في فندق بريستول، الواقع في وسط مدينة بون، كنت على موعد مع رئيس تحرير صحيفة "برلينر تسايتونغ" مارتن سوسكيند. وهو من الصحافيين المرموقين في المانيا وكان قد عمل اعواماً طويلة كبير المراسلين في صحيفة "ذي دويتش تسايتونغ" الواسعة الانتشار. كان همي الاول ان اتأكد من ان انطباعي الذي قادني الى متابعة الانتخابات الالمانية بوصفها مثيرة للمراقب الاجنبي، ولا سيما العربي، انطباع في محله.
قبل ان ابادر سوسكيند بالاسئلة التي تراودني، سارع الى القول بتواضع الصحافي الكبير (الغربي): "انا صحافي مثلك، ولا ادعي اني امتلك الحقائق، ولا اعبر عنها، لدي قراءة خاصة بي عن الانتخابات. فلنتفق اني لا اعبر ايضاً عن موقف الماني رسمي، ولا حتى شبه رسمي".
اجبته، وقد ذكرني بالصحافي تيم ماك نولتي من صحيفة "شيكاغو تريبيون" في طريقة تحديد موقعه المهني كبوصلة: "بالطبع، اني اتوجه اليك كصحافي. لكني اعرف ايضاً انك مرموق في وسطك المهني، ولذلك اسألك ان تعرض لي الوضع السياسي في المانيا عشية الانتخابات".
مباشرة الى قلب الموضوع، قال: "بضعة ايام تفصلنا عن الانتخابات التشريعية. في رأيي انها الانتخابات الاكثر اثارة منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً. فقد تحولت مناخات التأييد الشعبي من جهة الى اخرى في الاسابيع القليلة المنصرمة. فبعدما تقدمت المعارضة (ائتلاف حزبي المسيحي - الديموقراطي/ المسيحي - الاجتماعي) ومرشحها ادموند شتويبر في جميع استطلاعات الرأي التي صدرت في الاشهر التسعة الماضية، عاد الائتلاف الحاكم حالياً (الديموقراطي - الاشتراكي/ الخضر) ليتقدم في جميع الاستطلاعات. الملفت هنا ان تراجع شرويدر في المرحلة السابقة يعود الى النتائج الاقتصادية الضعيفة التي حققها خلال ولايته منذ ،1998 ولعل اهم نقاط ضعف المستشار انه اطلق وعداً كبيراً اثر فوزه في الانتخابات الماضية، مفاده انه سيعمل على خفض البطالة في المانيا من 4.8 في المئة الى 3.5 في المئة، والا فإنه يعتبر انه لا يستحق ان يعاد انتخابه في المرة المقبلة! يومها وصف احد مستشاري الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون المولجين باستراتيجيات الانتخابات وبناء الصورة السياسية للرئيس، وهو ديك موريس - وصف هذا الوعد بأنه غريب، وغير عملي، فلا احد يقدم وعوداً طابعها سلبي، وما حصل ان مستويات البطالة ظلت على حالها وبلغت 4.3 ملايين متعطل عن العمل. هذه كانت نقطة ضعف شرويدر الاساسية التي استفاد منها منافسه شتويبر الذي استند في انتقاداته الى نتائج ادارته مقاطعة بافاريا (جنوب المانيا) الممتازة، حيث تعتبر مستويات البطالة فيها الاكثر انخفاضاً في البلاد. ظل شرويدر يتراجع في الاستطلاعات دون انقطاع، حتى لاحت للمستشار الالماني "الدجاجة الذهبية". فعلى خلفية النزاع الاميركي - العراقي، وتنامي الحديث عن حرب ضد العراق في اوساط الادارة الاميركية، التقط شرويدر الفرصة المتاحة امامه طارحاً ورقة الحرب والسلام، والموقف من حرب اميركية ضد العراق. وبسرعة غريبة تمكن من صرف التركيز من القضايا الاقتصادية الداخلية الى القضايا العالمية. ففي المسألة الاقتصادية ربط ضعف النتائج بتراجع النمو الاقتصادي العالمي، وضعف المؤشرات الاقتصادية في جميع الدول الصناعية الكبرى (G8). في الموقف من الحرب على العراق استغل شرويدر حساسية المانية راسخة تجاه الحروب عموماً. وقد حقق اصابة مباشرة ادت الى ارتفاع شعبيته، والى عودة العديد من ناخبي اليسار التقليديين الى تأييده. ولا يزال شرويدر يتقدم باستمرار على خصمه في استطلاعات الرأي".
