|
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع -5
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1090 - 2005 / 1 / 26 - 11:38
المحور:
القضية الكردية
لقد قمنا بسرد هذا التعريف الموجز للرأسمالية، في سبيل إدراك أواصرها مع النهضة بنحو صحيح. يتجسد مضمون تعريف النهضة – بشكله المجمَع عليه – في الاعتماد أساساً على استيعاب الطبيعة والمجتمع والفرد بدرجة الشغف، وبشكل بعيد عن كل أنواع الدوغمائيات. إنها العودة إلى قدسية الطبيعة والفرد. والحُكم المشترك هنا هو أن هذا الفرد ليس بالفرد الرأسمالي، بل إنه معبأ بوعي الطبيعة والفن والفلسفة. يهرب من الحرب ويفندها، ويتطلع إلى بناء مجتمع طبيعي حر وعادل متساوٍ. اليوتوبيات النهضوية مشاعية، لا رأسمالية. إذ ما من بحث مقنع يشير إلى أن النظام الاجتماعي الجديد البارز هو الرأسمالية. فالحياة الدارجة في الأديرة هي المشاعية. والروح السائدة في المدن الحديثة العهد، أقرب إلى الديمقراطية. كذلك، فرجالات العلم المعنيون بالفلسفة والآداب، والمنهمكون بالفن؛ كلهم أناس كادحون يقتطعون لقمة عيشهم بصعوبة ومشقة. أما المنشغلون بتراكم رأس المال، فهم محدودون، ويستحقون إلحاقهم بالقضاء، بسبب مُراباتهم (عيشهم على الربا) خصيصاً؛ باعتبارهم فئة قد جمعت النقمة الاجتماعية عليها. تُشكِّل الأرستقراطية الإقطاعية، بالاشتراك مع الطبقات الشعبية كقومية ناشئة حديثاً، نظاماً مختلطاً حتى قيام الثورة الصناعية. حتى هذه المعالجة المقتضبة تشير إلى استحالة الحديث عن نظام المجتمع الرأسمالي حتى القرن التاسع عشر. إذن، والحال هذه، فالنظر إلى النهضة كفترة تمهيدية للرأسمالية، أو كمرحلة ذهنية لها؛ يعتبر خطأ فادحاً. والصحيح هو أنها مساحة بينية للفوضى، منفتحة لكل احتمالات التطور. إنها مرحلة بينية تَشَتَّتَ فيها نظام المجتمع الإقطاعي وانهار. لكن المجتمع الجديد لم ينشأ فيها بعد، بل تشهد مخاضات ولادته. ومثلما قد تستعيد الإقطاعية قوتها وتخرج منها، فقد ينشأ عنها أيضاً نظام رأسمالي فردي. وقد تشهد تطوراً صوب نشوء مجتمع ديمقراطي متساوٍ وحر يتمتع بشروط البنية التحتية الوطيدة. تماماً مثلما هي إمكانية ولادة العديد من النظم – على الصعيد النظري – المنوطة بالكفاءات والقدرات الواعية والسياسية للمحاربين في سبيل النظام. بيد أن الموالين للمجتمع الأكثر مساواة وحرية كانوا يخوضون صراعاً محتدماً مع المجتمع الرأسمالي، حتى نهايات الثورة الفرنسية. في حين أن الثورة الإنكليزية المندلعة في 1640 تتسم بخاصية ديمقراطية ساحقة، بحيث يمكن مصادفة المفاهيم الشخصية والجماعية الوطيدة للغاية والمتنوعة، بصدد المساواة والحرية. إنها ثورة شعبية أكثر منها بورجوازية. ومشاعيو مدن إسبانيا في القرن السادس عشر، ذوو طابع ديمقراطي. وماهية الثورة الأمريكية أيضاً تحررية وديمقراطية بكل سطوع. كما وثمة العديد من الألوان والطوابع في الثورة الفرنسية 1789، بما فيها الشيوعيون. باختصار، فميول المجتمع الحر المتساوي والديمقراطي محظوظة في الخروج من الفوضى الاجتماعية السائدة في مرحلة النهضة، بقدر الميول الرأسمالية الفردية، بأقل تقدير. فالرأسمالية لم تحقق تفوقها إلا في الحرب الاجتماعية الناشبة مع قيام