|
الثورة السورية بين النزاع الأهلي والصراع الجيوسياسي
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3713 - 2012 / 4 / 30 - 17:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
منذ وقت مبكر من انطلاق الثورة السورية انتظمت سياسة الحكم السوري حول تحويل ما هو صراع بين المجتمع والنظام إلى صراع داخل المجتمع من جهة، وإلى مشكلة جيوسياسية تطال مجالا شرق أوسطيا واسعا من جهة ثانية. لم تكن مضت أيام قليلة على بدء الاحتجاجات الشعبية وانتشارها حتى صار يسمع من المسؤولين السوريين كلام على صراعات طائفية و"إمارات سلفية" (التعبير لم يكن في التداول السوري العام وقتها، وهو يبدو صادرا من فروع المخابرات المتمرسة بصنع الإمارات والأمراء)، هذا قبل أن يشيع تعبير "عراعير" كاسم جنس لعموم المحتجين السوريين، في نسبة إلى عدنان العرعور، وهو داعية سني شعبوي، ونجم تلفزيوني، يظهر على قناة دينية تبث من الخليج. وفي أساس هذا النهج أن نخبة الحكم لا تتكون من رجال دولة، يعيشون للسياسة ويفكرون ويتصرفون بدلالة وظائفهم العامة، المؤقتة تعريفا، بقدر ما هم رجال سلطة، يعتاشون من السياسة ويفكرون ويتصرفون بدلالة مصالحهم وروابطهم الشخصية الأسرية والفئوية، ويعلون من حفظ امتيازاتهم فوق أي شيء آخر (التمييز بين العيش للسياسة والعيش من السياسة لماكس فيبر). وهم ويديرون أجهزة حكم عامة متداخلة بقدر كبير مع الروابط الأهلية. من الظواهر التي تستحق دراسة متقصية في سورية اليوم الطابع العائلي لعدد متزايد من الوظائف العامة، في الجيش والإعلام والأمن، وبقدوة معلومة من الأسرة الأسدية. في محركاتها العامة وقيمها الوطنية الجامعة مثلت الثورة تحديا كبيرا لنهج التفريق المجرب. النظام رد على ذلك بالتعامل المختلف مع الاحتجاجات الشعبية حسب المناطق والتكوينات الأهلية. يفرق التجمعات الاحتجاجية في السويداء (السكان دروز)، ويعتقل مشاركين فيها، ويعذب المعتقلين، لكنه لا يقتل. يفعل الشيء نفسه في السلمية (أكثرية من الاسماعيليين) التي لم تهدأ مظاهراتها منذ بداية الثورة. وكذلك في مناطق محافظة الحسكة التي يتظاهر فيها دونما توقف كرد سوريون. بالقدر نفسه عمل النظام على تجنب سقوط مسيحيين سوريين على يدي قواته، واختص الناشطين منهم بالاعتقال والتعذيب، دون القتل. وهو ما ينطبق أيضا على الناشطين العلويين. اعتقل كثيرون منهم، واعتدي على بيوت وممتلكات بعضهم، لكن يحرص في جميع الحالات على ألا تسيل الدماء. الغرض المباشر هو تجنب تجذر الاحتجاج في هذه البيئات، وما قد يجره الدم من طلب جماعي للثأر. في بعض المواقع تأخذ هذه السياسة شكل تأليب السكان على بعضهم عبر نشر الإشاعات أو القيام باستفزازات مقنّعة، ولا تقتصر على الاكتفاء بتعامل تمييزي. هذا محقق في كل المناطق المختلطة طائفيا أو المتجاورة. ولا يعتمد التفريق على التمايزات الدينية والمذهبية الموروثة وحدها، بل يشمل أيضا التمايزات الجهوية. تجنب النظام لوقت طويل سقوط شهداء "شوام" (دمشقيون أصلاء)، بينما كانت عتبة تردده في مواجهة المحتجين بالرصاص في دوما وحرستا مثلا، وهما لصق دمشق اليوم، منخفضة تماما. ولوقت طويل أيضا تجنب سقوط ضحايا في مدينة حلب. وعلى مستوى ثالث تثار أسئلة بخصوص ما يحتمل من دور للنظام في تغذية انقسامات المعارضة التقليدية، أو تسهيل أمرها، بصورة مباشرة أو عبر التعامل التمييزي أيضا. المحصلة المأمولة لهذه السياسة الحيلولة دون تشكل جبهة اجتماعية موحدة أو متقاربة في مواجهة النظام، والنيل من الشرعية الوطنية للثورة، ونسبتها إلى المكون الإسلامي السني في المجتمع السوري. والمشكلة الحقيقة التي تواجه الثورة اليوم تتمثل في أن ما تعرضت له عشرات بؤرها