|
سيناريوهات الاختيارات البيداغوجية بالمدرسة المغربية
رشيد شاكري
الحوار المتمدن-العدد: 3716 - 2012 / 5 / 3 - 13:35
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
شكت زوجة زوجها إلى أبيها لأنه عنفها واعتدى عليها، فأقسم أن ينتقم منه، وأخذ يضربها، قائلا سأعنف زوجته كما عنف ابنتي، فنالت الضرب من الاثنين. أليس هذا هذا هو حال مدرستنا ، تئن مع كل جديد وتنهار كلما كان التجديد.
لن نبق حبيسي جلد الذات والتباكي على مآل منظومتنا التعليمية، لأننا في أمس الحاجة إلى مبادرات تتجاوز اللحظة القاتمة لتستشرف مستقبلا أكثر إشراقا وآمالا، وإلى فاعلين يؤمنون بقدرتهم على خلق مدرسة فعالة وجذابة تستجيب لانتظارات مرتاديها وذويهم. كما أننا في حاجة إلى مجتمع يعترف بوظائف المؤسسات التعليمية وأدوارها، ويقدر أهلها ومسؤوليها... في هذا المسار الذي ينطلق من حالة اللااستقرار الذي تعيشه المدرسة المغربية، سنسافر معا إلى عوالم الغد لنرسم ملامح افتراضية تحكم الاختيارات البيداغوجية الممكنة بعد التموقف الاضطراري من بيداغوجيا الإدماج، وفق ثلاثة سيناريوهات ممكنة: السيناريو الأول: بيداغوجيا الإدماج: نسخة جديدة ومنقحة. إنها "المرحومة"، بهذا الوصف ينعت بعض المدرسين والمدرسات، تشفيا بمآلها الذي لم يتضح بعد، والذي يتأرجح بين الموت السريري والغيبوبة الاضطرارية؛ هذا الامتعاض يجد له مبررات قد تكون في أغلبها موضوعية، ومنها: - تم إقحام هذه البيداغوجيا بطريقة تعسفية، في مناهجنا التعليمية، من باب الترميم وليس البناء المنهجي العقلاني، فجعلت من السنة الدراسية مسارا يعيش مصطبات بفعل وتيرتين متباينتين، وتيرة تلقين الدروس بطريقة اعتيادية تلقينية في أغلبها (ولا أقول إرساء الموارد)، ووتيرة تعلم وتقويم الإدماج، وبفعل أسلوبين متضادين: أسلوب المدرس كمركز في العملية التعليمية، وأسلوب المدرس الذي يتنازل عن هذه المركزية اضطراريا واستثناءا لفائدة متعلميه. - خلقت هذه البيداغوجيا هيكلة عمودية موازية للهيكلة الطبيعية لوزارة التربية الوطنية، وأفرزت تراتبية غير مبررة، الولاء كله للشيخ الذي لا يأتيه الباطل من أمامه أو خلفه، ومن خلفه مريديه، فالذين من بعدهم، تراتبية تفرضها السلطة المعرفية واللامعرفية وتقنعها صفة الخبرة المصطنعة، التي تنطلق من الخبير الدولي فالخبير الوطني ثم الخبير الجهوي لتصل إلى الأستاذ المورد بالمؤسسة. - تمت معالجة الإشكالات التي طرحها إدماج هذه البيداغوجيا مع واقع تعليمي غير مرن ومطاوع لا في بنيته الزمانية أو المكانية أو التدبيرية، بطريقة اعتباطية تستند على الفتاوي والاجتهادات، بدل نهج الآليات العلمية للتتبع والتقويم، فخلقت ارتباكا واسعا لدى كل الفاعلين بمختلف اختصاصاتهم ومهامهم، وأنهكت نفسية الممارسين الميدانيين الذي أجبروا على التطبيق الحرفي دون استيعاب واقتناع. - ركزت عملية التنزيل على البعد التقني المحض، فقتلت روح المبادرة لدى المدرس(ة)، بدءا بإلزامه بوضعيات غير مشوقة، ملزمة لجميع المتعلمين والمتعلمين دون اعتبار لتباين مستوياتهم، ورصيدهم المعرفي، وكأن مؤسساتنا متجانسة من أقصى الفرعيات إلى مدارس البعثات؛ ومرورا بآلية التقويم ومنها التشدد في الالتزام بالمعايير والمؤشرات، والتضخيم في عدد الشبكات والجداول، وامتدادات ذلك على مستوى التقويم الإجمالي والدعم (دفاتر التتبع الفردي)، وانتهاء بإلزامية تواريخ أسابيع الإدماج بمذكرات وزارية ونيابية، وكأن جميع متعلمينا ومتعلماتنا ينعمون بتوفر الأساتذة والأستاذات منذ بداية الموسم الدراسي، ولا يتغيبون أبدا بمبرر وبدونه. - رافق إقرار بيداغوجية الإدماج عملية التكوين التي هيمن عليها الجانب المادي من تعويضات للمؤطِّرين وتوفير التغذية والمبيت للمؤطَّرين، كما سيطر عليها هاجس تغطية جميع المدرسين والمدرسات في مدة وجيزة، فأُفقِدت هذه اللقاءات التأطيرية