الثورة الصناعية. فالقرن التاسع عشر هو المرحلة التي تصاعد فيها نفوذ الرأسمالية في كل الميادين، مع نشوب الثورة الصناعية. نشهد أن نظامها أكمل توسعه بخطوطه العامة، ولأول مرة، على الصعيد العالمي، مع حلول نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. في حين أن صراع المجتمع المتساوي الحر والديمقراطي ونضاله، يفقد فرصته في التحول إلى نظام اجتماعي حاكم، منذ هزيمة الثورات فيما بين 1848 و1871. لإكمال تعريف المرحلة، من المهم دراسة موضوع الأمة والدولة القومية، بشكل متداخل مع النظام الاجتماعي الناشئ حديثاً. من الضروري الإدراك بأن تشكُّل المجتمعات كظواهر قومية، ليس ثمرة مباشرة للرأسمالية. فالزعم، في هذا الموضوع أيضاً، بأن الرأسمالية تخلق الأمة، خطأ حقيقي. وللماركسية أيضاً نصيبها في هذا الخطأ. فالمرحلة البارزة في المجتمعات على شكل كلان، قبيلة، عشيرة، قومية، وأمة؛ لها جدليتها الخاصة بها. وهي لا تتولد كثمرة للمجتمع الطبقي. إذ يمكن تكوُّن الأمة دون وجود الرأسمالية. فاللغة والثقافة والتاريخ والقوة السياسية تلعب دوراً مصيرياً أكبر في تشكل الأمة. فبإمكان الأمم المستاوية الحرة والديمقراطية أن تتطور بسلامة أفضل في البنى الاجتماعية. إذ نلاحظ أن الأمم تشكلت في أوروبا الغربية منذ القرن الثاني عشر. لم يتبين أيٌ من تلك الأنظمة الموجودة ستسود بين الأمم، إلا في أواخر القرن الثامن عشر، بانتصار البورجوازية. وانتصار الرأسمالية بين الأمم يتماشى وإحلالها القوموية محل الدين، كأيديولوجية حاكمة. فتطوير السوق داخلياً، والانفتاح نحو الخارج، منوطان عن كثب بوجود قوموية راسخة. وخاصية القوموية الوطيدة هذه تفضي إلى الدولة القومية. تتطور الدولة القومية بعد تجاوز الستار الأيديولوجي الديني، عبر العلمانية. إن القول بدولة الأمم، أمر خاطئ في مضمونه كلياً. فقد يعكس الحديث عن قومية المجتمع وتكامله القومي نسبة من الحقيقة القائمة، أما قومية الدولة فهي حُكم أيديولوجي، وليس واقعاً اجتماعياً قائماً. لا وجود لأصحاب دولة اجتماعية بالكامل. فالدولة دائماً في إمرة وخدمة أقلية قومية. وما تفعله الدولة هو تحويل الظاهرة القومية إلى ظاهرة أيديولوجية، لتأمين أسس مشروعيتها؛ تماماً كما هي الحال في الظاهرة الدينية. فكل قومويات القرنين التاسع عشر والعشرين مرتبطة بالطموح إلى تأمين المشروعية الاجتماعية. والقوموية تلعب دوراً بارزاً في مواراة التناقضات الطبقية في الداخل، والتحفيز على الاعتداءات صوب الخارج. من المهم فهم القوموية كسلاح أيديولوجي للدولة الرأسمالية، من حيث الاستيعاب الصحيح لمراحل توسعها وانتشارها. تُعزِّز القوموية من المركزية داخل الدولة، في الوقت ذاته. وتنزلق قوموية الدولة نحو البنى المركزية الأحادية، إزاء البنى الإقطاعية الأكثر ديمقراطية. من هنا يتم العبور نحو مفهوم الدولة الفاشية والتوتاليتارية. يتماشى تحول المرض الاجتماعي إلى حالة الهيستريا جنباً إلى جنب مع توجه النظام الرأسمالي نحو شكل الدولة الفاشية والتوتاليتارية. والمحصلة تكون انتحار الرأسمالية. من هذا المنطلق، يمكن التفكير في الحربين العالميتين الأولى والثانية بأنهما العمليات الانتحارية للنظام المتولد من الاستخدام المفرط