|
القرآن والواقع الاجتماعى (21)( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ )
أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 3721 - 2012 / 5 / 8 - 12:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
القرآن الكريم لغة الحياة ،وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول:صدق الله العظيم ":( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ )(الحديد16 ) أولا : 1 ـ شهد عام عام 349 وفاة جعفر بن حرب . هو شخص ضمن ملايين الأسماء المغمورة فى التاريخ ، ولكن خبره غريب . جعفر بن حرب هذا كان ضمن أعوان معز الدولة البويهى يتقلد الأعمال الكبار فى خدمته ، وكان له نفوذ وسلطة توازى سلطة الوزراء . لكن كانت فى داخله بذرة خير تنتظر اللحظة الحاسمة للتوبة . وجاءت اللحظة تلك حين كان جعفر بن حرب يسير ( راكبا فى موكب له عظيم ونعمته على غاية الوفور ومنزلته بحالها في نهاية الجلالة فسمع رجلًا يقرأ ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ )، فصاح: اللهم بلى . وظل يكررها دفعات ، وبكى ، ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه ودخل إلى دجلة واستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرق جميع ما له في المظالم التي كانت عليه وردها وتصدق بالباقي ، فاجتاز رجل فرآه في الماء قائمًا وسمع بخبره فوهب له قميصًا ومئزرًا فاستتر بهما وخرج وانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات. فى عام 349 .) هذا ما جاء فى سيرته التى كتبها المؤرخ ابن الجوزى فى ( المنتظم ج 14 وفيات 349 ). 2 ـ المؤمن صاحب الاستعداد للهداية يكون مرشحا للتوبة الحقيقية لو وقع فى محنة ، وبالتوبة يتحرر من غفلته ، ويبدأ عهدا جديدا من التقوى . وقد يبدو غريبا هذا الخبر عن التوبة الفجائية لجعفر بن حرب ،الذى تطرّف فى توبته الى درجة خروجه عن كل وظائفه ونفوذه وماله ( وحتى ثيابه ) مرة واحدة ، ثم يتفرّغ للعلم والعبادة . وربما يدخل الشّك فى الرواية لأنها تتكرر فى سيرة الزهاد والصوفية ، وهى تعزف على نفس الوتيرة ، أى ذلك الشاب الغنى المترف الذى يتوب فجأة ويتنازل عن كل ماله وجاهه ويتعبّد ، قيل مثل هذا عن ( بوذا ) وعن ( ابراهيم بن أدهم ) . ولكن صاحبنا جعفر بن حرب لم يتحول الى شيخ صوفى ، بل أنتقل من الشهرة والجاه والصيت الى غياهب التاريخ ، فلم يعد يسمع أحد عنه شيئا ، أى إنه فعلا إعتزل الناس ، وظل نسيا منسيا الى أن مات . ليس مثل أولئك الذين كانوا نسيا منسيا ثم زعموا الولاية وزعموا أنهم كانوا أبناء ملوك فاشتهروا ولم يكونوا قبلها شيئا مذكورا . نحن لا نعرف من هو ذلك الملك الذى كان والدا لاباهيم بن أدهم . ولكن صدّق الجميع زعمه بأنه كان ابن ملك من الملوك ، واكتسب شهرة الولاية وحيكت حوله الكرامات وكتبوا فى سيرته المناقب بعدها . أى جاء ابراهيم بن أدهم من دائرة الخمول الى ساحة الأضواء ، كان نكرة فأصبح شهرة . وعلى العكس منه صاحبنا جعفر بن حرب الذى كان فى شهرته وجهه وثروته ثم تنازل عن هذا كله حين سمع قوله جل وعلا : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ ) فارتعش جسده وصحا ضميره واستيقظ قلبه فتاب ودخل بمشيئته الى دنيا النسيان ، الى أن مات. ثانيا وربما كانت هناك إرهاصات يسّرت لجعفر بن حرب طريق التوبة . فقد كان يخدم السلطان معز الدولة البويهى المسيطر على الخلافة العباسية وصاحب الأمر والنهى فى العراق وشرق العراق فى ذلك الوقت . نقول ربما إتعظ جعفر بن حرب بما كان يحدث لسيده السلطان معزّ الدولة . وهذا السلطان أيضا إضطره المرض الممّض المؤلم للتوبة متأخّرا . وشهد جعفر بن حرب طرفا من مرض السلطان ومعاناته ، وأدرك أن كل ( عزّ ) وجاه السلطان ( عزّ الدولة ) لم ينجه من عذاب المرض ...وربما وهو يعايش معاناة سلطانه تاب وأناب حين سمع القارىء يتلو قوله جل وعلا (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ ). ونتتبع أخبار مرض السلطان عزّ الدولة ضمن الأحداث التاريخية التى رصدها المؤرخ ابن الجوزى فى تاريخ ( المنتظم ) فى الجزء 14 صفحات 94 ، 126 ، 132 ، 182 . 