|
حنين إلى عقل القرن الثاني و الثالث الهجري (المعتزلة)
سليمان سمير غانم
الحوار المتمدن-العدد: 3726 - 2012 / 5 / 13 - 10:07
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما تقرأ عن نشأة الاسلام و المراحل التي مر بها، فإنك ستتوقف حتما عند محطات محددة، بفواصل تاريخية، عبر القرون الهجرية الأولى. مثلا على الصعيد التاريخي، ترى مراحل الدعوة الأولى، في مكة، المدينة. تقرأ عن الحروب الأولى التي خاضها المسلمون، تتوقف عند الدول الاسلامية التي تشكلت في تلك القرون الهجرية الأولى: فترة الراشدين، الفترة الأموية، الفترة العباسية، هذا بشكل مبسط من الناحية التاريخية. عندما تبحث عن الحركة الأدبية و الثقافية في هذه الفترة، لن تستطيع إغفال الظاهرة الحضارية الثقافية المسماة المعتزلة، أو كما يسمون أنفسهم و حركتهم الفكرية بجماعة أهل العدل و التوحيد. أهمية دراسة هذه الظاهرة تندرج تحت ما يسمى العقل النقدي، أو الاصلاح الديني، المتضمن نقد النص الديني بعد فترة من تداوله و العمل على عقلنته، ليساير روح العصر التاريخية و متطلباتها. كل الأمم لديها مرحلة ستمر بها خلال تاريخها و هي مرحلة نقد الذات و معالجة آثار الزمن على التراث. ليولد بعدها التنوير الذي سيؤدي كنتيجة تراكمية الى النهوض و التقدم عبر محاربة ركود المجتمع الفكري. هذه الظاهرة ليست من الظواهر السلسة في تاريخ الأمم، بل من أصعب المخاضات التي تتعرض لها الأمة، خصوصا على صعيد العقل و الثقافة. نرى هذه الظاهرة بوضوح لدى الأمم التي عاشت الظرف التاريخي للعصور الوسطى، أي بعد القرن الرابع الميلادي، بعد أن أخذت الكيانات أو الممالك، شكل الدولة التي يتوحد فيها بشكل بارز، الجهاز السياسي الحاكم و الجهاز الديني ليشكلا وحدة عضوية متداخلة، أي أن يشكل الجهاز الديني عنصرا مهما في الحكم الدنيوي. هذه الظاهرة، ترسخت بشكل واضح في العصور الوسطى مع الامبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي إتخذ من الدين المسيحي، دينا رسميا للدولة، معتبرا نفسه العاهل المسيحي الأول، المفوض بشؤون الله على الأرض. هذا الشكل من الدولة، كان سمة بارزة في دولة العصور الوسطى: نرى مثلا الامبراطورية البيزنطية، الامبراطوريات البربرية الجرمانية التي قامت في أوروبا على أرض الامبراطورية الرومانية بعد سقوط روما، أيضا لدينا الامبراطورية الاسلامية. طبيعة هذه الدول كانت متميزة بحضور الجهاز الديني في السياسة، عبر الحاكم سواء كان الامبراطور البيزنطي أو الجرماني أو عبر الخليفة المسلم، الذي كان شرعية الله على الأرض، والميزة الأهم لدى هذه الدولة عدم وجود الحرية لممارسة دين غير دين الدولة الرسمي. نراه واضحا في قرار الامبراطور تيودوسيوس في عام 392 ميلادي و القاضي عدم السماح بمزاولة دين غير الدين المسيحي ضمن أراضي الامبراطورية. مع تقدم الزمن والإبتعاد عن زمن النص الديني، كان النص يتخذ الطابع الرجعي، الغير قادر على مواكبة التطورات الحياتية و السياسية، لذلك نرى حاجة الشعب لنقد تراثه الديني، تصبح ضرورة لابد منها، للعمل على عقلنته و وضع التصورات اللازمة لتطويره، حتى لا يغدو النص جامدا، غير قادر على التجدد أي أن يموت من وجهة نظر عملية. نرى هذه الظاهرة بوضوح في أوربا في عصر التنوير، بعد