراطية، تهدف إلى مواجهة العدو الخارجي وتحرير الأرض المحتلة، تحقيق الوحدة القومية وإنجاز مهام الثورة الديمقراطية، وإلغاء التبعية والتخلف. إنجاز الوحدة جزء جوهري فيها وهذا يقتضي مواجهة كل القوى المحتلة والطامعة، والمرتبطة، الساعية للحفظ على التجزئة، وعلى توسيع الاحتلال، وهي الإمبريالية والصهيونية والرأسمالية التابعة. ولن تتحقق الوحدة القومية إلا في خضم المعركة ضد هذه القوى، وبنهوض الحركة الشعبية العربية، وبلورة القوى القادرة على قيادة الثورة القومية الديمقراطية. وهي ثورة العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، لا ثورة طبقة واحدة فقط، وهي لذلك ثورة الجماهير الشعبية، رغم تمايز ادوار الطبقات فيها، ورغم ضرورة قيادة تحالف العمال والفلاحين الفقراء، والشرائح الديمقراطية الثورية من البرجوازية الصغيرة لها، من أجل تحققها، وهذا هو القيصر العنصر الجوهري والمهم فيها.
4 بنية الحزب الطبقية
الحزب هو المعبّر الايديولوجي عن طبقة. إنه حامل أفكارها ومفاهيمها، وهو أداتها من أجل تحقيق مطامحها وأهدافها. انطلاقا من أن لكل طبقة اجتماعية مصالح محددة، ورؤية معينة، حتى وهي لا تعي تلك المصالح تماماً، ولا ترى هذه الرؤية. ولقد أوجد التطور الرأسمالي في أوروبا الغربية صورة نموذجية لهذا المسألة، انطلاقا من طبيعة الانقسام الطبقي الذي أوجده الاستغلال الرأسمالي. أما في البلدان المتخلفة، نصف الصناعية، أو الزراعية، أو حتى غير الصناعية وغير الزراعية، فقد اختلطت الأمور، نتيجة اختلاط الطبقات، حيث فعل التطور القاصر فِعله، في اختلال البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية والبنية الايديولوجية السياسية، حيث وجدت تعقيدات حقيقية، طالت طبيعة تمثيل الحزب لطبقة، كما طالت طبيعة المفاهيم التي من المفترض أنها تعبّر عن هذه الطبقة. مما أوجد شكلاً من التمثيل الافتراضي نسبياً، وجعل الوعي بهذه القضية، مسألة حاسمة في مسيرة تطور العمل الثوري. إن القضية في البلدان المتخلفة، هي ليست قضية الثورة الاشتراكية، لأن المجتمع لا ينقسم إلى أقلية برجوازية، وأغلبية بروليتارية، أوجدتها ظروف التطور الصناعي، وبالتالي جعلت ايديولوجيا الطبقة العاملة مندمجة مع طبقة واقعية. بل أن القضية هي قضية مجتمعات تعيش نمطاً انتاجياً مع طبقة واقعية. بل أن القضية هي قضية مجتمعات تعي نمطاً إنتاجياً هجيناً، لكنه ليس صناعياً، سوى جزئياً، ولا زراعياً، سوى جزئياً أيضاً. وفي هذا الظرف تكون هناك حاجة لثورة وسيطة، هي الثورة القومية الديمقراطية، الهادفة إلى بناء مجتمع متوازن، وقابل للتطور، والانتقال إلى الاشتراكية. لكن يعترض هذه الثورة إشكالات حقيقية أساسها غلبة الطبقة الوسطى، (البرجوازية الوسطى، البرجوازةي الصغيرة الريفية والمدينية). والطبقة الوسطى، غير قادرة على تحقيق الثورة القومية الديمقراطية، لأن تفكك قواها، واستشراء النزعة الفردية لديها (المستمدة من الوعي البرجوازي، أو من الوعي الموروث)، لا يجعلها قادرة على تحديد الرؤية الاستراتيجية التي تسمح بتحقيق الثورة الديمقراطية. بل أن دورها يؤديـ كما توضح في التجربة العربية ـ إلى استفادة فئة منها على حساب الفئات الأخرى، وبالتالي انتقالها إلى مواقع الفئات الكمبرادورية (الرأسمالية التابعة) وبإجهاضها النشاط الثوري الذي تسهم فيه. إن مصلحة هذه الطبقة، تتعارض مع مسار التطور الثوري، في هذا الوقت من القرن العشرين، وفي ظل سيادة النظام الرأسمالي العالمي. حيث يحتاج تحقيق الثورة الديمقراطية، إلى اعتماد سياسة مستقلة عن السوق الرأسمالي العالمي، والاستفادة من دور الدولة في تحقيق تراكم رأسمالي، يسمح بالتطور الصناعي السريع، والتطور الزراعي القادر على تلبية حاجات البلد. وتحتاج القضية الأخيرة إلى حرمان البرجوازية من مراكمة رأس المال، لمصلحة مراكمة عامة لها. لهذا نجدها تحقق بعض التقدم، في سياق إزاحة الفئات الكمبرادورية السابقة لها، أو بقايا الإقطاع، وحين تحقق ذلك، تتفكك وتسيطر الفئة «اليمينية» منها، التي تتمسك بـ«الانفتاح»، أي بالعلاقة مع السوق الرأسمالي العالمي، ومراكمة رأس المال الخاص، فتكرس تبعية البلد، وتعيد إنتاج «نظام التخلف»، أي نظام التجزئة، ودور القطاع التجاري. إن غلبة الطبقة الوسطى، يعطيها دوراً أساسياً في الواقع، خصوصاً حين يترافق مع مشكلة أخرى تعترض الثورة الديمقراطية، هي مشكلة عدم توحّد الطبقات المسحوقة، أي العمال والفلاحين الفقراء، الذين بوحدتهم يوجدون ظروفاً جديدة. وتعتمد هذه الوحدة بدورها، على مدى اندماج الفكر الثوري بالواقع العياني. لاشك أن الماركسية هي تعبير عن أيديولوجيا الطبقة العاملة الأوروبية، لأنها ولدت في إطار تطور البنية الطبقية من جهة والفكر من جهة أخرى في تلك البلدان. لكنها أيضاً هي المعبّرة عن أيديولوجيا الطبقة العاملة العالمية حتى تلك الجنينية في البلدان المتخلفة(38). لكن سيادة الطبقة الوسطى، يفرض سيادة أنماط من الايديولوجيا المثالية، المعبّرة عن تلك الطبقة(39). وهي أنماط متباينة في الظاهر، برغم كونها كلها، تعبر عن ايديولوجيا مثالية. لكن الطبقة الوسطى تحمل في «وعيها» «ايديولوجيات» مختلفة، منها الحديث، أي البرجوازي العلماني، والبرجوازي المحافظ، ومنها السلفي المغرق في التعصب، وهو الموروث من الماضي أساساً. في هذه الظروف تبرز الحاجة إلى أن تصبح الماركسية، ليست نظرية عامة فقط، بل نظرية واقعية أيضاً، أي نظرية تخص الظرف المحدد، فتتجاوز كونها «فلسفة»، لتصبح ايديولوجيا معبّرة عن طبقة، في واقع معين، وزمن محدد. لكي يكون ممكناً لها أن تهزم الايديولوجيا السائدة، لأن هزيمتها ايديولوجيا هو المدخل إلى هزيمتها واقعياً. ومن ثم تصبح قادرة، اعتماداً على تحالف عمالي فلاحي، على أن تفتح آفاقاً جديدة للثورة الديمقراطية، آفاق أن يلعب التحالف العمالي الفلاحي دوراً قيادياً فيها. كيف يتم ذلك؟ نحن معنيون هنا بالإجابة على الجانب المتعلق بالأساس الطبقي للحزب. وإذا كنا تحدثنا في الفقرة السابقة عن الطبقات في الإطار الأكثر عمومية، من واجبنا الآن الإجابة، عن السؤال حول ماذا يمثل الحزب في هذه الطبقات؟ ولماذا؟ مادام للحزب دور واقعي استناداً إلى رؤية أيديولوجية، وعلى طبقة. قلنا أن هذه القضية مرتبطة بالوضع العياني المحدد، وبالتالي لا يفيد فيها نقل تجارب أخرى. لكن دراسة التجارب الأخرى تفيد في إعطاء أمثلة على قضية علاقة الحزب بالطبقات، ودوره فيها، وبالتالي في إيضاح بعض مسائل الاتفاق والاختلاف بين التجارب المختلفة. لهذا سوف نعطي بعض الأمثلة، بهدف تحقيق هذه الغاية، لكن أساساً لهدف توضيح مدى تعقيد الظروف العربية، ومدى الحاجة إلى أن نفهم هذه القضية فهماً صحيحاً. تجارب مختلفة: كانت أوروبا الغربية، أواسط القرن التاسع عشر، تشهد تبلوراً طبقياً واضحاً كما أسلفنا. حيث استطاعت البرجوازية فرض سلطتها في عدد من الدول، وحوّلت أقسام أساسية من الجماهير، من حرفيي المدن، وفلاحي الريف، إلى طبقة عاملة كبيرة العدد، تتحكم في العملية الإنتاجية كلها. إنها قوّة العمل الأساسية، التي تنتج السلع، وتوجد فائض القيمة(40). لذلك اعتبرها ماركس وانجلز قوّة التغيير الأساسية، وصانعة الاشتراكية. فناضلا من أجل تطوير الصراع الطبقي: الطبقة العاملة ضد الطبقة البرجوازية، الأغلبية ضد الأقلية، والقوة التقدمية ضد القوة الرجعية. كما عملا من أجل بناء حزب يعبّر عن مصلحة الطبقة العاملة في تطلعها الثوري(41). لقد كان حزب طبقة تمثل الأكثرية، ضد طبقة تمثل الأقلية، وتستولي على فائض القيمة، وتدعم دورها بسيطرتها على السلطة السياسية، على الدولة. وجاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي في ظروف جديدة. فروسيا القيصرية كانت أضعف الحلقات في السلسلة الرأسمالية، وبرجوازيتها لم تكن قد تبلورت كقوة اقتصادية وسياسية، بل أنها نمت نتيجة تأثير النمو الرأسمالي العالمي، وليس نتيجة نموٍّ مستقل، لذلك ظلت ضعيفة، وتابعة إلى هذا الحد أو ذاك للرأسمالية العالمية، كما ظلت مترددة في الصراع ضد بقايا الإقطاع(42). وكانت الطبقة العاملة بداية القرن العشرين ناشئة قليلة العدد نسبة إلى عدد السكان العام. لذلك كان الصراع متداخلاً فمن جهة بقايا الإقطاع ممثلة بالقيصرية، والبرجوازية، ومن جهة أخرى الطبقة العاملة، وجموع الفلاحين. وكان الفلاحون يمثلون القوة الاجتماعية الأساسية اقتصادياً وعددياً. لذا أكد لينين على أن الحز، ليس حزب الطبقة العاملة فقط، وإنما حزب العمال والفلاحين(43)، وأن الثورة ليست ثورة الطبقة العاملة ضد البرجوازية، بل ثورة جموع الشعب ضد القيصرية، من أجل تحقيق الثورة الديمقراطية(44). لقد كان الحزب، حزب الطبقة العاملة أواسط القرن التاسع عشر إلى نهايته، وأصبح حزب العمال والفلاحين بداية القرن العشرين. وكان هذا التحوّل يعبّر عن انتقال الثورات من البلدان الصناعية المتقدمة، إلى البلدان الرأسمالية المتخلفة، حيث تختلط الرأسمالية ببقايا الإقطاع، والمطامح البرجوازية، بأفكار الاكليروس. أما في الصين والفيتنام، فقد اختلف الحزب عنه في روسيا القيصرية، حيث كانت الرأسمالية قشرة لامست سطح المجتمع، ولم تنغرس فيه، فظلت الشعوب فلاحية في إطار العلاقات الإقطاعية. فكان الحزب هو حزب الفلاحين أساساً، إضافة إلى دور عمالي محدود. لأن الفلاحين كانوا قوة الإنتاج الأساسية، ولم يكن دور الطبقة العاملة واضحاً(45) لقد كان دورها محدوداً على الصعيد الإنتاجي، وبالتالي كانت محدودة عددياً. وهذا يختلف عن التجربة الروسية، حيث كانت الطبقة العاملة قوّة إنتاجية، وإن كان للفلاحين دورٌ مهمٌ. وكانت التطورات تسير في اتجاه تراجع دور الفلاحين وتنامى دور الطبقة العاملة. وإذا كان الحزب أواسط القرن التاسع عشر، جاء تعبيراً عن تزاوج الفكر الاشتراكي، والطبقة العاملة، كان في روسيا القيصرية، ثم في الصين والفيتنام تعبير عن تزاوج الفكر الاشتراكي وحركة العمال والفلاحين. أما في الوطن العربي فإن الوضع مختلف عن هذه وتلك، وإن كان يحوي بعض سماتهما. ويمكن إبراز الاختلاف من خلال دراسة التطور الاقتصادي الاجتماعي الذي شهده الوطن منذ بداية هذا القرن. وفي هذا السياق يمكن الحديث عن مرحلتين، مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، ومرحلة ما بعدها. حيث كان الوضع في المرحلة الأولى شبيهاً بالوضع في الصين وفيتنام، حيث كان الفلاحون هم القوة الاقتصادية الأساسية، أما الطبقة العاملة فكانت متكوّنة حديثاً، وكان دورها في العملية الاقتصادية لازال محدوداً، نتيجة طبيعة تكوّنها، حيث نمت في قطاعات غير إنتاجية بشكل عام، أو في إطار النمو الصناعي الذي تمّ على هامش الوجود الاقتصادي للرأسمال الأوروبي. أما اختلافها عن الصين وفيتنام فكان نتيجة أن حركة الفلاحين الثورية، وحركة الطبقة العاملة النامية، والمتكوّنة حديثاً، لم يندمجا بالفكر الاشتراكي، الذي ظلّ على هامشهما. لهذا قادت البرجوازية الناشئة (وأحياناً بقايا الإقطاع)، الطامحة للسلطة، وللتفاهم مع الاستعمار، قادت كل النشاط الجماهيري. فلم تنتصر انتفاضات الفلاحين التي هي السمة الأساسية للنضال الثوري خلال هذه المرحلة، بل انتصرت «البرجوازية». أما في المرحلة الثانية، فكما توضّح سابقاً، تهدّم الريف، ولم تنُم الصناعة، بل تضخم القطاعين التجاري، والاستخراجي (النفطي). مما جعل اتجاه التمركز، لا يتخذ شكل تمركز الطبقة العاملة، نتيجة التمركز الصناعي، بل اتخذ شكل تمركز سكاني، دون سيماء طبقية واضحة، سوى الانقسام بين فئات غنية مترفة، وفئات فقيرة، أما الريف فقد زادت الفئات ذات الملكية الصغيرة، كما ازداد عدد العمال الزراعيين. لهذا تبلورت المشكلة التي جرى الحديث عنها سابقاً، مشكلة غياب القوة الإنتاجية (مع سيادة القوى الاستهلاكية)، وغلبة الفئات الوسطى، وتكوّن كتلة مدينية ذات سند ريفي. خصوصاً أننا لا نستطيع دمج الماركسية، كأيديولوجيا علمية، بالفئات الوسطى لتعبر عن حركتها لأنها، إذا ما جرت محاولات من أجل ذلك، سوف تتحوّل إلى رؤية مثالية، ذات غطاء ماركسي وهو ما حديث عملياً. وهذه إشكالية معقدة، تختلف في نفس الوقت عن كل التجارب السابقة، حيث كان العمال الروس قوّة إنتاجية، مما جعلهم قوّة سياسية، حتى وهم لا يمثلون إلا نسبة محددة من السكان، وحيث كان الفلاحون الفقراء الصينيون، قوة إنتاجية فأصبحوا قوّة سياسية اعتمدها الحزب الشيوعي الصيني لكي تكون قوّة التغيير الأساسية. إن المشكلة الأولى هي مشكلة الأولى هي مشكلة الايديولوجيا الماركسية، التي لم تندمج بحركة المجتمع التاريخية. ولاشك أن لهذا أسبابه، الذاتية والتي جرى بحثها في فصول سابقة، والموضوعية حيث يشار في هذا المجال إلى قوّة الايديولوجيا الدينية(46)، رغم أولوية الظروف الذاتية هنا. أما المشكلة الثانية فهي الوضع الطبقي. لكن رغم كل ذلك، فإن طريق التقدم ليست مغلقة، بل أن آفاقها واسعة وهو ما يعتمد على حلّ المشكلة الأولى إلى حدٍّ بعيد، وهذا ليس تهويلاً من دور الوعي(47)، لكن الظروف الطبقية المعقدة تفرض ذلك. إذن، في أي الطبقات يرتبط الحزب؟ وعن أيها يعبّر؟ ونحن نفصل هنا بين المسألتين، لأن الحزب الذي يحمل أيديولوجيا، ترتبط بمصالح الفئات الأكثر فقراً، وتحديداً بالطبقة العاملة، والذي لا يستطيع تنظيم الفئات الوسطى دون أن تتخلى عن «وعيها» وأيديولوجيتها، يمكنه في إطار الظروف التي توجدها الثورة القومية الديمقراطية، توحيد فئات أوسع في إطار تحالف طبقي، يجعله القوة الكبيرة، وأولى أسباب هذه المسألة حالة الإفقار المطلق التي تعيشها الجماهير الشعبية كلها(48)، دون أن تلغي هذه الحالة التمايز الطبقي ذاته.
