محمد فيصل يغان
الحوار المتمدن-العدد: 3718 - 2012 / 5 / 5 - 10:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى طرح بعض الفرضيات المفصلية في نظرية ماركس في رأس المال و تحليلها و نقدها بهدف التوضيح و إغناء النقاشات التي تدور بين حين وآخر حول هذه الفرضيات.
تقوم نظرية ماركس في القيمة على فرضية أن القيمة الاستعمالية لسلعة ما لا تحدد القيمة التبادلية لها كما هو وارد في الصفحة 4 من كتاب رأس المال (ترجمة د. راشد البراوي): "فالسلع من حيث كونها قيماً استعمالية ذات صفات مختلفة, و من حيث كونها قيماً تبادلية لا تزيد عن كونها مقادير مختلفة و بذا لا تحتوي مطلقاً على ذرة من القيمة الاستعمالية" و من جهة أخرى و في نفس الصفحة يعزي ماركس القيمة الاستعمالية للعمل الانساني "إن القيمة الاستعمالية أو الشيء النافع ذو قيمة لأنه يتضمن عملاً أنسانياً" لكن و من جهة أخرى, و في الصفحة 17 يقول : " يعبر عن قيمة سلعة في القيمة الاستعمالية للسلعة الاخرى" و الصفحة 6: "لا يمكن أن تكون للشيء قيمة بغير أن يكون ذا منفعة" و في الصفحة 21: "أن حجم قيمة الرداء يعينه قيمة العمل اللازم لانتاجه". و هذه الأقوال بالإضافة إلى تعدد المصطلحات التي يستخدمها ماركس في تحليله دون تحديد واضح من مثل (القيمة الاستعمالية, القيمة التبادلية, القيمة, القيمة النسبية, مضمون القيمة, جوهر القيمة, حجم القيمة, شكل القيمة الأولي, شكل القيمة الكلي الممتد, شكل القيمة النسبي الممتد, إلخ) تعطي صورة مشوشة عن علاقة العمل و القيمة الاستعمالية بالقيم النسبية و التبادلية للسلع. و فيما نرى فإن ماركس قد أسقط القيمة الاستعمالية للسلعة عند تحديد قيمة السلعة في التداول و ارجاع هذه القيمة إلى حجم العمل بالكامل. يمكن لنا عموماً إختصار دورة القيمة عند ماركس بالشكل التالي: القيمة الاستعمالية للسلعة أ تتحول إلى قيمة و التي تأخذ شكل القيمة الاستعمالية للسلعة ب و التي تمثل القيمة التبادلية للسلعة أ و التي بدورها تلغي و تحل محل القيمة الاستعمالية للسلعة أ. هكذا و مع دخول السلعة في عملية التبادل يخرج ماركس القيمة الاستعمالية للسلعة أ من العملية, و بعكس عملية التبادل يخرج القيمة الاستعمالية للسلعة ب. و هذه الدورة تبين مدى تأثر ماركس بنموذج علم الديناميكا الحرارية و تناظر هذه الدورة للقيمة مع المبدأ الأول للديناميكا الحرارية, فالقيمة هي بمثابة الطاقة لدى ماركس و هي تتحول من شكل إلى آخر (ما يمكن أن نسمية مبدأ ماركس لحفظ القيمة على غرار مبدأ حفظ الطاقة) من قيمة استعمالية إلى تبادلية (كما تتحول الطاقة الحرارية إلى ميكانيكية) من خلال مكافئ قيمة على غرار مكافئ الطاقة.