الأنشط من تعنيف طوال أكثر من عام يدفع فعلا إلى صعود وعي ذاتي إسلامي سني في هذه البيئات، وهو ما يجعل سردية النظام أشبه بنبوءة ذاتية التحقق. بالقدر نفسه حرص النظام أكثر من أي طرف آخر في سورية وحولها على تحويل الأزمة الوطنية السورية، أعني ربطها بملفات إقليمية متعددة بحيث يحتمل أن يؤدي سقوط النظام إلى تفجر حرب أهلية في لبنان، ومثلها في العراق، وتهديد أمن إسرائيل، وصراعات طائفية في بلدان الخليج، فضلا عن تفجر سورية ذاتها. في لبنان منذ الآن توترات تتصل بالزلزال السوري. ولقد ظهر طوال أكثر من 13 أشهر من الثورة أن إيران وحزب الله، وبدرجة لافتة عراق المالكي، تقف مع النظام "للموت"، وتوفر له من الدعم المادي والسياسي والتكنولوجي، وربما البشري، ما لا يشابه إلا الدعم الأميركي لإسرائيل. ولم يكن يلزم تصريح رامي مخلوف الشهير في أسابيع الثورة الأولى ليُعلم من لا يعلم أن أمن إسرائيل مرتبط باستقرار النظام في سورية. ولا يلزم كذلك افتراض مؤامرة أو تفاهم سري. يكفي حساب عقلاني من طاقم حاكم يريد أمنا مطلقا لنفسه وبقاء مؤبدا في الحكم، ومن كيان يريد أمنا مطلقا لنفسه وبقاء مؤبدا في الإقليم. إسرائيل القوية تفضل نظاما أمنيا قويا في سورية ولديه الكثير مما يخسره. فإذا سقط تسبب لها ذلك بمشكلات أمنية، سواء حل محله حكم منتخب أو نظام إسلامي أو فوضى طويلة الأمد. ولعل في الأثر الخفي للعامل الإسرائيلي ما يلقي ضوءا على تناقض السياسات الغربية حيال النظام السوري، وبالتحديد بين حدتها اللفظية ومحصلتها العملية المحدودة. ويحيل التوتر بين حكومة المالكي وكل من تركيا والسعودية وقطر، مقابل درجة أرفع بعدُ من توثق العلاقة بينها وبين إيران، إلى تطورات الوضع السوري بصورة شبه حصرية. وتتأسس هذه الروابط كلها على ضعف تكون الدولة الوطنية في بلدان الإقليم، العربية منها بخاصة. لسنا حيال علاقات بين دول، تمر عبر أقنية رسمية معترف بها ودون تدخلات في الشؤون الداخلية لأي منها. التدخل هنا هو النسق الغالب، والعلاقة بين دول وبين تكوينات أهلية ومنظمات ما دون الدولة في غيرها أمر شائع. وحلفاء النظام السوري في الدول العربية المجاورة هم في الغالب منظمات ما دون الدولة، ولهذا يستطيع أن يكون قوة تفجير فيها. والواقع أن الترابط بين الأهلي الداخلي والجيوسياسي ملمح يزداد ظهورا في الإقليم بالتناسب مع الزلازل الاجتماعية والسياسية الجارية، ويتسبب بضغط متزايد على الدول كلها. وهو يثير تساؤلات حول إمكانية معالجة مشكلات البناء الوطني لأي من هذه الدول بمعزل عن غيرها.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثورة والمعارضة في سورية... علاقة انفصام
-
عن الثورة والمستقبل والعلاقات بين السوريين/ حوار
-
ثورة في سورية، سورية في ثورة
-
عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين
-
النظام الطائفي ليس نظام طائفة
-
الإسلاميون السوريون... توجهات منفتحة وتناقض مقيم
-
الثورة كصناعة للأمل
-
حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها
-
الحكم بالتذكر: من أصول المحنة السورية
-
هذا النظام، هذه الثورة، هذا العالم: حوار حول الشأن السوري
-
عن الطائفية ما بعد كرم الزيتون
-
لا عودة إلى بيت الطاعة الأسدي
-
عام من الثورة المستحيلة
-
عام من الثورة السورية: فلنسحق الخسيس!
-
من الأزمة السورية إلى المسألة السورية
-
سورية، إلى أين؟ أسئلة نارين دانغيان
-
عناصر أولية من أجل استراتيجية عامة للثورة السورية
-
الحزب الذي لم يعد قائدا للدولة والمجتمع...
-
-اختراع التقاليد- لإريك هوبسباوم
-
ملامح من الوضع الراهن للأزمة السورية
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|