في أي الطبقات يرتبط الحزب؟ إن كون الحزب، هو المعبّر عن الايديولوجيا المادية الجدلية، يفرض عليه التعبير عن الطبقة غير المالكة. لهذا كان يعبّر في أوروبا الرأسمالية عن الطبقة العاملة. يعبّر عندنا عن الطبقة العاملة، لكن طبيعة البنية الاقتصادية الاجتماعية تسمح بانضمام فئات أخرى، خصوصاً الفلاحين الفقراء، الذين يملكون أرضاً لا تفي بمتطلبات المعيشة، مما تجعلهم يلجاؤون إلى العمل، كعمال زراعيين، أو التي تفي بمتطلبات المعيشة وفق حدودها الدنيا. وهؤلاء نسبة كبيرة من سكان الريف. هذا إضافة إلى أصحاب الحرف الصغيرة، التي تضررت من اعتماد السوق على الاستيراد، وكذلك الموظفون براتب محدود. الذين يسحقهم غول الأسعار. لهذا من الضروري أن يرتبط الحزب بتحالف عمالي ـ فلاحي، يضم في إطاره أقسام من الفئة الدنيا من البرجوازية الصغيرة المدينية. ولكن عن أيها يعبر؟ الحزب لا يعبّر عن المصالح الضيقة للطبقة، بل يعبّر عن مصالحها العامة، مصالحها المرتبطة بمصلحة الأمة كلها. لهذا فهو يعبّر مصلحة الأمة في مرحلة الثورة الديمقراطية، وفي مرحلة الثورة الاشتراكية. والحز يلعب دور أداة الطبقة، في سياق دورها ضمن إطار الأمة، ومن أجل تقدمها. وبالتالي فهو يقود حكة الأمة التاريخية الصاعدة. وإذا كان دوره في المرحلة الاشتراكية واضحاً، لأن الانتقال إلى الاشتراكية يفرض أن تكون الطبقة العاملة هي الأكثرية في المجتمع، فإن دوره في مرحلة الثورة الديمقراطة يفترض التحديد الصحيح لطبيعة علاقاته بالطبقات الأخرى. وفي هذا السياق لابدّ من توضيح أن هناك عاملان يحددان هذه القضية، العامل الأول: هو حالة الإفقار المطلق التي تعيشها الجماهير الشعبية، الناتجة عن سياسة النهب الاقتصادي التي تمارسها الفئات لمستغِلة ـ الحاكمة، والتي تؤدي على اتساع الهوّة بين الفقراء والأغنياء، وتفرض على فئات متزايدة من الذين يتضررون من اختلال مستوى المعيشة (الناتج عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات وانخفاض القيمة الفعلية للأجور)، التحوّل إلى فئات فقيرة، غير قادرة على العيش، وبالتالي الاندفاع لخوض معترك النشاط السياسي الثوري. والعامل الثاني: هو طبيعة النضال من أجل تحقيق الثورة القومية الديمقراطية، حيث يلعب النضال القومي دوراً مهماً في خوض فئات متزايدة من الجماهير ميدان النضال القومي من جهة، كما تلعب قضايا الوحدة القومية، وقضايا الحقوق والحريات الديمقراطية دوراً في هذه المجال. وبالتالي يستطيع الحزب التحالف مع فئات مختلفة من البرجوازية الصغيرة، في سياق النضال من أجل الثورة القومية الديمقراطية. فيستطيع كسب أقسام من الفلاحين المتوسطين، ومن الموظفين، وأصحاب المهن الحرّة، وكذلك من الطلاب والمرأة، ليشكل تحالفاً طبقياً واسعاً، يمثل أغلبية كبيرة، قادرة فعلاً على تحقيق الانتصار. لكن ما هي الأشكال التي يتخذها هذا التحالف الطبقي(*)؟ كيف يوحد الحزب جماهير واسعة من العمال والفلاحين، والبرجوازية الصغيرة المدينية، مادام هو حزب الطليعة؟ نترك مناقشة ذلك لوقت آخر.
5 إذا كانت الظروف الموضوعية، قد فرضت مراراً عديدة إعادة النظر في المفاهيم المتداولة، فإن الظروف الراهنة تطرح المسألة بقوة، خصوصاً وأن الظروف الاقتصادية التي غدت تسود الوطن العربي، فرضت تفاقم الصراع الطبقي، وتزايد عدد الطبقة العاملة، حيث انحدرت فئات كبيرة من البرجوازية الصغيرة، وغدت تعيش حالة فقر حقيقي. لذا انفتحت آفاق الصراع القومي الطبقي من جديد. وفي هذه الوضع تكون إعادة النظر في البنية الايديولوجية الماركسية المتداولة في الوطن العربي، ذات أولوية. ونشدد على إعادة النظر في البنية الايديولوجية، لأن إشكالات رؤية الواقع التي تبلورت على شكل سيادة رؤية (اقتصادية)، أو (مطلبية)، وانتشار النظرة الميكانيكية، مع تغييب للوعي السياسي، الوعي الشمولي، المعبَّر عنه في القضايا القومية والديمقراطية، وقضية السلطة السياسية لأن هذه الرؤية كانت نتاج إشكالية منهجية، تتمثل في قلب الماركسية إلى نظرية مثالية، قلب الجدل إلى سكون، والرؤية الجدلية إلى رؤية ميكانيكية، تحويل المادية الجدلية إلى لاهوت، حيث يجري تقديس النصوص على حساب المنهج. واختزال الماركسية إلى نظرية تطورية، والعمل الثوري إلى نشاط مطلبي. وبالتالي فإن إعادة النظر يجب أن تنطلق من الجذر، لتشمل كل الفروع الأخرى، لا أن تجري إعادة النظر في بعض الجزئيات، مع تجاهل الجذر: المنهج.
حول الايديولوجيا والتنظيم
(رد على وائل) ورد رد على الملاحظات التي نشرت في العدد (12) من النشرة ( الرأي )، والمتعلقة أساساً بالرد على بعض المفاهيم التنظيمية، التي نشرت في اعداد سابقة، في سياق ابداء الملاحظات حول مشروع النظام الداخلي. وتركز الرد الجديد حول قضيتين هما الايديولوحيا والماركسية. والتنظيم والحركة. وسوف أرد على ما جاء دون إطالة، لأنني أعتقد أن الرأي المنشور في العدد (12) يفي بغرض للرد. وما سوف أضيفه يتعلق بإزالة اللبس حول القضايا، وتأكيد قضايا وردت في الرأي السابق. أولاً: ـ في الأيديولوجيا: يتناول الرفيق وائل هنا قضايا أساسية، وهي حول المسألة الأساسية في الفلسفة (المادية والجدلية المنهج والنظرية (تمايز المنهج عن النظرية)، والبرنامج والأيديولوجيا (الفكر)... (طبيعة الثورة وفكر الطبقة العاملة). ومنطلق الرد الأساسي أن ما ورد في الرأي المنشور في العدد (12)، ينفي تبني «الماركسية». ولذلك فمجمل الرد يحاول تأكيد أهمية الماركسية وضرورتها. إن نقاش القضية بهذا الشكل لن يقود إلى نتيجة، لأن المطلوب ليس تأكيد أو نفي «الماركسية» بل كيف يمكننا أن نمتلك ناحية التحليل العلمي، الذي يمكننا بدوره من تحليل واقعنا الراهن تحليلاً صحيحاً أولاً، كما يمكننا من القدرة على خوض التكتيك الصحيح ثانياً. ومن خوض غمار الممارسة الثورية ممارسة صحيحة أيضاً، ثالثاً. هذه هي القضية الأساسية كما أعتقد والتي لايفيد فيها تأكيد الالتزام بالماركسية، بل تحتاج إلى أمور أخرى، أنها الوعي أولاً، والوعي العلمي أساساً، والممارسة الثورية ثانياً، ولكل منهما شروطه وسماته والخطوات التي تبلوره. ولكي يكون النقاش واضحاً، أود التأكيد أن القضية ليست قضية تأكيد أو نفي الماركسية ولسنا هنا بصدد نفي الماركسية. لقد حسم التطور العالمي هذه القضية، ولذلك سارت شعوب العالم صوب الاشتراكية، ودفعت باتجاه انهيار الرأسمالية بكل بنياتها، الاقتصادي والسياسي، والايديولوجي، فتحولت البلدان الرأسمالية إلى الدفاع عن مواقعها بعدما كانت تقود الهجوم للسيطرة على العالم (رغم امتلاكها زمام المبادرة في بعض المواقع)، اتجهت البلدان المتخلفة نحو التحرر والاشتراكية. ولهذا الصراع أوجهه المختلفة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والايديولوجية أما على صعيد الصراع الايديولوجي، كان الاتجاه الاشتراكي، الاتجاه الأساسي والذي كان المنتصر دائماً نتيجة ارتباط التحرر من الاستعمار الإمبريالي، بالصراع ضد الايديولوجيا البرجوازية، فالبرجوازية هي التي تستعمر الأمم المتخلفة، ونتيجة غياب إمكانية ظهور اتجاه آخر غير الاتجاه الرأسمالي، أو الاشتراكي، فالقضية الأساسية في الفلسفة هي قضية أولوية الفكر أو المادة (المثالية أو المادية)، وكل اتجاه مهما حاول التلوّن يصب في أحد الاتجاهين ثانياً ولأن التطور الصناعي الهائل الذي شهده العالم خلال القرنين الماضيين، غلّب الاتجاه العلمي في البحث. ليس فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية فقط، وفي العلوم الاجتماعية أيضاً، ثالثاً. ونتيجة الانتصارات التي تحققها الاشتراكية كل يوم رابعاً. لقد شهد القرن التاسع عشر صراعاً حاداً بين المثالية والمادية، ضمن ظروف انتصار البرجوازية وتقدمها ولذلك كان من الضروري خوض الصراع لتأكيد الاتجاه المادي الجدلي في البحث، والدفاع عنه في وجه فلسفة برجوازية قوية وتمتلك حججاً ضخمة، يعززها الانتصار السياسي الذي شهدته أوروبا، والذي حققته البرجوازية ذاتها. ولأن البرجوازية تولد نقيضها في أحشائها، فلقد تبلور الاتجاه المادي، ودعمه نحو الطبقة العاملة وخوضها للصراع السياسي، ثم جاء انتصار ثورة أكتوبر ليجعله قضية عالمية ويكسبه قوة في مواجهة الفكر البرجوازي المثالي خصوصاً وإن هذا الأخير عاش مرحلة اهتزاز منذ بداية القرن العشرين، ثم مرحلة انهيار بعد الحربين الأولى والثانية. وعلى الصعيد العربي، حسمت أيضاً هذه القضية لدى الفئات المثقفة، والطليعة السياسية، بعد انهيارات كبيرة شهدتها الحركة القومية العربية خلال الأعوام المائة الماضية. لقد فشل المفكرون البرجوازيون في بناء ثقافة برجوازية متماسكة، تساهم في التغيير الرأسمالي، نتيجة افتقاد البنية الرأسمالية التي تساعد على ذلك، ونتيجة محاربة القوى الاستعمارية لهذا الاتجاه، لأنها كانت تحرص على بقاء البنية ما قبل الرأسمالية، الإقطاعية والعشائرية وتعبيراتها الأيديولوجية. وجاءت الفئات المثقفة من البرجوازية الصغيرة، والقيادات السياسية، بعد اندحار المثقفين البرجوازيين، وغياب أفكارهم، لتطرح أفكاراً أكثر تشويهاً، نتيجة التصاقها بالبنية الأيديولوجية السائدة، وتعلمها على يد المثقفين الرأسماليين، في مرحلة انحطاط الفكر البرجوازي بعد الحرب الأولى، ولكنها لم تبني فكراً راسخاً، لقد ظل فكرها هامشياً وتابعاً، لذلك اتجهت أقسام من الحركة القومية إلى الماركسية. وساعد على حسم هذه القضية أيضاً التطور الذي شهده الوطن العربي خلال السنوات الثلاثين الماضية، والذي رسخ الاتجاه نحو العلم. كما ساعدت أزمة القوى البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وفشلها المتواصل على الحسم الذي انحصر في الفئات المثقفة الأكثر وعياً، والمؤهلة لأن تلعب دوراً طليعياً. من جهة أخرى طرح تطور الاشتراكية ذاتها، في جوانبها المختلفة، الاشتراكية كعلم، وتجربة الأحزاب الاشتراكية، وتجربة الدول الاشتراكية، قضية أخرى مهمة. لقد أصبح الاتجاه المادي، اتجاهاً له الغلبة على صعيد الحركة التاريخية، وتعبيراتها السياسية في المرحلة الحالية (النضال من أجل التحرر والاشتراكية)، ولكن التجربة ذاتها التي رسخت هذا الاتجاه أبرزت قضية أخرى، وهي قضية كيف يبقى المنهج المادي، منهجاً حياً، ومعاصراً؟ كيف تجاوز السلفية؟. أي بمعنى آخر، كيف يبتعد عن الجمود والتمسك بالشعارات؟. إنها القضية مدار الصراع في هذا الوقت من القرن العشرين. الآن أين نقطة الخلاف؟ لم تكن نقطة الخلاف حول تبني أو رفض الماركسية، ولا في تسميتها، والرأي السابق واضح في هذا المجال حيث أكد منذ البدء أنه «كان واضحاً في هذا منذ بدء عملنا، إننا ننتهج نهجاً علمياً، أو بالمعنى المتداول ماركسياً وهذه قضية ليست مجال خلاف، فالثورة الجذرية، لا تكون إلا بمنهج جذري، وغذا ما بسطنا التعبيرات، تبسيطاً ميكانيكياً نقول أن هنالك منهجين يسودان العالم اليوم، المنهج المادي ، والمنهج المثالي، ولقد اخترنا المنهج المادي. (ص22). وتأكيد آخر يطرح قضية العودة للأصول وليس التخلي عن الماركسية، أي العودة إلى نقاء النظرية بالتخلي عن الشعارات وعن السياسات الخاطئة(22). وتحددت نقطة الخلاف حول أي خط نريد؟ الشعارات والجمل الطنانة، أم التحليل؟ (23). وكل النقاش يقوم على محاربة منطق الشعارات، وتبني منطق التحليل ضمن الماركسية. لقد كان منطق الردّ «شعاريا» أيضاً، ولا أقول ذلك لأن ما ورد في الرد يختلف مع الرأي الذي أطرحه، كما طرح الرفيق وائل، فأنا لا أنفي اختلاف الآراء، ولا أخافه، ولست متشبثاً برأي واضح الخطأ، بل أعتقد أن الدأب على تبني الماركسية، وترديد جمل كقيادة فكر الطبقة العاملة،...الخ ـ يعبّر عن التمسك بشعارات لأنني أرى أن القضية الجوهرية في أن نمتلك التحليل، لا أن نردد الشعارات وامتلاك التحليل بحاجة لقضايا هامة، بحاجة لبحث وتفهم، وهي قضايا الوعي والممارسة، قضايا التحليل الملموس للواقع الملموس، وقضايا المقدرة على تحديد التكتيك الصحيح إنها بشكل أساسي، كيف نصنع ثورة؟. ولذلك أرى أن الوقوف عند قضية الماركسية كشعار، واعتبار أن إدخالها في الوثائق، اتجاه يغلب الشعارات على التحليل، والملاحظات حول الوثائق توضح ما أريد قوله. فمعظمها يطرح قضية غياب تبني الماركسية اللينينية، سواء في بنود النظام الداخلي، أو في مشروع الوثيقة السياسة. هذه هي الملاحظة الأساسية فيما ورد كما أعتقد، بينما المطلوب أن تناقش الوثائق بما هي تحليل للواقع الملموس (الوثيقة السياسية) وبما هي رؤية لعمل تنظيمي (النظام الداخلي) ومنطلق المناقشة هو مدى علمية ومادية التحليل، ومدى دقته، فإذا كان علمياً ومادياً ودقيقاً، لن يضيف شيئاً تأكيد «الماركسية اللينينية» وإذا لم يكن كذلك، لن تفيد إضافة «الماركسية اللينينية». إن علمية التحليل هي ما نحتاج إليه، والحوار يجب أن يخدم هذه القضية لذلك فإن الخشية من التقدم خطوة إلى الأمام، يدعو إلى التمسك بالقضايا العامة، وبالأولويات وبالشعارات، كما يقود إلى اعتبار أية خطوة إلى الأمام تخلياً عن الماركسية. إن التمسك بالقضايا العامة هي الخطوة الأولى، ضمن التوجه العفوي، وضمن محاولة تبني النظرية الماركسية، أنه الصف الأول في مدرسة نهايتها الدراسة الجامعية، وبالتالي فإن دراسة القضايا العامة هدفها الوصول إلى امتلاك المنهج، والمقدرة على التحليل أساساً وهي دون ذلك غير ذي فائدة، وهذه القضية تحدد مسألتين هما؟؟ 1ـ علاقة العام بالخاص، تداخلهما وارتباطهما، فلا عام دون خاص ولا خاص بدون عام، إن التمسك بالقضايا العامة، والتي تتحول إلى شعارات حينما تنفصل عن الخاص، عن التحليل الملموس للواقع الملموس، دون التحليل الملموس ذاته لن يقود سوى إلى الجمود. 2ـ كيف نمتلك المنهج؟ أن التبني العفوي هو الخطوة الأولى، ولكنها الأولى ضمن مسيرة طويلة فالالتزام يقتضي التمسك بالعام، لأنه الأكثر أهمية ابتداءاً، والأقرب إلى التبني، أما الخطوة الأخرى فهي محاولة الفهم والتعمق، فهم النظرية وفهم الواقع، وهي خطوة تقتضي الدراسة والوعي وفق أسس محددة، وأما الخطوة الثالثة فهي القدرة على التحليل والفعل، وحين الوصول إلى ذلك يصبح العام جزءاً ملتحماً بالخاص. والخشية من التقدم خطوة إلى الأمام دفع الرفيق إلى تأكيد أن «العلم أكد ويؤكد الاتجاه المادي الجدلي» الذي هو ليس ضد العلم. فلقد انطلق البحث من هذه الحقيقة دون غيرها، ومؤكداً صحتها بلا منازع ولذلك فالرفيق يتفق مع ما طرح سابقاً حول مفهوم المنهج المادي الجدلي، أو العلمي الجدلي، فهو يقول «ولهذا فإن تأكيدنا على أن منهجنا مادي جدلي، لا يتنافى مع طرح علمي جدلي حسب مفهوم الرفيق خضر عواد للعلمية الجدلية...». ما فعلته سابقاً هو أنني انطلقت من قضية عامة لأصل إلى تصور شامل عن فهمنا للمنهج، طبيعته وطرق الوصول إليه، ولذلك كنت أرى أن المنهج المادي الجدلي، هو المنهج العلمي الثوري، وهو المنهج الماركسي ولم أكن أرى خلافاً حولها. ربما تم تشويه معنى المنهج العلمي أو المادي، وربما رفع تعبير المنهج الماركسي إلى مصاف المقدسات، وما حاولت فعله هو تبيان أن المنهج الماركسي هو المنهج العلمي، ولقد استشهدت بجملة للينين تؤكد ذلك في الملاحظات المنشورة في العدد (16)، حيث يقول أن الديالكتيك المادي «...