بخصوص العمل, يؤكد ملركس على أن الاختلاف النوعي في القيمة الاستعمالية و بالتالي في شكل العمل المطلوب لانتاج سلعتين هو ما يجعلهما قابلتين للتبادل (المتشابهات لا تبادل), و الاختلاف النوعي في العمل هو اساس التقسيم الاجتماعي للعمل في المجتمع. الاشكالية التي يضعنا فيها ماركس تنبع من اعتباره أن القيم الاستعمالية لا تصلح كقاعدة لتحديد العلاقة التبادلية بين السلع المختلفة نتيجة ارتباطها بالاشكال المادية المختلفة لهذه السلع, أي أنه يتجاهل حقيقة كون القدرة على اشباع الحاجات (الحيوية) للبشر هي الشيء الطبيعي (الشكل المادي الأول) المشترك بين السلع كافة رغم اختلاف أشكالها المادية و التي تعتبر ثانوية, تماماً مثلما يشكل العمل الانساني المجرد جوهراً بغض النظر عن شكل هذا العمل المحسوس (حياكة أو نسج) , و نظراً لاعتباره (و هو محق) أن هذه الأشكال (للسلعة) لا تمثل الجوهر, و باعتبار حقيقة أنه (لا بد من جوهر مشترك لتحديد علاقة تبادل كمية), فهو يتوصل إلى أن الشيء المشترك و المتجانس بين السلع و الذي يمكن أن يؤسس عملية التبادل هو (القيمة) وليس القيمة الاستعمالية, و هذه الفرضية ضرورية لماركس للتوصل إلى النتيجة التي يتوخاها و هي ان العمل الانساني هو المصدر الوحيد لقيمة السلع و التي تظهر بشكل قيمة تبادلية. و لا يسعنا هنا إلا أن نتساءل عن مدى تأثر ماركس بموقفه الأيديولوجي المنحاز تماماً للطبقة العاملة عند تطويره لنظريته.
بهذا الخصوص نرى أن القيمة الاستعمالية هي قيمة مطلقة, و يمكن قياسها بوحدات قياس مشتقة من شكل السلعة المادي, فالغذاء يمكن أن يقاس بعدد الوحدات الحرارية التي يحتوي عليها, و وسيلة النقل يمكن أن تقاس قيمتها الاستعمالية بعدد الكيلومترات التي يمكن أن تقطعها خلال عمرها التشغيلي, و هكذا نجد أنه بالإمكان مقارنة القيم المطلقة لنفس أنواع السلع (القيمة الغذائية للقمح مقارنة بالقيمة الغذائية للأرز) و التي تحدد حدود و نسب إحلال سلعة مكان أخرى لإشباع نفس الحاجة الحيوية. و من جهة أخرى, فإن القيمة الاستعمالية لنفس السلعة تختلف من فرد إلى آخر و بالتالي فإن عمليات التبادل الفردية المعزولة (خارج نظام سوق متطور) لا تتكرر بنفس النسب. أما القيمة التبادلية فهي قيمة نسبية لا يمكن قياسها بوحدات طبيعية, وهي مقارنة ما بين حاجتين حيويتين مختلفتين و ما بين درجتين مختلفتين من الندرة يمكن التعبير عنهما (درجات الندرة) بحجم العمل المتحقق في كل سلع, أي أن القيم النسبية لا تعبر (فقط) عن حجم العمل العام إلا في حالة مثالية يتساوى و يثبت فيها كل من العرض و الطلب على كافة السلع. و من جهة أخرى فالقيم التبادلية الحاصلة في عمليات التبادل الفردية المعزولة لا تتكرر بنفس النسب وإنما تبدأ هذه النسب بالثبات مع نضوج نظام السوق و بداية ظهور (معدل) للقيم الاستعمالية للسلع أي قيمة استعمالية اجتماعية.
في هذه العجالة نكون قد طرحنا فرضيتين رئيسيتين الأولى و القائلة بأن الحيوية و الندرة هما أساس القيمة, و الثانية أن هناك قيم استعمالية فردية ينتج عنها مع نضوج السوق (معدل) قيم استعمالية اجتماعية, و في ما تبقى من المقال نحاول تحليل و نقد فرضيات ماركس على ضوء هاتين الفرضيتين.
