أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - نبيل جعفر عبد الرضا - دور الدولة في الاقتصاد العراقي















المزيد.....


دور الدولة في الاقتصاد العراقي


نبيل جعفر عبد الرضا

الحوار المتمدن-العدد: 3718 - 2012 / 5 / 5 - 18:45
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


دور الدولة في الاقتصاد العراقي

د.نبيل جعفر عبد الرضا
المقدمة :
حظيت مسألة دور الدولة في الاقتصاد باهتمام فائق من قبل الاقتصاديين منذ زمن بعيد . واحتدم الجدل مبكرا وما زال وافرز اتجاهين متناقضين ، احدهما يدعو إلى دور قوي ومؤثر للدولة في الاقتصاد يتمثل هذا الاتجاه بشدة في أفكار التجاريين والماركسيين ، وتغالي الماركسية في هذا الاتجاه وتدعو إلى سيادة الملكية الجماعية (ملكية الدولة) لكل وسائل الإنتاج في المجتمع وإلغاء الملكية الخاصة . أما الاتجاه الثاني فيتمثل بشكل خاص في الكلاسيكية والكنزية والنيوكلاسيكية وهو يدعو إلى دور حيوي للسوق في الاقتصاد فيما يقتصر دور الدولة على مهامها التقليدية كالأمن والدفاع والقضاء ، ثم تطور دورها ليشمل في ظل العولمة ، بناء مؤسسات السوق ، وإيجاد البيئة التشريعية المناسبة لتعزيز الاقتصاد السوقي ، وتذليل العقبات الإدارية ، وإدارة الاقتصاد ووضع سياسات سليمة للاقتصاد الكلي . والدولة في العراق وبالذات منذ عام 1968 ، كان لها دوراً حيوياً وفاعلاً في الاقتصاد العراقي لسببين مهمين أولهما امتلاك الدولة لثروة نفطية هائلة ترتب عليها عائدات مالية ضخمة وثانيهما اعتماد العراق المنهج الاشتراكي الذي يقوم على دور اكبر للدولة في الاقتصاد العراقي ، وعلى الرغم من أن العراق قد حقق تطوراً اقتصادياً كبيراً خلال عقد السبعينات سواء على مستوى تنمية الإنتاج المادي أم على مستوى التنمية البشرية ، فضلاً عن محاولاته الجادة لبناء القاعدة المادية للاقتصاد العراقي . غير أن الحروب الثلاث التي خاضها العراق منذ عام 1980 ، والحصار الاقتصادي المفروض عليه . فضلاً عن مجموعة من العوامل الذاتية المتعلقة بسوء السياسات الاقتصادية القائمة على ملكية الدولة لمعظم الأنشطة الاقتصادية ، ووجود قيود بيروقراطية وقانونية تحد من الانفتاح على العالم الخارجي ، وتوفير الدعم المتواصل للصناعة العراقية لفترات طويلة وبأسعار صرف قسرية ، كل هذه العوامل أفضت إلى تحجيم الإنتاجية وإعاقة النمو الاقتصادي وهشاشة البنية التحتية بل وتحطمها ، وهزال المؤسسات العلمية والتكنولوجية الساندة للنمو الاقتصادي .