ليش شيئاً أكثر أو أقل من المنهج العلمي» لأن العلم يبحث في المادة، ولا يبحث في الميتافيزيقا، ولكن يبدو أن التمسك بالمصطلحات السائدة يدفع إلى نفي كل المصطلحات الأخرى. ولقد كان الهدف من الحوار هو محاربة الخط الذي يتمسك بالشعارات، والذي أبقى الأحزاب الشيوعية هامشية على الصعيد السياسي كما على الصعيد العملي. ولقد تركز النقد على هذا الخط السلفي، الإصلاحي، الطفولي والجامد، لأنه بعيد عن الماركسية ذاتها، فهو يتثبت بجمل وأفكار طرحت في الماضي، مع تقديرنا لصحة بعضها، أو صحتها ضمن ظروفها الخاصة في الزمان المحدد لطرحها، هذا أولاً، ثم أنه عاجز عن تحليل الحاضر واستشراف المستقبل ثانياً. إن المناقشات السابقة تركزت على نقد الخط السلفي الإصلاحي، الطفولي والجامد في الماركسية ولم تناقش صحتها أو إخفاقها، وحين التطرق إلى التسميات لم تحاول التدقيق كثيراً، فاعتبرت المنهج العلمي هو المنهج الماركسي، أما تبين هذا التنظيم أو ذاك لمسميات مختلفة (مثل المنهج العلمي الجدلي)، فلا تعني سوى شيء واحد، هو محاولة التغطي بلبوس علمي دون أن يعني ذلك التمثل، فالأحزاب الشيوعية عندنا، تتبنى الماركسية اللينينية، والمنهج المادي الجدلي، ولكنها لا تستطيع تمثل الماركسية اللينينية، ولا المنهج المادي الجدلي، وهذا سبب اخفاقاتها الأساسي. ـ نقلاً عن كتاب «الفلسفة المفتوحة والمجتمع المفتوح «الجزء الأول، تأليف موريس كونفورث ص57ـ 58 بوليتزر يوضح ذلك أيضاً يقول: «والحال أن العلوم ستتقدم شيئاً فشيئاً عبر القرون، وسيحاول الناس تفسير الكون بالوقائع المادية انطلاقاً من التجارب العلمية، من هنا، من هذه الإرادة التي تريد تفسير بالعلوم ستولد الفلسفة المادية» ص23 ثم يعطي تعريفاً للمادية هو «المادية ليست سوى التفسير العلمي للكون» ص24 بوليتزر مبادىء أولية في الفلسفة. حول المنهج والنظرية: القضية الأخرى مدار النقاش: لقد أخطأ الرفيق خطأ آخر، حيث اعتبر التأكيد على الخاص هو إلغاء للعام ولقد قاده هذا الخطأ إلى مجمل أخطاء في الرد. الرأي السابق (العدد 12) حاول ربط العام والخاص، المنهج والنظرية، وحلول تأكيد تداخلهما، فلا عام بدون خاص، ولا خاص بدون عام، كما حاول ربط قيمة المنهج وأهميته بعلاقته في النظرية. إنه شعار دون التحليل، وقوانين مجردة، ترتبط بالفلسفة، وليس بعملية التغيير الثوري ولاشك أن الفلسفة جزء من الماركسية، فهي في أحد جوانبها تدرس الفلسفة، ولكنها لا تفصل الفلسفة عن عملية التغيير الثوري، بل يجعلها في خدمتها. الفلسفة تخدم التغيير، وهذا ما أوضحه ماركس في «موضوعات فورباخ» حيث أكد «أن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقدم في تغييره»(*). والرفيق يؤكد أنه لمس أن هناك خلطاً بين المنهج والنظرية، ويقول أنني لم أتحث عن هذه المسألة بوضوح ما بحثته هو الربط بينهما، تداخلهما، ولم أبحث في كل منهما، لأن ما يهمني هنا محاربة منطق الشعارات بمنطق التحليل ومنطق التحليل يقوم على الربط بينهما، ولا يقوم على الفضل فيما بينهما. لأن الفصل يعني الشعارات، والقوانين المجرد وكان الهدف تحديد مكانة المنهج ضمن عملية التغيير الثوري، إنه في جوهرها، وهو موجهها، ولكنه ليس شعاراتها أنه طريقة التحليل التي تقود إلى بلورة النظرية، أنه الصاعق ضمن عملية التفجير، فالذي يحدث الأثر الانفجارات بمجمله وليس الصاعق وحده. أما في الفلسفة فيمكن البحث في المنهج، معناه، وأسسه، وتاريخ تطوره، ولاشك أن كل ذلك مهما وضرورياً ولكن حين الحديث عن عملية التغيير الثوري، توجب الربط،و هذه هي ميزة المادية الجدلية، ورأي ماركس السابق الذكر واضح في هذا المجال. إن الفلسفة تبحث في الجانب المتعلق بالأفكار العامة، فهي تبحث المشكلات المتعلقة بالكون وماهيته، ولكنها تدرس المشكلات الأكثر عمومية(**). أما المشكلات الأقل عمومية فتدرسها العلوم(***). والماركسية لا تبحث في مجال الفلسفة فقط، بل في كل مجالات الحياة، العامة والخاصة، السابقة والماثلة واللاحقة. إذن التداخل جزء جوهري، ولا يمكن إغفاله وهو الذي أنتج الجمود، ومنطق الشعارات، وهذه هي نقطة النقد الأساسية، فالمنهج ليس قوانين تستخدم كبرشانات لحل معضلات كبيرة، ولا شعارات تقرأ في الكتب فحسب بل طريقة في الوصول إلى الحقيقة، وأسلوب في امتلاك التحليل، وهو القوانين التي تحدد النظرة إلى العالم. وللمنهج العلمي أسسه التي هي الجدل، والترابط والتغير والبحث بها سوف يدخلنا في البحث الفلسفي، أما ما نبحثه فيتعلق بقضية أخرى رغم ارتباطها بكل ذلك، وهو كيف يوصلنا هذا المنهج إلى الحقيقة، أي إلى دراسة الظروف الملموسة هذا أولاً، ثم كيف نثبت صحة المنهج؟ وهذا ثانياً. القضية الأولى مرتبطة بنقد منطق تحويل المهج إلى شعارات، ودراسة كيفية امتلك ناحية التحليل، وأما القضية الأخرى فتحدد صلة المنهج بالنظرية. المسألة الأولى هي نقد الشعارات وامتلك ناحية التحليل، وما يدفع لتأكيدها أننا لازلنا أسيري الشعارات وامتلك ناحية التحليل مرتبطة، بالوعي عموماً، والوعي العلمي تحديداً، أي بدراسة مختلف العلوم. المسألة الثانية:هي كيفية إثبات صحة المنهج؟ وهنا مرتبط المنهج بالنظرية، إن إثبات صحة المنهج لا تكون إلى في التجربة والممارسة والتجربة والممارسة تنتجان النظرية. هذا هو الترابط والتداخل، أما الفصل فيحول المنهج إلى شعارات، وإلى أفكار جامدة، وهذا التداخل هو أساس المنهج العلمي. أما الفصل فلا يكون إلا حين الدراسة، الدراسة الفلسفية. ومنطق الفصل هذا يوقع في أخطاء أساسية فالرفيق بعدما يحاول إعطاء تعرف المنهج، يؤكد «أن سلوك الطريق المحدد» المنهج «بحاجة إلى أساس فكري والأساس هو في دراسة ما طرحته المادية الجدلية...». ويحاول تأكيد هذه الفكرة أكثر من مرة. ما هو الأساس الفكري الذي نحتاج إليه لتدعيم المنهج؟. يوحي الرفيق أنه القوانين العامة للمادية الجدلية، وهو القوانين العلمية الثورية، التي ليس باستطاعتنا دراسة التطور التاريخي والفلسفي والعلمي والأدبي بعمق بدونهما. إن القوانين العامة للمادية الجدلية هي المنهج، وبالتالي فما ورد سابقاً لا معنى له، فالمنهج (الذ هو سلوك الطريق المحدد) بحاجة إلى المنهج (الذي هو المادية الجدلية). إن منطق الشعارات هو الذي قاد إلى هذا الإرباك. كما أن التأكيد على ترابط العام والخاص، قاد الرفيق إلى تأكيد أن العام لا يلغي الخاص، وإن القوانين العامة للمادية الجدلية تحترم خصوصية المجتمعات. ثم أن امتلاك ناحية التحليل، كما أكدت سابقاً، بحاجة إلى الوعي، ولا يتكون الوعي، إلا بدراسة كل التطور العلمي والفلسفي والتاريخي. بدراسة المادية كفلسفة، والمثالية كفلسفة، وبالتالي الوعي بالقوانين العلمية، المادية الجدلية. كل ذلك صحيح ولكن ما طرح في الرأي السابق ناقش قضية أخرى، وهي كيف نتأكد من صحة المنهج؟ بالشعارات أم من خلال فهم الواقع الملموس؟ بالتمسك بالأفكار العامة، وتردادها، أم بالبحث والدراسة؟ أن صحة لا تكون إلا بالتجربة والممارسة، من هذا المنطلق أن تقييم علمية الأفكار لا تكون إلا بمدى مقاربتها للواقع، وليس بتردادها. إن النقد الأساسي موجه إلى أسلوب التشبث بترداد القوانين العامة، بينما قيمتها بمدى مساهمتها في تجديد القوانين الخاصة، ودور الفرد هو هذا، كيف يحوّل القوانين العامة إلى قوانين خاصة، فإذا أخفق كان سلفياً ومردداً وشعارياً، أما ذا نحج فيكون قد حقق الترابط من خلال استيعابه للمنهج العلمي. إن قيمة القوانين العمة هي هذه. برنامج الثورة: إن عدم الدقة في فهم ما ورد في العدد (12) قاد إلى أخطاء عديدة. لقد اعتبر الرفيق أن الرأي يقوم على نفي الماركسية، فحاول الإتيان بشواهد تثبتها فهو يحاول التأكيد أن الثورة القومية الديمقراطية الشعبية لا تتعارض مع تبني فكر الطبقة العاملة، وإن لينين طرح الاشتراكية، وفكر الطبقة ثم يتسأل «هل فشلت تجارب الأحزاب الثورية في العالم الثالث، التي تبنت هذا النهج لنعتبر أن طرح تبني هذا النهج مجرد شعار؟. ما حاولت تأكيده، ليس نفي الماركسية بأي حال من الأحوال، وهذا واضح في الرأي السابق، بل ما حاولت تأكيده هو أن الثورة لا تقوم على القوانين العامة، بل أنها بحاجة لبرنامجها المعبّر عن السمار التاريخي الصاعد والذي يحدد طبيعة الثورة ذاتها وأهدافها. أما «الأساس الفكري» و«فكر الطبقة العاملة» فلا تفيد شيئاً إذا كان البرنامج لا يعبّر عن كل ذلك. أن أهمية الأساس الفكري في بلورة برنامج يعبّر عن حقيقة الظروف القائمة وعن المسار الذي يجب أن تأخذه الثورة، وهو عند إذن يلعب دوره في علمية التغيير الجذرية، أما خارج ذلك فلسوف يتحول إلى شعارات، وجمل طنانة رنانة. والمثال الذي وجدته واضح هنا، وهو الاختلاف بين لينين وتروتسكي، لينين الماركسي الذي استطاع أن يحدد برنامج الثورة، فبنى القوة المؤهلة لتحقيقها، وتروتسكي المنظر الماركسي الذي ظل يؤكد أن طبيعة الثورة اشتراكية، وأن على الطبقة العاملة أن تقود منذ 1903 إلى 1917 دون أن يفعل شيئاً، سوى الانخراط في حزب لينين. لقد طرح لينين عام 1905 الجمهورية الديمقراطية، بقيادة الفلاحين، لأنهم القوة الأساسية انئذ، ولم يطرح قيادة الطبقة العاملة، ثم طرح الثورة الديمقراطية بقيادة العمال والفلاحين، حينما تطور الوضع وضع الطبقة العاملة وتزايدت قوة الحزب، وناضل منذ عام 1906 إلى 1917 فوق هذا الهدف، وحين سقط القيصر واستلمت البرجوازية وأقسام من البرجوازية الصغيرة السلطة في شباط 1917، وبعدما كان يمتلك القوة التي تؤهله الوصول إلى السلطة طرح شعار الثورة الاشتراكية، القائمة على تحالف العمال والفلاحين، وانتصر في أكتوبر 1917. وما ساعده على الانتصار عوامل ثلاث هي: 1ـ لقد نمت الطبقة العاملة منذ 1903 إلى 1917 نمواً كبيراً نتيجة دخول روسيا عملية التحديث البرجوازي وأصبحت قوة كبيرة، تلعب دوراً سياسياً مهماً. 2ـ ولقد نمى الحزب أيضاً، وأصبح قوة كبيرة تلعب دوراً في السياسة الروسية، ولقد نمى الحزب بسبب نمو الطبقة العاملة، وبسبب الأهداف الصحيحة التي حددها الحزب خلال مراحل تطوره، والتي تستقطب فئات متزايدة من السكان ثانياً. 3ـ فشل البرجوازية، وأقسام من البرجوازية الصغيرة السريع، بعد شباط 1917، وعدم مقدرتها التعبير عن أهداف الطبقات الشعبية من جهة وعدم مقدرتها على التطور البرجوازي في مرحلة وصول الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية. وتروتسكي طرح الاشتراكية وقيادة الطبقة العاملة، عام 1903 والطبقة العاملة قليلة العدد والعدة وحزبها لم يتكون بعد، ولم يتمرس في النضال، فكان منطقة شعارياً، وجامداً، ودراسة موقفه من مسألة الحزب ومن طبيعة الثورة ومحاولاته مع لينين، توضح هذا المنطق تماماً. لقد كان لينين ماركسياً، ولكنه أولى البرنامج أهمية كبيرة، وربما لكونه ماركسياً فعل ذلك. أما تروتسكي فلقد حاول طرح برنامج يقوم على الشعارات وهو ماركسي أيضاً ولقد نجح الأول وفشل الثاني. ـ والآن، هل أن طرح ضرورة قيادة فكر الطبقة العاملة للتنظيم شعار؟. ما يحدد ذلك، السياق الذي تطرح فيه هذه الفكرة، رغم أن القضية ليست قضية قيادة فكر الطبقة العاملة أو عدم قيادته، بل بأي معنى من المعاني نفهم ذلك؟ ما هو المطروح في الوطن العربي هو منطق الشعارات عند الأحزاب الشيوعية، وعند الغالبية العظمى من القوى الماركسية ـ اللينينية، وما يحدد أنه منطق شعارات هو وجود الجمل الطنانة الرنانة. على شاكلة «قيادة الطبقة العاملة»، و«الماركسية اللينينية» و...الخ. وغياب التحليل هو الذي يدعو إلى الحديث عن سيادة منطق الشعارات. فأي معنى نريد؟ الشعارات أم التحليل؟ فإذا أردنا التحليل علينا سلوك طريق جديد، يقوم على الفهم العميق للماركسية، لكي نستطيع بلورة البرنامج العام للثورة في وطننا. تحديد الأهداف العامة، وطرق النضال، وأساليبه، وعندها لا نكون بحاجة للشعارات لا لتأكيد ضرورة قيادة فكر الطبقة العاملة، ولا لتأكيد أهمية الماركسية اللينينية، ولا... الخ. لأننا عندها نكون ماركسيين حقاً دون شعارات، وثوريين بلا جمل طنانة رنانة، ونمتلك ناحية التحليل بلا منازع. ما أطرحه أعمق من تأكيد ضرورة قيادة فكر الطبقة العاملة، ما أطرحه هو كيف نصبح تنظيماً ثورياً، ينهج نهجاً علمياً، في الممارسة والتحليل؟ والإجابة على ذلك مرتبطة، بمدى مقدرتنا على أن نحدد الطرق الصحيحة الآن، في تبني المنهج العلمي، وعلى مدى مقدرتنا على التطور الصحيح ضمن هذا الفهم. لقد حاول الرفيق وائل الرد ولكنه وقع في المحاذير التالية: 1ـ أنه لم يستوعب م طرح جيداً، فتوصل إلى نتائج خاطئة. 2ـ كان منطق الشعارات هو الذي يحكمه، فرأى في نقد الفهم الجامد والشعاري للماركسية تخليا عنها. 3ـ وكان يحكمه أيضاً الحرص على إعلان تبني الماركسية، لأنه يرى في ذلك حلاً لمعضلة، بينما المعضلة أعمق من أن تحل بشعار. ثانياً: حول التنظيم: وهنا يبدو اللبس واضحاً، كما يبدو منطق الشعارات واضحاً أيضاً هل ما نطرحه هو تنظيم يقوم بمرحلة الثورة الديمقراطية فقط؟ وهل في كل ما طرح غموض في قضية الانتقال إلى الاشتراكية؟. لقد أكد الرفيق أن هناك غياب للتصور الاستراتيجي (الاشتراكية)، وهذا ما دعاه إلى الاستفسار عن دور التنظيم، وشرد على وضوح المسألة الاستراتيجية (الاشتراكية). إن هذا اللبس يفرض نقاش قضايا عديدة هي: 1ـ القضية التي نحن بصددها، وهي تبني الماركسية، إن اللبس السابق حول نفي الماركسية عكس نفسه هنا فنفيها وطرح برنامج الثورة الديمقراطية، يعنيان عملياً أن التنظيم معني بهذه المرحلة فقط، وهذا يبين عدم وضوح الفكرة التي دار حولها أيضاً الحوار السابق، وهي منطق الشعارات أو التحليل والدراسة والبحث؟ وحين نؤكد أننا مع الماركسية، يزال اللبس هنا. 2ـ إننا نطرح برنامج الثورة القومية الديمقراطية الشعبية، ولكننا نعتبره عقبة الانتقال إلى الاشتراكية ولانعتبر أن دورنا يقف عند الثورة القومية الديمقراطية الشعبية فقط، بل أن دورنا في بناء المجتمع الاشتراكي ثابت. 3ـ أن للتنظيم سمات ومهام في هذه المرحلة سوف تختلف عنها في المرحلة الاشتراكية، إن وضع الطبقات الحالي سوف يجعله تنظيم كل الكادحين، وليس الطبقة العاملة فقط، أما مهامها فتحقيق الثورة القومية الديمقراطية الشعبية. إن للتنظيم دور مرحلي ودوراً استراتيجياً، ولا يمكن الفصل بين المرحلتين، أو تحقيق واحدة دون الأخرى وتبني فكر الطبقة العاملة لا يلغي برنامج الثورة الديمقراطية الشعبية، بل يفرضه، لأن عتبة الانتقال إلى الاشتراكية، وهذه قضية واضحة. وقضية التناقض بين الماركسية وبرنامج الثورة القومية الديمقراطية الشعبية لم ترد، ولا أرى أن هناك ما يشير إلى وجوده، فالماركسية قضايا عامة، وبرنامج الثورة القومية الديمقراطية الشعبية قضية تتعلق بالوطن العربي، ولا يجوز المقارنة بين قضيتين مختلفتين المجال، كما أن الواحدة لا تلغي الأخرى، إن الذي فرض اعتبار الثورة في بلادنا ذات طبيعة قومية ديمقراطية شعبية، هو النظرة العلمية للمشاكل التي يعانيها الوطن، والطريق الكفيل بحلّها. وبالتالي فلست اعتبر أن اعتبار الثورة ذات طبيعة قومية ديمقراطية شعبية، يعني إلغاء الماركسية، وليست الثورة القومية الديمقراطية الشعبية ايديولوجية ثالثة، أنها نظرية الثورة في بلادنا في مرحلة محددة، هي مرحلة إزالة الاحتلال والتخلف والتبعية، وإلغاء التجزئة، وكخطوة لا مناص منها على طريق الاشتراكية، وبهذا المعنى فإنها نظرية مرحلة محددة في المسار الواصل للاشتراكية، والتحليل العلمي (الثوري) الماركسي هو الذي قادنا إلى هذه النتيجة. إن مهام التنظيم لا تتعلق بالثورة القومية الديمقراطية فحسب، بل والثورة الاشتراكية أيضاً، وكل البرامج المطروحة تؤكد هذه الحقيقة، ولكن منطق الشعارات قاد إلى عدم ما طرح، فغياب بند في مدخل النظام الداخلي ينص على أننا نتبنى «الماركسية اللينينية»، وغيابها أيضاً من مشروع البرنامج السياسي، وتركيز النقد على فن يحاول تثبيت هكذا بند، كل ذلك دفع الرفيق إلى اعتبار أننا نطرح الثورة القومية الديمقراطية الشعبية كأيديولوجيا وليس كبرنامج لمرحلة تاريخية. إن الثورة القومية الديمقراطية الشعبية هي المرحلة التي نعيشها في بلادنا، والتي سوف تكون عتبة الثورة الاشتراكية. التنظيم والحركة: حاولت إعطاء التنظيم صورة أكثر شمولية، فهو ليس الخلايا فقط بل الحركة الشعبية كلها، وطرحت تصوراً يقوم على أن يعتمد على محاولة استقطاب الحركة الجماهيرية (قسمها الأساسي) من خلال الأشكال التالية: 1ـ الهيكل التنظيمي، الذي هو الخلايا واللجان، والهيئات القيادية، وله شروطه الخاصة والصعبة. 2ـ خلايا الأنصار والأنصار والأصدقاء المرتبطة بالخلايا التنظيمية، والتي تعمل وفق توجه التنظيم. 3ـ اللجان النقابية والنوعية المختلفة المرتبطة بالتنظيم. أو مستقلة جزئياً أو كليا عنه، والتي تلعب دوراً مهنياً ومعاشياً، تدافع عن حقوق الفئات والطبقات المختلفة، ولكنها تقوم بكل ذلك ضمن خط التنظيم العام، ويكون دورها متمماً لدوره. ولكن الرفيق أخطأ الفهم على ما يبدو، فأعطى تعريف للتنظيم الثوري على أنه «أداة توحيد سياسي وأيديولوجي للطبقات المسحوقة، يسعى لأن تمتلك هذه الطبقات فكر الطبقات العاملة، الذي يتناسب ومصالحها الموضوعية في إنجاز مهام هذه المرحلة». كما أعطى تعريفاً للحركة الشعبية يقوم على أنها حركة الجماهير الشعبية المناهضة للإمبريالية والصهيونية والجرمية والتي تتخذ أشكالاً مختلفة...، ثم أكد وهذا يوضح أن هناك لبساً أو فهماً خاطئاً، ولهذا فإن الحركة الشعبية ليست إطاراً تنظيمياً ذو هياكل وأنظمة، وهذه النتيجة هي التي خلصت لها في الرأي السابق ذكره إن الحركة الشعبية هي جمهرة الطبقات الشعبية، مؤطرة ضمن أطر فضفاضة تستوعب كل هذه الجمهرة. ولكني أضيف على تعريفه لـ لحركة الشعبية أنها ليست حركة الجماهير المناهضة للإمبريالية والصهيونية والرجعية فقط، أنها حركة الجماهير الفقيرة والمضطهدة أيضاً الساعية إلى تحقيق أهدافها في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، أنها جماهير العمال والفلاحين والبرجوازيين الصغار الوطنيين والديمقراطيين، الذين لا يواجهون الإمبريالية والصهيونية والرجعية من المنظار السياسي فقط، والذين يواجهون القمع والاستغلال اليومي، يواجهون قضايا الفقر والجوع، قضايا أخريات الديمقراطية وأزمات السكن والمياه والمواصلات والزواج، ويواجهون انعكاسات التجزئة عملياً، من خلال معاملات الحدود والجمارك. وكلها أهداف حركة الجماهير الشعبية، وكلها بحاجة لأشكال تنظيمية مناسبة. ويتضح اللبس أكثر حين التطرق لشروط العضوية، الرفيق يؤكد أنني أكدت أن العضوية في التنظيم ولحركة الشعبية واحدة، ولقد ذكرت شيئاً من ذلك حين حاولت نفي فكرة طرحها الرفيق رمزي، وتقوم على أن الحركة الشعبية هي تنظيم أيضاً، إضافة إلى التنظيم الطليعي ولها برنامجها ونظامها الداخلي حيث أكدت أنه ضمن التصور الذي طرحه الرفيق رمزي أو على الأقل ضمن فهمي لتصوره. ليس هناك فرق بين شروط العضوية في التنظيم والحركة الشعبية مادام المطلوب الموافقة على برنامج سياسي واحد ومادام شرط الموافقة على الالتزام وارد في كلا الشكلين. أما الموقف الأساسي فكان أن هناك تنظيم له شروطه، بضمنها شروط العضوية، وهناك اللجان النقابية والنوعية التي شرطها الأساسي الموافقة على الانخراط في عمل نقابي ومهني هدفه محدود، ويتعلق بمهنة محددة، أو وضع معاشي معين، أو هالة سياسية بعينها. ولم يكن هناك وهم أن الشروط واحدة. واختلاف الشروط نابع من اختلاف المهام أصلاً، فالتنظيم يسعى لتحقيق مهام أساسية مرتبطة بالتطور التاريخي بالأهداف الأساسية لتطور أمة في مرحلة محددة، ويقوم بذل ضمن جبهة القوى الوطنية والديمقراطية، والثورية وهدفه المساهمة في قيادة النضال الثوري على طريق النصر، أنه «يئة أركان الثورة»، ومحدد استراتيجيتها وتكتيكها، ومحفز القوى الجماهيرية لخوض غمارها، والساعي لبناء القوى المسلحة القادرة على هزيمة الأعداء. أنه الطليعة وللطليعة شروطها، وشروطها العامة، وشروطها المحددة. شروطها العامة أي للطليعة سماتها وهي 1) المقدرة على تحديد البرنامج السياسي الصحيح، وتحديد الحلفاء الرئيسيين في الصراع، وكذلك تحديد التكتيك الصائب، الداعم للاستراتيجية، والقادر على دفع العمل الثوري بمجمله إلى الأمام في كل لحظة من اللحظات، وفي كل مرحلة من المراحل 2) المقدرة على التماسك، وبناء القوى الصلبة. 3) المقدرة على امتلاك زمام المبادرة دائماً، وامتلاك روح الهجوم، فالهجوم أساس العمل الثوري، أما الدفاع فاستثناؤه، لأن الهجوم هو الذي يجمع القوى الجماهيرية، ويفتت قوة الأعداء ويربكها. 4) أن تكون فاعلة دائماً، أي توفر المقدرة على الحركة، وتنظيم القوى وتحريض الجماهير، وخوض المعارك الصغيرة والمحدودة التي تشعر الجماهير بمقدرتها، وتكوّن تراكماً لعمل ثوري كبير. وكل ذلك بحاجة للوعي والتجربة، وهما أساس العمل الثوري كله. أما الشروط المحددة، فهي الشروط المتعلقة بعضوية التنظيم، وهي نتابعه من الشروط العامة، ومن الدور الذي على التنظيم القيام به، ولذلك فهي شروط صعبة وتقوم على التالي: 1) الالتزام بالبرنامج العام. 2) الالتزام في الاجتماعات وفي تنفيذ المهام. 3) توفر قدر من الوعي يسمح للعضو بممارسة العمل الثوري. 4) توفر قدر من التجربة تسمح للعضو أن يكون فاعلاً ومبادراً. 5) إضافة لصفات عامة أخرى كالشجاعة، والصلابة، والاندفاع. أما الحركة الشعبية فسماتها مختلفة، فهي أولاً لا ترقى إلى شكل التنظيم، أنها لجان واتحادات وخلايا أنصار وهي ثانياً قد تكون ثابتة، وقد لا تكون. وهي أساساً لا تقوم على برنامج محدد، أنه برنامج مطلبي مني يخص نقابات العمال وهو برنامج مهني فيما يتعلق بالأساتذة والموظفين، و...الخ، وهو برنامج سياسي محدد يقوم على نقطة واحدة فيما يتعلق بلجان الحريات السياسية والديمقراطية، وهو برنامج يتناول قضية اجتماعية بعضها كاتحادات المرأة. وشروط العضوية عادة، تحددها المهنة، أو النوعية، والفروق واضحة هنا، رغم أن للحركة الشعبية دور مهم في النضال السياسي، ويقوم على الربط بين التنظيم وهذه اللجان والاتحادات، وتوحيد العمل وفق تصور واضح، رغم ثبات أولويات المهام في كل منها. إن العلاقات التنظيمية ثابتة ومحددة، ولها قوانينها، أم العلاقات ناظمة اللجان والاتحادات خوامة وفضفاضة رغم توفر شروط دنيا تحكمها. وميزة العمل الثوري هو الجمع بين العلاقات التنظيمية، والعلاقات الفضفاضة، العلاقات السياسية، والعلاقات المهنية، التنظيم والجماهير. الطبقة العاملة وفكرها: النقطة الأخيرة مدار نقاش، حول قيادة فكر الطبقة العاملة، وعلاقته بعددها كطبقة، والرفيق يقول أن قيادة الفكر هنا «لا تعتمد مسألة عدد العمال». وأقول أن عدد الطبقة العاملة مهماً، وتبلورها كطبقة، وتبلور الوعي فيها مهمان أيضاً أن قيام الثورة يعتمد اندماج الفكر الاشتراكي بالطبقة العاملة، ولقد أكد لينين على ذلك واعتبره سبب انتصار الثورة الأساسي فالفكر يجب أن يقوم على قاعدة منسجمة معه، وحين اعتبرت الفكر الاشتراكي معبراً عن أيديولوجية الطبقة العاملة، لانسجامه مع تطلعاتها، ومدخلها لتحقيق ثورتها. لقد ولد الفكر الاشتراكي على النقيض من الفكر البرجوازي كما ولدت الطبقة العاملة على النقيض من الطبقة البرجوازية رغم أنهما ولدا في أحضانهما، ولن تتحقق الثورة الاشتراكية إلا باندماج الفكر بالطبقة، وهو دور الحزب. إن قيادة الفكر تعتمد على ركيزتين هما: أولاً: قوة الطبقة العاملة ودورها في المجتمع، دورها الاقتصادي بحيث تكون عماد الاقتصاد، من حيث عددها، ومن حيث دورها في علاقات الإنتاج، وعددها هو الذي يحدد دورها في الاقتصاد. ثانياً: وجود طليعة لديها قدر من الخبرة والتجربة والوعي، تمتلك ناحية التحليل، وتستطيع رسم سياسة الطبقة العاملة وتحديد أهدافها، وقياداتها. وبدونهما لن يستطيع فكر الطبقة العاملة أن يلعب دوراً قيادياً، ولا أن يواجه الفكر المثالي عموماً. أن مشكلة البلدان المتخلفة تكمن في أن المجتمع ظل ريفياً متخلفاً، أو نمى على هامش علاقات الإنتاج الرأسمالية ليتحول إلى مجتمع استهلاكي مرتبط، ورغم انتصار الثورات، في العديد من هذه البلدان، بقيادة الأحزاب الشيوعية، إلا أن المشكلة ظلت قائمة، وبرزت بوضوح بعد انتصارها مما أوقعها في إشكالات عديدة، لقد قاد الفكر البروليتاري ولكن كان الجسم فلاحياً متخلفاً، وإذا استطاعت الاستقلال، فلقد عانت من إشكالات كبيرة، لأن الفلاحين لا يستطيعون بناء الاشتراكية. إن ذلك لا ينقص من أهمية الفكر ولكن يضعف من دوره في العملية الثورية. وكان حل هذه المشكلة في البلدان المتخلفة يقوم على أساسين، الأول الوعي، والثاني البرنامج الديمقراطي. إن تخلف الطبقة العاملة وقلة عددها، يعطي أهمية كبيرة للوعي، وإذا كان الوعي مهماً في كل الحركات الثورية، في كل تاريخ البشرية، فإنه أكثر أهمية في ظروف البلدان المتخلفة، والوعي هنا ليس تبني الفكر الماركسي، بل الوعي الشامل المعتمد أساساً على الفكر العلمي، والذي يمكن الطليعة من التحليل السليم. ومن اتخاذ المواقف السياسية والعملية الصحيحة. وتبرز أهمية الوعي أيضاً أمام تخلف هذه المجتمعات وتخلفها الفكري تحديداً،فالجهل لا يواجه إلا بالوعي وتخلف الطبقة العاملة وقلة عددها، بدفع أيضاً إلى استقطاب طبقات جديدة إلى الثورة وتنظيمها ضمن إطار سياسي واحد فالتنظيم لا يعبر عن تطلعات الطبقة العاملة وأهدافها فقط، بل وعن أهداف كل الكادحين (الفلاحون الفقراء والبرجوازيون الصغار الثوريين) وهذا التحالف هو قاعدة التنظيم. وكل ذلك هو الذي يعطي الأهمية للثورة القومية الديمقراطية الشعبية، فهي الثورة التي تهدف إلى خلق القاعدة الاقتصادية التي تنمي وضع الطبقة العاملة، وتجعلها قوة أساسية في المجتمع، كما تنمي وعيها وتجربتها، وإذا كانت الثورة الديمقراطية هي عتبة الثورة الاشتراكية فلأنها تخلق كل ذلك، أن تقدم الطبقة العاملة، تزايد عددها وتطور وعيها واكتسابها الخبرة التجربة اللازمتين، هو الذي يحول الثورة الديمقراطية إلى ثورة اشتراكية. والتنظيم معني بكل ذلك، بالثورة الديمقراطية كخطوة لازمة تبلور الطبقة العاملة وتطور وعيها، وتكسبها الخبرة اللازمة وبالثورة الاشتراكية التي هي نتاج تبلور الطبقة العاملة وتحولها إلى قوة أساسية في المجتمع من حيث عددها الإجمالي إلى عدد السكان العام، ومن حيث دورها الأساسي في العملية الإنتاجية، وكذلك من حيث وعيها وتجربتها. إن ضعف الطبقة العاملة يفرض التحالف العام مع طبقات أخرى، ويفرض استقطاب فئات جديدة، لكي تكون قاعدة التنظيم وكل ذلك يجعل دور التنظيم قائماً على التحالف مع تنظيمات وأحزاب أخرى تمثل مصالح طبقات وفئات مختلفة، ويجعله دور التنظيم، ليس حسماً بل مكملاً لدور التنظيمات والأحزاب الأخرى وإن حاول أن يلعب دوراً مميزاً. وضعف الطبقة العاملة يبرز القضايا التالية: 1ـ ضرورة تعايش أفكار مختلفة لمرحلة محددة داخل المجتمع، فالفكر العلمي ليس الفكر الوحيد في مواجهة الفكر البرجوازي أنه متعايش مع الفكر البرجوازي، والبرجوازي الصغير في مواجهة الفكر السلفي، وفي مواجهة الفكر البرجوازي العالمي، وال............. يفرض التفاعل، كما يفرض الاختلاط، وإن لم يكن الفكر العالمي العلمي متماسكاً سقط، وأصبح تابعاً. وإن يكون متماسكاً بعد أن تمتلك الطليعة، الملتزمة به الوعي الكافي والصلابة اللازمة. 2ـ ضرورة تعايش الأحزاب والتنظيمات المختلفة، وبالتالي ضرورة وجود أشكال من علاقات التحالف بينها، فكلها لها دور في المرحلة الديمقراطية، كلها متكافئة أو متساوية. 3ـ أن اعتماد التنظيم لفئات الكادحين عموماً قاعدة له فسوف يبرز أشكالاً عديدة داخله، نتيجة وضع هذع الطبقات والفئات المتخلف سواء على صعيد الموقع الاقتصادي أو على صعيد الوعي. وقيادة الفكر العلمي تعتمد على الفكر وتطور الطبقة العاملة في علاقات الإنتاج، كما نعتمد على وعي وخبرة وتجربة الطليعة، وخصوصاً في بلادنا، حيث أنهار الريف الذي كان الجسم للثورة الاشتراكية في الصين وفيتنام. ثالثاً: حول الثقة لقد أكد الرفيق وائل على أهمية وجود وثيقة تفسر فهمنا للعلمية الجدلية، خشية التفسيرات والتأويلات المختلفة والرفيق يطالبنا أن نخلق إنجيلاً، أو قرآناً، نعود إليه كلما اختلفنا لنحسم الخلاف، إن اتفاقنا على فهم محدد للماركسية بمجملها لا يتم إلا بالحوار الدائم والمستمر، وبالخبرة والتجربة، وهي قضايا السنوات اللاحقة، كما أنها قضية التنظيم بمجمله قضية وعيه وتجربته وخبرته، وليست قضية فرداً منا، ولا قضية قرار نتخذه الآن. والثقة لن تخلقها وثيقة تضعها الآن، لأن ما يقرّ دون إنضاج لن يحوز على ثقة . ولذلك علينا أن نستمرّ في الحوار، وأن تخوض التجربة وخلال كل ذلك تبلور خطأ نظرياً واسعاً. خلاصة: لقد حاول الرفيق تأكيد ضرورة تبني فكر الطبقة العاملة، كما أكد على ضرورة وجود وثيقة تعدد ذلك وكان واضحاً أن هناك خشية من ناحيتين، الأولى: الخشية من عدم تبني فكر الطبقة العاملة، والثانية: من نقد المنطق الشكلاني، انطلاقاً من أنه الفكر الماركسي. وهذا يحدد أننا ما زلنا ثم تخطو إلى الأمام، لأن السير إلى أمام بحاجة إلى تجاوز الشعارات وامتلاك الوعي العلمي. إننا بحاجة للنقد، نقد النظرية، ونقد المنطق الشكلي، فالعلم، لا يتطور إلا بالنقد، والمنطق الشكلي لا يهزم إلا بالنقد أيضاً. فلنهزم منطق الشعارات.
