ماركسي من تونس
بديل عن الانفجار العظيم او ال *Big Bang:
" ليس للكون بداية و لن يكون له نهاية."
الن وودز
ترجمة: نديم المحجوب
ان نشر سبب للثورة قبل سبع سنوات قوبل بحماس من قبل العديد من الناس، ليس فقط من اليسار، و لكن ايضا من قبل العلماء و المهتمين بالفلسفة وآخر النظريات العلمية، كنظرية الفوضى والتعقيد، التي تعكس من نواح عديدة نظرة جدلية للطبيعة.
آخر إكتشافات علم الحفريات،و بشكل خاص العمل الرائد لستيفن جي غوولد (التوازن المتقطع)punctuated equilibria عدّلت جوهريا وجهة النظر القديمة القائلة بالتطور كعملية تدريجية بطيئة، لا تعيقها الكوارث والقفزات المفاجئة. و قد عبّر غوولد نفسه عن تقديره لمساهمة إنجلز، الذي استبق، في مؤلفه الممتاز ، دور العمل في تحول القرد الى انسان، آخر الإكتشافات بشكل مبدع في استقصاء الاصول الإنسانية.
منذ أن ظهر الكتاب لاول مرة، شهدنا خطوات اخرى مدهشة في العلم - وبشكل خاص في علم الجينات الإنساني. هدّمت هذه النتائج مواقف الحتمية الوراثية بالكامل و التي كنا إنتقدناها في سبب للثورة. وجّهت هذه ضربة هالكة أيضا إلى هراء المؤمنين بقصّة الخلق الذين يرفضون الدارونية من اجل الفصول الأولى في سفر التكوين. كما انها قطعت الطريق امام العنصريين الذين حاولوا استخدام فضل علم الوراثة لترويج "نظرياتهم" العلمية الرجعية الزائفة.
الا انه هناك جزء من كتاب سبب للثورة وجده البعض صعب الاستساغة – و هو القسم المخصص للكوسمولوجيا ﴿علم الكون﴾، حيث تجادلنا ضدّ نظرية الانفجار العظيم. ان النموذج المقياس للكون حصينا بحيث بدا مستحيل زعزعته. و تقبلته الأغلبية الساحقة بدون نقد. و كان الشكّ فيه تقريبا مستحيلا كما لو ان البابا في رومة يضع مفهوم الطهارة الابدية محل شك .
كانت نظرية الانفجار العظيم محاولة لتفسير تأريخ الكون بالاعتماد على ظواهر معينة، و بالتحديد حقيقة انّنا يمكن أن نرى إنحسار المجرات من بعضها البعض لهذا يعتقد معظم الفلكيين بأنّ تجمّعات النجوم هذه كانت في الماضي أقرب الى بعضها البعض . فلو نعيد الشريط الى الوراء فان المادة والمكان والزمن ولدوا مع من نقطة ما خلال إنفجار هائل، يتضمّن كميات مذهلة من الطاقة.
حسب النموذج الكوسمولوجي المقبول على نحو واسع، و الملقب بالنموذج التضخّمي،فان الكون ولد دفعة واحدة من المادة والطاقة. و ما هذا الا نظير حديث للعقيدة الدينية القديمة في خلق العالم من لا شيء. إنّ الانفجار العظيم يزعم ان يكون بداية للمكان و المادة والزمن. و بما ان الكون انتفخ منذ ذلك الحدث فان المادة والطاقة إنتشرا في شكل كتا متراصة. و هذا الإنتشار يمكن أن يستمرّ إلى الأبد.
لاقى هذا النموذج قبولا كبيرا لأنه يعلل عدّة ميزّات مهمة نراها في الكون – من قبيل لما كلّ شيء يبدو ذاته في كلّ الإتجاهات وحقيقة أنّ الكون يبدو "منبسطا" (الخطوط المتوازية لا تلتقي مهما كان طولها).