لعيار (دوزاج) القوموية. إنها مرحلة ولوج الرأسمالية – التي تُعتَبَر أزمة الحضارة – أشمل وأعمق مراحل الأزمة والفوضى. إذا ما نُظِر إلى نظام المجتمع الرأسمالي بإرشادات نظرية أكثر شمولية وتكاملاً، سيُرى أنه مُجَمَّع العناصر الأكثر استغلالاً، والمتسربة داخل صفوف مجتمع الإنسان. يمكن تناول الاستغلالية كالانتهازية (النفعية) التي تحوِّل كل شيء لمنفعتها على الفور. إنها تطوير للنفعية على الصعيد الفني. وهدفها أولاً هو القيم المادية. لكنها تتوجه نحو القيم الفكرية والعقائدية والفنية، والتي يمكننا تسميتها بالقيم المعنوية؛ بالتكافؤ مع نسبة خدمتها للتطور المادي. فلسفلتها الأساسية هي انتظار الربح المنفعي من كل ما هو موجود باسم الظاهرة الاجتماعية. إنها لا تميز في الاستغلال بين القيم الطبيعية المشاعية، وقيم الدولة الهرمية. المهم هنا أن تكون معطاءة ومثمرة. وتشبيهها بالدود الداخل داخل البنية، أو بجرثوم السرطان، مرتبط بنوعيتها هذه. وهي تذكرنا أيضاً بالتشبيه القائل: دود الشجرة من الشجرة. لنبيِّنْ مرة أخرى، اعتماداً على تلك التشبيهات، أن الظواهر المعنية يمكنها مواصلة وجودها تحت المراقبة والعناية، ما لم يتغلغل الدود داخل كل السرب، أو يحيط الجرثوم بكامل البنية، أو ينخر الدود الشجرة حتى يقلبها. تُعتَبَر الرأسمالية في أخطر مراحلها لدى تحولها إلى نظام مهيمن، وانزلاقها معه نحو أشكال مفرطة. هذا أمر وارد في طبيعتها. هذه هي الظاهرة المسماة بالفاشية والتوتاليتارية. في هذه الحالة تُشاهَد حالة من الحرب الدائمية داخل المجتمع. وهي ليست مجرد الحروب العسكرية العالمية الرسمية، كالحربين العالميتين، بل وتعاش الحروب الأخطر والأضرس داخل المجتمع، في كافة مؤسساته وعلاقاته. ويبدأ المنطق الذي مفاده: "الإنسان ذئب الإنسان" بالفاعلية كلياً. وتتفشى الحروب حتى بين الأزواج والأطفال، وفي البيئة الطبيعية برمتها. وما القنبلة الذرّية سوى تعبير رمزي عن هذه الحقيقة. حيث تعاش حالة من القنبلة الذرّية في داخل عموم المجتمع، بشكل دائمي، ولكن تدريجي وبطيء. إذا ما نظرنا إلى مرحلة الدولة القومية والعولمة، نجد أن الوضع مرئي بشكل أوضح. إذ، وبعد الإفراط في الظاهرة القومية والاستيلاء كلياً على الدولة، يكاد الفرد المعزَّز بالقوة سابقاً، يدخل مرحلة "التَنَمُّل" (التحول إلى نملة). ويغدو الفرد والإنسانية المثالية المتعاظمان مع النهضة، موضوعاً لمرحلة معكوسة؛ وكأنهما أضحيا هدف الهجومات والتهكمات. هذه الحقيقة لوحدها كافية ووافية للإشادة بمدى التضاد والتباين بين الرأسمالية وقيم النهضة. فبينما يتضخم الرأسمالي، يتقزم الفرد. ويتحول مضمون الإنسانية المثالية إلى مصطلح أجوف، أو مصطلح يبعث على الحياء، تجاه حروب الفتح الضارية الناشبة بين الشركات العملاقة تحت اسم العولمة. أما تذويب كافة المؤسسات – عدا الدولة القومية – واستعمارها؛ فيغدو ظاهرة ضرورية لا بد منها. وبإيصال مبدأ "ما من قيمة أثمن وأسمى من الدولة القومية" إلى حالة كهذه، تتقمص الدولة درع الحصانة بما لم تبلغه في أي من العصور الأخرى. كل شيء من أجل الدولة المللية. وفي الحقيقة، فكل شيء من أجل الرأسمالي، لكن تحت رداء أو مكر الدولة المللية. فالدولة، وخاصة القومية