رسالة إلى الرفاق نحو خط تنظيمي ثوري، وبنية متماسكة أيها الرفاق الأعزاء: علينا اليوم أن نحدد خطاً تنظيمياً يقوم على عدد من الأسس التي حرصنا طيلة السنوات الثلاث الماضية على تأكيدها وتكريسها، وأهمها الديمقراطية كمبدأ أساسي لابدّ منه إذا ما أردنا لتجربتنا أن تتطور وتستمر، وأن تأخذ كل أبعادها الثورية والشعبية، ولذلك علينا أن نرسي تقاليد الحوار والنقاش، تقاليد العمل الجماعي والقرارات الجماعية، وتقاليد النقد وكشف الأخطاء والممارسات غير الثورية، والضارة بمسيرة العمل الثوري كله. ونحن نواجه صعوبة كبيرة نتيجة عدد من الأسباب أهمها: أ ـ أن قضايا العمل التنظيمي في وطننا لم تبحث، ولم تول الأهمية التي تستحسن بل ما هو قائم لا يعدو أن يكون ترداد لتجارب سابقة، أو تخص بلداناً أخرى ولذلك فالصعوبة تكمن في أننا نحاول البحث لتحديد خط تنظيمي، دون أن نجد معيناً، أو تجربة نهتدي بها، أو آراء نقيمها وندرسها. وما هو قائم لا يعدو أن يكون شذرات مقتبسة أو منقولة، أو مترجمة، ولكل ذلك سلبياته وأساسها أن كل ذلك ظل بعيداً عن واقعنا متطفلاً عليه، وزائداً فيه، دون أن يتفاعل معه. ب ـ أن تخلف مجتمعنا وسيادة أنماط من العلاقات ما قبل الرأسمالية، الريفية والقبلية المتخلفة، يجعل العمل التنظيمي صعبا، لأنه نقيض كل العلاقات السائدة، ولذلك فالصعوبة الأساسية، تكمن في نقل الأفراد من الحالة المتخلفة السائدة إلى حالة أرقى، وجوهر صعوبتها في أن النقلة هذه لم تتم ضمن ظروف طبيعية حيث تسقط العلاقات ما قبل الرأسمالية لتحل محلها العلاقات الرأسمالية، التي تقيم تنظيماً جديداً للمجتمع يقوم على العمل. ولذلك فالنقلة تعتمد على الوعي، وعلى التجربة التنظيمية ذاتها، ولذلك فمهمة التنظيم ليس خوض الصراع السياسي فقط، بل أساساً وأولا التربية الايديولوجية والتنظيمية، بما يقود إلى بناء قوي منظمة ومتماسكة. جـ ـ ولقد زاد في الصعوبة أن تجربة الأحزاب السياسية العربية، وبضمنها المقاومة الفلسطينية، أرست عادات وتقاليد متخلفة، ومناهضة للعمل الثوري والتنظيمي، فنمت الانتهازية وأصبحت سمة رئيسية، وسادت الإصلاحية، كما زادت الثرثرة دون أن يبرز الفعل، والكسل دون أن ينمو العمل، والفوضى دون أن يتبلور العمل المنظم. ولذلك أيها الرفاق، أمامنا مهاماً صعبة، وأساسها بلورة الخط التنظيمي الديمقراطي والثوري، والشعبي، بكل أبعاده النظرية، والعملية. أيها الرفاق: لقد نوقشت الوثائق، ونشرت الملاحظات، ولكن علينا أن نسجل هنا أن النقاء لم يكن جدياً، ولم يتناول القضايا الأساسية والجوهرية، إلا فيما ندر.. ولذلك لم يشارك كل الرفاق فيه، رغم المدة الزمنية الطويلة التي أتيحت للمناقشة (حوالي ثلاث سنوات بخصوص مشروع النظام الداخلي، وتقييم التجربة). وهذه نقطة ضعف أساسية، وعلينا أن نحدد أسبابها. أيها الرفاق: وعلى المؤتمر أن يحسم في كل القضايا، ولاشك أن هناك قضايا مختلف عليها، وبحاجة للحسم. وبعض القضايا جوهري، ولذلك هو بحاجة لنقاش مستفيض، ورؤية في البحث، وتمحيص وتدقيق، ولسنا بحاجة لقرارات متسرعة وشكلية. لأننا نحاول بلورة خط تنظيمي جديد، ولسنا نسعى لنقل ما جاء في وثائق الأحزاب الأخرى، أو ترجمة ما جاء في وثائق أحزاب نمت وترعرعت في بيئات أخرى. إننا نبحث عن تجربتنا، وعن ظروفنا، ونحاول بلورة خط سياسي، وخط تنظيمي، يتناسبان مع ظروفنا وأوضاعنا ويعبران عن تجربتنا. فهل نستطيع ذلك؟ هذه مهمتنا الأولى والأساسية، وإذا ما فشلنا تحولنا إلى حزب من الأحزاب القائمة يعاني كل أمراضها، ويعيش منعزلا، وهامشياً. أيها الرفاق: وأمامنا عدد من القضايا الأساسية، التي علينا أن نحدد موقفاً منها، بعد أن ندرسها بروية وتمعن. لأنها المفاتيح التي تقود إذا ما حددت إلى الإجابة على السؤال الأساسي، وهو هل نقلد ما هو قائم، أم نحاول بناء تجربة جديدة؟. هل نتمسك بالشعارات أم ننتقل إلى التحليل لندرس ظروفنا الموضوعية؟. هل ننقل أم ندرس؟. وتحديدها الصحيح هو الذي يحدد أننا انتقلنا لبلورة تجربة جديدة، تقوم على التحليل ودراسة الظروف الموضوعية، لنصل إلى بناء التنظيم الديمقراطي الثوري والشعبي، القادر على الانتصار. ـ1ـ أيها الرفاق: أول هذه القضايا هي قضية الماركسية، ولقد كان النقد من العديد من الرفاق أو الوثائق لا تأتي على ذكرها، وطالبوا بأن تذكر صراحة في النظام الداخلي، والبرنامج السياسي، والمنتقدون حول هذه القضية كثر، ومن منطلقات مختلفة. ولقد نوقضت قضية الماركسية بشكل محدود فيما مضى، ولم تول الاهتمام اللازم، ولم تثر الوثائق نقاشاً واسعاً حولها، وظل النقاش منحصراً في أن نوردها أو لا نوردها، دون الدخول في نقاش عميق يحدد فهمنا لها، ويحدد أسباب عدم ايرادها في الوثائق، رغم أن قضية تبني الماركسية كمنهج كانت واضحة منذ البدء، لأننا مقتنعون أن علماً ثورياً وجذرياً دون منهج علمي ثوري، ليس إلا هرطقة وديماغوجيا. لأن الذي ينجز العمل الثوري الجذري، هو الفكر الثوري الجذري، وهو في عصرنا الفكر العلمي، أن الفكر الماركسي اللينيني كما أسمي خلال العقود. الماضية. وأن يأخذ الحوار هذا الشكل فإنه يعبر عن سلبية كبيرة، ولا يقود إلى الوصول لنتائج واضحة. ويمكننا تحديد أسباب التشدد في التركيز على الماركسية، وفي محاولة تثبيتها في الوثائق بسببين هما: أولاً: سيادة منطق الشعارات، والنقل لدى كل الأحزاب الماركسية والشيوعية ولقد أثر ذلك في كل المناضلين والمثقفين الذين يرون أن عليهم أن ينجزوا ثورة جذرية. ولذلك أسباب أساسية أهمها غياب الوعي، وضعف اتجاهات البحث لدى هذه الفئات، وأيضاً التركيز على الصراع السياسي مع هذه الأحزاب، وتبني موقفها الايديولوجي بينما كان الخلل السياسي لديها نتيجة خلل ايديولوجي عانت منه وهذا سبب عام. ثانياً: وهناك سبب خاص يتعلق بظروفنا كتنظيم، وطبيعة الصراعات التي برزت خلال السنوات الماضية داخلنا، حيث اتخذ الصراع شكل تعارض القاعدة مع القيادة، واعتبار القيادة مع بقاء الخط السابق الذي هو خط فتح أساساً والمناهض للماركسية والتنظيم. ولقد فهم غياب ذكر الماركسية في الوثائق أنه موقف القيادة الرافض لتبني الماركسية، ولذلك أصبح شغل العديد من الرفاق الشاغل هو كيفية تثبيت الماركسية في الوثائق. وإذا كان السبب الثاني ناتج عن لبس، وسوء فهم، وتشكك ليس في مكانه نتيجة اختلاف أوضاعنا التنظيمية منذ 11/3/1979، عنها قبل ذلك التاريخ، حيث أصبح واضحاً التوجه العام الذي لا تستطيع هيئة إلغاءه، خصوصاً وأنها مثلت الأقلية. وإذا كان هذا السبب كذلك، فإن للسبب الأول مخاطر كبيرة لأنه مرتبط بالزاوية الأساسية التي انطلقنا منها والتي تقوم على أننا نسعى لتبني منطق الشعارات والنقل كما فعلت كثير من الأحزاب القائمة، أم نحاول صياغة تجربتنا، وهذا يعني أن نمتلك ناصية التحليل والبحث لكي نستطيع تحليل الظروف الموضوعية وتحديد الأهداف العامة لحركتنا، والتكتيك المناسب القادر على خدمة الأهداف العامة، والذي يوجد تراكماً يقود إلى تحقيق هذه الأهداف، أي الشعارات أم التحليل؟ أيها الرفاق: إننا بحاجة إلى تصور واضح، وفهم دقيق لقضية الماركسية، لأنها العقدة، الأساسية، وأوكد على ذلك لأن نهجنا يجب أن يتصف بالقدرة على التحليل، وفهم الظروف الموضوعية، وتحديد الأهداف الأساسية التي تحكم نضالنا، والقدرة على تحديد التكتيك الصحيح، إننا بغير ذلك لن نكون قوة ثورية جذرية، ولن نتجاوز الأحزاب القائمة بل سوف نصبح بعضاً منها، وبالتالي لن ننجز الثورة القومية الديمقراطية الشعبية. لقد مرّت الماركسية بمراحل ثلاثة، اتخذ الصراع سمات محددة في كل منها، وهذه المراحل هي: المرحلة الأولى: وهي مرحلة التكوّن، وكان الصراع حول تثبيت المادية ودحض المثالية، ولذلك كان التمسك حاداً بالمادية. وهذه هي سمة الصراع الرئيسية، رغم تداخلها بأشكال صراع مختلفة، منها: الارتداد، والتحريفية والجمود. المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي بدأت مع نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، وتمثلت في غياب ماركس وانجلز، وبروز قيادات جديدة. منها كاوتسكي وبليخانوف، وكارل لبكنخت وروزا لوكسمبرغ ثم البلاشفة وفي طليعتهم لينين، وشهدت انقسام الماركسيين إلى اتجاهات منها الإصلاحي، ومنها الانتهازي ومنها الثوري، وتمحور الصراع حول التمسك بالمادية (التي أسميت الماركسية)، مع إعطائها عمقها الالثوري في مواجهة برانشتين وكاوتسكي وبليخانوف أي في مواجهة الأممية الثانية عالمياً، والمناشفة على صعيد روسيا، كان الصراع ضد الجمود العقائدي حامي الوطيس وأساسي. المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي بدأت مع عهد ستالين، ووسمت الماركسية بسمات عدة، منها: الجمود، الإصلاحية، والقمع. إنها المرحلة التي نعيشها رغم غياب ستالين، ويتسم الصراع فيها بالسعي لتكريس الروح الثورية في الماركسية، وبتطويرها على ضوء تجربة طويلة ممتدة منذ 1895 على الآن. لقد تحوّلت الماركسية إلى شعارات وقوانين جامدة، وافتقدت الروح الثورية الهجومية وتحولت الفئات التي تعتنقها إلى فئات إصلاحية وتابعة. أيها الرفاق: إن مهمتنا الأساسية تكمن في أن نمتلك روح الماركسية الثوري والهجومي، وقوانينها العلمية، بما يسمح أن نصبح قوّة ثورية مناضلة، وقادرة على تحديد الأهداف العامة والتكتيك الصحيح عموماً. إن علينا أن نحدد فهمنا للماركسية، هل هي الشعارات والنقل «والترجمة»، أم التحليل؟ وأرى أنها أساساً التحليل العلمي الثوري، فالماركسية منهج أساساً مادي جدلي، منطلق من رؤية عامة للأحداث والقضايا، يقوم على الرؤية الواقعية المادية، ومن زاوية ترابط الأشياء، وتناقضها وصيرورتها. وهذا هو منطلق التحليل، لذلك علينا أن نرى القضايا بترابطها، وتناقضها وصيرورتها، لا أن نراها مجزئة وجامدة، كما أن علينا أن نراها ضمن الظروف الواقعية لا في الخيال. وهذا يعني توفر الوعي، الوعي العلمي الثوري، القائم على التالي: 1) سعة الاضطلاع، بدراسة كل الفلسفات، لأن فهم الماركسية واستيعابها يقوم على فهم نقيضها، الفلسفة المثالية: 2) دراسة الماركسية والتعمق في فهمها، ونقدها أيضاً. 3) دراسة الظروف الموضوعية الخاصة والعامة، القومية والعالمية ضمن سياقها التاريخي. 4) التجربة والممارسة، لأنهما جزء أساسي في تكون الوعي وتبلوره. ويبقى المحك الأساسي لصحة المنهج، والقدرة على استيعابه، هو التجربة، فهل تثبت الوقائع صحة البرامج، والممارسات أم تثبت فشلها؟ أن منط الشعارات يقوم على التالي: 1ـ النقل والترداد والتمسك بالشعارات، ولذلك فهو لا يرى صيرورة الأشياء وتحوّلها، ولا يرى الفروق بين أمة وأخرى، وبين تاريخ وتاريخ فالأمور كما هي الآن في كل حين. ولذلك فهو منطق جامد. 2ـ غياب القدرة على تحليل الظروف الموضوعية وتحديد مسار حركة الأمة واتجاهها، وبالتالي الأهداف العامة التي تناضل على ضوئها الجماهير الشعبية. أما أسبابه فهو التالي: أ ـ تخلف الوعي، وهذا يقود إلى الترداد والتمسك بالشعارات، والعجز عن دراسة الظروف الموضوعية. بـ اعتبار ما جاء في الماركسية مقدساً، وصالحاً لكل زمان ومكان. جـ التعلق بالعام، ونفي الخاص. هذا يطرح علينا كيفية التعامل معها، وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار القضايا التالية: 1ـ أننا بحاجة لمزيد من الدراسة، لكي نطور وعينا، ومقدرتنا على التحليل التوقع والاستنتاج. وهذا بحاجة إلى مزيد من الاضطلاع والتجربة. 2ـ إننا قوة صغيرة، عليها أن تنمو وأن تطور قواها من خلال التجربة والعمل الثوري، وضمن ذلك أن تبلور فهمها للماركسية، وطرق التعبير عنها في وثائقها. 3ـ أن هناك التباس كبير لحق بالماركسية نتيجة الهجمة المعادية ضدها والتي استهدفت تشويهها، وإبراز القضايا الأكثر حساسية فيها. ونتيجة الأخطاء التي وقعت فيها الأحزاب الشيوعية والماركسية. ولذلك علينا أن نوازن بين قضايا ثلاث، وعينا وحجمنا، والموقف الجماهيري فكلما تطور وعينا، واتسع نشاطنا، وترسخت علاقاتنا بالجماهير الشعبية كلما كان ممكناً إبراز الايديولوجي، أما الآن فعلينا التركيز على البرنامج السياسي، لأنه وسيلة الاستقطاب الجماهيرية. وأن نوازن يعني أن نبذل جهداً أكبر في التعلم والدراسة لاكتساب الوعي العلمي الثوري، وأن نبذل جهد أكبر في بلورة بنية تنظيمية متماسكة وفاعلة، لها امتدادها الجماهيري، وأن نكسب ثقة الجماهير بالممارسة. فكلما تقدمنا بهذه القضايا كلما أخذت الشعارات والأشكال مواقعها الحقيقية. فهل نتمسك بالشعارات ونصرّ على تأكيد أننا نبني الماركسية في الوثائق، أم أن وعينا وخبرتنا يسمحان لنا أن نصيغ برامج علمية في جوهرها، لأنها تعبر عن مسار الحركة التاريخية للأمة العربية، وللجماهير الشعبية الفقيرة والمضطهدة.