أولا : دور الدولة في الفكر الاقتصادي
بعد انهيار النظام الإقطاعي في أوربا هيمن الفكر التجاري (المركنتيلي) خلال الفترة من أواسط القرن الخامس عشر إلى أواسط القرن الثامن عشر . وقد طالب التجاريون بدولة قوية ومؤثرة بحيث تستطيع أن تدافع عن المصالح التجارية ، وتحطم الكثير من الحواجز التي أقامتها العصور الوسطى في وجه التوسع التجاري وقد اعتمد التجاريون حزمة من الإجراءات الحمائية تمثل أبرزها ، في فرض الضرائب الكمر كية على السلع المستوردة ، واحتكار التجارة الخارجية ، وحصر النقل البحري بالشركات الوطنية . واستهدف التجاريون بشكل رئيس من تدخل الدولة تحقيق فائض في الميزان التجاري ، وحماية مصالح الطبقة التجارية الصاعدة فالدعم الذي قدمه التجاريون للدولة لم يكن بدافع الشعور الوطني فحسب بل أدت المصلحة الطبقية دوراً محورياً في ذلك ، وعلى العموم فالفكر التجاري تدخلي ، يدعو الدولة إلى التدخل المباشر والشامل في الحياة الاقتصادية لغرض تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني ، وهو العامل الرئيس المحدد لمدى عقلانية وكفاءة الدولة .
بعد التطور الصناعي الكبير في أوربا منذ الثورة الصناعية، وجدت الرأسمالية الصناعية في قوة الدولة وفي تدخلها في الحياة الاقتصادية ، عائقاً خطيراً في طريق نموها . وجاء كتاب (ثروة الأمم) لآدم سميث إلى حد كبير رد فعل على الفكر التجاري وطرح سميث رؤى مختلفة مفادها : إن الحكومة بصورة عامة تتسم بالإسراف والهدر وانعدام الكفاءة والنزاهة ، ولذلك فان تدخلها الواسع في الاقتصاد لابد وان يعود بالضرر الفادح على المجتمع . ورفع سميث لواء الحرية الاقتصادية ، وطرح مبدأ (اليد الخفية) لتحرير الأسواق من تدخل الدولة ، وعلى الدولة أن لا تتدخل في الحياة الاقتصادية ، وان تقتصر مهماتها على أداء الوظائف التقليدية كالأمن والدفاع والقضاء ، فضلاً عن توفير بعض الخدمات العامة التي لا يستطيع الأفراد الاضطلاع بها . وهذا يعني إن الفكر الكلاسيكي ليس فكراً تدخلياً وإنما فكر ليبرالي ، آمن بمفهوم الدولة الحارسة ودافع عنه .
وقد أعــقب المذهب الكلاسيكي بروز مذاهب مضادة رئيسة كالماركسية والفاشية والنازية ، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، قدمت كل منها معتقداتها الفكرية الخاصة بضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية لتحقيق النمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي . وقد أرغمت أزمة الكساد المالي في عام 1929 ، الاقتصادي الرأسمالي الانكليزي (كينز) ، إلى القول بضرورة التنازل نهائياً عن السيادة المطلقة لسياسة الحرية الاقتصادية . ودعا (كينز) إلى ضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد لمعالجة حالات الركود الاقتصادي ، من خلال توليفة من الإجراءات التدخلية التي تنفذها الدولة ، بما في ذلك قيام الدولة بتنفيذ مشروعات استثمارية توظف فيها جزء من العاطلين عن العمل ، وتوفير الخدمات الضرورية كالصحة والتعليم بصفة مجانية او شبه مجانية .
وتهيمن في عالمنا الراهن ، الفكرة الكلاسيكية الجديدة ، القائمة على تقليص دور الدولة في الاقتصاد ، مع تبني مبدأ تفوق السوق ، على الرغم من الانتقادات العنيفة للأسس النظرية لهذه المنظومات الفكرية .

