|
بلال يواجه دولة
جواد بولس
الحوار المتمدن-العدد: 3717 - 2012 / 5 / 4 - 13:08
المحور:
حقوق الانسان
كانوا ثلاثة قضاة، دخلوا قاعة المحكمة العليا متعبين مِن هَمّ أحلامهم، أو ربما من سهر وقد عزّ المنام في ليل ككل ليل، لا يكون إلّا صدى لذبائح النهار. ليل القضاة شوك ووسائدهم دمع وضجيج ووجع أمّهاتٍ بكين كصبح يبكي نرجسة قطٌعها سيّاف الظلام. ثلاثة، يدخلون بروتين مَن ألف المكان وأكثر. سادة يدلفون بسَكينة مصطنعة وبرؤوس تحلٌق وكأنها قبالة مرآة. يغطسون في كراس كبيرة كحجم العدل، فيحكمون القعدة عليه بحرفية ومهنيّة لا يُحسدون عليها، متعمدين أن لا ينظروا في عيون من يملؤون القاعة من محامين ومدّعين وفرقاء، كخبراء في علم "الانطباع والاضباع" وكسادة للكرسي، يوعزون للرائي كُبرة وأبّهة وعصمة، لأنّهم يعرفون أن العدل (في البداية والنهاية) يجب أن يُرى أو يشمّ أو يُهيأ، أما إحقاقه فكان دائمًا مسألة فيها نظر أو عمى، وكلاهما سيجد "نطاسيين" يبررونه ويسوِّقونه. يومهم مثقل كيوم "حسبة". على الطاولة، أمامهم، أكوام من حصاد مجتمع، النصرةُ فيه لعصا السلطان "وقطاريز" السلطان. حاجب يصرخ ليذكّر بالمكان: "محكمة". القاعة الملأى بمتظلمين ومتظالمين من كل عرق ولون ولسان، تقف إجلالًا من وهْم أو لأمنية. سكون. والبعض بخشوع حجّاج مساكين، لجأوا إلى حكماء الهيكل يلتمسون العدل من بيت ما زالوا يحسبونه بيتًا للفضيلة وحصنًا للعرق والتراب. الأوسط في القضاة، شيخ الديوان، يهمس لمتدرب شاب يجلس تحتهم، اسم ورقم الملف. بفرح طاووس وبرقبة منتصبة كمقاتل إسبارطي، يقف هذا الذي بنعمة أسياده يتحفز كصاروخ ويعلن أسماء الفرقاء ورقم القضية. ينادي ويجلس على كرسيه. يطأطئ القاضي صوب الطاولة وبنظرة نصفها عالقة على صفحات الملف ونصفها بتثاقل ترتفع باحثة عن المحامين المسجلين في القضية، يتمتم اسم المحامي وبحركة محترفين يوهمك كأنه يفتش عليه. بالمقابل وبنفس الوقت وبحركة شبيهة يقف المحامي ويطمئن القاضي بنعم سيّدي. كما في المسارح، الكل يقوم بدوره المعد وكأنه العرض الأول، فجميعنا كنا هناك وجميعنا نعرف جميعنا، إلٌا أولئك الذين حضروا ولم يعرفوا أن ما كان معدّا ليكون "ديوان مظالم" تحوّل وأصبح ديوانًا للقوي وللظالم. ننتظر بهدوء مغلوب على أمره. الوقت في قصر العدل الأعلى وقتهم لا وقتك. يأمرونك بساعة الحضور والبقية عندهم. فللدواوين أصول. سمعنا ما سمعنا من حكايا صندوق العجب، إلى أن همس شيخ الديوان فنادى المنادي: "بلال دياب ضد القائد العام لقوات جيش الدفاع الإسرائيلي في المنطقة وضد آخرين". ذهلت. من هذا البلال الذي يقف لوحده ضد هذه الدولة وجيشها؟ كيف يا بلال استطعت أن تغرر بي حين عدتك في مستشفى "أساف هروفيه" وكيف جعلتني أصرخ لأنهم صفدوك بستة أصفاد وربطوا سيقانك معًا ومعًا ربطوها في ذراع السرير وربطوا كذلك يدك اليسرى؟ كيف استنفرت دمعة عيني حين أخبرتني أنك لا تستطيع الحراك ولا النوم على سيفك أو على بطنك أو على ظهرك؟ كيف يا بلال ونحن نعلنها هنا، في قصر عدل السلطان وفي بلاطه، أنك ضد جيشه والدولة وضد نياباتهم وضد محاكمهم العسكرية؟ من قال يا بلال إن أمثالك بحاجة لتهمة ولوائح ومحاكم ودفاع؟ فمثلك خطر على هذه الدولة وجيشها وشعبها وإن نقصت الحجة وغاب البرهان، فها أنت تعلنها حربًا بيضاء، حرب من ندى وأقواس قزح، فلم تبق فيها للدولة وجيشها ركنًا آمنًا ولا ترسًا ولا ملجأً. مكانك، يا بلال، في اللامكان أو، وعليك بهذا أن تفرح، وراء القضبان. أمثالك غير جديرين بالشمس ولا بصوت الكناري. إنك خطر قاتل يا بلال، ويا حفيد بلال، فكيف تجرؤ وتقاطع زادهم ولا تشرب من شرابهم ودوائهم؟ كيف تبرع في تغيير لونك الزاهي، لون الصباح والشباب، إلى لون الليمون وورق الخريف. إنّك تستغبي وتستضعف، فماذا لو خسرت كل هذا اللحم والشحم وحليب الأرض ولم يبق إلا بعض قلب وصلاة، إنك بلال وستبقى ابن الرعاة وابن الفلاة، من صخرة التاريخ صقلتك الأيام ومن بقايا غمام. سارحًا كعاشق وقفت. مسحت جبيني من بقايا تعب وخبأت دمعة وقفت منذ تركته في المستشفى محاطًا بأربعة حرّاس متخصصين في حراسة الأحلام والأنفاس. صوته الذي كان من عزة تماوج في أذني: " زادي حريّتي وهذه سأحظى بها حتمًا في بيتي أو في الجنة"، قالها حين اقترح عليه ضابط سجّان أن نشرب القهوة معًا في سريره الذي من وجع. نعم هو هذا البلال الذي بقوة ضعفه الجسدي يقاوم قرارًا عسكريًا تعسّفيّا يسلبه حريّته وكرامته. هذا هو بلال ابن الحياة الصارم المحب. وهو بلال الذي وعدته أن نمسح عن جبين الصبح دمعة ومعًا نحاول أن نضيء للسراة شمعة. وقفت وقلت للقاضي نعم أنا أمثل بلال دياب، وعنه سوف أحدثكم، عن بلال الذي من لحم ودم وبحر، عن ذلك الحر الكريم وعن عاشق من حقل الرعاة مؤمن ثابت صبور وكالموجة عنيد، بلال الذي فيه لم تقل العرب "أعند من موج". عنه سأحدثكم وأغادر لآوي في المساء إلى فراشي ووسادتي التي من شوق فصباحي ميعاد مع موجة ورمل.
[email protected]
#جواد_بولس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نواطير الحياة
-
قصة من أدنبرة
-
لكل عملة وجهان
-
لعلّ الأيام حبلى
-
بعض من -هناء-
-
آذار لي
-
دروس تينة
-
بين خوفٍ مِن وخوف على
-
إن شئت فعِش!
-
لقاء في قانا
-
خضر والتنين
-
نمورٌ وقطط
-
لمن نكتب؟
-
كلنا في العزاء سواء
-
استكشاف
-
ميلادٌ في كابول
-
طريق نحلتين إلى السماء
-
آية للرجال
-
نسمةٌ أقل
-
مزمور للنقب
المزيد.....
-
شتاء الخيام فصل يفاقم مأساة النازحين في غزة
-
رئيس هيئة الوقاية من التعذيب في تونس ينتقد تدهور الوضع في ال
...
-
هكذا تتعمد قوات الاحتلال إعدام الأطفال.. بلدة يعبد نموذجا!
-
المكتب الحكومي يطلق نداء استغاثة لإنقاذ النازحين في غزة
-
خامنئي: أمر الاعتقال بحق نتنياهو لا يكفي ويجب الحكم بالإعدام
...
-
سجون إسرائيل.. أمراض جلدية تصيب الأسرى
-
قصف وموت ودمار في غزة وشتاء على الأبواب.. ماذا سيحل بالنازحي
...
-
هيومن رايتس ووتش: ضربة إسرائيلية على لبنان بأسلحة أمريكية تم
...
-
الأمم المتحدة: من بين كل ثلاث نسوة.. سيدة واحدة تتعرض للعنف
...
-
وزير الخارجية الإيطالي: مذكرة اعتقال نتنياهو لا تقرب السلام
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|