الثورة المعرفية الكوبرنيكية و عصر النهضة الذي غير أوربا عبر المفاهيم العقلية العلمية. هنا نرى أن الأمة الأوربية، استغرقت قرابة الألف عام، حتى أعادت النظر في إرثها و ثقافتها، عبر نقد النص الديني أولا، من ثم عبر إعادة تفسير ماهية الكون و الوجود بعيدا عن النظرة الدينية، و هي فترة طويلة نسبيا إذا ما قورنت بالحاجة للتجديد لدى المجتمعات، هذا يظهر واضحا فيما بعد في التخلف و العادات البالية التي عاشتها أوروبا في العصور الوسطى. عندما نتوجه لمتابعة هذه الحركة التاريخية لدي الأمة الإسلامية، نرى ظاهرة مشرقة و مبكرة جدا في تناول الإرث الديني الثقافي، بالإعتماد على العقل، هي حركة المعتزلة التي ظهرت في القرن الثاني الهجري، و استمرت طوال القرن الثالث و بقوة، حتى انقلب عليها الخليفة سئ الصيت المتوكل. عندما نستعرض تاريخ حركة المعتزلة، نلاحظ عدة قصص عن النشأة، تتضارب أحيانا، لكن الأشهر بينها، مع ترجيح نشوء الحركة في وقت أبكر، هي قصة حلقة تعليم الحسن البصري و النقاش الذي دار بينه و بين تلميذه واصل بن عطاء، الذي رفض أحد الأفكار المطروحة خلال النقاش عن موضوع مرتكب الكبائر، و من ثم قام بمقاطعة أستاذه في رفضه تسمية لمرتكب الكبائر بالكافر، بل أصر بأنه في منزلة بين المنزلتين، ليس بالكافر وليس بالمؤمن، من ثم خرج من الحلقة معتزلا دروس الحسن البصري، الذي علق بمقولة اعتزلنا واصل. من وقتها لقب أصحاب هذا الجماعة بالمعتزلة من قبل عامة الناس و الخصوم، لكنهم كان يلقبون نفسهم بأهل العدل و التوحيد. لتبسيط فكر المعتزلة علينا أن نوضح أن الحركة رفضت الإعتماد بشكل كلي على النقل و اتخاذ النص الديني بشكل حرفي، بل أكدت على أنها صوت العقل في محاكاة النص الديني، أي الإيمان بالعقل في كل شئ و إلى عدم الايمان بالعنصر القلبي اليقيني فقط. الإشكالية الأهم في الظاهرة المشرقة للمعتزلة، هي السؤال لماذا نشأت الحركة؟ وما الظرف التاريخي و التطورات التي دفعت المعتزلة لاجتراح أفكارهم، و طرحها في حركة التاريخ الاسلامي؟ وهل الاتهامات التي كانت توجه لهم من الخصوم صحيحية؟ فمعاصريهم يعتبرونهم انحراف أدخل على الدين، عبر الوصول إلى أحكام غير صحيحة، فيما يخص العقيدة. الإتهام الأبرز من خصومهم في تلك الفترة، يقول بأنهم كانوا صوت الفلسفة اليونانية في الإسلام، أي أنهم عملوا على وضع العقيدة في قوالب الفلسفة و المنطق اليوناني لمقاربة المواضيع و محاججة منتقديهم. لا يجيب على هذه الأسئلة، أو لا يستطيع تقريبها إلى العقل، إلا العودة إلى الظرف التاريخي، عبر المقارنة بين النص الديني و الأحداث التاريخية، عبر طرح السؤال التالي : ما موقف النص الديني أو بالأحرى ماذا يقدم النص الديني للإحتكام في الصراعات الدائرة بين المسلمين في تلك الفترة؟ نرى أن الحركة تشكلت بعد الصراع الدموي بين المسلمين من فتنة عثمان وحتى إستيلاء العباسيين على السلطة بعد الصراع العنيف مع الأمويين. يبدو أن الأسئلة الملحة التي طرقت عقل المسلم في تلك الفترة حول رأي النص الديني فيما يحصل، كانت من أهم العوامل في طرح النص الديني على محك النقد و إعادة الصياغة بشكل آخر أكثر منطقية. لقد كانت المواقف التي تعرض لها العقل المسلم في تلك الفترة، هي من جعلت المسلمين يستخدمون عقلهم لإتخاذ مواقف سياسية، مبينية على قناعات، توصل لها أصحابها عبر استنباط عقلي من مصدرهم الديني، ففي خلال الفتن و الصراعات، كان البعض يجرد السيف ضد البعض الآخر. في الوقت ذاته يعتبر نفسه آمرا بالمعروف و ناهيا عن المنكر، بينما نرى ناس آخرين يعتزلون الحرب بين الطرفين، لدى هؤلاء بالذات أثيرت العديد من التساؤلات المنطقية التي كان لا بد من الإجابة عليها، مع الـتأمل في أوامر الديني و نواهيه مع ما يكتنف هذه العملية من حيرة عقلية، اضطرت العقل المسلم للبحث عن سند شرعي منطقي يستند عليه في موقفه. من الأمثلة التي كانت مطروحة، مسألة: هل يحق لإنسان محاسبة إنسان آخر و الحكم على عمله بالصواب أو الخطأ رغم أنه مؤمن؟ و هل الإيمان مجرد إعتقاد بالقلب وإقرار باللسان أم أنه عمل أيضا ؟ و عندما حصلت الحروب بين السلالات الحاكمة و معارضيها ، قفز تساؤل مهم أيضا حول ما إذا كان كل ما يتم بإرادة الله الذي يهدي الملك من يشاء و ينزع الملك عمن يشاء. فهل الإنتفاض على حاكم إنتفاض على إرادة الله؟ ثم إلى من تنسب الأعمال إلى الله أم الى الإنسان بمعنى آخر، هل الإنسان مخير أم مسير؟ تجاه هذه الأمور و التساؤلات إنقسم المسلمون إلى فرق و كل منها اعتمدت على النصوص الدينية في مواقفها، و بدأت عملية عقلنة العقيدة. من ثم نرى موضوعا آخر كان مؤثرا في نشوء الحركة ألا و هو دور نشر الإسلام و الدفاع عنه أمام العقائد القديمة المترسخة في المنطقة، لاسيما المسيحية المتسلحة بسلاح الفلسفة اليونانية، لذلك كان من الضروري استخدام سلاح الفلسفة نفسه للإستعانة في النقاش و الرد على المناظرين للمسلمين. هذا الجو بالمجمل ساعد على نشوء حركة المعتزلة، و غيرها من الحركات الفكرية الأخرى. يشار الى أنه من أشد العوامل التي كانت مساعدة على ظهور هذه الحركات في تلك الفترة، موضوع التسامح الذي كان موجود و الذي أتاح المجال لطرح القضايا الفكرية على بساط البحث، فلقد كانت مجالس تلك النقاشات منتشرة في بغداد، يحضرها أناس من مختلف المذاهب و الأديان يتجادلون بكل حرية و بأدلة عقلية فقط. إ ذا في هذا الجو ظهرت حركة المعتزلة، التي ناقشت أمور عدة، واضعة فلسفة علمية إسلامية معالجة لمواضيع خلافية بحتة، كل ذلك تم على أساس عقلي، ومن ثم نقلي، مقتبس من النص الديني. أجمع المعتزلة على خمسة أصول تعد من أهم الأصول التي ناقشها المسلمون معهم، و هي مصنفة في خمسة أركان: أولها أصل التوحيد: من القضايا التي كونت هذا الأصل، تلك الأدلة العقلية التي قدموها على وجود الله و وحدانيته. ثم قضية تنزيه الوحدانية فكريا عن كل ما يشوبها من شبه بالكائنات المخلوقة. اتبعوا في هذه الناحية المنهج الذي سلكوه في كل القضايا وهو تقديم الأدلة العقلية ثم النقلية من النصوص القرآنية و الحديث، أما النصوص التي يدل ظاهرها على عكس ما يقولون فكانوا يفسرونه تفسيرا تأويليا. أول أقوالهم في مجال تنزيه الوحدانية، هو تنزيه الله عز و جل عن الجسمية و ما يتولد عنها من وجود أعضاء للخالق، أو شغلها لحيز في المكان و الزمان. و كان اعتمادهم على الآية الكريمة التي تقول (ليس كمثله شئ). أما الآيات التي تدل حرفيتها على عكس ذلك مثل (يدي الله فوق أيديهم)، (على العرش استوى) فاعتبروها تعبيرات على سبيل المجاز للدلالة على الهيمنة و السلطان. هنا