|
قراءة في كتاب ( الذهاب إلى السينما )
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 3717 - 2012 / 5 / 4 - 09:51
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
جذبني لقراءة كتاب ( الذهاب إلى السينما ) اسم مؤلفه سيد فيلد، حيث سبق لي وأن قرأت له كتابه الممتع ( فن كتابة السيناريو ) في التسعينيات بترجمة الراحل سامي محمد. وهذا الكتاب الجديد الصادر عن سلسلة الفن السابع/ دمشق 2011، بترجمة أحمد الجمل يحكي الرحلة الشخصية للمؤلف في عالم السينما خلال أربعة عقود، مثلما يخبرنا على غلاف الكتاب.. يقول في المقدمة؛ "يبدو الأمر وكأنني أمضيت معظم حياتي جالساً في صالات سينما مظلمة، أحمل في يدي كيساً من البوشار، سابحاً في الخيال، محدِّقاً بالصور التي تُعرض، من الأضواء المتدفقة من الشاشة العملاقة". تصوّرت للوهلة الأولى أن موضوعة الكتاب هي عن ارتياد صالات السينما، وأجواء تشغيل الأفلام وعرضها على الشاشة، وممارسة طقوس المشاهدة وما تخلِّفها من انطباعات ومسرّات، ومشاعر تتقلب مع تقلبات الأحداث الجارية في القصص المصوّرة، غير أن استرسالي في القراءة غيّر من تصوري ذاك، لأن المؤلف ناهيك عمّا ذكرت كان يسرد سيرة حياته في علاقتها بالسينما وصناعتها، وبهوليود مكاناً نشأ فيه وعانى وعمل بدأب حتى أصبح واحداً من شخصياته المعروفة كاتباً للسيناريو ومدرساً لفنه ومؤلفاً لبضعة كتب تعد اليوم مراجع كلاسيكية للدارسين والمؤلفين في مجال كتابة السيناريوهات السينمائية. من هنا يصطحبنا المؤلف إلى دهاليز تلك المملكة الإبداعية ليعرِّفنا على قوانينها المكتوبة وأعرافها وتقاليدها وحكاياتها وأسرارها، وتلك التفاصيل الدقيقة الخاصة بصناعة الأفلام وتسويقها. والتطورات التقنية التي حصلت في مضمار تلك الصناعة خلال نصف قرن. وقد شكّل هذا كله خلفية بانورامية لصعود نجم المؤلف الشخصي في هوليود وتحولات معرفته وإبداعه، لاسيما في مجال كتابة السيناريو ونقد الأفلام. لاحق فيلد، عبر معايشة يومية مباشرة، وطوال خمس وثلاثين سنة "كيف أصبحت السينما ليست فقط جزءاً مكملاً لثقافتنا، جزءاً من تراثنا، إنما كيف باتت تشكل أسلوب حياة، يوسم العالم كله. فما أن يجلس الجمهور في عتمة صالة السينما، حتى ينضم إلى كيان واحد يرتبط عبر وحدة من مشاعر وجدانية لرابطة خفية وعميقة لروح إنسانية، توجد فيما وراء الزمان والمكان والمحيط". تعرّف فيلد على المخرج الفرنسي جان رينوار في ربيع العام 1960 فشعر منذئذ بأن حياته قد اتخذت اتجاهاً مغايراً.. كان رينوار أستاذه الأول، هو الذي جعله يُغرم بفضاء السينما، فبات يتعامل مع الأفلام برؤية جديدة، وعميقة، حيث يمكن أن يدرسها ويحللها في أشكالها، وبناها، ويستنبط منها المعاني والرؤى والدلالات. وهكذا صارت السينما، الشطر الأهم لحياته، ووسيلة كسب عيشه. علّمه رينوار كيف يراقب العالم والطبيعة، وكيف يتجنب الكليشيهات ليكون منصفاً إزاء الشخصية والموقف. وإذا كان الفن بحسب رينوار "شكلاً جديداً من أشكال الطباعة ـ شكلاً آخر من أشكال التحول الكلي للعالم عبر المعرفة" فإن الفن هو ما تجلس وتصنعه ( بالممارسة ) مقدِّماً للمشاهد فرصة الاندماج مع المبدع. وحين انخرط في حصة كتابة السيناريو في الجامعة غرست المخرجة دوروثي آرزنر في نفسه الاستعداد لقبول ارتكاب الخطأ كما يقول.. وما عليه سوى الاستمرار في الكتابة، وإعادة المحاولة مراراً وتكراراً، إلى حين الوصول إلى إنجاز نص سيناريو جيد، ممكن تحويله إلى شريط لافت يستقطب المشاهدين. علق من كتابه ( فن كتابة السيناريو ) في ذاكرتي عبارة: "اخلق شخصية تصنع قصة". وفي كتابه ( الذهاب إلى السينما ) يشتغل على هذه الفكرة ويطوِّرها. مستفيداً من كشوفات النقاد الكبار في حقل السرديات. لاسيما فيما يخص مفاهيم، وجهات النظر وأنساق السرد والحبكة وفعل الشخصية وبنية القصة، الخ. مدركاً أن الأفلام ليست سوى "قصص تُروى بالصور. وفي حين أن الحدث والحوار هما جزءان مكملان للسيناريو، فإن خط القصة يتكشف بصرياً من خلال الصور". يتفحص فيلد مجموعة من الأفلام، فهو لا يكتفي بمشاهدتها وإنما يسعى للحصول على نصوص السيناريوهات المعتمدة من قبل المخرجين في أثناء تصويرها، فيقرأها ويقارنها بما يجري على الشاشة. مركِّزاً على الشخصيات وأدوارها وصراعاتها.. يجعله فيلم ( النهر الأحمر لهوارد هوكس/ بطولة جون واين ) يكتشف أن الحاجة الدرامية للشخصية هي مصدر الصراع "يولِّد الإطار الدرامي لخط القصة". فيعرّف الحاجة الدرامية بأنها ما تريد الشخصية الرئيسة أن تحققه وتكسبه وتحصل عليه. وتحديد هذه الحاجة هي مفتاح خلق الشخصية القوية في أي فيلم. وهذه هي الخطوة الأولى. ويبقى السؤال قائماً عمّا يجعل شخصية ما على الشاشة جذابة؟ يعود لمشاهدة فلم ( كازبلانكا ) فيجد السر في خصائص شخصية ريك ( همفري بوغارت ) ذلك "التركيب في الطبيعة الأساسية للشخصية التي يلعبها، وإطلالته على الشاشة والدور الذي يُعطي بوغارت مكانة ميثولوجية هنا... شخصية قاسية وجريئة، ذات مركز أخلاقي قوي". إن ما يبحث عنه فيلد هو شخصية البطل.. بطل متمرد، له مُثله العليا، وقواعده الخاصة، لا ينحني لأعراف المجتمع، ويتصف بالشجاعة والإيثار، يهب نفسه، من غير تردد، لشيء يظنه أكبر من نفسه.. يقول: "من خلال ريك تعلمت أن الفعل هو الشخصية، وما يفعله الشخص يدل عليه. الفيلم سلوك". فالشخصية تظهر، لا عبر ما تقول، وإنما عبر ما تؤدي من دور فاعل في محيطها. وما "لم يُقل عن الشخصية قد يكشف الكثير مما قيل"، ولابد من أن تكون الشخصية ثلاثية الأبعاد، على حد تعبيره، أي غير مسطحة. حيث يساهم السياق الدرامي والمكان في عكس الحالة الجوانية/ الوجدانية لها. وفي النهاية يجب أن يجري نوع من التكافؤ في الكتابة بين الكلمات وبين الحدث.. وبين الحدث والشخصية. ولذا فإن شرط الفيلم الناجح الأول وجود سيناريو متقن ومتماسك يتضمن "قصة جيدة، وحدثاً قوياً، وشخصيات مثيرة، وحواراً ذكياً". مثّلت تجربة المؤلف في العمل مع مؤسسات لها علاقة بصناعة السينما مصدراً غاية في الثراء للمعلومات عن هذه الصناعة، استثمرها في عمليتي التعليم والكتابة. وقد أُنيط به، غالباً، وظيفة قراءة السيناريوهات وتقديم النصيحة بشأنها لمن يهمهم الأمر.. يقول: "في فترة العامين ونصف التي كنت فيها رئيساً لقسم القصة في سينيه/ مويايل، كنت أبحث عن مادة لتقديمها لشركائنا الماليين. ولهذا قرأت أكثر من ألفي سيناريو، وأكثر من مائة وخمسين رواية، ومن بين تلك النصوص الألفين ونيّف وجدت فقط أربعين نصاً صالحاً يمكنني تقديمها". وبقي يبحث طوال الوقت عن شيء لم يقرأه، ولم يره من قبل.. أي عمّا هو مبدع وأصيل ويثير الانتباه. حاول فيلد وضع نموذج تعليمي للسيناريو الناجح، مقسِّماً قصة الفيلم إلى استهلال ومواجهة وحل يتصل بعضه ببعض لتمثيل خط القصة، وهو ما يعبّر عنه بمصطلح البنية الدرامية. محدداً الوقت الذي تجري فيه الانعطافات المهمة التي تدفع بالقصة إلى الأمام. وقد واجه هذا النموذج اعتراضات عديدة، لكن لا غنى عنه للدارسين الجدد وهم يلجون عالم كتابة السيناريو. جرّب سيد فيلد كتابة السيناريو، وقام بتعليمها للآخرين في حلقات دراسية، والتي كان يحضرها أحياناً بعض محترفي الصناعة السينمائية من مخرجين وممثلين ومنتجين وكتّاب سيناريو. وكان يحرص على أن تكون تلك الحلقات مناسبة لحوارات معمقة، لذا كان يتعلّم وهو يعلِّم. وفي كتابه هذا: ( الذهاب إلى السينما ) يقدم خلاصة خبرته في هذا الحقل المدهش، والمنطوي على وعود فنية ومعرفية لا يحدها حد.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيرة الروائية
-
السرد والاعتراف والهوية
-
فتنة الحكاية
-
قراءة في؛ مدينة الصور
-
قراءة في؛ تجليات السرد
-
يسكنني هاجس دائم بأني روائي قبل أن أكون أي شيء آخر
-
قراءة في رواية -شامان- لشاكر نوري
-
هوبزباوم في -العولمة والديمقراطية والإرهاب-
-
اليسار والديمقراطيون العلمانيون والامتحان الصعب
-
غواية كتابة الرواية: سلطة المشهد المتخيل
-
عصر مثير
-
امرأة الكاتب
-
رماد الذاكرة: شعرنة تاريخ الخوف
-
ألوان السيدة المتغيرة
-
حين تستلهم الرواية التاريخ: -قصة مايتا- ليوسا
-
-الحلم العظيم- شهادة عن مرحلة الآمال والخيبات
-
عن الكتّاب النجوم: بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير
-
السعدية/ جلولاء: مدينتان تتراميان حتى أعالي القلب
-
النبطي قصة حب
-
الرواية العربية ورهان التجديد
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|