ثانياً : بعض التجارب التاريخية لدور الدولة في الاقتصاد
على النقيض مما يعتقد ويروج له الكثيرون ، كان للدولة دوراً فاعلاً في قيادة عمليات النمو والتنمية الاقتصادية في الدول الرأسمالية منذ بزوغ الثورة الصناعية في أوربا في القرن الثامن عشر ، ففي الولايات المتحدة الأمريكية ، التي تعد من أكثر الدول ليبرالية في عالمنا الراهن والتي تقود عمليات العولمة ، كان تدخل الدولة المباشر ضرورياً لتحقيق التنمية فيها ، ولم يتقلص هذا الدور إلا عندما أصبحت الولايات المتحدة ثاني قوة صناعية في العالم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، واستمر دور الدولة بالتضاؤل حتى حدوث أزمة الكساد العظيم عام 1929 ، ولم تخف وطأة هذا الكساد إلا بجهود الرئيس الأمريكي (روزفلت) ومن خلال التدخل المباشر وغير المباشر للدولة في الاقتصاد الأمريكي واتساقاً مع هذا الحال ، تبنت اليابان سياسة اقتصادية تدخليه منذ عام 1868 ، ترتكز على اضطلاع الدولة بتنفيذ استثمارات مباشرة في البنية التحتية والقطاع الصناعي . فضلاً عن ذلك ، فقد اعتمدت الشركات اليابانية الخاصة على المساعدات الحكومية وعلى البيئة الاقتصادية المناسبة التي وفرتها الحكومة لها . والتي تتضمن اعتماد مبدأ الحماية المعتدلة للصناعات اليابانية من خلال فرض ضرائب كمركية معقولة على المستوردات وإعاقة الاستثمارات الأجنبية ، وقيام المصارف الوطنية بتمويل الإنتاج بفوائد منخفضة ، إضافة إلى مساهمتها في أسهم الشركات اليابانية . واستمرت الحكومة اليابانية في القرن العشرين ، بقيادة وتوجيه عملية النهوض والارتقاء بالاقتصاد الياباني ، على وفق المعايير التكنولوجية المتقدمة .
وفيما يتعلق بالدول النامية ، فقد مثل نمط التنمية الذي تقوده الدولة والذي ظهر خلال فترة الحرب الباردة (1945 – 1989) ، احد مكونات هيكل النظام الاقتصادي العالمي . وهذا النمط كان يســتهدف ترتيب نشاط الرأسمالية العالمية من خلال إدارة الدولة للعملية الاقتصادية ، أي أن تكون الدولة هي المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي والمحدد لتوجهاته ومساراته وأولوياته بهدف تمكين كل دولة من تكرار ذات النمط التنموي المطبق في الدول الرأسمالية . وبمرور الوقت تحقق الدولة النامية مســـــتوى التطوير والتحديث المتحقـــــق في الدول الرأسمالية المتطورة .
ولذلك تبنت معظم الدول النامية تخطيط التنمية ، ومنحت الدولة دوراً حيوياً في التحول الاقتصادي من خلال تأسيس الشركات الحكومية . ففي دول شرق وجنوب شرق آسيا (النمور الأسيوية) ، تم محاكاة النموذج الياباني في التنمية ، حيث تحققت التنمية فيها بقيادة الدولة التي تمكنت من إيجاد بيئة اقتصادية مواتية للاستثمار والنمو ، وقد تجسد ذلك في تنفيذ بنية تحتية متطورة ، وإنفاق كبير على الصحة والتعليم والإسكان ، وتطبيق نظام ضريبي محفز للقطاع الخاص ، وتبني سياسات نقدية حققت الاستقرار الاقتصادي فيها . كان دور الدولة في اقتصادات شرق وجنوب آسيا مركزياً لم يقتصر على التوفيق بين مصالح اقتصادية محلية وأجنبية متعارضة ، وإنما أدت الدولة هناك دور محرك التنمية ولم يقتصر دورها على تحقيق معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي ، وإنما امتد دورها ليشمل إحداث تحولات هيكلية في البنية الاقتصادية وفي علاقة الاقتصادات الأسيوية بالاقتصاد العالمي .
منحت أزمة الديون خلال عقد الثمانينات ، المؤسسات المالية الدولية المقرضة ومنها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، الفرصة لنبذ السياسات التدخلية ، واعتمدت برامج التثبيت والتكييف الهيكلي المنبثقة من دور محدود للدولة ، تقتصر فيه على أداء دور المنظم للعملية الاقتصادية ، من خلال قيام الدولة ببناء مؤسسات السوق ، وصياغة سياسات سليمة للاقتصاد الكلي ، وإصدار أنظمة لتسهيل تنمية الاقتصاد السوقي ، وحماية المستهلكين ، وبناء بعــض مشروعات البنية التحتية ، وتوفير بعض الخدمات الضــرورية كالصحة والتعليم ، وقد رافق تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي ، وتسارع وتيرة العولمة ، مغالاة مفرطة في الدعوة إلى تفكيك الاقتصاد الموجه ، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد ، وتحرير السوق من تدخل الدولة ، وهو ما أفضى إلى توليد ضغوط عنيفة على الدول النامية ، التي يؤدي فيها القطاع العام دوراً مهماً في النشاط الاقتصادي ، بهدف تفتيت وتشتيت سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لصالح العولمة من جهة وتسهيل عملية تحويل الدولة النامية نحو اقتصاد السوق وإدماجها في المنظمة الاقتصادية العالمية من جهة أخرى .