نرى تطرقهم لموضوع المتناقضات في النص الديني و العمل على عقلنته و تجانسه مع بعضه، على عكس الفرق الدينية الحشوية في زمنهم، و التي كانت تطبق النص الديني بحرفيته من دون أي محاكمة عقلية. نفس العقلية تم التطرق لها عبر الصفات الحسية الواردة في القرآن لوصف الله مثل قدير، عليم ، سميع. نفى المعتزلة أن تكون هذه الصفات قائمة بذاتها، لأن معنى ذلك مشاركتها لله في القدم، معتبرين أن إيرادها كان لمجرد نفي الضد عن الذات الإلهية. ضمن نفس الأصل كانت قضيتهم الأخطر على الطرح (القرآن المخلوق)، فقال المعتزلة أن القرآن مخلوق و ليس كلام الله بالمعنى الحرفي، لأن الكلام صفة و الله و صفاته شئ واحد، فكيف يكون ذلك و القرآن حديث لا قديم؟ فهو يحتوي على الأمر و النهي الذي لا قيمة له من دون المأمورين أي المسلمين و هؤلاء مخلوقات مخلوقة، فكيف يكون ذلك ؟ لذلك رأى المعتزلة أن القرآن شأنه شأن الكتب المنزلة الأخرى، مخلوق الله و كلماته عبارة عن أصوات و حروف يخلقها الله في غيره من المخلوقات و ليست لغته و حروفه، بهذه الطريقة من الخلق تصل هذه اللغة الى المخلوقات، إما عن طريق الوحي، أي الإلهام والقذف في القلب، كما أوحى الى أم موسى، أو يسمعها إلى نبي بعد أن خلقها في بعض الأجرام، دون أن يبصر السامع من يكلمه، كما كلم موسى في سيناء، أو كما أوحى الى النبي محمد عبر الوحي و جبريل الملاك. الأصل الثاني العدل: هو الأصل الثاني للمعتزلة الذي يعادله في الأهمية، لأنهم يطلقون على أنفسهم اسم أهل العدل و التوحيد. يشتمل هذا الأصل على أمور عدة، أهمها القضية التي شغلت الناس منذ زمن قديم ناقشها الفلاسفة اليونانيين ثم المسيحيين، هي التساؤل فيما إذا كان الإنسان مسيرا أم مخيرا. لأنه كان من بين المسلمين من يعزو جميع الأفعال لله، معتبرا نسبة الأعمال التي يقوم بها الإنسان على سبيل المجاز، كنسبة الجري للماء أو الثمار للشجر و استشهدوا على ذلك بالآية (و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا و الله خلقكم و ما تعلمون)، هذا برأي المعتزلة كان من غير الممكن، لأنه مخالف لمبدأ العدل عند الله، فكيف يقدر الله عملا ما على الإنسان و يعاقبه عليه يوم القيامة إن كان شرا و يثيبه عليه إن كان حسنا، رغما أن مرد الأعمال إليه؟ و لذلك فإن للإنسان حسب رأي المعتزلة حرية الإرادة و هو الذي يخلق أفعاله. صدق الوعد و الوعيد: و هو الأصل الثالث للمعتزلة و فيه اتفقوا على أن الله سيعاقب من أساء على ذنبه و سيثيب من أحسن كما ورد في القرآن الكريم. المنزلة بين المنزلتين: الأصل الرابع من أصول المعتزلة و هو يتلخص، بأن الناطق بالشهادتين يبقى مؤمنا في حال ارتكابه للمعاصي و ذلك بالنسبة للفرق المسلمة كالمرجئة و غيرها في ذلك الزمن، لكن بالنسبة للمعتزلة نرى مقاربة أخرى للموضوع، فلقد اعتبر المعتزلة العمل جزء من الإيمان مستندين في ذلك إلى قول الله تهالى (و ما كان الله ليضل إيمانكم) إذ أن الإيمان هنا تعني الصلاة، و لذلك و بحسب رأيهم أن مرتكب المعاصي ليس بكافر و ليس بمؤمن بل في منزلة بين المنزلتين. الأصل الخامس: الأصل الخامس للمعتزلة كان واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. كان هناك إجماع لدي المسلمين في هذا الموضوع لأن أمر الله فيه صريح بالقرآن، لكن