حسب ماركسً, فإن العمل الانساني (المرئي) يتمظهر لنا بأشكال مختلفة باختلاف السلع التي ينتجها و نراها عينياً, و بالتالي لا بد من توحيد هذه الأشكال من خلال إرجاعها إلى, و معادلتها على, شكل عمل انساني عام. أما كيف يتم معادلة أشكال العمل بالعمل الانساني العام فهو حسب ماركس أيضاً من خلال اسقاط القيم الاستعمالية و استبدالها بالقيمة (التي تظهر على شكل قيمة تبادلية خلال عملية التبادل), و من ثم و بناء على هذه المعادلات بين قيم السلع, نتوصل حسب ماركس لمعادلات اشكال العمل الخاصة ضمن العمل الانساني العام. فقد أكد ماركس أكثر من مرة أن (قدرة) العمل الانساني بحد ذاتها ليست قيمة, و لكنها تنتج قيمة و تصبح قيمه عندما تتجسد بشكل مادي (سلعة). لاحظ هنا أننا نستخدم مصطلح قدرة العمل بدلاً من مصطلح قوة العمل الدارج في الترجمات العربية و الذي برأينا هو خطأ (أنظر مثلاً مقارنة العمل البسيط مع العمل الحاذق في صفحة 10, و الفكرة التي نقترحها تتضح بجلاء لو قلنا مثلاً أن العامل صاحب العمل البسيط هو آلة ذات قدرة 1 ميغاوات, فإن العامل صاحب العمل الحاذق هو آلة ذات قدرة 2 أو أكثر ميغاوات و بالتالي فإن تشغيل العامل الأول ساعة واحدة سينتج طاقة قدرها 1 ميغاوات-ساعة, في حين أن العامل الثاني سينتج بنفس المدة 2 أو أكثر ميغاوات-ساعة. و من الواضح تأثر ماركس بعلوم الديناميكا الحرارية التي كانت مزدهرة في عصره و تبنيه لنموذج و مفاهيم مستخدمة في هذا العلم و هذا خارج عن إطار بحثنا الحالي). و هنا مصدر الدور الذي يضعنا فيه ماركس باستبعاده للقيمة الاستعمالية كنقطة انطلاق لتحديد حجم و بالتالي معادلات القيم بين السلع, و هذا الدور تلخصه الدورة التالية:
بداية من أشكال عمل منتج إلى سلع ذات قيمة استعمالية إلى تبادل سلع إلى قيم تبادلية للسلع إلى معادل قيمة إلى معادل عمل و عودة إلى أشكال العمل المنتج.
بمعنى آخر, يرى ماركس أن القيمة الاستعمالية تحدد كبف العمل لا حجمه, و بالتالي لا بد من ظهور القيمة التبادلية لنتمكن من التعامل مع المعادلة الكمية لحجم القيمة و منها المعادلة الكمية لحجم العمل الذي بدوره يحدد القيمة. أي أننا في دورة مغلقة من قيمة إلى عمل إلى قيمة. لكسر هذا الدور نشير إلى حقيقة تجاوزها ماركس في تحليله بما يخص القيمة الاستعمالية, و هي أن القيمة الاستعمالية الفردية (نضيف هنا وصف الفردية للتوضيح حيث لم يميزها ماركس في تحليله) تكون ظاهرة في عمليات التبادل المعزولة ما قبل نضوج السوق و تطوره, و مع تعميم عمليات التبادل, أي مع توسع و تنوع سوق السلع, تتلاشى القيمة الاستعمالية الفردية و يحل بدلاً منها (معدل) القيمة الاستعمالية كمحدد لعملية التبادل. و الحقيقة الثانية التي يتجاوزها ماركس هي حقيقة أن القيمة التبادلية تتحدد "بمعدل" القيم الاستعمالية الفردية للمساهمين في السوق المتطور (ماركس لا يتطرق الى معدل قيمة استعمالية), و هو المعدل الذي يفرضه السوق على المتعاملين الافراد و يتجسد بالتالي كقيمة تبادلية ذات حجم شبه ثابت (علماً بأن ماركس يشير في الصفحة السادسة إلى "قيمة استعمالية اجتماعية" إلا أنه لا يتوقف عندها), و بذلك يكون الدافع (حسب رأينا) نحو بذل عمل في سلعة ما (مخصصة للتبادل لا للاستهلاك الشخصي) هو كونها تمتلك قيمة (معدل قيمة) استعمالية في السوق و ليس العكس كما يوحي به قول ماركس الوارد في ص.21 بأن العمل المبذول هو ما يخلق القيمة الاستعمالية و هو القول الذي يصح جزئياً في حالة انتاج الاشياء النافعة بغرض الاستهلاك المباشر فقط.