منها، مستحوذة على سحرِ جلْب المنفعة والربح الأعظمي عبر الطريق المختزلة، لدرجة يُعلى من شأن القوموية، كأيديولوجية للدولة القومية، لتضحي تياراً عقائدياً وإيمانياً بنسبة وبأبعاد تعجز عن بلوغها كل الإدراكات الميثولوجية والفلسفية والدينية، وتكاد تُعمي كافة الأبصار والأفئدة المعنية. هكذا لا يبقى لأية قيمة معناها، فيما عدا عناصر الواقع المللي المبالَغ فيها. فالقدسية مخفية، فقط وفقط، في عناصر القيم المللية المبالَغ فيها. مقابل ذلك، يسعى الفرد كمواطن، إلى التمسك بـ"طرائقية الدولة"، وكأنه يُعَد ويُجهَّز لعضوية طرائق العصور الوسطى. حقيقة المواطَنة هي مصطلح يستلزم التحليل على نحو كامل الحسن. حيث حلَّت علاقةُ الفرد – الدولة فيها محلَ علاقة القن – العبد بالدولة، والتي كانت سائدة في العصور الأولى والوسطى. إنها تعبِّر عن ضرب من التحول إلى علاقة البورجوازية (الدولة) والعبودية. فمواطَنة الدولة تعني إعداد الشكل الحديث للعبد من أجل النظام القائم. إنه الفرد المُعَدّ بحالة تفيد أغراض الطبقة البورجوازية. حيث يحتل مكانه في العديد من المواضيع، وفي مقدمتها التجنيد والضرائب. إنهم يوَلِّدون القوة المحتاجة للدولة والطبقة الحاكمة. في حين أن إنجاب الأطفال أضحى عملاً بلا مصاريف أو أجر. ومهما يكثر الحديث عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إلا أن المنتفع منها مضموناً، وبشكل ساحق، هو الطبقة المهيمنة. أما تدخل الرأسمالية في العلم والفن والاستفراد بهما، فيسفر عن نتائج أكثر ترويعاً. حيث بات العلم والفن عموماً آلة بيد سلطة الدولة. ومع الرأسمالية تصل مسألة السلطة والمعرفة أبعاداً لا نظير لها بقوة الثورة العلمية. يؤول احتكار العلم والفن إلى بروز قوة فظيعة من الهيمنة والاستعمار، بحيث تزوِّد بإمكانية تشكيل الفرد والانتفاع منها كما تشاء. وهي لا تقف عند حد تحويل البنية الذهنية والبراديغمائيات الأساسية بما يتوافق وعالَمها الخاص؛ بل وتقوم بصنع الفرد صاحب "نظارة الحصان والقلب الصفيحة". وبهذه العيون والأفئدة يُبلَغ بالناس إلى موجودات في حالة قصوى من الضحالة والسطحية، المنفعية، الأنانية، اللامبالاة، الظلم، اللاإحساس، التجريد، والآلية الروبوتية. هكذا تَترُك وجهة نظر العالَم (والإنسان) النابض بالحيوية والقداسة، مكانَها لوسط اجتماعي وعالَم باهت رمادي اللون، جامد، مفتقر لقدسيته، لا يبعث على النشوة والفضول، متوتر، سئم، ومرهق. أما الشرائح الكادحة المأجورة في المجتمع، فكأنها تحولت إلى دجاجة تفقيس. ويُلَقَّن الجميع بأن المعنى الوحيد للحياة يكون بالأجر الطُّعم، الذي يكاد يسد رمقه. ويصبح نمط الإنسان الاقتصادي يتخيل كل شيء لديه بناء على إشباع بطنه وإملائها. الأنكى من كل ذلك هو مهارة النظام في تفشية البطالة الأكبر على مر التاريخ. حيث يُضخَّم من كمّ جيوش العاطلين عن العمل، وتكون دوماً على أهبة الاستعداد، من أجل الحظي بعامل رخيص على الدوام. وتُقحَم العلاقة بين البورجوازية والعامل في حالة بحيث يصبح العمال المتمردون في البداية سرباً من القطيع تابعاً لها بما يضاهي تبعية القن لسيده في العصور الوسطى. ويخرج العامل من كونه طبقة أقيمت من أجلها الثورة، ليتحول إلى شخصية زائفة