أيها الرفاق الأعزاء: إن ثاني هذه القضايا هي قضية بناء الحزب، ولقد نوقشت في فقرة صغيرة في مشروع البرنامج السياسي، وبشكل عام، وتطرق لها بعض الرفاق أيضاً انطلاقاً من سعيهم لتحديد تصور واضح حول كيفية بناء حزب ثوري عربي، ولأنها قضية لم تول الاهتمام الكافي رغم أهميتها علينا أن نحدد تصوراً حولها... ومنطلقنا الآن، أننا مجموعة صغيرة تحاول بناء حزب ثوري، ولكنها قليلة العدد وذات تجربة محددة، ولا تدعي أنها بلورت كل وثائقه. ولكن بناء الحزب مهمة كل الثوريين العرب، الذين يعبرون عن مصالح الجماهير الشعبية، وليست مهمتنا وحددنا، وأن حاولنا لعب دور مميز، ورغم ذلك فإن احتمالات تبلور الحزب وتكونّه ثلاثة وهي: 1ـ أن نتطور لنصبح حزباً كبيراً، قادراً على التعبير عن مطامح الجماهير الشعبية العربية وأهدافها. وهذا يعني أن يكون لدينا وضوحاً سياسياً ونظرياً كافياً، وأن نثبت في الممارسة أننا القوة الأساسية، ورغم أنه احتمال فإنه ضمن ظروف وطننا، احتمال ضعيف. 2ـ أن نندمج بقوة تعبر عن مطامح الجماهير الشعبية العربية وتحوز على ثقتها ونرى أنه يمكننا النضال ضمن صفوفها، نتيجة اتفاق سياسي وايديولوجي، وممارسة عملية.. وهذا الاحتمال ضعيف أيضاً لأنه الصورة الأخرى للاحتمال الأول. 3ـ أن يكون نتاج اتحاد قوة ثورية جذرية، تفرزها الظروف الموضوعية وترى أن بإمكانها الاتحاد لبلورة حزب ثوري جديد. أن علينا أن نعمل على ضوء هذه الاحتمالات، لا على أحدها، وأن نمتلك المرونة التي تجعلنا قادرين على توقع كل الاحتمالات، وأن نعمل عليها ميعاً. وما يساعد على بلورة حزب ثوري في المرحلة الجديدة، وهو ما يجب أن نعيه جيداً هو التالي: أ ـ أن إرهاصات السنوات الماضية، وتجربة الحركة الوطنية العربية، وكذلك حالة الوعي التي انتشرت في صفوف المثقفين ولدى الجماهير الشعبية عموماً، قد أسهمت في فهم عدد من القضايا الأساسية التي تتعلى بالنضال العربي بمجمله، ولذلك أصبح ممكناً الاتفاق على القضايا الأساسية، كالوحدة العربية، وتحرير فلسطين، وإزالة التبعية والتخلف، ولقد تبلور هذا الوعي لدى فئات ثورية مختلفة. ب ـ ولقد أبرزت التجربة الماضية، قوى ثورية جذرية مختلفة، مشتتة وموزعة في كل أرجاء الوطن العربي، وهي تناضل من جل بلورة حزب عربي يسعى لتحقيق أهداف الجماهير العربية، رغم أن بعضها على قدر من الوعي والتجربة، وبعضها لازال ضعيفاً، وأرعناً. بعضها لديه قدر من الوعي النظرية والسياسي، وبعضها يحاول ذلك، وهذه حقيقة مهمة لأنها تحدد أن وحدتها جميعاً هي التي تسهم في بلورة حزب ثوري عربي. جـ ـ كما أن ارهاصات السنوات الماضية، انعكست على الأحزاب الوطنية والديمقراطية العربية، حيث عاشت مرحلة انشقاقات وصراع داخلي، سببه محاولة تلمس خط ثوري، انطلاقاً من غنى التجربة، وتعمي الوعي. ونحن جزء من كل ذلك، فما نطرحه جزء من تطور الأفكار في الوطن العربي، وقوانا جزء من هذه القوى. وهذا يعني أن هناك حاجة للحوار والعمل المشترك، ولذلك علينا أن نحدد طرق الحوار وأساليبه ومداخله، وأن نحدد أيضاً وسائل العمل المشترك، وهو يعني بالنسبة لنا أن نقيم علاقات على مختلف المستويات مع كل القوى الثورية الجذرية بهدف الحوار والعمل المشترك أولاً، وأن نولي «الانطلاقة» أهمية كبيرة لكي تكون مدخلنا مع كل القوى ثانياً: وأن نصيغ البرامج المشتركة التي تساهم في العمل المشترك والحوار المتبادل ثالثاً. وهذا يعني بشكل عام التالي: أولاً: أن هناك حاجة للحوار النظري والسياسي العام بين كل هذه القوى، لأن الوحدة بحاجة إلى اتفاق مشترك، وتفهمّ متبادل، وتحديد لقضايا الاتفاق والخلاف. وهذا يعني أننا بحاجة إلى المنابر التي تحقق هذه الغرض. وثانياً: أن هناك حاجة لتنسيق متبادل ومنتظم، وهذا يعني تشكيل هيئات تنسيق وحوار. ثالثاً: تحديد أشكال العمل المشترك، والالتزام بذلك. أيها الرفاق الأعزاء: ونحن نسعى لبلورة حزب ثوري عربي، علينا أن نعمل وفق خطين، الأول يقوم على أساس خلق الوعي، وبلورة الوثائق، والفهم العميق لقضايانا العربية والدولية، وكذلك بلورة بنية تنظيمية حزبية، أي متماسكة وصلبة، وتحكمها علاقات ديمقراطية، والثاني، يقوم على بذلك كل الجهود للوحدة من القوى الثورية الجذرية، والبحث عن كل الأساليب الممكنة التي تسمح بذلك. أننا قوة صغيرة، ولذلك علينا السعي الجاد لتطوير أوضاعنا، والعمل على الوحدة مع كل القوى الثورية الجذرية. فالحزب هو نتاج كل ذلك.
ـ 3ـ وثالث هذه القضايا، هل نبني حزباً أم حركة؟ ولقد برز لبس واضح في الفترة الماضية، لدى بعض الرفاق، يقوم على أن ما نبنيه هو حركة تضم مختلف فات الشعب. ونحن لا نعتقد أن التنظيم الفضفاض، والذي لا تحده حدود، قادر على قيادة النضال، أو لعب دور طليعي، لأن الذي يلعب دور الطليعة، هو الحزب الذي يعبّر عن مطامح الطليعة ويتصف بكل صفات الطليعة، وأساسها الصلابة والحزم، والفاعلية. ولذلك نسعى لبناء حزب ثوري ديمقراطي وشعبي، وأن كنا معنيين بالمعركة الشعبية الواسعة، ولكننا نعتقد أن استقطاب الحركة الشعبية وتنظيم حركاتها لا يكون إلا ببناء حزب ثوري قادر على لعب دور المنظم والقائد والمحرك لها، وعليه كان تركيزنا على «فرز الطليعة عن الجماهير»، لكي نتمكن من بلورة حزب يمثل الطليعة، ويكون قادراً على أن يلعب هذا الدور. فهو هيئة أركان الثورة، وقائدها الميداني. أيها الرفاق: ما نحاوله هو بلورة بنية تنظيمية صلبة وقوية، تحكمها علاقات ديمقراطية حقيقية وهذه سمات أساسية من سمات الحزب. وهذا ما عملنا عليه منذ 11/3/1979، وما زلنا نعمل لتحقيقه. إنها قضية أساسية يجب أخذها بعين الاعتبار، لأنها الأساس الذي يحدد على ضوئه النظام الداخلي، وينعكس مباشرة على البرنامج السياسي. أما الحركة فهي الإطار الجماهيري الذي يلف الحزب، نتيجة أن الحزب يسعى لتحقيق أهداف الجماهير الشعبية كلها، وليس فئة منها ضمن ظروف الثورة القومية الديمقراطية الشعبية ولذلك فهي تمثل القضايا التالية: أولاً: الامتداد الجماهيري، لأنها وسيلة استيعاب القاعدة الشعبية، وفق أشكال مختلفة، منها النقابات والاتحادات، ومنها اللجان الشعبية والفلاحية، ومنها حلقات الأصدقاء والأنصار. ثانياً: وهي الستار الواقي الذي يحمي الحزب عند الدفاع، ويمنح القوى المعادية من سحقه، لأنها تحيطه بقوى جماهيرية واسعة. ثالثاً: وهي قوة الصدام الأساسية، لأنها مادة القتال والمواجهة، والقوى المهيئة دائماً للتظاهر والاضراب، ومواجهة القوى المعادية بكل أشكالها. رابعاً: إنها تمثل حيوية الجماهيرية، وصلابتها، وعطائها. خامساً: إنها جزء من الجبهة الواسعة الساعية للتحرير والوحدة، وتحقيق للثورة الديمقراطية الشعبية. وهي قوة البناء بعد الانتصار، ومنها تبرز المعارضة الشعبية، الممثلة في الاتحاديات والنقابات. إنها أولاً: جيش القتال، أما الحزب فهو هيئة أركانها، وهي ثانياً، قوة المعارضة أنها في مرحلة الثورة القومية الديمقراطية الشعبية تشكل الامتداد الطبيعي للحزب، بينما هي في مرحلة بناء سلطة الشعب الديمقراطية قوة المعارضة والنقد، وعلى الحزب أن يبقى معبراً عن تطلعات الجماهير الشعبية لكي يضمن لحمتها معه، لكي يبقى القانون الأساسي في العمل هو قانون وحدة ـ نقد ـ وحدة. أيها الرفاق: نحن لا نسعى لإعادة صياغة أشكال من القوى هشة وفضفاضة بل نسعى لكي نبني القوى المنظمة، وهي منظمة في مختلف مستويات العمل وبشكل يضمن تطور العمل واستمراره. وهذا يجعلنا نؤكد على توحيد طليعة كل الطبقات الثورية، وهي العمال والفلاحون، والبرجوازية الصغيرة الديمقراطية والثورية، لنكون حزباً ثورياً جذرياً. وأن نوحد الطليعة مع هذه الطبقات لكي نستطيع تحقيق ثورة شعبية عارمة. وهذا هو قانون عملنا. ـ4ـ ورابع هذه القضايا يتعلق بالهيكل التنظيمي، إن الملاحظات الواردة تركز على أن ما ورد في مشروع النظام الداخلي بعيد عن أن يستوعب ظروف وضعنا الحالي، من زاوية أنه يشغل على مراتب عديدة، وكذلك على عدد كبير من الهيئات والمناصب. أيها الرفاق: إن علينا أن نحدد الهيكل الذي يستوعب وضعنا الحالي، ولسوف يفرض تطور العمل واتساع القاعدة المنظمة، تطوير الهيكل. ونتيجة أن وضعنا بدائياً ولم يأخذ شكله الكامل بعد، من الواجب حصر المراتب وتحديدها، لأن ذلك يساعد على تطوير العمل، وهذا يعني أن نضع هيكلاً يساعد على التفاعل، ويسمح بالتوسع مستقبلاً. ويتكون الهيكل الأساسي، حسب تصوري من الهيئات القيادية، وهي اللجان القيادية الأساسية (الهيئة المركزية واللجان المتفرعة عنها)، وهذه الهيئات لها دورها الأساسي ضمن ظروفنا، ولذلك يجب أن تكون متماسكة وفاعلة، وعلى قدر من الوعي والتجربة، لأنها القوى الأساسية في التنظيم، ومن المفترض أن يتمثل فيها الأعضاء الأكثر جدارة ومقدرة. ثم خلايا الأعضاء والمرشحين، وهم جسم التنظيم لأساسي والقوى المتطورة بشكل مستمر. وأخيراً الأنصار الذين يشكلون امتدادات التنظيم، والقوى التي يستقطب منها الأعضاء المرشحين والأعضاء، والذين يلعبون دوراً مهماً في النضال العام، وعلينا أن لا نهمل وضعهم، ولا أن نهمل مرتبة الأنصار نتيجة أنها مرحلة لها موقعها ضمن نضالنا العام، فهي «المصفاة» التي تفرز القادرين من غير القادرين، والمخلصين من غير المخلصين، وهي «الموحد» لفئات جماهيرية واسعة قد لا يستطيع التنظيم تطويرها واستيعابها في خلايا الأعضاء. كما أنها بوتقة العمل النقابي والشعبي ضمن أشراف التنظيم. إن الصيغة المطروحة في مشروع النظام الداخلي حول الهيئات ليست مناسبة ضمن ظروفنا الحالية، وأعتقد أن هناك اتفاق حول هذه القضية. ولذلك علينا أن نبحث في الصيغة المناسبة التي تحقق هدفين: الأول: أن تكون قادرة على قيادة التنظيم، وملائمة لظروفنا الحاضرة. الثاني: أن تفتح آفاق التطور اللاحق. ولذلك أرى أن الصيغة التقليدية لا تخدم تطور عملنا، وعلينا أن نبحث عن صيغ مناسبة، وأرى أن مبدأ عمل الهيئات القيادية يجب أن يقوم على أساسين: الأول: أن يحوي على لجان أساسية تتخصص في مختلف جوانب العمل، وتخضع للهيئة المركزية، وفق أسس يتفق عليها. الثاني: أن تمثل مركزاً قوياً يقود العمل التنظيمي والثقافي والسياسي والشعبي والعسكري. ومن ذلك يجب مناقشة إشكالين أساسيين، أولهما غياب المراتب، وثانيهما قضية الترقية التنظيمية. فمن يدرس وضعنا الحالي يلاحظ أن هناك الهيئات المركزية، ثم الخلايا الأساسية ثم الأعضاء، وهذا يبرز خطأين وهما: 1ـ الترقية السريعة، أي الانتقال من مرتبة عضو وخلية، إلى عضو وخلية أساسية. 2ـ تأخر الترقية، أي الاحتفاظ بمرتبة عضو وخلية لفترات طويلة. ولذلك من الضروري إضافة مراتب جديدة لكي يكون التقدم معقولاً، دون أن يخلق اهتزازات. إن غياب التسلسل المنطقي في المراتب يقود إلى إشكالات كبيرة. والإشكال الآخر هو قضية الترقية التنظيمية فمن الواضح أن ليس هناك رؤية تنظيمية واضحة لكيفية تقدم الأعضاء، وتحولهم من أنصار إلى أعضاء مرشحين، إلى أعضاء، ثم من أعضاء إلى أعضاء روباط، وخلايا أساسية. وهذا يقود على أخطاء عديدة أهمها: 1) اختلال المراتب لغياب مقاييس العضوية فيها، وضعفها. 2) ضعف التطور التنظيمي، لأن لكل تطور قوانينه. 3) أخطاء في الترقية تقود إلى تقدم أعضاء دون استحقاق، وتأخير ترقية أعضاء يستحقون التقدم. ولذلك يجب أن تحدد القضايا التالية: 1) المدة الزمنية التي يجب أن يقضيها العضو في كل مرتبة. 2) البرنامج التثقيفي الذي يطبق في كل مرتبة. 3) المهام العلمية التي تحدد مقدرة العضو، وتسهم في تطوره. 4) قياس درجة الوعي. وهذا يعني أن على التنظيم أن يلعب دور المربي والمثقف، والحريص على تطور الأعضاء وتقدمهم. وهذه عملية ذات أهمية كبيرة، لأنها العملية التي تبقي التنظيم حياً متطوراً دائماً. ـ5ـ أيها الرفاق: وبعد ذلك كله يجب أن نقف أمام بعض القضايا الأساسية المتعلقة بالبنية التنظيمية، وفي جانبها المتعلق بالديمقراطية تحديداً، لأنها جوهر العملية التنظيمية، وروح الحياة الداخلية. إننا نبني قوة ديمقراطية، وديمقراطية حقاً، وهذا يعني توفر الوعي الديمقراطي، وتوفر البنية الديمقراطية، وغياب أحدهما يلغي إمكانية بناء قوة ديمقراطية، فتوفر الوعي الديمقراطي مهم لسببين أحدهما يتعلق بالمجتمع عموماً حيث ظلت البنية الاقتصادية الاجتماعية ما قبل رأسمالية، أي إطقاعية وشبه إقطاعية متخلفة وقمعية، وبالتالي فإن حل إشكال الديمقراطية لدى الطليعة المناضلة لا يكون سوى بالوعي الديمقراطي، وثانيهما لأن الديمقراطية بحاجة لسعة الأفق، ورحابة الصدر، وبالتالي للوعي. ونتيجة تعقيد مسألة اكتساب الوعي، وارتباطها بالتجربة، فإن عملية توفر الوعي الديمقراطي صعبة ومعقدة. وما يمكننا التأكيد عليه الآن وتحقيقه، وبشكل نسبي، هو قضية البنية الديمقراطية لأنها تتعلق بصياغة النظام الداخلي، وإن ارتبطت بقضية الوعي الديمقراطي أيضاً. ولذلك علينا أن نعطي الديمقراطية بعدها الحقيقي ضمن نصوص النظام الداخلي الذي نحن بصدد بلورته وتبنيه. إن قضية الديمقراطية هي قضية العلاقة بين الأعضاء، وقضية العلاقة بين الهيئات والمراتب، هل تقوم على الحوار أم تقوم على القمع؟ وهل تحكمها قضية صراع الأفكار والتيارات أم تحكمها وجهة النظر الواحدة؟ وبالتالي هل تسمح بتعايش الأفكار المختلفة أم تفرض الخط الأوحد والتنظيم «المنسجم»؟ وقضية الديمقراطية هي قضية بلورة البرامج والمواقف، الاستراتيجية والتكتيك هل تقوم على الحوار وبالتالي الوصول إلى قناعات وبلورة أغلبية وأقلية أم تقوم على التلقي، حيث يقر الفرد وتتبنى بقية المراتب؟ وهي قضية اختيار الأعضاء القياديين والهيئات القيادية، هل تتم بالتعيين أم تقوم على الانتخاب؟ إن الديمقراطية أساس العلاقة التنظيمية، إنها الطرف الرئيسي في العلاقة مع المركزية، فهي جوهر العملية التنظيمية، أم المركزية فشكلها. وهي أساس العلاقة في اتخاذ القرارات، لأنها وسيلة الحوار الذي يقود إلى اتخاذ القرارات. كما أنها أساس العلاقة في العلاقة بين المراتب التنظيمية، لأن العلاقة تقوم على الحوار أولاً وأساساً، ومن ثم تخضع المراتب الأدنى للأعلى، وكل التنظيم للمؤتمر، والأقلية للأكثرية ولذلك فإن تجسيدها في الحياة التنظيمية بحاجة لأن تصبح جوهر النظام الداخلي، وعليه أن يضمن منع القمع والتسلط قمع الأفراد وقمع المراتب، تسلط الأفراد، وتسلط المراتب. ولذلك يجب أن يظهر الحدود الفاصلة بين مهام الهيئات والأفراد، وحقوقها جميعاً. ولضمان ذلك علينا أن نلتزم الأسس التالية: أ ـ إن الحوار أساس العلاقات، وأن القرارات والمواقف تكون كنتيجة للحوار والنقاش، وهذا يعني ضمان حرية الرأي والتعبير وإبداء المواقف. ب ـ إن الانتخاب أساس تشكيل الهيئات، وإن التعيين مسألة غير مرغوبة إلا في ظروف استثنائية، وتظل هامشية ضمن العملية التنظيمية. جـ إن إقرار الوثائق أو تعديلها، وانتخاب الهيئات القيادية الأساسية لا تتم إلى في المؤتمر، وإنه لا يجوز إلغاء المؤتمر إلا بموافقة أغلبية الأعضاء المعنيين. د ـ إن للأقلية حقوقها التي لا يجوز إلغاءها فمن حقها التعبير والاعتراض والنقد والكتابة في الصحف الداخلية والخارجية. ومن حقها تشكيل تكتلات في المراتب التي تتواجد فيها، وفي المؤتمر، شرد عدم الاضرار بالهرمية التنظيمية وعدم خرق الهيكل التنظيمي. هـ ضمان التوازن بين مهام مختلف الهيئات، والحرص على عدم تركيز المسوؤليات لدى فرد أو هيئة، إن لكل هيئة مهامها التقريرية والتنفيذية، بغض النظر عن موقعها في الهيكل، وعليها أن تنفذ هذه المهام، وبضمن ذلك يجب تأكيد أن الذي يضع سياسة التنظيم ووثائقه، وينتحب هيئاته المركزية هو المؤتمر، الممثل لكل التنظيم وفق نسب محددة، وبعد حوار مشترك فيه كل الأعضاء، وإن الذي يقرر السياسة التكتيكية على ضوء السياسة العامة والوثائق، هو الهيئة المركزية الأساسية. وإن الهيئات الأخرى تقرر في نطاق صلاحياتها وضمن موقعها، وبالاتفاق مع الهيئات الأعلى. أيها الرفاق: إن كل ذلك يسهم في بلورة بنية ديمقراطية، تساهم في تطور التنظيم، وتحوله إلى قوة مناضلة صلبة، وقادرة على الامتزاج بالجماهير الشعبية، لخلق ثورة قومية ديمقراطية شعبية حقيقية، تسهم في تحير الوطن ووحدته، كما تسهم في إزالة التبعية والتخلف، وبناء سلطة ديمقراطي، تعبر عن مطامح الجماهير الشعبية. وهذا ما علينا تحقيقه. ـ6ـ أيها الرفاق: إننا أمام قضايا أساسية علينا أن نضع الحلول الصحيحة لها لكي نتقدم ونتطور، وعلينا أن نكون واضحين، وأن نناقض الأمور بروية وحكمة، لأنها قضايا على قدر من الأهمية والحساسية، وتحديدها تحديداً صحيحاً سوف يسهم في أن نتحول إلى قوة فاعلة. أما تقليد القوى الأخرى، والتعامل مع هذه القضايا بدون دقة وعمق، وبدون تمحيص ودراسة، سوف يحولنا إلى قوة هاشمية، تكرر ما جاءت به القوى القائمة، ونعيش كما تعيش، على هامش الحياة الاجتماعية، وبعيداً عن حركة الأمة التاريخية. أيها الرفاق: ولذلك علينا أن نأخذ القضايا التالية بعين الاعتبار وهي: أولاً: أن لا نتسرع في إبراز أننا حزباً ماركسياً، فيجب أن يفهم بعضنا بعضاً بادىء ذي بدء ثم علينا أن نبين في التجربة أننا قوة كبيرة، وفاعلة. وأن بمقدورها أن تكون حقيقة ماركسيين أصلاء، ولا ماركسيين أتباع. وأن يفهم بعضنا بعضاً يعني أن نعرف ما نتفق عليه حول هذه القضية، والقضايا الأخرى، وما نختلف عليه، لأنه لكيما نتحد، علينا أن نحدد التخوم التي تفصل بيننا. ثانياً:أن نعرف إننا قوة صغيرة تناضل في هذا الوطن، وأنها ليست القوة التي تمثل طليعة الجماهير العربية، ولكي تصبح كذلك عليها أن تعمق الحوار مع القوى الأخرى لكي تغني البرامج، وتبلور القوة الكبيرة المناضلة. ولذلك علينا أن نعمل من منطلق القوة التي تحاول بلورة البرامج والأفكار، لا القوة المالكة كل سبل العلم، والقوة التي تحتاج إلى وحدة الطليعة الشعبية، لا القوة التي تمثل الطليعة الشعبية. ثالثاً: أن نعرف أننا نبني بنية حزبية، لا حركة فضفاضة مائعة. أما الحركة فهي الامتداد ولذلك انعكاساته في البرامج وفي الممارسة. رابعاً: أن نعمل على بناء تنظيم ديمقراطي وشعبي، ولا تنظيمياً بيروقراطياً قمعياً، يمنع الحوار ويعطل النمو، ويصفي المعارضة. خامساً: أن نراعي أن يكون الهيكل التنظيمي مناسباً لوضعنا الحالي. لا رؤية مستقبلية. أيها الرفاق، هذه هي القضايا التي يجب أن نقف أمامها، وأن ندرسها، وأن نشملها في نظامنا الداخلي. «فنحو خط تنظيمي ديمقراطي وشعبي» «ونحو بنية صلبة ومتماسكة».
خضر عواد
(3) في ضرورة بناء حزب ثوري ديمقراطي
إننا اليوم أمام مرحلة جيدة، تتسم بسيطرة إمبريالية صهيونية رجعية شاملة من جهة، وبعجز شديد تعيشه الحركة الوطنية العربية. وإذا كانت السيطرة الإمبريالية الصهيونية الرجعية تعبّر عن قوّة المعسكر المعادي، فإن عجز الحركة الوطنية العربية نابع من طبيعة قياداتها وبنيتها، ووعيها، حيث لم تتحد لتشكل جبهة وطنية، ولم تنمو في داخلها قوى ثورية جذرية قادرة على قيادة النضال الثوري. ولقد توزعت بين الماركسية الجامدة والقومية العدمية، واتسمت بالإصلاحية و«الإنقلابية» والقطرية. لقد كانت الأحزاب الشيوعية جامدة على الصعيد النظري، إصلاحية وقطرية على الصعيد السياسي، قمعية على الصعيد التنظيمي، عاجزة عن المبادرة، وفاقدة روح الهجوم في الممارسة. أما القوى الأخرى، فلقد توزعت بين القوى القومية، المثالية نظرياً، والمتخلفة على صعيد التنظيم، الانقلابية في الممارسة، والقوى القطرية التي تتسم بنفس السمات. ولقد افتقدت جميعها القدرة النظرية التي تؤهلها تحديد طبيعة الثورة، وأسسها ودور الطبقات فيها، وتمسك بعضها بمقولات عامة ومنقولة عن ظروف أخرى، ولم تبحث في مجملها بظروف وطننا وإشكالاته وقضاياه إلا لماماً. كما افتقدت القدرة على تحريض وتعبئة الجماهير، وقيادتها، مما أبقى التحركات الجماهيرية عفوية، وعزل هذه القوى عنها. ولم تستطع تكوين تنظيم ثوري ديمقراطي له عمقه الجماهيري، وتأثيره الظاهر بل ظلت أقرب إلى «العشائر» منها إلى التنظيم بمعناه العلمي الدقيق، وسادت روح القمع والتسلط فيها. أما الآن فهي منقسمة إلى اتجاهات متعددة أهمها الاتجاه الشيوعي التقليدي ممثلاً بالأحزاب الشيوعية، وهي تنسق عربياً، من خلال اجتماع سنوي (ومجلة نظرية مشتركة)، لكن أوضاعها الداخلية صعبة نتيجة الانقسامات التي تشهدها، وتضعف جماهيريا، وسيتراجع دورها السياسي. والاتجاهات القطرية المختلفة، ولقد ازدادت كثيراً في السنوات الماضية نتيجة انقسامات القوى القومية، وسيادة المنطق القطري. والاتجاه القومي وهو ضعيف ولقد ضعفت أحزابه الماضية دون أن تتأسس أحزاب جديدة، ويتمثل الآن في تبني بعض الأحزاب القطرية لاتجاهات قومية بوجه الإجمال. وفي خضم ذلك ينمو اتجاه جديد هو اتجاه ثوري جذري، يتبنى المنهج المادي الجدلي ويحاول تفهمه. ويطرح القضية القومية كقضية أساسية، لكنه اتجاه ضعيف ومفتت ولم يتبلور نظرياً بعد، ولم يشكل اتجاهاً متماسكاً. إن هذا الوضع يفرض وقفة تقييم جادة، تحدد إشكالات الحركة الوطنية العربية بدقة، وتدرس اتجاهاتها. كما يفرض التركيز على قضيتين جوهريتين هما: 1) بلورة تيار يبحث في مشاكل الوطن وقضاياه، بحثاً علمياً، ويدرس ظروفه الاقتصادية الاجتماعيةن والسياسية الايديولوجية، لأن عملية التغيير الثوري بحاجة إلى العمق الايديولوجي السياسي له، كما هي بحاجة إلى تحديد العمق الايديولوجي السياسي لها، كما هي بحاجة إلى تحديد الأهداف والأساليب، ودراسة الظروف، إننا بحاجة إلى تيار فكري علمي يغوص عميقاً في واقعنا، ويندمج فيه. لأن ذلك هو طريق التغيير الجذري. 2) السعي إلى بناء قوة تنظيمية قادرة على لعب دور طليعي، على الصعيد النظري وفي الممارسة، قادرة على توحيد القوى، وقيادة الجماهير، وتحديد الأهداف باختصار قادرة على قيادة عملية التغيير، وتوجيهها وجهتها الصحيحة. وهذا يقتضي السعي لبناء حزب من طراز جديد. ما هي سماته؟ كيف يتأسس؟ هذا ما نحن بحاجة للإجابة عليه....
(4) ماركسية أم دوغمائية؟
إن قضية الايديولوجيا من أهم قضايا العمل الثوري تقوم على الوعي، والحزب بحاجة إلى أداة التحليل، لأن دوره هو «التحليل الملموس للواقع الملموس». وحين تجري المقارنة بين المادية والمثالية، فإن الخيار سوف يكون للمادية، لأنها الفلسفة العلمية الوحيدة والمنسجمة إلى النهاية(1)، ولأنها الخيار الوحيد لكل الشعوب المضطهدة (بفتح الهاء)، وإذا سادت في الماضي ايديولوجيات متعددة، وقادت الأحزاب التي تتبنى الايديولوجيا البرجوازية صراحة أو مداورة، فإن عجزها من جهة، وتطور الصراع ببعده الايديولوجي ضد الرأسمالية العالمية، سوف يعطي للمادية دوراً أساسياً، لأن التناقض جذري بين الأمم المضطهدة (بفتح الهاء) والرأسمالية العالمية في مرحلة الإمبريالية، ولقد عجزت كل الدول التي حكمتها قوى برجوازية عن الاستقلال عن الرأسمالية العالمية، استقلالاً تاماً. ولكن أية مادية؟ إن أهمية هذا السؤال تكمن في إننا نعيش اختلاطاً واسعاً، حيث غدت المادية مدارس وأهواء، وتحوّلت إلى «مثالية»، إلى «لاهوت بدل أن تكون منهجاً في التحليل. وهذه هي السمة العامة للمادية في وطننا. لقد كفّت عن أن تكون منهجاً علمياً، وغدت نصوصاً مقدسة، غير قابلة للمناقشة أو النقد أو التخطيىء. لذلك ساد منطق النقل وترداد الشعارات والجمل الطنانة الرنانة، مما قاد إلى عجز كبير، ومفشل في فهم الظروف الواقعية. إن المنظور الايديولوجي هو حجر الزاوية في العمل الثوري، ومحدد كل القضايا الأخرى على ضوء قدرته على فهم الظروف الموضوعية فهماً علمياً، وتحديد أسس العمل الثوري، ولذلك من الضروري تحديده تحديداً دقيقاً. فأي ايديولوجية نريد؟ البرجوازية أم الاشتراكية؟ إننا مع الاشتراكية، ولكن أية اشتراكية؟ الثورية أم الدوغمائية؟ لاشك أننا مع منهج التغيير الجذري، المادية الجدلية، وهذا يفرض علينا مهماً محددة هي التالي: أولاً: أن ندرسها دراسة وافية، وأن نبذل جهوداً كبيرة في هذا المجال، لأن القناعة، بأيديولوجية محددة يجب أن تأتي بناءً على معرفة تامة، وفهم عميق، لا انطلاقاً من موقف عفوي، أو معرفة سطحية. ثانياً: أن نشدد النقد ضد المنطق الدوغمائي (الجامد) لأنه يحوّل النظرية العلمية إلى نظرية مثالية، ويؤله النصوص، وبالتالي يسقط جوهر الماركسية، منهج التحليل، ويحوّلها إلى لاهوت. ثالثاً: أن نسعى لدمج المادية الجدلية بظروفنا، أي أن نحلل ظروفنا بمنهج علمي ثوري، لنستطيع تحديد إشكالات مجتمعنا الحقيقية، ولكي نفهم تطوره ودور الطبقات فيه، وآفاق التغيير الثوري. إن الماركسية منهج في التحليل أساساً، يجب أن نعترف بذلك، وإن ننطلق منه، لكي نؤسس مشروعاً ثورياً كبيراً يتعلق بظروفنا في هذا الوقت من القرن العشرين. والماركسية لم تحلل لنا ظروفنا، ولم يكن ممكناً ذلك، لأن حركة المجتمع التاريخية هي وحدها التي تبرز أدوات التغيير، القوى القادرة على التغيير، والمفكرون القادرون على فهم الظروف المحددة. «إن الخطوة الجبارة التي خطاها ماركس إلى الأمام... إنما تقومت على وجه الضبط في كونه نبذ كل هذه المحاكمات حول المجتمع والتقدم بوجه عام وأعطى تحليلاً علمياً لمجتمع معين وتقدم معين، هما المجتمع الرأسمالي، والتقدم الرأسمالي» (علامة التشديد من عندنا)(2). إن الماركسية علم، علم مادي جدلي، وبذلك فهو يرفض النصوص الجامدة، والشعارات الطنانة الرنانة، ويعتمد تحليل الظروف الواقعية دائماً. «وأظن أنه لا يمكن أن يكون ثمة قول أكثر وضوحاً وصراحة: إن الماركسيين يستمدون بلا قيد ولا شرط من نظرية ماركس مجرد الأساليب القيمة التي يستحيل بدونها فهم العلاقات الاجتماعية، وبالتالي فإن مقياس تقديرهم لهذه العلاقات لا يرونه إطلاقاً في مخططات مجردة وغيرها من السخافات، بل في صحة هذا التقدير ومطابقته مع الواقع»(3). ويشدد لينين على ذلك كثيراً، ويؤكد أن الماركسية تقوم على أساس فهم الواقع المحدد في الظرف المحدد، ويقول أن «هذا المقتضى من النظرية إنما صاغه مؤسس «الماركسية»، ماركس، بأقصى الدقة والوضوح، ووضعه كحجر الزاوية في أساس المذهب كله»(4). ويضيف أن الماركسية «تدعي فقط تفسير التنظيم الرأسمالي للمجتمع وحده، ون غيره من التنظيمات»(5). وبالتالي فإن قيمة الماركسية العلمية في امدادنا أدوات التحليل لنفك «لغز» مجتمعنا، أن نفهم تطوره التاريخي، وظروفه الواقعية، وآفاق تطوره، أن نفهم وضع الطبقات فيه، وأن نحدد دورها، وأن نحدد أساليب التغيير وأدواته. لا أن نتمسك بجمل محددة قيلت في ظروف غير ظروفنا، وزمان غير زماننا، إن قيمة الماركسية في دورها العملي. وحين نشدد النقد ضد الخط الشيوعي التقليد، فإننا يجب أن نميز بين رؤيتنا الايديولوجية، وبين دور هذه القوى السياسية، وفي الوقت الذي ندعو لإسقاط المنطق الدوغمائي لديها ندعو للتحالف السياسي معها، وفق ما يجمعنا من قضايا سياسية تهمنا جميعاً. إن المنطق الدوغمائي قاد إلى «تغريب» الأحزاب الشيوعية لأنه دفعها إلى التمسك بجمل وأفكار تخصّ مجتمعات أخرى، وقادها إلى العجز عن فهم ظروفنا. وحين «تغرّبت» عجزت عن أن تلعب دوراً طليعياً قيادياً. وهنا نستشهد بقول لينين: «وسأشرح لكم، أيها الأصدقاء اللطاف، لماذا حلّت بكم هذه المصيبة: لأنكم تتعلمون عن ظهر قلب وتحفظون شعارات الثورة أكثر بكثير مما تتأملون فيها»(6) إن الماركسية منهج أساساً، قبل أن تكون ايديولوجياً، والمنهج المادي الجدلي هو الجزء الجوهري، فيها، وهو الجزء الأكثر عمومية، وعلينا أن نعتبره أساس العمل والرؤية، لأننا بحاجة إلى تحليل ظروفنا وفهم إشكالياتنا، لا إلى فهم جمل ونصوص موجودة في الكتب، بغض النظر عن أهمية هذه الجمل والنصوص. بل أن قيمة هذه الجمل والنصوص في إعطائنا القدرة على فهم واقعنا وظروفنا.