ثالثاً : تطور دور الدولة في الاقتصاد العراقي
استندت السياسة الاقتصادية في العهد الملكي (1921 – 1958) على رفض تدخل الدولة المباشر في الحياة الاقتصادية ، ولهذا اقتصر دور الدولة في تلك الفترة على الوظائف التقليدية فقط ، وقد شهد عقد الخمسينات نشاطات مجلس الأعمار الذي تمخض عنه بدايات تكوين القطاع العام في العراق حيث بلغت نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي نحو 7ر11% عام 1953 ، كما أضحت عملية التنمية منذ تأسيس مجلس الأعمار دالة على العائدات النفطية . حيث بلغ متوسط مساهمة الإيرادات النفطية إلى إجمالي إيرادات الميزانــــية الاعتيادية نحو 28% خلال المدة 1951 – 1957 .
اتسم دور الدولة في الاقتصاد العراقي خلال المدة 1958 – 1968 بأنه دور تنظيمي ينسق بين القطاعين العام والخاص ، مع إفساح المجال للقطاع الخاص للعمل في الأنشطة الاقتصادية ، من خلال إجراءات عدة أبرزها تطبيق نظام الحصص على الاستيرادات لدعم الصناعة العراقية ، والحد من ميل المستهلك العراقي للسلع الأجنبية ، وتضمنت أنظمة الحماية والدعم أيضا ، تشريع القوانين المتعلقة بضرائب الدخل والتي استهدفت استخدام الإعفاءات الضريبية لتحفيز الاستثمارات الخاصة ، وشهدت هذه الفترة أيضا الشروع ببناء قطاع عام كبير نسبياً بلغت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 37% عام 1965 ، وهذا يرتبط إلى حد كبير بزيادة الإيرادات النفطية التي ارتفعت إلى 46% من إجمالي إيرادات الميزانية الاعتيادية خلال المدة 1958 – 1968 . وفرت الموارد النفطية الإمكانيات المالية اللازمة للدولة لانجاز عدد من مشاريع البنية التحتية ، ولتمويل نسبة مهمة من الإنفاق الحكومي الجاري . ومنذ عام 1958 بدأت تتزايد الآثار السلبية الناجمة عن الاعتماد الكبير على العائدات النفطية التي أصبحت محرك النمو والتوظف في العراق ، بعد أن عجزت عن توليد الفوائض الاقتصادية من خلال زيادة الإنتاج والإنتاجية ، فضلاً عن عجزها عن خلق الفوائض المالية من خلال زيادة الادخار المحلي كمصدر أساسي للتمويل المحلي بدلاً من الاعتماد على الفوائض النفطية .
ازداد تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية منذ عام 1968 ، على وفق الفلسفة العامة التي اعتمدها العراق ، والتي تتسم في جوانبها الاقتصادية بالمنهج الاشتراكي في إدارة جزء مهم من مكونات الاقتصاد العراقي . كان الهدف المعلن إقامة اقتصاد اشتراكي ، وتم توصيف الاقتصاد العراقي بأنه اقتصاد موجه يؤدي فيه القطاع العام دوراً مركزياً في عملية التنمية مع دور محدود للقطاع الخاص ، وهذا يعني تغييراً جوهرياً في دور الدولة التي تحولت من دور المنظم الذي يقتصر دوره على التنسيق بين القطاعين العام والخاص وإدارة البيئة المؤسسية (القوانين والأنظمة) للاقتصاد إلى دور المنتج الذي تمارس فيه الدولة إنتاج السلع والخدمات بما في ذلك توجيه الموارد الاقتصادية نحو استخدامات محددة واتخاذ سلسلة من الإجراءات التحكمية بالنسبة للعديد من أسعار السلع والأجور .
أفضت الزيادة الحادة في أسعار النفط الخام ومن ثم حجم العائدات النفطية للدول المصدرة للنفط ومنها العراق ، إلى تركيز الاهتمام بمفهوم الدولة الريعية ، وضمن هذا السياق يبرز الاعتماد الواسع للاقتصاد العراقي على الريع النفطي الخارجي كمصدر رئيسي للدخل ، وهو ما أفضى إلى زيادة دور الدولة في الاقتصاد العراقي لان الدولة هي التي تحصل بمفردها على الريع الخارجي نتيجة لنمط ملكية الدولة للحقول النفطية . واستتبع ذلك أن أدت الدولة دور الوسيط بين القطاع النفطي المنتج للريع وبين القطاعات الاقتصادية الأخرى من خلال الإنفاق الحكومي للعائدات النفطية الضخمة ، مما مكن الدولة من أن تؤدي دوراً رئيساً في توزيع الريع على السكان وتحديد النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع مما ساهم في تعظيم دور الدولة في الاقتصاد العراقي واتخذت آليات توزيع الريع أشكالا مختلفة ، غير أن التوظف الحكومي ومجانية التعليم والصحة والتوسع في تقديم الخدمات العامة الأخرى وسياسات الدعم للسلع