خاصةٍ بالعبيد التابعين لأربابهم، تجاه مخاطر البطالة المروعة أو الأجر الأرخص. لا يغدو العامل في هذه الحالة قيمة بحد ذاتها، بل هو ملحق بمؤسسته أو برب عمله. ومثلما يكونان هما، يكون هو. أما المرأة والطفل والعجوز، وهم من الشرائح التي تعاني أفظع الحالات وأشدها؛ فيغدون في حالة أشد سوءاً وإجحافاً. فالمرأة التي لا تنفك تئن تحت وطأة القوة الفظة والبلادة والشهوانية النهِمة التي لا تعرف الشبع للرجل الحاكم عليها منذ تأسيس الهرمية؛ تُكبَّل بالسلاسل والأكبال بألف مِثْل في ظل النظام الرأسمالي. فالمرأة هي الموجود الذي ابتدع الرجل بحقه الكذب والرياء بالأكثر. يقال بأنه حتى فرويد، الذي مارس أكثر النشاطات شمولية بصدد الجنسية، تلفظ بآخر جملة وهو على فراش الموت قائلاً: "ماذا تعني المرأة؟". هذا أمر غير اعتيادي. إنه الوضع الذي أحاطته الأيديولوجية الذكورية المهيمنة المريعة حول المرأة. فالرجل الحاكم، الذي لا يود معرفة المرأة إطلاقاً، يلجأ إلى أحد أهم أسلحته التمويهية، ألا وهو أداب العشق المزيفة. فالعشق بالنسبة للرجل الحاكم يساوي مواراة الكذب والرياء، اللااحترام المستتر، عمى الوعي والبصيرة، واكتساب المساحة والديمومة في الغرائز الشهوانية العمياء. وإيصال المرأة إلى النقطة التي تبلع فيها ذلك وتهضمه، منوط بمدى غور العقم واللاحل تحت وطأة الكبت والقمع. لقد فُصِلَت عن شروط الحياة المادية والمعنوية بنسبة، غدت فيها بائسة يائسة في قبول أكثر ألفاظ الرجل انحطاطاً وتهكماً واعتداءاً، بأنها حقه المشروع. وبالنسبة لي شخصياً، فإني مذهول دوماً من قبول المرأة على ذاتها بالحياة في ظل "الوضع القائم" الذي أُقحِمَت فيه. لكن، عليّ الاعتراف بحدسي الذي مفاده أنه عندما يجلب القصّابًُ الشاةَ للذبح، فإن الشاة تدرك ذلك، فترتعد أفصادها خوفاً وهلعاً. وموقف المرأة إزاء الرجل يذكّرني دائماً بتلك الرعشة. فالرجل لا يرتاح له بال، ما لم ترتجف المرأة أمامه. هذا هو الشرط الأولي لهيمنته. لكن القصّاب يذبح الشاة لمرة واحدة، في حين أن الرجل يذبح المرأة طيلة العمر. هذه هي الحقيقة الواجب الإفشاء بها. أما مواراة ذلك بأغاني العشق، فهو استحقار وازدراء دانٍ. فأكثر المواد والمصطلحات افتقاداً للمعنى في ظل الحضارة، هي تلك المُقالة في العشق. فما لم يفلح فيه أي رجل، ولم يرغب الفلاح فيه بتاتاً، هو إبداء القدرة على التقرب من المرأة بطبيعته العادية الموجودة. وأنا مضطر شخصياً لاعتبار كل رجل قادر على اتباع سلوك كهذا بأنه بطل حقيقي. الفرق هنا لا ينجم عن ضعف بسيط أو اختلاف جنسي بيولوجي. بل إنه يصدر من توطين المجتمع الهرمي الدولتي للمرأة في أسفل القاع، باعتبارها مادة الطبقة السفلية الأولى. وينبع كونها أعمق مشكلة في المجتمع من خصائص الوضع القائم المترسخ فيه. واهتمام السوسيولوجيا بمحدودية, وفي وقت متأخر، بهذا الموضوع، منوط بمرحلة الأزمة للرأسمالية. لدى انكشاف النقاب عن كل شيء، من المنتَظَر أن تتبدى الأمور بجميع أبعادها في ظاهرة المرأة أيضاً. من الضروري الإدراك الشامل لعناصر القمع والاستغلال لدى الرجل إزاء ظاهرة الأنوثة في النظام الرأسمالي. فالمرأة، حسب الزعم، هي أثمن سلعة. وما من نظام بَضَّع المرأة (حولها إلى سلعة