(5) أي برنامج...؟ إن أهمية الايديولوجية نابعة من دورها في تحديد البرنامج، برنامج الثورة في مرحلة محددة، لأن الثورة تقوم على أساس البرنامج، فهو بوصلة العمل الثوري، ومحدد اتجاه الحركة، وقيمة الايديولوجيا في المقدرة التي تعطيها للقوى الثورية في تحديد البرنامج المعبّر عن مصالح الأمة ومصالح الجماهير الشعبية. ولقد كان الاتجاهين المثالي، والشيوعي التقليدي ايديولوجياً يقودان إلى برامج قاصرة دائماً، وخصوصاً في القضايا الأساسية، حيث كان الاتجاه القومي يطرح قضايا الأمة دون تحديد عمقها الاجتماعي، فجاءت أطروحات رومانسية عامة، ولذلك استطاعت تجميع القوى لكنها لم تستطع تحقيق أي من القضايا التي طرحتها (التحرر والوحدة والاشتراكية). أم الاتجاه الشيوعي التقليدي فلقد مثل خطاً «اقتصادياً» طبقوياً ضيقاً، فركز على الإصلاح وعلى قضايا الجماهير المعاشية، وأسقط قضايا الأمة الأساسية (التحرر والوحدة القومية)، فكان قطرياً. ولذلك حين وصلت أقسام من البرجوازية الصغيرة إلى السلطة اتحد معها، لأنها حققت على الصعيد المعاشي المطلبي، ما كانت تطالب به الأحزاب الشيوعية فرفعت شعار «معاً سوف نبني الاشتراكية». وكان اتجاه هذه الفئات القطري عملياً يساعد على ذلك. وهذا يقتضي الاتفاق على برنامج يعبّر عن مطامح الجماهير العربية، ويطرح قضايا الوطن الأساسية، وهو بالضرورة برنامج ثوري جذري، وعتبة الانتقال للاشتراكية. ثورات «وطنية» أم ثورة قومية؟ وأولى القضايا في هذا المجال هي قضية مَنْ يطرح هذا البرنامج؟. قضية المصريين، أو السوريين، أو... أم قضية الجماهير العربية؟. وكان الاتجاه الأساسي يؤكد على الثورات الوطنية، بينما كان التحليل الموضوعي يشير إلى ضرورة الثورة الواحدة، فللأمة حركتها التاريخية الواحدة، بغض النظر عن التجزئة، أو اختلاف الظروف، وهي تسير دائماً في اتجاه الوحدة والتقدم. ورغم تزايد الاتجاه القطري نتيجة عجز القوى القومية وانقسامها، واتجاه أقسام منها نحو الماركسية بأفقها الشيوعي التقليدي، ونتيجة بروز المقاومة الفلسطينية وتكريسها منطقاً «كيانياً» ضيقاً. رغم كل ذلك فإن التجربة الماضية أكدت أهمية الثورة القومية الشاملة. وكان لتزايد دور الكيان الصهيوني، والولايات المتحدة دوراً في إبراز أهمية النضال القومي كما أن مأزق كل الأنظمة العربية يؤكد ذلك أيضاً. إن الوطن، ليس الأقطار و«الدول» التي قامت على أساس معاهدة سايكس ـ بيكو، ونُظرِّت أيديولوجيا من قبل الاتجاه الشيوعي التقليدي، وعلمائه الأساسيين في الاتحاد السوفياتي، بل إنه الوطن العربي الذي أخذ شكله الجغرافي نتيجة التطور التاريخي الطويل. ولقد جاءت تسميات الثورات «الوطنية» انطلاقاً من الانتماء «لوطن» هو «القطر»، والوطن أحد عناصر تشكّل الأمم، وكذلك المجموعة البشرية التي هي الشعب. ولذلك فقد كان التنظير الأساسي ينطلق من وجود أمم، رغم عدم تنظير ذلك بشكل واضح، أو نفيه. فما دام الوطن هو «القطر» والشعب هو السكان القاطنين فيه، والحديث يجري عن تطور هذا الوطن وهذا الشعب، فهو «أمة». ولذلك كان الحديث عن الأمة العربية سطحياً وشعارياً، أم الممارسة فقطرية ضيقة. وكان كل ذلك يؤشر على اختلال تصورات القوى وهشاشته في تحليلاتها. إن الوطن هو الوطن العربي، والشعب هو الشعب العربي (وليس الشعوب العربية). قضاياه واحدة وهموم سكانه وطموحاتهم واحدة، بغض النظر عن الفروقات الجزئية (أو ما يسمى الخصوصيات)(7). وبغض النظر عن درجة وعي هذه الحقيقة لديها، رغم ارتفاعها في القضايا الأساسية الجوهرية مثل الوحدة وفلسطين. وهذا يقتضي ثورة قومية تطرح قضايا الوطن، ومشاكل الجماهير الشعبية وتحقيق الوحدة القومية هدف أساس من أهداف الثورة، في أمة مجزأة والتجزئة لا تسقط إلا بالقوى الموحدة، والنضال الموحد. لأن تكريس «الدول» بالثورات القطرية لا يسقط التجزئة، بل يكرسها. إن إسقاط التجزئة لا يكون إلا بحركة قومية شاملة تضم كل القوى القومية. هذا ما أكدته الوقائع (الثورة البرجوازية، ألمانيا، فيتنام)، وهذا ما تؤكده ظروف وطننا.
(6) حول التنظيم وتأتي قضية التنظيم كمتمم لذلك، رغم أهميتها الكبيرة، لأن الموقف الايديولوجي، والخط السياسي أساس العمل التنظيمي ويبدو التنظيم كانعكاس لهما. وتنبع أهمية التنظيم عندنا من قوّة الحركة العفوية، وقدتها الكبيرة على التأثير، كون مجتمعنا لم يعش حياة المدنية المنظمة، وظل فلاحياً متخلفاً. وكان عجز القوى الوطنية العربية النظري والسياسي يسهم في انغماسها في الحركة العفوية. ولذلك افتقدت أهم أسس العمل المنظم، الدقة، الانضباط والالتزام والعمل المنتج. إن الجمود النظري وسيادة منطق الشعارات، والتصور القطري انعكست مباشرة على التنظيم، فكان عصبوياً جامداً وقطرياً. إن الحزب الطليعة سمات محددة، فهو أولاً يعبّر عن طليعة العمال والفلاحين والشرائح الديمقراطية والثورية من البرجوازية الصغيرة، وهو ثانياً ديمقراطي تتوفر فيه حرية الرأس والمناقشة، وخوض الصراع. والانتخاب والمؤتمرات. وهو ثالثاً مركزياً متماسك ورابعاً يسعى لأن يكون شعبياً... ولما كان الوطن مجزأ فإن للحزب سمتين سجب إيلاءهما أهمية كبيرة، وهما أن يكون مركزياً، وأن يكون ديمقراطياً. فالتجزئة تزيد من أهمية المركزية في الحزب، لأن التجزئة لا تواجه إلا بحركة جماهيرية موحدة، وبقى متماسكة، ولا تواجه بقوى مختلفة، وأشكال تنسيق دنيا، إنها بحاجة إلى الحزب المركزي المتماسك القادر على توجيه الصراع في اتجاهات محددة. ولمّ الحركة الجماهيرية لمواجهة «الحلقات» الرئيسية في الصراع، والذي يصبّ كل التحركات والصراعات والتناقضات في خدمة الهدف العام. وهذا يفرض التالي: 1) أن يخاض الصراع وفق برنامج واحد، يعبّر عن طبيعة النضال في كل الوطن، ويطرح مشاكل الأمة والجماهير. 2) أن يخضع لمركز واحد، متماسك، يقود العمل في كل الوطن، ويرّكز الصراع في الحلقات الرئيسية ويتمسك بالأهداف العامة دائماً. إن المركز قيادة العمل، وهذا يضمن وحدة الحزب في كل الوطن، ويمنع الانقسام إلى أحزاب قطرية. والقضية الأخرى هي قضية الديمقراطية، وإذا كانت الديمقراطية أساس العمل الثوري عموماً، فإنها في وطن مجزأ، ومختلّ النمو قضية أكثر أهمية. لأن التجزئة أوجدت تفاوتاً في النمو، وبالتالي مهام مختلفة، وهي مهام مطلبية اقتصادية وديمقراطية أساساً، وسياسية بشكل محدود. وهذا ما يعطي أهمية لدور فروع الحزب في الساحات والمناطق، ويلقي عليها عبئاً ليس باليسير. إضافة إلى أن وحدة القوى الطليعية لا تقوم إلا على أساس الاتفاق، وبالتالي فالديمقراطية أساسها. ولهذا يجب أن يكون الحزب مركزياً شديد المركزية وديمقراطياً إلى أبعد الحدود. قادراً على توحيد القوى الطليعية في الوطن، وقادر على أن يكون مركزاً قوياً لكي يلف القوى الجماهير حوله. لذلك يجب أن يكون أساسه المؤتمر العام، وأن تقوده قيادة مركزية قوية.
(7) نحو الوحدة....
من يتحد؟ إن أحداً لا يستطيع أن يعتبر نفسه القوة الطليعية القادرة على قيادة النضال العربي، لأن التجربة الماضية أظهرت تشتت القوى الطليعية وانقسامها، ولذلك فلا يمكن لفئة منها أن تسقط الفئات الأخرى أو أن تعتبر نفسها بديلاً عنها. لقد أبرت الصراع الماضي قوى عديدة، بعضها أسمى نفسه حزباً، وبعضها أسمى نفسه حركة أو جبهة أو منظمة أو تجمعاً، أو تياراً، ولقد ولدت كلها في خضم الصراع الماضي، بعضها انشق عن أحزاب قائمة وبعضها تأسس دون تجربة مسبقة. ولقد تشكلت في خضم الصراع الايديولوجي والسياسي والتنظيمي، فلقد عانت الحركات الوطنية عموماً من انقسامات أخذت طابعاً ايديولوجياً وسياسياً وتنظيمياً، فعلى الصعيد الايديولوجي اتجهت أقسام من القوى القومية مع تطور الوعي، إلى اعتناق المنهج المادي الجدلي، كما اتجهت أقسام من القوى الشيوعية التقليدية إلى تبني الماركسية الثورية. وسياسياً اتجهت هذه القوى من القطرية إلى تبني القضية القومية واعتبارها أساس النضال في الوطن العربي. أما تنظيمياً فلقد طرح الصراع قضايا عديدة منها قضية الديمقراطية ودور القادة، ومنها قضية الحزب القومي كبديل للأحزاب القطرية. ورغم أن عملية التحوّل هذه شهدت بروز اتجاهات طفولية، ومراهقات يسارية في البداية، إلا أنها أخذت تسير في اتجاه عقلاني موضوعي. وبالتالي فإن قضية الوحدة مطروحة على هذه القوى، القوى التي تنهج نهجاً علمياً، وتعتبر القضية القومية، قضيتها المركزية، وتناضل من أجل تحرر الوطن ووحدته وإقامة سلطة الشعب الديمقراطةي فيه، على طريق التحوّل الاشتراكي. ولكن هذه القوى لازالت تعاني من التالي: 1) التشتت حيث يعمل كل منها دون تنسيق مع القوى الأخرى، ويبذل جهوداً منفردة، ويخوض الصراع وحيداً. 2) غياب الحوار، فلقد فرض الوضع السابق وضعاً آخر، وهو غياب الحوار التفاعل بين هذه القوى، مما يضعف نموها جميعاً، ويزيد من الخلاف فيما بينها. 3) عدم التبلور، وهي جميعاً لم تتبلور بعد، بما يؤهلها أن تطرح خطاً نظرياً متماسكاً، أو أن تلعب دوراً عملياً مميزاً. ولذلك فهي معزولة ومحاصرة، وتتخبط على الصعيد النظري كما على الصعيد العملي، تنزع نحو الطفولة أحياناً ونحو «التعقل» أحياناً أخرى. أما دورها في الصراع فمحدود إلى أبعد الحدود، وضعيف شديد الضعف. كيف تتحقق الوحدة؟ إن تحقيق الوحدة بحاجة إلى الحوار أولاً، وإلى التنسيق ثانياً، لأن الوحدة تقوم على أساس الاتفاق النظري والسياسي، وهي بحاجة لانضاج هذه القضايا، لتحديد البرنامج السياسي الذي يحكم النضال في هذه المرحلة من مراحل النضال العربي. ولما كانت القضايا لم تناقش في المرحلة الماضية، ولم تبحث، فإنها بحاجة لمناقشة واسعة وبحث عميق. والوحدة بحاجة إلى تطوير التنسيق بين القوى، التنسيق الثنائي والثلاثي والواسع، لتطوير الحوار، ولتنسيق المواقف العملية، لأن الوحدة بحاجة إلى التنسيق العملي أساساً. وهي بحاجة أيضاً إلى العمل الجاد من مختلف القوى لبناء قوى تنظيمية متماسكة، بناء الخلايا في المواقع الجماهيرية والمصانع، والمزارع، والقرى...) إن الحوار النظري أساسي لأن البرنامج أساس الوحدة، ولا وحدة بدون خط نظري متماسك، ولكن الوحدة بحاجة أيضاً إلى النضال المشترك، والتنسيق العملي. مستلزمات الوحدة: وضمن ذلك فإن الوحدة بحاجة إلى قضيتين أساسيتين وهما: 1) المجلة النظرية، لتكون أرضية الحوار، ومجال المناقشة، وهي من هذا المنطلق يجب أن تكون مجلة الصراع النظري، تتمتع بقدر كبير من حرية الرأي، وتبحث في كل قضايا النضال العربي. 2) مجلس تنسيق يضم القوى وينسق خطواتها العملية ويسهم في بلورة الحوار النظري، وتحويله إلى برامج.
(8) إن المهمة الملحة الآن هي بناء التنظيم الثوري، القادر على قيادة الجماهير الشعبية، وتنظيم صفوفها في الصراع الكبير ضد الإمبريالية عامة والأمريكية خاصة، وضد الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني، وضد الأنظمة والقوى الرجعية العربية. من أجل تحقيق التحرر والوحدة القومية وإرساء نظام ديمقراطي شعبي، يسهم في إلغاء التبعية وإزالة التخلف. وبناء التنظيم الثوري بحاجة الآن إلى وحدة كل القوى الطليعية، وحدتها النظرية ووحدتها العملية. وهذا ما يجب أن يولي الاهتمام الكافي، لأن توحيد الجماهير وقيادتها بحاجة إلى وحدة الطليعة أولاً وأساساً. فإلى الوحدة..
وليد صالح مروان بن سالم
#سلامة_كيلة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجغرافيا السياسية للمشرق العربي بعد إحتلال العراق، ما يمكن
...
-
عفوية الجماهير و دور الحركة الثورية في الوطن العربي
-
في مواجهة إقتصاد السوق
-
بعد عرفات، إحتمالات قاتمة؟
-
ثورة اكتوبر ، محاولة للتفكير
-
ما هي الماركسية؟
-
الماركسية و الاشتراكية و حرية الانتقاد
-
ممكنات تجاوز الرأسمالية عودة الى ماركس
-
مأزق الحركة الشيوعية العربية ملاحظات حول عوامل الإضمحلال
-
مشكلات اليسار في الوطن العربي - ما العمل؟
-
مشكلات مفهوم المجتمع المدني
-
حول الموضوعات من أجل نقاش هادئ لمنهجية و لرؤية - مناقشة لموض
...
-
هل الرأسمالية باتت - إنسانية-؟ مناقشات حول العراق
-
من أجل المقاومة العراقية الشاملة- 3 - الحركة الشيوعية و مشكل
...
-
من أجل المقاومة العراقية الشاملة 2 -3 المقاومة العراقية و ضر
...
-
(من أجل المقاومة العراقية الشاملة(1-3 - وضع أميركا في العراق
-
الخطاب -الديمقراطي- الأمريكي في -الشرق الأوسط الكبير-
-
-g8-ال
-
مقدمات الشمولية
-
- وعد بوش- و السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي الصهيوني
المزيد.....
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|