و حقيقة كون القيمة الاستعمالية أساس في تحديد القيمة التبادلية واضحة من تحليل ماركس نفسه, حيث يبين أن السلعة لا تطرح للتبادل إلا إذا كانت فائض أي انه لم تعد تملك قيمة استعمالية خاصة بها بالنسبة للمالك, أي أنها لا تستطيع تحديد حجم قيمتها هي ذاتها بدون دخولها في علاقة مع طرف آخر يرى فيها قيمة استعمالية (بحجم يخص هذا الطرف) و هذا ما يفسر ملاحظة ماركس الواردة في الصفحة 21: "فالرداءان قد يعبران عن مقدار القيمة لأربعين يارداً من التيل ولكنهما لا يستطيعان التعبير عن حجم قيمتهما أي قيمة الرداء" أي أن هذه السلعة تملك قيمة استعمالية للطرف الراغب في اقتنائها و على استعداد لتقديم (ما يعادلها) من وجهة نظر المجتمع (في السوق المتطور) أو من وجهة نظر الشريك في عملية التبادل في حالات التبادل المعزول.
هكذا نجد أن القيمة الاستعمالية هي الأساس في حالة استعمال (الشيء المفيد) من قبل صاحبه, أي في حالة عدم كونه فائضاً لديه, و في حالة كونه فائض و مطروح للتبادل (أي سلعة), فهي لا تملك قيمة استعمالية بذاتها بالنسبة لمالكها و بالتالي لا يمكن ان تعبر عن قيمة لها إلا بدخولها في علاقة تبادلية تعيد لهذه السلعة قيمتها الاستعمالية مرة أخرى و لكن من وجهة نظر شخص آخر غير مالكها (فرد محدد أو المجتمع ككل). و بهذه الصيغة تصبح القيمة الاستعمالية (لنفس السلعة المعروضة) لدى الطرف غير المالك قيمة تبادلية من وجهة نظر المالك. و هذا ما يفسر بالضبط انطباق مقولة شيء بشيء (Quid pro quo) على السلعة فقط عند دخولها في علاقة تبادلية مع اخرى, أي عند عودة ظهور القيمة الاستعمالية من لدن الطرف الجديد في المعادلة.
من التحليل أعلاه نستنتج أن القيمة الاستعمالية على عكس ما استنتج ماركس, هي في الأصل خاصة طبيعية بامتياز (قيمة استعمالية لحاجة حيوية طبيعية) وإن تخفت في رداء حاجة اجتماعية (معدل قيمة استعمالية اجتماعية محددة لنسب التبادل). و هذا ما يميز النقود عن المعادلات السلعية على عكس ما يستنتجه ماركس أيضاً, و هو موضوع نتطرق له لاحقاً (لاسترجاع تحليل ماركس أنظر صفحة 22 من المرجع). و كمبدأ عام, نشير هنا إلى أن التمييز التام ما بين الطبيعي و الاجتماعي هو تعسفي, حيث أن المجتمع الانساني هو في الأصل ظاهرة طبيعية تطورت حسب قوانينها الخاصة.