الغذائية الرئيسة والوقود والكهرباء ، مثلت أنماطا مختلفة لتوزيع الريع على المواطنين . وهو ما أدى لاحقاً إلى انتعاش الاقتصاد العراقي وتحقيق زيادات مهمة في التشغيل والدخول للفئات الفقيرة مما ساعد في تحسين مستويات معيشتها خلال عقد السبعينات ورافق الارتفاع الكبير في العائدات النفطية العراقية ، انخفاض أهمية تكوين وتراكم رأس المال الخاص ، فيما زادت قدرة الدولة على تمويل الإنفاق العام حيث استحوذت الإيرادات النفطية على 1ر70% من إيرادات الميزانية الاعتيادية خلال المدة 1974 – 1980 ، فيما زاد نصيـــب القطاع العام في الناتـــج المحلي الإجمالي الى نحو 81% عام 1979 .
واجهت الدولة تحدياً حقيقياً يمس أساس وجودها ويتمثل في انحسار العائدات النفطية نتيجة للحرب العراقية - الإيرانية وتدهور إنتاج النفط وأسعاره في عقد الثمانينات ، ولم يعد ممكناً السيطرة على الاختلال الهيكلي في الاقتصاد العراقي والعجز المالي الحكومي ، وعبرت الأزمة الاقتصادية في العراق عن نفسها في أشكال مختلفة منها ، تراجع معدلات النمو الاقتصادي ، ومعدلات التراكم الرأسمالي ، وبروز مشكلة البطالة وتفاقمها ، وتراجع مستويات الدخل ، واستشراء ظاهرة الفقر ، ولم تحاول السلطة البحث عن حلول جدية للمشكلات الاقتصادية الحقيقية بسبب التكاليف السياسية المرتفعة لهذه الحلول وصعوبة إدارتها من ناحية ولعدم امتلاكها الخبرة والمعرفة الكافية باشتراطات النمو والتنمية الاقتصادية من ناحية أخرى .
اعتمد العراق رسمياً سياسة التخصيص في عام 1987 ، وتبنى برنامجاً للتحرير الاقتصادي كمخرج لمشكلاته الاقتصــادية ، المرتبطة بــظروف الحرب ، وتراجــع إنتاجه النفطي ، وانخفاض أسعار النفط ، بالتالي تدني عائدات النفط وما استتبعه من إجراءات تقشفية ، وتخفيض مستويات الإنفاق العام . وقد تضمن هذا البرنامج ، بيع المزارع الحكومية وعدد من منشآت القطاع العام الصنـــاعي إلى القطاع الخاص ، وإطلاق الحدود العليا لرأس مال الشركات ، والاهتمام بتوفير المنافــسة في النشاط المصرفي ، وتـحرير أسعار السلع الزراعية والعديد من أسعار السلع الصناعية ، وإيجاد سوق للأوراق المالية ، وتقديم الحوافز لنشاطات القطاع الخاص ، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية . ولم تنجح الحكومة العراقية في تطوير الأطر التشريعية المالية والاقتصادية لبيع منشآت القطاع العام إلى القطاع الخاص ، فقد تجلت أدوات السياسة الجديدة برغبة الحكومة ببيع هذه المنشآت بأسعار متدنية تقل كثيراً عن القيمة الاستبدالية . وقد غطى السعر المدفوع جزءاً يسيراً من كلفة السوق للأرض التي شيدت عليها هذه المنشآت أي أن هذه المنشآت والمصانع قد تم بيعها إلى القطاع الخاص ليس وفقاً لقيمتها السوقية وإنما اقل كثيراً من قيمتها الدفترية عند التأسيس حيث تم بيــــع (67) منشأة صناعيــــة إلى القطاع الخاص خلال المدة (1987 – 1990) بقيمة إجمالية قدرها (542ر236) مليون دينار عراقي أي بمعدل (5ر3) مليون دينار لكل منشأة . وبالإضافة إلى ضآلة المبالغ التي بيعت بها هذه المصانع فإنها لم تكن من المصانع الخاسرة . حيث بلغت نسب الأرباح المتحققة إلى القيم الدفترية للأصول نحو (73%) في حالة المصانع الغذائية و (165%) في حالة المصانع النسيجية . وعلى العموم فان هذه السياسة لم تؤت أكلها بل أنها فاقمت من مشكلات الاقتصاد العراقي ، حيث أدى تخفيض الدعم للسلع الأساسية ، وانخفاض سعر صرف الدينار العراقي في السوق الموازنة ، والإخفاق في السيطرة على التضخم إلى تدهور حقيقي في المستوى المعيشي للسكان ، مما دفع الحكومة إلى التخلي عن هذه السياسة وتبني سياسات أخرى وقائية منها ، تخفيض الأسعار ، وتجميد أسعار عدد من السلع الاستهلاكية ، وزيادة الإعانات المقدمة للقطاع الزراعي ، وإعادة تأميم بعض مؤسسات القطاع الخاص .