سألت: "لكن مع ذلك لا يمكن القول ان شرويدر وحكومته حققا سياسات اقتصادية يمكن التعويل عليها لاعطائه زخماً حتى موعد الانتخابات صباح الاحد المقبل؟". قال: "الواقع ان الحكومة الحالية اعلنت عن برنامج اصلاحات اقتصادية واسعة، جزء منها تم تنفيذه في الميدان الضرائبي. اما على صعيد تقليص الدين العام فقد ادت عملية اطلاق عجلة الاستهلاك المحلي الى رفعه الى مستويات بدأت تلامس الحد الاقصى المسموح به وفقاً لاتفاقات "مايستريخت" الاوروبية (3 في المئة) من الناتج المحلي. لقد بلغنا الخط الاحمر. ان كلفة اعادة توحيد المانيا قد لعبت ولا تزال دوراً اساسياً في الصعوبات المالية في البلاد. لقد بلغت الكلفة ما يزيد على 1000 مليار دولار، مما اثقل على المالية العامة الالمانية. ثم ان تداعيات هجمات 11/9 لعبت هي الاخرى دوراً في اضعاف عجلة النمو الاقتصادي العالمي، واستتباعاً النمو الالماني. الصورة اليوم هي: المعارضة تأمل في ربح المعركة الانتخابية من خلال التركيز على المسألة الاقتصادية، تماماً كما ربح كلينتون عام 1992 على الرئيس جورج بوش الاب عبر تغليب الداخل على المسائل الخارجية الطابع. من ناحية اخرى، لم يعد ممكنا تجاهل حلول الموضوع العراقي بقوة مكان الشؤون الداخلية في الحملة. اذا ربح شرويدر فسيكون ذلك بفضل الرئيس الاميركي جورج بوش. فأكثرية الالمان يقفون ضد الحرب، وشرويدر قال لهم ان المانيا تحت قيادته لن تدخل حرباً. وهنا لا بد من التذكير بأن المستشار وعد الولايات المتحدة غداة هجمات 11/9 بالدعم المطلق، وقد تعرض لانتقادات من حلفائه في الائتلاف الحكومي. لقد اعتبرت عبارة "دعم مطلق" مبالغة. امر آخر يشار اليه، وهو ان ثمة انطباعاً عبرت عنه صحيفة "ذي دويتش تسياتونغ"، ويقول ان الاميركيين لا يعبأون بالوعود الانتخابية في المانيا، ويتطلعون الى اليوم التالي، اي الى يوم 23 ايلول".
اسأل: "ماذا عن موضوع الهجرة والمهاجرين الاجانب؟ اي دور يلعب في الانتخابات؟" يجيب: "الى اللحظة (الثلثاء ظهراً) لم يبادر مرشح المعارضة الى طرح هذه الورقة املاً منه في تركيز نفسه في الموقع الوسط، وتحاشي اضفاء طابع يميني شعبوي على حملته. لكني اعتقد انه سيعمد في اللحظات الاخيرة الى طرح الورقة، وخصوصاً اذا لم يتحسن في الاستطلاعات. موضوع الهجرة والمهاجرين ليس موضع اختلاف شديد، لكنه مطروح على قاعدة ان عدد المهاجرين بلغ عام 2001 ما يربو على 7.4 ملايين شخص، اي ما نسبته 9.3 في المئة من مجموع الشعب الالماني. ان النسبة مرتفعة، لكن الاقتصاد الالماني يحتاج الى استيعاب نصف مليون قادم جديد كل سنة، وذلك حسب ارقام اعلن عنها المصرف المركزي الالماني في اليومين الماضيين. انما المعارضة تطرح شعاراً مبسطاً يقول: لماذا نستقدم مهاجرين جدداً ما دام مستوى البطالة اكثر من اربعة ملايين متعطل؟". اسأل: "ما هي توقعاتك اليوم الثلثاء (17 ايلول)؟"، يجيب: "اعتقد ان شرويدر وائتلاف الديموقراطي - الاشتراكي والخضر سيربح المعركة بفارق بسيط، لكن المفاجأة ممكنة. فعلى العكس من انتخابات 1998 كانت النتائج متوقعة الى حد كبير لان الناس كانت تريد التغيير (خروج هلموت كول). اليوم يمكن ايضاً النظر الى عامل آخر هو ان الناخب الالماني لا يحب عموماً التغيير بعد ولاية اولى. في رأيي ان شرويدر سيجدد، وانه من الصعب نقض الاتجاه الحالي في شكل دراماتيكي".
***
بين لقائي مع مارتن سوسكيند ولحظة كتابة هذه السطور (ظهر يوم الاربعاء)، طرأ عنصر توقعه مارتن. فقد طرح شتويبر ورقة الهجرة في الميدان، في مهرجاناته الانتخابية. والهدف حشد الناخبين المحافظين المترددين. ثم طرأ عامل آخر، دولي هذه المرة. فقد قبل العراق عودة المفتشين الامميين، مما قد يخفف من السجال حول الحرب والموقف الالماني منها. مع هذا لاحظت ان العراق اصبح طبقاً يومياً في الحملات الانتخابية.
قررت مغادرة بون الى مدينة شتوتغارت لحضور مهرجان انتخابي لمرشح المعارضة. ثم التوجه الى مدينة فرانكفورت لحضور مهرجان لغيرهارد شرويدر، وآخر لوزير خارجيته "الكاريزمي" يوشكا فيشر. فلا شيء يعوض عن الوقوف على ارض الحدث، وملامسة "الاشياء" الصغيرة والتفاصيل المعبرة احياناً اكثر من الاساسيات المعروف والمدركة.
كيف هي صورة المهرجانات الانتخابية الالمانية؟ وكيف تتطور اسلحة السجالات والدعاية في اللحظات الاخيرة قبل ان يحين موعد النزول الى الصناديق؟
علي حماده - بون (المانيا) |