1 ـ فى عام 343 شهر ذي الحجة: ( عرض لمعز الدولة مرض وهو الإيقاظ الدائم فأرجف به فاضطربت بغداد اضطرابًا شديدًا واضطر إلى الركوب مع علته حتى رآه الناس فسكنوا.). أى أصابه أرق من المرض ، ووصلت أخبار المرض الى الناس فاضطربت بغداد لأن مرض السلطان وقرب منيته تعنى التنازع على السلطة وقيام الفتن ، لذا تحامل عزّ الدولة على آلامه وسار فى موكب حتى يطمئن الناس . وظل معزّ الدولة يكتم آلامه ومرضه ، واشتهر مرضه فى منتصف شوال عام 349 ، إذ أصبح يعانى من حصوات الكلى ويتبول دما ، يقول ابن الجوزى ( وفي نصف شوال: عرضت لمعز الدولة علة في الكلى فبال الدم وقلق منها قلقًا شديدًا ثم بال بعد ذلك الرمل ثم الحصى الصغار والرطوبة التي ينعقد منها الرمل والحصى ) 2 ـ وفى العام التالى 350 إشتد عليه المرض ، ووصف ابن الجوزى أعراض المرض بدقة : يقول : ( ثم دخلت سنة خمسين وثلثمائة ، فمن الحوادث فيها أنه اشتدت علة معز الدولة ليلة السبت لأربع خلون من المحرم وامتنع عليه البول كله واشتد قلقه وجزعه ثم بال على ساعة باقية من الليل دمًا بشدة ثم تبعه البول وخرج مع البول رمل كثير وحصى صغار وخف الألم ) . وبعد أن خفّ الألم خرج السلطان للنزهة ، وقام ببعض الاصلاحات وإرتكب بعض المظالم والمصادرات كى يوقع المهابة ـ كعادة المستبد . ثم إشتدت به علته وخرج الأمر عن طاقة إحتماله فظل يعانى حتى مات عام 356 . 3 ـ لكنه قبيل موته تاب وأناب . إذ تملكته الأمراض ، فبالاضافة الى حصوات الكلى أصبح لا يثبت فى معدته طعام ، وأصبح لا يقوى على القيام ، فعهد إلى ابنه بختيار . وعند الاحتضار أمر أن يحملوه إلى بيت الذهب واستحضر بعض العلماء فتاب على يده فلما حضر وقت الصلاة خرج ذلك الرجل إلى مسجد ليصلي فيه فقال له معز الدولة: لم لا تصلي ها هنا ؟ فقال: إن الصلاة في هذه الدار لا تصح. وبعد سؤال وجواب مع هذا العالم قال معزّ الدولة : ما علمت بهذا. وتصدق بأكثر ماله وأعتق ممالكيه ورد كثيرًا من المظالم وبكى حتى غشي عليه. ومات لأربع ساعات قد مضين من ليلة الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلثمائة .وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وعمره ثلاث وخمسون سنة . الخاتمة : خاتمة كل إنسان هى الموت ..هذه حقيقة لا يسع الجميع إلّا التسليم بها ، ولكن لا يسع الجميع العمل بمقتضاها . لا يهمنا كثيرا هناالشخص العادى الذى لا يؤثر كثيرافى حياة الآخرين . المهم لدينا هنا هو الحاكم المستبد المتحكّم فى الناس ، والذى يتمنى الناس الخلاص منه بالموت ، والذى لا يحب الموت ويحاول الفرار منه ويتجاهل الحديث عنه . هذا المستبد يضحى بأقرب الناس اليه ليظل فى عرشه ، ويظل يظلم مدافعا عن عرشه الى أن يموت بالمرض أو بالقتل . يفقد كل شىء ، ويعود الى تراب .. وعند الاحتضار يتمنى لو كان ممن سمع الحق وأطاع الحق . ربما يقرأون له وهو على فراش الاحتضار قوله جلّ وعلا : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ )، فيتمنى أن يعود للحياة ويأخذ فرصة أخرى ليتوب ...ولكن ..فات الميعاد . ! يقول جلّ وعلا : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) ( المؤمنون ) ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) ( المنافقون ). ودائما ..صدق الله العظيم .!!
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القاموس القرآنى ( ثياب )
-
القاموس القرآنى : وضع
-
قراءة لسورة ( هود ) بحثا عن وسائل لتفادى الهلاك : ( الجزء ال
...
-
شوبش
-
إنتبهوا أيّها السّادة .!!
-
دعاء تحقق جزء منه وننتظر الباقى
-
موقف لبيد بن ربيعة من الفصاحة القرآنية
-
( 7 ) الاهلاك الجزئى أو التعذيب للمسلمين بعد نزول القرآن الك
...
-
إنهم يصرخون ..دعهم يصرخون.!!
-
الاهلاك الجزئى أو التعذيب لقريش مع نزول القرآن الكريم
-
أنواع آلهة المشركين
-
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
-
( 5 ) بين الاهلاك الكلى والاهلاك الجزئى
-
الفكّ المفترس .!!
-
( 4 ) خطوات ومعالم الاهلاك الكامل : المقال الثانى
-
( 3 ) تحذيرات رب العزة لنا بالاهلاك : المقال الأول
-
القرآن والواقع الاجتماعى (21):(وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ
...
-
(6 )تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم
-
الأغلبية الصامتة نذير هلاك للمجتمع
-
القرآن والواقع الاجتماعى ( 20) : ( وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُ
...
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|