|
مصر فى التوراة
داود روفائيل خشبة
الحوار المتمدن-العدد: 3723 - 2012 / 5 / 10 - 14:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مصر فى التوراة داود روفائيل خشبة
ملاحظة تمهيدية: كلمة "التوراة" فى عنوان هذا المقال تعوزها الدقة، فللكلمة معان متباينة فى المصطلح العبرى والمصطلح المسيحى والمصطلح القرآنى، فيلزمنا بداية أن نميّز بين هذه المعانى المتباينة. فالتوراة فى القرآن هى الكتاب الذى "أنزِل على موسى". وعند اليهود تشير الكلمة فى المكان الأول للأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس العبرى، وهى الأسفار التى تنسب إلى موسى، لكن الكلمة قد تستخدم بمعنى أوسع لتشير لكل أسفار الكتاب أو لمجموع تعاليم الديانة اليهودية. المسيحيون يقسمون كتابهم المقدس إلى قسمين: "العهد القديم" الذى يضم أسفار الكتاب العبرى و "العهد الجديد" الذى تختص به المسيحية ويضم، بجانب الأناجيل الأربعة المعتمدة، سفر أعمال الرسل ومجموعة من الرسائل وسفر الرؤية. وفى هذا المقال نأخذ التوراة بالمفهوم الواسع الذى يشمل أسفار الكتاب المقدس العبرى أو "العهد القديم" من الكتاب المقدس المسيحى. * يتباهى المصريون بأن مصر ذكِرت فى "الكتب السماوية"، دون أدنى انتباه للسياق الذى ورد فيه ذلك الذكر. ورد اسم مصر فى القرآن خمس مرات تحديدا، منها مرتان فى سياق قصة يوسف وثلاث مرات فى سياق قصة موسى، وكل ما جاء فى القرآن فى هذا الصدد يردد فحسب ما جاء فى الأسفار العبرية. أما فى "العهد الجديد" فلم يرد ذكر مصر إلا فى قصة هروب "العائلة المقدسة" بالمسيح الطفل إلى مصر (إنجيل متى، الأصحاح الثانى). فماذا عسانا نجد فى التوراة عن مصر؟ رغم أن مصر ذكرت فى مواضع مختلفة من أسفار التوراة (التكوين، الخروج، العدد، الملوك الأول، الملوك الثانى، أخبار الأيام الثانى، إشعياء، إرمياء، حزقيال، هوشع، زكريا) إلا أن الأصحاحات (= الفصول) الخمسة عشر الأولى من سفر الخروج تشكّل بؤرة المقاربة العبرية لمصر والمصريين. ويروى هذا القسم الأول من سفر الخروج حكاية خروج اليهود من مصر بعد مقامهم فيها "أربع مئة وثلاثين سنة" (خروج، 12 : 40) منذ أن جاءوها حسبما تحكى التوراة فى قصة يوسف (تكوين، 30 : 22 – 24، 37 : 5 – 50 : 26). وكلتا الحكايتين، حكاية يوسف وحكاية الخروج، لا سبيل للتحقق من وقائعهما لأننا لا نملك مرجعا تاريخيا لهما غير نص التوراة. وإذا كانت حكاية يوسف تبدو كقصة رومانسية حيكت لتفسير وجود اليهود فى مصر، فإن حكاية الخروج ذات طبيعة مختلفة تماما. إن أىّ قارئ لم يغيّب عقله تماما الإيمان بأننا بإزاء نص مقدّس نزل به وحى سماوى لا يمكن إلا أن يتبيّن فى جلاء تامّ ما فى هذه الحكاية من حقد وغل أسودين ضدّ مصر والمصريين، وما فى وقائعها من خيال سقيم ولاعقلانية فجة، وما فى تفاصيلها من تناقض. لكننى لست هنا بصدد تمحيص ما فى هذا النص من مثالب وعيوب، وربما يكون لهذا مجال آخر، إنما أردت هنا فقط أن أعرب عن استنكارى لتقبّل المصريين لهذا الافتراء العنصرى الشائن لا لشىء إلا أنه يأتيهم فى مسوح وحى إلهى لا يخضع لمساءلة ولا لتمحيص. أول ذكر لمصر يصادفنا فى التوراة نجده فى حكاية طريفة فى سفر التكوين، ولطرافتها لا أحب أن أحرم القارئ من الاستمتاع بها، فهاكم النص كاملا: "وحدث فى الأرض جوع. فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرّب هناك. لأن الجوع فى الأرض كان شديدا. وحدث لما اقترب أن يدخل مصر أنه قال لساراى امرأته إنى قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر. فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته. فيقتلوننى ويستبقونك. قولى إنك أختى. ليكون لى خير بسببك وتحيا نفسى من أجلك. "فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا. ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون. فأخِذت المرأة إلى بيت فرعون. فصنع إلى أبرام خيرا بسببها. وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال. فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراى امرأة أبرام. فدعا فرعون أبرام وقال ما هذا الذى صنعت بى. لماذا لم تخبرنى أنها امرأتك. لماذا قلت هى أختى حتى أخذتها لى لتكون زوجتى. والآن هوذا امرأتك. خذها واذهب. فأوصى عليه فرعون رجالا فشيّعوه وامرأته وكل ما كان له." (تكوين، 12 : 10 – 20). الحكاية غنية عن التعليق، فلن أضيف إلا بضع ملاحظات سريعة. (1) أبرام هو الاسم الأصلى لإبراهيم قبل أن يأمره الله بتغييره (تكوين، 17 : 5). (2) المدلول الأخلاقى، أو قل اللاأخلاقى، للقصة صارخ بما لا تبقى معه حاجة للتعليق. (3) العقاب الإلهى يقع على الملك، ضحية الخديعة، لا على أبرام (إبراهيم) الذى اقترف الخديعة. دعونا بعد هذا نستعرض سريعا بقية المواضع التى ورد فيها ذكر مصر، نأخذها بترتيب ورودها فى أسفار الكتاب المقدس العبرى. فى سفر العدد، الذى يواصل حكاية ارتحال اليهود عبر سيناء إلى الأرض التى وُعِدوا بها، يجىء ذكر مصر حين يضجر اليهود ويحِنّون لما كانوا يتمتعون به فى مصر من أطايب الطعام: "فعاد بنو إسرائيل أيضا وبكوا وقالوا من يطعمنا لحما. قد تذكرنا السمك الذى كنا نأكله فى مصر مجانا والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم" (عدد، 11 : 5). وفى سفر الملوك الأول 3 : 1 نقرأ أن سليمان صاهر فرعون ملك مصر. (لاحظ الإصرار على استخدام "فرعون" كاسم شخصى للملك، هذا الاستخدام الخاطئ الذى ورثناه وما زلنا مقيمين عليه.) وفى سفر الملوك الثانى، فى الأصحاحين 18 و 19، فى صدد رواية غزو ملك أشور للسامرة وأورشليم يتردّد ذكر مصر حيث يسخر ملك أشور من اعتماد الملك اليهودى على عون مصر: "والآن على من اتكلت حتى عصيت علىّ. فالآن هوذا قد اتكلت على عكاز هذه القصبة المرضوضة على مصر التى إذا توكأ أحد عليها دخلت فى كفه وثقبتها. هكذا هو فرعون ملك مصر لجميع المتكلين عليه" (18 : 20 – 21). وفى أخبار الأيام الثانى 36 : 3 – 4 نقرأ أن ملك مصر عزل ملك أورشليم وأحل أخاه محله. نأتى الآن إلى موضع يستحق أن نتريّث عنده، ففى سفر إشعياء 19 : 25 ترد الكلمات: "مبارك شعبى مصر"، ثلاث كلمات تلتقطها الكنيسة المصرية القبطية الأورثوذوكسية، تتباهى بها، تنقشها على جدران الكنائس، تتفاخر بها فى كل المناسبات، ولا تعترف بأنها تنتزعها من سياقها انتزاعا معيبا. تأتى هذه الكلمات فى ختام الأصحاح 19 من سفر إشعياء، وكان بودّى لو أقتبس هذا الأصحاح كاملا أو على الأقل فقرات كاملة منه. يرجع سفر إشعياء إلى النصف الثانى من القرن الثامن قبل الميلاد حين كان اليهود يرتعدون خوفا من قوّة أشور ويأملون فى التحالف مع مصر باعتبارها القوّة التى قد تصدّ بطش أشور. لكن إشعياء يحلم بما هو أكثر من ذلك. ففى الأصحاح 19 يستنزل إشعياء كل ما يسعفه به خياله من بلاء وويلات حتى ترضخ مصر وترضخ أشور وتقبلان بعبادة رب إسرائيل، وينتهى الأصحاح بهذه العبارات: "فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى أشور فيجىء الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى أشور ويعبد المصريون مع الأشوريين. فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثـُلـُثـًا لمصر ولأشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلا مبارك شعبى مصر وعمل يدى أشور وميراثى إسرائيل." لكن إشعياء يعود فى الأصاح 30 فينذر قومه: "ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى أنهم يُجرون رأيا وليس منى ويسكبون سكيبا وليس بروحى ليزيدوا خطيئة على خطيئة. الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمى ليلتجئوا إلى حصن فرعون ويحتموا بظل مصر. فيصير لكم حصن فرعون خجلا والاحتماء بظل مصر خزيا. ... فإن مصر تعين باطلا وعبثا لذلك دعوتها رَهَب الجلوس" (30 : 1 – 7). ويبدأ الأصحاح 31 بالكلمات: "ويل للذين ينزلون إلى مصر للمعونة". لكن الكنيسة القبطية تقتطع الكلمات الثلاث "مبارك شعبى مصر" من سياقها السلبى دون مراعاة لمقتضيات الأمانة والصدق. فى إرميا 2 : 6 يجىء اسم مصر بصورة عارضة فى عبارة "الرب الذى أصعدنا من أرض مصر". وفى إرميا 42 : 18 – 19 ينذر إرميا اليهود الذين يريدون الذهاب إلى مصر وينهاهم عن ذلك. أما حزقيال الذى عاش فى القرن السادس قبل الميلاد فى حقبة عاصفة شهدت سقوط أورشليم، ويبدو أن "نبوءاته" كانت تأتيه فى رؤى شديدة الاضطراب، فمن الواضح أنه كان يمتلئ حقدا على كل القوى المؤثرة فى المنطقة حينذاك، ولو أن مصر فى ذلك الوقت لم تكن فى أحسن أحوالها. فى الأصحاح 23 يشبِّه إرميا السامرة وأورشليم بزانيتين "زنتا بمصر. فى صباهما زنتا"، ويسترسل فى هذر فاحش قبيح يبعث على الغثيان حتى وإن يكن القصد منه رمزيا. وفى الأصحاح 32 المزيد والمزيد من هذا الهذر الغث و "النبوءات" الحاقدة التى تتوعّد مصر بالخراب والعذاب والذى أعفى القارئ من أن أسقمه بإيراد نماذج منه. فى هوشع 11 : 1 نصّ يستدعى التفاتنا إليه لأنه يعطينا نموذجا كاشفا للتأويل النصّى المخاتل. يقول النص: "لما كان إسرائيل غلاما أحببته ومن مصر دعوت ابنى." واضح من السياق أن العبارة تشير إلى حكاية خروج اليهود من مصر، التى يحب الإسرائيليون استرجاعها فى كل مناسبة وفى غير مناسبة. إلا أن إنجيل متى، الذى دأب على التقاط النصوص القديمة وتوظيفها كنبوءات تدعم روايته لوقائع معينة، يستشهد بهذا النص فى حكاية الهروب بالمسيح الطفل إلى مصر على هذا النحو: "وبعد ما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلا قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك. لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه. فقام وأخذ الصبى وأمه ليلا وانصرف إلى مصر. وكان هناك إلى وفاة هيرودس. لكى يتم ما قيل من الرب بالنبى القائل من مصر دعوت ابنى" (متى، 2 : 13 – 15). وزكريا أيضا تأتيه "نبوءاته" فى رؤى يختلط فيها الوعد بالوعيد ويقترن استرجاع ما مضى باستشراف ما هو آت، فنقرأ فى 10 : 10 – 11: "وأرجعهم من أرض مصر وأجمعهم من أشور وآتى بهم إلى أرض جلعاد ولبنان ولا يوجد لهم مكان. ويعبر فى بحر الضيق ويضرب اللجج فى البحر وتجف كل أعماق النهر وتخفض كبرياء أشور ويزول قضيب مصر." هذه نماذج من المواضع التى ورد فيها ذكر مصر فى التوراة، وما أظن مصريا يجد فيها ما يفرحه أو يرضيه. http://khashaba.blogspot.com
#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة إلى فضيلة الشيخ يوسف القرضاوى
-
دعوة للعقلانية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|