عانى العراق كثيراً خلال الفترة 1990 – 2003 من الحصار الاقتصادي الشامل ، حيث وضع الاقتصاد العراقي في إطار مغلق ترتب عليه انقطاع صلة العراق بالعالم الخارجي ، وتوقف بشكل يكاد يكون كاملاً كل أشكال التبادل التجاري مع العالم الخارجي ، وهو ما أفضى إلى تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي وانخفاض الصادرات بمفهومها الاقتصادي كإحدى أدوات التنمية الاقتصادية ، وسيادة معدلات مرتفعة من الاندثار في رأس المال الثابت من جراء تواضع إمكانيات وقيود الإحلال والاستبدال في هذا المورد أو اهتلاكه ، فضلاً عن انخفاض مستويات التنمية البشرية وهو ما بدت آثاره الواضحة على معدلات وفيات الأطفال وسوء التغذية لإفراد المجتمع ، كما ساهم الحصار في تدهور نوعية الحياة في العراق ، وتدمير البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ، وفي تآكل ادخارات المواطنين ، لقد أعطى الحصار دليلاً قاطعاً على إخفاق الدولة في إدارة الاقتصاد والتنمية قبل الحصار الاقتصادي ، حيث اعتمد أداءها على الإيرادات النفطية ، وهو ما قد حررها من الاعتماد المتزايد على قاعــدة الإنتاج المحلــية في تحقيق الدخل ، وكما أدى الحصار إلى تعميق مفهوم الدولة الريعية ، فانه عمق من تبعية المواطنين للإيرادات النفطية التي زادت نسبتها عن (74%) من الناتج المحلي الإجــمالي في العراق عام 2003 . وازداد تدخل الدولة في الاقتصاد العراقي ، حيث بلغت نسبة الإنفاق العام الى الناتج المحلي الإجمالي خلال عقد التسعينات مستويات قياسية بلغت ذروتها عام 1994 بـ (7ر96%) . وعلى العموم لم تحقق إســتراتيجية التنمية ذات المنهج الشمولي التخطيطي التي اعتمدت في العراق النتائج المتوقعة ، على الرغم من أنها أنجزت الكثير في مجال البنية التحتية ، وإقامة بعض الصناعات الأساسية ، وإعادة توزيع الدخل ، وتحسين فرص الوصول إلى العمل والأصول الإنتاجية وتحسين مستويات المعيشة والتنمية البشرية في عقدي السبعينات والثمانينات ، إلا أن نطاق القطاع العام اتسع بشكل كبير جداً مما أدى إلى تهميش القطاع الخاص وبالتالي أفضى إلى انخفاض مستويات الكفاءة الاقتصادية والنمو الاقتصادي وتفاقمت الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد العراقي .
وتحاول الحكومة العراقية التي انبثقت بعد نيسان عام 2003 ، ان تتبنى خيارات جديدة للسياسة الاقتصادية تستهدف التحول نحو اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة في الاقتصاد العراقي والانتقال به من دور إنمائي فاعل إلى دور تصحيحي يرتكز على ثلاث محاور هي :
1- التحرير الاقتصادي : إزالة القيود والمعوقات أمام التجارة الخارجية وعدم المنافسة في ظل تشجيع القطاع الخاص وتحفيزه .
2- أصلاح القطاع العام : تحسين إدارة المصروفات العامة ، تحسين أداء المؤسسات العامة ومن ثم تخصيصها أو خصخصتها .
3- سياسة اقتصادية كلية تحقق استقرار الاقتصاد الكلي .
تواجه السياسة الاقتصادية هذه مخاوف من الطبقة الوسطى التي نشأت وتركزت في ظل القطاع العام فضلاً عن مخاوف عامة الشعب من التعرض للمعاناة من جراء إخضاع الاقتصاد العراقي لنسق السوق وما يصاحبه من تقليص الخدمات العامة وزيادة حجم العاطلين وما ينجم عنهما من آثار سلبية على الاستقرار الاجتماعي والمستوى المعيشي لعامة الناس . لذلك يغدو من الضروري الحفاظ على تأثير قوي للدولة في الاقتصاد العراقي من خلال الإبقاء على ملكية الدولة للمشاريع الاستراتيجة ذات الإنتاج الواسع لصلتها باحتياجات الناس الأساسية ومتطلبات الأمن الاقتصادي العراقي ، وعلى الدولة آن تقوم باستثمارات كبيرة في البنية التحتية لأنها من الوسائل المهمة لتحقيق التوازن الاقتصادي في السوق خاصة وأنها قد تعرضت إلى التدمير الواسع منذ عقد التسعينات ، وبسبب التراجع الكبير في مستويات التنمية البشرية في العراق فان الضرورة تقتضي آن يستأثر الإنفاق على الاحتياجات الأساسية كالغذاء والصحة والتعليم بنســـبة مرتفعة من الإنفاق العام ، ويعزز هذا الاتجاه استئثار الدولة بثروة نفطية هائلة .
إن وجود قطاع عام قوي ومؤثر في الحياة الاقتصادية لا يتناقض بالضرورة مع السماح للقطاع الخاص بالمساهمة في التنمية بل يجب تشجيع وتحفيز ودعم هذه المساهمة لان العراق يحتاج إلى حشد كل الإمكانات والجهود العامة والخاصة من اجل بناء الاقتصاد العراقي وتنميته .