نجاعتها، ولم تستطع إدماج الفاعلين الميدانيين في هذه الدينامية. إن المتأمل في هذه المثبطات يقتنع أن بيداغوجيا الإدماج هي ضحية المقاربة التي تم اعتمادها لتنزيلها، لذلك ما زالت تفرض ذاتها في المشهد التربوي كوجه مؤهل لتصريف المقاربة بالكفايات، ويمكن للمسؤولين على القطاع التفكير في نسخة لها مزيدة ومنقحة تتجاوز انتكاساتها السابقة، من خلال تعديلات منها: - إعطاء الصلاحية للمدرس(ة)، في اختيار توقيت برمجة تعلم وتقويم الإدماج، وفق المسار الذي يناسب متعلميه ومتعلماته، مع مراعاة التنظيم المهيكل للسنة الدراسية. - وضع بنك من الوضعيات رهن إشارة المدرس(ة) لاختيار الأنسب، مع تشجيعه على إنتاج وضعيات تلائم مستوى متعلميه ومتعلماته. - التخفيف من تضخم إجراءات التقويم باحتساب نقطتين خاصتين بتقويم الموارد ونقطتين عن تقويم الإدماج في كل دورة، وترك الحرية للمدرس في اختيار المؤشرات المناسبة للتصحيح. - نهج وتيرة تصاعدية متدرجة لبناء التعلمات انطلاقا من أسابيع إرساء الموارد فأسابيع التوليف وانتهاء بأسابيع الإدماج (وهو ما أشارت إليه وثيقة البرامج المنقحة) - التخفيف من المضامين، ومن الحيز الذي تشغله في السنة الدراسية، أي اعتماد خمسة أسابيع بدل ستة أسابيع المعمول بها حاليا، لوضع هامش لتدارك التغيبات، وللدفع في تنظيم حصص للدعم والمعالجة. - الاقتصار على بعض المواد المستهدفة بعملية الإدماج (كاللغات والعلوم)، وإلغاء الإدماج في المستويات الدنيا (الأول في العربية، والثالث في الفرنسية). - إلغاء الهرمية المصطنعة التي ولدها تنزيل بيداغوجيا الإدماج، وإزالة الهالة التي صاحبته، باعتبار هذه البيداغوجيا هي وسيلة لتحقيق كفايات وليست غاية في حد ذاتها. - توفير الإمكانات الذاتية للمؤسسات التعليمية لتدبير هذه العمليات، بطريقة سلسة واعتيادية. - العمل على إزالة بعض المسلمات من ذهنية الممارسين من قبيل ربط نتائج تقويم المتعلمين والمتعلمات بعطاءات المدرس(ة) دون استحضار عوامل أخرى مؤثرة في ذلك، ومن قبيل أن هذه البيداغوجيا متعبة، لأن العمل الذي لا يُتعِب لا يستحق أن يُؤجَر عليه. السيناريو الثاني: بيداغوجيات بديلة لتصريف المقاربة بالكفايات. ماذا لو كان الطلاق الثلاث مع بيداغوجيا الإدماج؟ بالطبع سنفقد إرثا ماديا وفكريا ضخما تتركه وراءها، وسنكون مجبرين على اختيارات بديلة. وسيكون اختيار هذا المنحى اضطراريا لتلافي الصدام مع الفاعلين في الميدان والهيئات النقابية الرافضة لهذه البيداغوجيا، ولتجاوز الحساسية التي تنتاب المدرسين والمدرسات عند سماع المفاهيم المرتبطة بها. وحتى لا تكون القطيعة حتمية وتامة، ومن أجل استثمار الخلفية النظرية لبيداغوجيا الإدماج، يبقى تبني بيداغوجية حديثة تتقاطع معها، في تصوراتها، سيناريوها مطروحا. إن المشترك بين بيداغوجيا الإدماج والبيداغوجيات المعاصرة، هو حرصها على مركزية المتعلم(ة) في اكتساب معارفه بمختلف مستوياتها، عن طريق الفعل والمشاركة الفعلية لا الإنصات والترديد، وبالتالي لن تكون البيداغوجيا البديلة إلا تلك التي تعتمد أساسا على المهمة، باعتبارها نشاطا ذهنيا وحركيا ذاتيا خاضعا لمبادئ وموضوعات مرتبطة بتدريس المواد الدراسية، فـ"تعلم مادة مدرسية معينة يعني وضع التلاميذ داخل وضعيات تنتمي كليا أو جزئيا للحقل الذي تشمله تلك المادة وتنسحب عليه، ودفعهم إلى القيام بأفعال معرفية أو حسية-حركية بواسطتها يكونون ملزمين باستعمال علاقات ملائمة عبر عمليات أو طرق تمكنهم من تحقيق أهداف خاصة بتلك المادة المدرسية".