الخلاف بينهم حول وسيلته، فمنهم من رأى القيام به بالقلب و باللسان كافيا و من هؤلاء أحمد بن حنبل، منهم من طلب باستخدام اليد و السيف، عندما لا يكفي القلب و اللسان لتحقيق الأمر، و كان هذا رأي الصحابة الذين اشتركوا في الصراعات التي جرت أثناء الفتنة كعائشة و من قاتل معها و علي و من وقف بجانبه، أيضا الخوارج قالوا بنفس ذلك و المعتزلة نفسهم كانوا مع هذا الرأي بتطبيق القوة لتنفيذ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. هنا بعد الإطلاع بشكل مقتضب، على أهم أفكار المعتزلة، يخطر لنا السؤال التالي: لماذا كان المسلم في ذلك العصر، يستطيع طرح أفكار العقيدة على النقاش و بكل أريحية، بينما الآن في عصرنا الحالي يتم تكفير الشخص الذي يطرحها مستخدما عقله؟ و هل يستطيع المسلمون مواجهة النقد الموجه من الأمم الأخرى بالعقل؟ و من دون التكفير أيضا؟ و إذا كنا مغيبين عن واقعنا لهذه الدرجة فكيف سنستطيع خلق جيل يعود الى إعمال العقل في قضاياه الحياتية، من دون الإعتماد على الغيب؟ لقد أضحت ظاهرة غياب العقل المسلم من أوضح الظواهر في هذا العصر. وإن الحالة السيئة التي وصلنا إليها اليوم فكريا و إنسانيا، كانت إحدى نتائج لجم هذه الحركات الفكرية العظيمة، التي كانت من دون شك، العامل الأقدر على تجاوز المشاكل، و طرح الحلول، ليتصالح الفرد المسلم مع ذاته عن قناعة، لا عن ترهيب قائم على اللامنطق. نعم لقد اجتاحنا سيف التكفير عوضا عن سيل التفكير. فبات الحال من سئ إلى أسوأ. لذلك نرى على مر التاريخ الاسلامي، أو باصطلاح أكثر دقة في عهود الانحدار الاسلامي، راجت ظاهرة التكفير، التي أصبحت حكما مطلقا يعرض صاحبه للقتل، من دون النظر إلى ما يقوله الشخص الذي تم تكفيره ! و انطبق الأمر على العلماء و الفلاسفة العرب، فبينما تم تكفير ابن عربي و الحلاج و ابن رشد بقوانين الشرع الاسلامي، تجد من المسلمين المتعصبين اليوم، من يعير أوروبا متفاخرا بأنها اعتمدت على أفكار هؤلاء الفلاسفة في عصر نهضتها، متناسيا أو معترفا عن جهل بانتصار عقول هؤلاء على شريعته التكفيرية، أليست ظاهرة بحاجة إلى النظر و أخذ العبر؟ يشار الى أنه عبر التاريخ الاسلامي، تم القفز عن جميع الأفكار التي طرحها المعتنقون الجدد للعقيدة عبر سيف التكفير، مع أن أغلب من حاجج المسلمين حاججهم بنصوص من قلب العقيدة ! فمثلا الحركة الشعوبية التي ظهرت في الدولة العباسية، يتم تسخيفها بغوغائية عند النظر إليها في المراجع العربية، يأنها حركة فارسية حاقدة، هدفها فقط تدمير الإسلام من الداخل، لكن عندما نركز الضوء على الحركة في أساسياتها نراها مقتبسة من نص قرآني ( يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) و هنا الفرس يدللون على أن الله في القرآن، فضل الشعوب على القبائل، بذكرها صراحة قبل موضع ذكر القبيلة، و بذلك نرى أنهم يستندون إلى النص الديني الإسلامي في أحقيتهم بالتفوق و الظهور في الإسلام. دوما كان الحال كذلك مع المسلمين، يتم مهاجمتهم بنصوصهم، فيشهرون سيف التكفير و بغوغائية و أصوات مرتفعة، متناسين بأن من يحاججهم، يحاجههم من نصوصهم الدينية، فبذلك يختممون المشاكل من دون نقاش أو حوار أو إعمال للعقل في المسألة. فيكون نصهم الديني هو ضحيتهم قبل أن يكون ضحية من