التسلسل المقترح ضمناً من قبلنا اعلاه, يتناسب مع التسلسل الطبيعي في الواقع, حيث يكون هناك في البدء حاجة انسانية (طبيعية أو مفروضة) تحفز العمل النوعي البشري لانتاج سلعة تفي بهذه الحاجة, و قيمة هذه السلعة تتحدد بعوامل عدة منها مدى (حيوية) الحاجة, مدى مطابقة شكل السلعة للإيفاء بالحاجة, مدى (ندرة) مكونات السلعة و منها حجم العمل البشري اللازم لانتاجها (أي أن حجم العمل هو مؤشر للندرة) (لتوضيح مفهومي الحيوية و الندرة يمكن مراجعة مقالي في مفهوم الملكية المنشور على موقع الحوار المتمدن). بالتسلسل أعلاه تكون القيمة النسبية للسلع و القيمة النسبية للعمل النوعي محددة بنسبة حيوية الحاجة الانسانية و نسبة ندرة العناصر المشكلة للسلع قيد التبادل و تتجاوز العلاقة التبسيطية للعمل و القيمة.
يوضح ماركس أن القيمة الاستعمالية للسلع تتلاشى عند اعتبارنا لشكل القيمة الممتد, أي الاشكال المتعددة التي يمكن فيها مبادلة سلعة واحدة بسلع متعددة أخرى, ففي هذا التعدد ما يبقى حاضراً هو القيمة بشكلها المطلق و التي هي انعكاس للعمل الانساني بشكله المطلق و الذي يمثل الاساس المادي لتعادل القيم الذي قد يبدو عرضياً في حالات جزئية (و هو كما أوضحنا أعلاه عرضي فعلاً في حالات التبادل الفردية المعزولة), و يفترض اختفاء القيمة الاستعمالية تماماً عند اعتماد ما يسميه ماركس الشكل المعمم للقيمة (أي اعتماد سلعة واحدة لتقييم كافة السلع الأخرى) و بذلك تشكل السلع ما بينها كافة علاقات مبنية على قيم تبادلية (شرط تحولها إلى سلع كما ذكرنا أعلاه)
ملاحظتنا هنا على نظرة ماركس للقيمة الاستعمالية هو أن الانتقال من شكل القيمة النسبية (سلعة إلى أي سلعة) إلى شكل القيمة المعمم (كل السلع إلى سلعة واحدة) هو في الواقع انتقال من التقييم (الفردي) للقيمة الاستعمالية في كل حالة تبادل و بداية سيادة (معدل) قيمة استعمالية اجتماعي للسلع من خلال السوق, و هذا لا يعني أبداً اختفاء القيمة الاستعمالية من الساحة لصالح القيمة التبادلية بل يعني تحولها إلى شكل أقل وضوحاً (معدل اجتماعي) للفرد المنخرط في عملية تبادل السلع. و هذا الانتقال هو ما يبرر ملاحظة ماركس أن معادلة أشكال العمل المتعددة المولدة لقيمة السلع لا تصبح كاملة (معممة اجتماعيا) حتى يتم أولاً تحول المنتجات النافعة إلى سلع و ثانياً اعتماد شكل المعادل العام لكافة السلع (السلعة المتفق عليها اجتماعياً كمعادل مشترك لقيم كافة السلع الأخرى) و بذلك يكون شكل العمل في هذه السلعة ممثلاً للعمل الانساني العام, و التبرير الذي نراه هو مبني على كونه من الطبيعي أن يتم التوافق اجتماعياً على (قيمة استعمالية اجتماعية) على شكل (معدل) حتى يتم التوافق أيضاً على (قيمة عمل انساني عام) يحددان معاً (اجتماع الحيوية و الندرة) نسب تبادل السلع. من هذا المنظور يمكن فهم ملاحظة ماركس الواردة في الصفحة 30: "أن حقيقة قيم السلع من حيث أنها لا تزيد عن كونها الوجود الاجتماعي لهذه الأشياء, تجد التعبير عنها [إلا؟] عن طريق هذه العلاقات الاجتماعية المتداخلة ذات الصيغة العامة, و على ذلك يجب أن يكون هذا الشكل الذي يعبر عن قيمة السلع شكلاً معترفاً به من قبل المجتمع أو بصفة اجتماعية". و هذه الصفة الاجتماعية برأينا هي ما أشرنا إليه أعلاه بمعدل القيم الاستعمالية.