الخلاصة
أدت غلبة القطاع العام على التنظيم الاقتصادي في العراق إلى تبني سياسات كلية في مجالات الادارة والتسعير والتشغيل قللت من كفاءة النشاط الاقتصادي العام والخاص على حد سواء . إن هيمنة القطاع العام على جمع مرافق الحياة الاقتصادية يرتبط إلى حد كبير بالريع النفطي الخارجي الذي تستحوذ عليه الدولة والذي انعكس بشكل جلي في الحجم الكبير للإنفاق الحكومي الذي أدى دور المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي في العراق ومن العوامل الأخرى التي عززت دور الدولة في الاقتصاد العراقي ، ضعف القطاع الخاص ، والحاجة إلى ضمان توزيع عادل للدخل القومي ، الحاجة إلى توسيع الخدمات الاجتماعية ، ومكافحة البطالة ، والنهوض بالصناعة العراقية . ومع أن العراق قد حقق انجازات اقتصادية ملموسة كان لها انعكاسات ايجابية ، على المستوى المعيشي للسكان ، وعلى حجم ونوع الخدمات العامة ، وعلى بناء القاعدة المادية للاقتصاد العراقي . إلا آن ضعف الإدارة المركزية للاقتصاد وخطل السياسات الاقتصادية ، وقلة كفاءة الأجهزة التخطيطية والإدارية والتنفيذية ، والفشل في إقامة إطار مؤسساتي ملائم وسليم للرفاه الاقتصادي والاجتماعي وللأمن الداخلي وحمايته ، فضلاً عن الضغوط الخارجية العنيفة المتمثلة بالحروب الثلاث والحصار الاقتصادي ، كل هذه العوامل قادت إلى تناقص وتآكل قدرات الدولة على التصدي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية ، وافرزت في النهاية اقتصاداً عليلاً يعاني من ضعف واضح للأداء الاقتصادي لمعظم قطاعاته الإنتاجية والخدمية . ويعتقد الباحث بان كارثة حقيقية ستلحق بالاقتصاد العراقي ان تخلت الدولة عن مسؤولياتها الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة ، على ان يكون هناك تكامل بين الدولة والقطاع الخاص . ومن الضروري أن تعتمد الدولة على وسائل ناجعة لتحقيق مستويات عالية للنمو الاقتصادي وتوفير الخدمات الاساسية في المجالات الاجتماعية والأمنية ولا يتأتى ذلك ألا إذا امسكت الدولة بالمفاتيح الاساسية للاقتصاد العراقي ، وإعادة بناء القطاع العام واصطلاحه وتوسيعه ، وإعطاءه دوراً ريادياً في قيادة التنمية الاقتصادية في العراق .