يناقشهم، و بذلك كانوا أخطر أعداء الاسلام على الدوام، هم وحدهم و بعقليتهم المتخلفة من قام بتهديم أسس الإسلام، و تراهم دوما يسألون عن السبب ! مع رفض قاطع لأي نوع من أنواع الاصلاح الديني، و وضع النص على محك النقد لعقلنته، و تشذيبه ليواكب العصر. مع العلم أن الصحابة الأوائل، كانوا قد غيروا الكثير من الأحكام بعد مضي أقل من عقد على انتشار الاسلام، فما بال المسلمين يريدوننا اليوم أن نعيش حكم النص العائد الى قرابة 1500 سنة خلت، أهو الانتحار ؟ أم الجنون؟ أم أنه منظرنا الجميل بين الأمم اليوم كشعوب متوحشة، تأكل بعضها بعضا، عبر سياسة التكفير، غير مكتفية بذلك بل مقنعة نفسها بأنها شعوب الله المختارة، لا بل شعوب جنته الموعودة ! وسط هذا الجو اللاعقلاني، لا نستطيع إلا أن نقول ما يلي: إن كان هناك خلاص لهذا الجحيم التكفيري الذي نعيشه، فسوف يكون عبر الرجوع إلى العقل، عبر طرح النصوص الدينية للمحاكمات العقلية، التي ستعيد قطعا للنص شيئا من كرامته المفقودة، و ستعيد حتما للمسلم إنسانيته التي حرمه إياها رجال الدين المسلمين، الذين فرغوا الدين من أي بارقة خير، لا بل جعلوه كتلة شر متنقلة، تحرق جميع البشر إلا هم، تراهم متنعمين على ذل الشباب العربي و طحن الشعوب العربية لنفسها من الداخل. معتمدين دوما على كبت الشباب الذي يولد العنف، لأن رجل الدين دوما بحاجة إلى العنف عند أنصاره لاستخدامه ضد الأخرين. فالدين عندما يدخل في الحياة اليومية وفي التعاملات بين البشر، لا يعيش إلا على تكفير الأخرين و لاينمو إلا على دماء أنصاره قبل دماء المخالفين لأنصاره، لغايات و أهواء لا يعرفها إلا الشيطان الكامن في قلب رجل الدين. لا بد من العودة إلى العقل مقياس الخير والشر في هذا الوجود الذي نعيشه، هذا العقل الذي هو العدو الأول لرجال الدين اليوم، فبدونه لا نملك إلا الغريزة، و الغريزة هي مكتسب بهائمي عند الانسان يشترك فيه مع الحيوانات التي يتميز عنها بالعقل. بعد هذا الإرث الديني المتخلف الثقيل، و بعد سيف التكفير المشهر في وجه العقل و العلم منذ العصور الوسطى، لا يسعنا إلا أن نوجه تحية إلى المعتزلة و فكرهم المتقدم ، تحية إلى كل فرد فيهم دفع حياته ثمنا على مذبح العقل و الفكرة رافضا أن يكون غير ذلك الانسان الحر البعيد عن البهائمية، ذلك الإنسان الذي يحترم الانسان عبر عقله فقط، ولا يعرف عن الله إلا الفكرة البيضاء النقية، البعيدة عن الأحقاد و غرائز البشر. وعليه نقول نحن أبناء العصر الحالي أبناء العلم و الإنسانية، العقل أولا. دعوة إلى الإنسان الكامن فينا (لا يوجد الله إلا في العقل و من ليس لديه العقل، لن يعرف الله يوما) .....
المعلومات الوارة في المقال من كتب
1. شرح الأصول الخمسة ... لعبد الجبارين أحمد. 2. واصل بن عطاء و آراؤه الكلامية ..... سليمان الشوايتي. 3. رسائل العدل و التوحيد .. الحسن البصري..... دراسة و تحقيق الدكتور محمد عمارة. 4. الحضارة العربية الاسلامية ..... د. أحمد بدر.
#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدلجة المجتمع و عبثية الاسلام السياسي
-
الإله المتجسد بين الوسط الاغريقي الهيليني و الديانة المسيحية
-
الشرق الأدنى من عبادة المرأة الى استعبادها
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|