يظهر لنا من التحليل أعلاه, أن اعتماد سلعة كمعادل عام لباقي السلع يعاني من التناقض في مرحلة التبادل السلعي, في أن هذه السلعة (المعادل العام) تكمن قيمتها أصلاً في كونها تملك قيمة استعمالية, و هذه القيمة الاستعمالية عدا عن كونها محكومة بعوامل عديدة كالعوامل المناخية و الموسمية و طبيعتها المادية (التلف) إلخ. فهي تتحدد كقيمة تبادلية عامة (اجتماعية) و التي ستسود في السوق كمعدل للقيم الاستعمالية لهذه السلعة التي يراها الافراد كافة, و هذا المعدل يختلف بالضرورة عن معظم القيم الاستعمالية الفردية للسلعة كما يراها الأفراد الذين ينفذون التبادل, أي ان السوق يفرض حجم قيمة استعمالية (معدل) مخالفة لما يراه الفرد المنخرط في عملية التبادل. التناقض في مرحلة التبادل الفردي واضح إذ من الصعب توافق حجم القيم الاستعمالية الفردية للسلع المعروضة للتبادل ما بين أفراد منعزلين, و هذا يتناقض مع استنتاج ماركس الوارد في صفحة 3: حيث يقول: " و لما كانت س من البوية, ص من الحرير, ع من الذهب يمثل كل منها القيمة التبادلية لربع من القمح, ترتب على هذا أن س من البوية, ص من الحرير, ع من الذهب بوصفها قيماً استعمالية يجب أن تكون قابلة للتبادل فيما بينها أي يكون كل منها مساوياً للآخر" هذا الاستنتاج غير صحيح كون القيم الاستعمالية في مرحلة التبادل المتعدد السلع (ما قبل فرز سلعة تلعب دور معادل عام) هي (كما اوضحنا سابقاً) قيم استعمالية فردية و هي ليست بالضرورة متساوية. عند تحديد سلعة كمعادل عام يكون السوق قد بدأ بفرز (معدل) للقيم الاستعمالية الفردية لكل سلعة يتحدد بموجبها حجم القيمة التبادلية لكل منها مع السلعة المعادل. و هذا المعدل يظهر لدى ماركس عندما يتحدث عن العمل المولد للقيمة ص. 5 حيث يتطرق لمتوسط (قدرة) العمل اللازمة لانتاج سلعة ما (الترجمة عند هذه النقطة ليست كما يجب). و من الطبيعي أن يلجأ ماركس هنا إلى اعتماد متوسط (قدرة) عمل حيث أن القدرات المختلفة تنتج قيم مختلفة مما يعيق تحديد قيمة موحدة لعمليات التبادل الفردية, و يضاف هذا العائق إلى عائق التفاوت في القيمة الاستعمالية من وجهة نظر الافراد. و هنا أيضاً (عند بحث العمل), لا يوضح ماركس كيف يتم تحديد هذا المتوسط (للقدرة), و لكن من السياق نجد أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى المتوسط هو بتقسيم حجم (ساعات) العمل المبذولة لانتاج ما يتوفر اجتماعياً (في السوق) من السلعة المعينة و تقسيمه على عدد و حدات الانتاج العاملة في مجال انتاج هذه السلعة. يجب التنبه هنا الى أن القيمة لا تعني الكلفة و لا تعني السعر و إنما القيمة النسبية للسلعة مقارنة بالسلع الأخرى, فحسب ماركس, تتغير قيمة السلعة بتغير كفاءة العمل لأي سبب كان منها كفاءة العامل نفسه, إذ تؤدي زيادة كفاءة العامل إلى تجميد عدد ساعات اقل في السلعة و بالتالي خفض قيمتها (ماركس يعيد القيمة بالكامل إلى حجم العمل اللازم ) و من المنطقي أن تكون قيمة ساعة عمل العامل الكفء أكبر من قيمة ساعة عمل الأقل كفاءة, و كذلك نذكر بأن تحليل ماركس المذكور لا يستقيم الا بافتراض ثبات العرض و الطلب على السلعة بغض النظر عن تغير القيمة.