لاحظ روبرت بي . كيرشنير- الفيزيائي و عالم الفلك في جامعة هارفارد- ان "فكرة التضّخم لها تاثير واسع الانتشار . "فلا توجد اية ملاحظة تثبت خطاها." لكنه أضاف "هذا بالطبع لا يعني أنّها صحيحة." ( National Geographic News 25 أفريل/نيسان 2002)
في الحقيقة، تتضمن هذه النظرية مشاكل هامة كنا قد استعرضناها بالتفصيل في سبب للثورة .و بالخصوص الاسئلة المتعلقة بما حدث "قبل" الانفجار العظيم و التي لا سبيل لطرحها لأن من المفترض أنه لا يوجد " قبل" – بما انه لم يكن هناك زمن. بهذه الطريقة وضع تقييد مطلق حول إمكانية فهمنا للكون مما يترك الباب مفتوحا امام جميع أنواع الأفكار الغيبية و التجريدية- التي اخذت تتهاطل بكثرة في السنوات الأخيرة. مع هذا، فان النظرية التضخّمية لا تزال على الساحة العلمية منذ ظهورها في أواخر السبعينات، في نفس الوقت ما انفك علماء الكون يطرحون أفكار منافسة واحدة بعد الآخرى.
الا انه بدت مشاكل جديدة للنظرية الحالية ظاهرة للعيان. آخرها كان في 1998، عندما اظهرت دراسات النجوم البعيدة المتفجرة ان الكون يتممد بنسق متسارع. كانت هذه مفاجأة كبيرة، بما أن معظم الباحثين يعتقد أنّ الكون يتمدد بنفس النسق و للابد او انه سيتباطأ في التممد وينكمش، و بهذا يتحول اتساع الكون الى انطواء وهو ما يعرف بنظرية " الانطواء العظيم".
في الإسبوع الماضي ، قدم تقرير من قبل بول جي . شتاينهاردت وزميله نيل توروك بجامعة كامبردج و نشر في 25 أفريل/نيسان على موقع الواب لمجلّة علوم ( Science) الرفيعة المستوى ، و تضمن التقرير تحديا جدّيا للحكمة المسلم بها. اذ قدّم العالمان نموذجا جديدا لتفسير ماهية الكون و مصيره مفاده - وهو نفس ما ذهبنا اليه في مؤلفنا سبب للثورة – ان " ليس للكون بداية او نهاية .
يشير شتاينهاردت وتوروك بأنّ للنموذج المقياس عيوب عديدة. اذ لا يستطيع إخبارنا عما حدث قبل الانفجار العظيم أو توضيح المصير النهائي للكون. هل هو يتسّع إلى الأبد أوانه سيتوقّف وينكمش؟ هذه بعض من الإعتراضات التي اثرناها في سبب للثورة.
يذهب العالمان بأنّ الكون يمرّ بدورة لانهائية - من انفجار عظيم وتوسّع وركود - مدفوعا (مثلما فسرنا) من قبل "طاقة مظلمة". كما ياكدون على ضرورة الاخذ بعين الاعتبار الاكتشافات الاخيرة التي فاجأت النخبة العلمية - مثل ملاحظة ان كلّ شيء في الكون يتحرّك على حدة في نسق متسارع. و تم فحص هذا التسارع الظاهري فتبين انه حقيقة. النموذج المعيار لم يتنبا بمثل هذه الخاصيات!
للتوضيح ،قام الفلكيون باثارة فكرة قديمة تقول بان الفضاء يحتوي على ما ما يسمّى بالطاقة المظلمة التي تدفع المجرات بعضها عن بعض. وضع شتاينهاردت وتوروك هذه الطاقة - الحقل التدرجي كما يصفونها رياضيا - مركزا لنموذجهم الجديد.و هم يعتقدون ان الطاقة المظلمة تقود نشاطا دوريا يشمل انفجارا عظيما تليه مرحلة من التوسّع تترك الكون املسا و فارغا و منبسطا.
يقدم النموذج الجديد بديلا عن النموذج المقياس. يتناول الانفجار العظيم ليس كلحظة خلق، و انما تحول بين دورتين في عملية لانهائية من الإنبعاث الكوسمولوجي. طبقا للنموذج، فان الانفجار العظيم تبعته فترة من التوسّع البطيئ والتراكم التدريجي من الطاقة المظلمة. و حين تصبح الطاقة المظلمة مهيمنة، فانها تثير اسراعا كونيا. و يدعي المؤلفان ان العصر الحالي يقترب من فترة الإنتقال بين هذه المراحل.
في الوقت الحاضر، هما يعتقدان ان الكون يمر بمرحلة توسعية، والتوسّع الحالي سيستمرّ لتريليونات من السنوات، قبل الوصول الى نقطة حرجة حيث تأخذ العملية إتّجاها جديدا. بالرغم من أن هناك العديد من الأسئلة بدون اجابة ( وبشكل خاص حول"الطاقة المظلمة " المفترضة)، فان النموذج الجديد يمثل تقدما شاسعا على حساب النموذج الحالي ، الذي يقول بأنّ الانفجار العظيم كان بداية الزمن والمادة والمكان والطاقة - وهو واضح انه مفهوم تجريدي ولاعلمي. تتخلّص النظرية الجديدة من فكرة ان الكون له بداية و نهاية - هو لانهائي في الزمان و المكان.
يضيف شتاينهاردت: "في الصورة النوذجية، من المفترض أن الضربة الكبرى هي بداية الزمن و المكان؛ و انه كان هناك عدم، وبعد ذلك فجأة ولد من العدم المكان الزمن، المادة، و الاشعاع، الخ."
بالرغم من أنه ثبت ان إزاحة هذا النموذج امر صعب ، فان العديد من العلماء ابدوا قلقهم حول ما يكتنفه من تناقضات وتضاربات. و طبقا لشتاينهاردت، فان النظرية الجديدة "تتنبا بجميع مميزّات النموذج القياس مستخدمة مكونات أقل." في الحقيقة، عدّة مميزّات للكون يمكن أن توضّح بشكل أفضل عن طريق النموذج الدوري، بما في ذلك هندسة الكون، إتساقه العامّ، وبشكل خاص، وجود التسارع. ناقش مؤلفا التقرير أفكارهم مع علماء آخرين فلاقوا تجاوبا،و لكن مع شيء من "الحذر".
إنّ النموذج الجديد هو ايضا مثال آخر للقانون الجدلي عن تحول التراكم الكمي إلى نوعي.فال " الحقل التدرجي يغيّر سمته بمرور الوقت، يقول بول شتاينهاردت متحدثا للبي بي سي : " في النهاية ، يبدأ الحقل بانشاء الطاقة إلى نقطة حيث تصبح غير مستقرة و فجأة تنفجر مكونة المادة والإشعاع، فيملان الكون، ويفتتحان فترة تالية للتوسّع."
نحن هنا نتحدث عن فترات زمنية شاسعة لايمكن تصوّرها. كلما ازدادت سرعة التوسّع على امتداد تريليونات من السنوات فان المادة والطاقة يتممدّان بشكل تدريجي عبر الكون. في النهاية، فان المادة و الاشعاع وحتى البقع المظلمة تصبح ممتدّة جدا بحيث تتبدد إلى لا شيء و مخلفين ورائهم كونا هائلا يسوده الفراغ .
"في هذه النقطة من الرحلة،تكون جزيئات المادة متناثرة- وتبتعد عن بعضها البعض بسرعة كبيرة- بحيث لا يمكنها التفاعل و عمليا تتفرق إلى اكوان مستقلة. يدعو شتاينهاردت وتوروك مرحلة شبه الفراغ هذه " الانطواء العظيم ". يثير الفراغ الطاقة المظلمة فتتجسد مادة وإشعاعا من خلال انفجار عظيم اخر، ينعش دورة او مرحلة التوسّع." ( National Geographic News 25 أفريل/ نيسان 2002)
هذا النموذج ينهي الهراء القائل بخلق الكون من لا شيء:
"ما نعرضه في هذه الصورة الجديدة هو أنّ الانفجار العظيم ليس بداية الزمن و انما في الحقيقة هو آخر ما في سلسلة لانهائية من المراحل، مر خلالها الكون بفترات من الحرارة والتوسّع، والرطوبة، و الركود، و الافراغ، وبعد ها عاد ليتوسّع ثانية و هكذا." (تقرير البي بي سي)
الصورة المقدّمة عن الكون هنا تتّسق كليّا مع نظرية المادية الديالكتيكية، التي تقر بأنّ الكون متغيّر باستمرار وأبدي ولانهائي. هذا لا يعني استبعاد احتمال الانفجار العظيم. في الحقيقة، كنا قد صرحنا انه من المحتمل هناك العديد من الانفجارات العظمى. و من المؤكد ان ما يجب ان يوضع جانبا هي قضية ان المادة (أوالطاقة، و هما نفس الشيء) يمكن أن يخلقا من لا شيء (مثلما تقر نظرية الانفجار العظيم) أو ان يدمرا.