(لوي دينو: من المادة المدرسية إلى تكوين الفرد). إن هذا التصور يتجاوز بيداغوجيا الإدماج التي تُناوِب بين إرساء الموارد مجزأة وتعلم إدماجها فيما بعد، ويرى أن التعلم يجب أن يتم عبر مهمات تستوجب وضعيات مركبة على شكل تحديات، تمكن المتعلم من اكتساب أدوات فكرية ومنهجية تساعده على فهم ذاته ومحيطه بشكل أفضل، وتؤهله لمواجهة المشكلات والبحث عن حلول لها، لأنه " لا تكون الثقافة المدرسية ذات طابع تكويني فعال إلا حينما تكسب التربية المدرسية التلميذ القدرة على البحث الشخصي والاستعمال المستقل للمعارف وحل الإشكالات، وهذه الإشكالات والمهام هي التي ينبغي أن تكون - حسب "فيليب ميريو"- أساسا في بناء البرامج والمقررات المدرسية" (عبد الحق منصف: رهانات البيداغوجية المعاصرة). إن اختيار بيداغوجيا بديلة عن بيداغوجيا الإدماج، بهذه المواصفات سيجعل هذا التحول مرنا ومستوعبا بأقل التكاليف، مع احتضان المكتسبات السابقة للفاعلين التربويين وتطويرها وإغنائها. السيناريو الثالث: سوق بيداغوجية، وتأهيل الممارسة الصفية. يعترف أنصار المقاربة بالكفايات، أنها "لا ترفض فضائل الممارسات البيداغوجية الحالية أو التي مضت أو التي لم تعد تستجيب لموضة العصر، لكونها مقاربة منظمة وحاضنة من الدرجة الأولى، وليست مقاربة إقصائية"، لذلك لا يجب أن تنتصر المدرسة المغربية لطريقة بيداغوجية على حساب أخرى. إن السيناريو الثالث يسعى إلى جعل المؤسسات التعليمية منفتحة على مختلف المقاربات المتوافرة في السوق البيداغوجية، دون تمييز أو تفضيل، ويحرص على أن يكون للمدرس(ة) حرية الاختيار والتصرف، وفق تعاقدات يلتزم بمقتضاها بالتوجهات الكبرى للمنظومة، ويسعى إلى تحقيق الأهداف المسطرة، عن طريق ممارسة مهنية مسؤولة وواعية. لن نغالي لو أقررنا أن أزمة تعليمنا ليست أزمة بيداغوجيات بقدر ما هي أزمة ممارسة صفية، وأخلاقيات مهنية، إذ أنه لا فائدة من أي بيداغوجيا في ضوء تفشي عقليات لا تعير وزنا للزمن المدرسي، وللمسؤولية المهنية، ولا تؤمن بالتجديد والتطوير، الذي يفرض التكوين والبحث الذاتيين، لذلك فنحن في حاجة إلى: - إعادة الاعتبار لمهنة التدريس، من خلال تثمين عمل المدرسين والمدرسات والاعتراف بعطائهم وبذلهم، وتمكينهم من الكفايات المهنية التي تساعدهم على انتقاء الأنسب من البيداغوجيات والطرق التربوية لتوظيفها مع المتعلمين والمتعلمات في فضاء القسم والمؤسسة؛ - التصدي للسلوكات التي لا تساهم في تطوير العملية التعليمية مهما تعددت البيداغوجيات، ومنها العنف المادي واللفظي تجاه المتعلمين والمتعلمات، والتغيبات والتأخرات التي لا مبرر لها، واللاعمل في أوقات العمل... - تعميق استقلالية المؤسسات في اختياراتها البيداغوجية والمعينات الديدكتيكية ومنها الكتب المدرسية، والبرانم التعليمية...، استقلالية " قوامها التعاقد وابتكار المشاريع وتنويع العرض التربوي وتشجيع التفوق، على أساس ترسيخ المسؤولية والمحاسبة" (عبد اللطيف المودني: الإصلاح التربوي وأوراش مدرسة المستقبل). وختاما إن صورة المدرسة التي نأملها هي تلك المدرسة التي تضع المتعلم في قلب انشغالاتها، وغاية نجاحها، مدرسة تجعل من فضاءاتها وممارساتها الفصلية أداة جذب واستمتاع لروادها، لذلك فكل الخيارات الممكنة لتحقيق هذه الغاية سيكون مرحب بها داخل أوساطنا التعليمة.
#رشيد_شاكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنت مدير... إذن عظم الله أجرك (واقع التدبير الإداري بالمدرسة
...
-
إجراءات وزير التربية الوطنية بالمغرب، بين تثمين القرار والتش
...
-
قسم الأولويات بوزارة التربية الوطنية
-
الدور الواقعي والمتوقع لهيئة التفتيش بالمغرب
-
الأبعاد السوسيولوجية للحكامة الجيدة في النظام التربوي في حوا
...
-
الجودة مرتبطة بتأهيل النظام التعليمي لموارده البشرية، حوار م
...
-
مقاربة الأحزاب المغربية لقضايا التعليم والتربية من خلال برام
...
-
التربية والقيم في حوار مع د. عبد الحق منصف المدير المساعد لل
...
-
افتحاص الجودة بقطاع التربية والتكوين
-
أبجدية تيفناغ: سؤال التاريخ والأصل
-
إشكالية الكتابة في اللغة الأمازيغية: بين تيفناغ، والحرف العر
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|