#نبيل_جعفر_عبد_الرضا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العناصر الجاذبة للاستثمار في البصرة
- آفاق تحسين مناخ الاستثمار في البصرة
- عمل الاطفال في الشوارع
- دور التعليم في تفاقم مشكلة البطالة في العراق
- البطالة في العراق ---- الاسباب والنتائج والمعالجات
- المناطق والتجمعات الصناعية في البصرة
- أزمة العولمة أم عولمة الأزمة
- السياسات المقترحة لتطوير القطاع الخاص الوطني في العراق
- الشراكة بين القطاعين العام والخاص في العراق
- دور الخصخصة في تطوير دور القطاع الخاص في العراق
- المرتكزات الأساسية للقطاع الخاص في العراق
- واقع القطاع الخاص في العراق
- جدلية الامن والتنمية في العراق- الحلقة الثالثة
- جدلية الامن والتنمية — الحلقة الثانية
- جدلية الامن والتنمية في العراق -- الحلقة الاولى
- البيئة الاستثمارية في البصرة
- اللامركزية في العراق
- رؤية إستشرافية للدولة الريعية في العراق
- مفهوم الدولة الريعية
- منظمات الأعمال في البصرة :


المزيد.....




- زيادة جديدة.. سعر الذهب منتصف تعاملات اليوم الخميس
- -الدوما- يقر ميزانية روسيا للعام 2025 .. تعرف على حجمها وتوج ...
- إسرائيل تعلن عن زيادة غير مسبوقة في تصدير الغاز إلى مصر
- عقارات بعشرات ملايين الدولارات يمتلكها نيمار لاعب الهلال الس ...
- الذهب يواصل الصعود على وقع الحرب الروسية الأوكرانية.. والدول ...
- نيويورك تايمز: ثمة شخص واحد يحتاجه ترامب في إدارته
- بعد فوز ترامب.. الاهتمام بـ-التأشيرات الذهبية- بين المواطنين ...
- الأخضر اتجنن.. سعر الدولار اليوم الخميس 11-11-2024 في البنوك ...
- عملة -البيتكوين- تبلغ ذروة جديدة
- الذهب يواصل رحلة الصعود وسط التوترات الجيوسياسية


المزيد.....

- الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي ... / مجدى عبد الهادى
- الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق / مجدى عبد الهادى
- الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت ... / مجدى عبد الهادى
- ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري / مجدى عبد الهادى
- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - نبيل جعفر عبد الرضا - دور الدولة في الاقتصاد العراقي