هو، بالطبع، صعب جدا ان نجد حلا للمشاكل التي يطرحها كون لانهائي. يعترف ماركوس تشاون الباحث في الكوسمولوجيا انه سيكون من الصّعب للغاية إثبات أيّ نموذج للكون. وهو يصرح بكل نزاهة متحدثا للبي بي سي بان: "تأريخ الكوسمولوجيا هو التأريخ باننّا مخطئون تماما. "أعني ان الكوسمولوجيا هي الاعسر بين العلوم ؛ فنحن قابعون في هذا الكوكب الصغير جدا في وسط هذا الكون الواسع، لا نستطيع الذهاب إلى أيّ مكان لنقوم بالتجارب - كلّ ما يمكننا عمله هو إلتقاط الضوء الذي يقع علينا ونستنتج بعض الأشياء عن الكون."
بالرغم من هذا، يواصل العلماء تقصّي أسرار الكون والطبيعة و ينتزعون النتيجة بعد الاخرى. إنّ تأريخ العلم هو تأريخ ارتقاء الإنسانية من الجهل إلى المعرفة ، و من الخطأ إلى الحقيقة. هذه نفسها عملية جدلية، حيث كلّ جيل يصل إلى نظرية توضّح العديد من الأشياء.ولكن في مسار ذلك، تحدث انحرافات صغيرة تناقض النموذج المقبول.وهو يؤدّي إلى اسقاطه في النهاية وابداله بنموذج جديد، يقع هو ايضا تجاوزه.
بهذه الطريقة، تغوص المعرفة الانسانيّة أعمق فأعمق في أسرار الكون الى ما لا نهاية. و لن تشرق شمس اليوم الذي تصبح فيه الانسانية قادرة على القول: " الآن نحن ندرك كلّ شيء." إنّ هذا الكون لانهائي، وهي كذلك عملية الادراك الإنساني، التي تمر حتما بسلسلة كاملة من الأخطاء، أو بالاحرى من الحقائق الجزئية.
يجب أن تبرهن النظرية الجديدة عن طريق الملاحظة. اذ توجد طرق لانجاز ذلك. فعلى سبيل المثال، الموجات الجذبية، خاصية للكون تنبات بها النسبية العامّة، ستأخذ شكلين مختلفين في هذين النموذجين. فلن تكون هناك موجات جذبية طويلة في كون دوري، مثلما هو الحال في الكون المتضخّم.
و هكذا فان قياسات الموجات الجذبية وخاصيات "الطاقة المظلمة" يمكن أن توفر طرقا حاسمة للتمييز بين الصورتين عن طريق الملاحظة. الجهود جارية لقياس وتمييز الموجات الجذبية، لكنّه من المحتمل ان يستغرق على الأقل عدّة سنوات لجمع البيانات المفيدة. إنّ القمر صناعي بلانك Plank، الذي برمج اطلاقه من وكالة الفضاء الأوربية سنة 2008 قد يساعد على حسم المسألة.
من المبكر جدا القول انه سيمكن التحقق من ذلك بالتفصيل. المهم ان شوائب نظرية الانفجار العظيم اصبحت واضحة الآن، والبحث جار على بديل. و سواء أكانت النظرية الحالية صحيحة في تفاصيلها ام لا، فان الطريقة التي اتبعها المؤلفان - طريقة مادية وجدلية - صحيحة. وكما كتبا بصواب في علوم: " ستكون الطبيعة الحكم النهائي."
*نظرية ال Big Bang أو الانفجار الكبير وضعها العالم جورج غاماو عام 1948. وتقول النظرية إن الكون نتج عن انفجار ضخم حدث منذ حوالي 15 مليار سنة.
الن وودز
لندن 30 افريل 2002
ترجمة: نديم المحجوب