لتوضيح المفارقات المذكورة أو الأصح لتجاوزها, نعود إلى كون الحيوية و الندرة هما أصل القيمة و كون حجم العمل مؤشر عن الندرة, و الندرة هي ظاهرة يذكرها ماركس دون أن يتوقف عندها و دون أن يضعها في مكانها المناسب ضمن نظريته (أنظر أمثلة مناجم الماس و الذهب و كيف أن الندرة تتطلب عملاً أكثر). و من خلال مبدأ الحيوية و الندرة, يمكن أيضاً فهم ما يبدو كمفارقة أخرى و الواردة في صفحة 11 عند ذكره لحجم الثروة المادية حيث يقول: ".. و مع هذا فقد تحدث الزيادة في تعداد الثروة المادية –أي زيادة عدد السلع المنتجة- بينما يهبط حجم قيمة هذه الثروة –من خلال خفض حجم العمل الداخل في انتاج السلع نتيجة زيادة الكفاءة مثلاً".
أما بخصوص التناقض في مرحلة التوافق على سلعة لتلعب دور المعادل العام, نقول بأنه نتيجة لكون الحجم المحدد من هذه السلعة كمعادل لسلعة أخرى في السوق يعتمد على (معدل) القيمة الاستعمالية للسلعة التي تلعب دور المعادل العام, في حين أن عملية التبادل الفردية تعتمد على القيمة الاستعمالية الفردية كما يراها صاحب السلعة الراغب بمبادلة سلعته بالسلعة المعادل, أي أن التناقض في حالة التبادل الفردي المعزول لا يزال قائماً بدرجة أو أخرى. و من ناحية أخرى فإن العمل الخاص المبذول في انتاج هذه السلعة المعتمدة كمعادل, يكون محفزاً في مرحلة ما قبل اعتمادها كمعادل عام بدافع قيمتها الاستعمالية, و لاحقاً يكون العمل محفزاً بنفس الدافع بالاضافة لقدرتها (كمعادل عام) على تحصيل قيم استعمالية لسلع أخرى, بالاضافة أيضاً إلى كونها مستودع للقيمة.
بالإضافة لما ورد, فإن تطور عملية التبادل من المرحلة البسيطة لعمليات تبادل معزولة تكون فيها دورة التبادل كاملة أو قابلة للعكس (Reversible) بتعبير العمليات الفيزيائية, بمعنى أن س من السلعة أ نبادلها مع ص من السلعة ب, و الأخيرة مع ع من السلعة ج و من ثم نحصل على نفس الكمية س من السلعة أ من خلال مبادلتها مع ع من السلعة ج, هذه الدورة البسيطة القابلة للعكس تبدأ بفقد خاصيتها هذه و تتحول تدريجياً إلى دورة غير قابلة للعكس (Irreversible) بنفس لغة الفيزياء, أي ظهور الانتروبي في الدورة التبادلية نتيجة تطور إمكانية (التجارة), أي إمكانية تحقيق الأفراد لفائض قيمة بمعزل عن الانتاج. هذا التحول يزداد طرداً مع تطور السوق و تخصيص سلعة معينة كمعادل عام و مستودع للقيمة. و نظراً للتناقض في طبيعة السلعة المعادل المذكور سابقاً, و عدم أهليتها الكاملة لخدمة تطور الرغبة في التجارة تظهر النقود, و هي موضوع المقال القادم.
#محمد_فيصل_يغان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