وبضاعة) بهذه النسبة. فعبودية المرأة، التي هي جزء من العبودية العامة التي كانت سائدة في العصور الأولى والوسطى؛ لم تكن تختلف حينها عن كونها جارية بالنسبة للنظام القائم. إذ لم يكن ثمة تبضيع أو عبودية خاصة بالمرأة. وكان ثمة حَرَم رجالي أيضاً، كذلك كان هناك الرجال الخَدَم. وكان لهم أولادهم المخصيون. تضع الرأسماليةُ الفرقَ الأكبر بالنسبة لمفهوم الجنسية في النظام، بحيث يكاد لا يبقى أي عضو فيها – في المرأة – إلا ويُبَضَّع. وهي تقوم بزخرفته بغطاء من الفن، عبر الآداب والروايات. لكن المرأة تُقحَم في وضعية تجتر فيها النصيب الأعظمي من تحمل وطأة عبء النظام الثقيلة، كآلية أساسية في هذه الفنون. فبينما يُحدَّد الأجر لكل عمل، أياً كان؛ نجد أن أكثر الأعمال وطأة، أي الحمل، تنشئة الطفل، ومختلف أنواع العمل المنزلية؛ تكون بلا أجر. بل وحتى لا أجر لأن تكون المرأة عبدة شهوات الرجل الجنسية. فحتى الأجر المتعاطى في بيوت الدعارة، لا يقابله إبداء أية قيمة للمرأة في المنازل الخاصة. ما يسمى بشرف الزواج وكرامته، ليس في حقيقته سوى تحمل بلاء "الإمبراطور الصغير" برمته. فكيفما إذا حصل شيء لأملاك الدولة، التي يعتبرها الإمبراطور الكبير شرفه، فإنه يَعتَبِره دافعاً للحرب؛ فالإمبراطور الصغير أيضاً، إذا ما حصل شيء للمرأة، شرفه ومُلكه، فإنه يُعِدّ ذلك مسألة الشرف الكبرى، أي سبباً للمنازعة والشجار. الأغرب في الأمر هو إفراغ المرأة كلياً كروح، والوصول بها شكلياً إلى حالة أنثوية مفرطة، أشبه بـ"العصفور في القفص" ذي اللون الزاهي والصوت الباهي. فنظام الصوت والمكياج يتطلب حالة من إنكار هوية المرأة الذاتية بشكل ساحق، وقتل شخصيتها، رغماً عنها. الأنوثة هنا تعني تجريد المرأة من شخصيتها بشكل خاص. إنها من ابتكار الرجل وفروضاته. ورغم أن الأمر كذلك، فهو لا يتوانى عن اتهامها؛ وكأن هذا هو موقفها الطبيعي. رغم أن النظام السائد هو المسؤول بالذات عن استخدام المرأة كأداة دعاية وتشهير وإظهار؛ فإنه يتقرب منها وكأن كل ذلك لائق بجوهرها الطبيعي. لقد قبع شرف المرأة في أسفل القعر مع ظهور الرأسمالية. ولكن ما يُضرَب بالقاع ويُسقَط فيه ممثَّلاً في هوية المرأة هو أصلاً – وفي الوقت نفسه – قِيَم المجتمع المشاعي. فمنطق النظام محتاج لذلك، لأنه أمر مصيري معيِّن. لقد أُسقِط جنس المرأة المجرَّد من كل قدسياته عبر الإباحية في الرأسمالية، إلى مستوى فصيلة الثدييات البدائية في التاريخ. بقدر ما يرتبط محو المرأة من المجتمع، طيلة التاريخ الحضاري، بالتطورات الهرمية والطبقية؛ فهو مرتبط أيضاً بإعلاء الرجل من مرتبة المجتمع الذكوري المهيمن. من جانب آخر، فبقدر ما تفقد المرأة تأثيرها في المجتمع، تغدو بعيدة بنفس النسبة عن قيمها المشاعية. طبيعة المرأة أدنى إلى قيم المجتمع المشاعي. وبما أن ذكاءها أكثر حساسية وواقعية إزاء خصائص الطبيعة، فالذكاء العاطفي لديها في المقدمة. في حين تكون أواصر الذكاء التحليلي لديها محدودة مع الحياة لكونه تصوري بالأرجح. أما تطوُّر الذكاء التحليلي لدى الرجل، فمتعلق بعناصر سماته الماكرة والقمعية في منزلته الاجتماعية. تعكِس شدة وطأة النظام على دنيا الأطفال، الحالةَ العامةَ السائدة. فالأطفال السابحون في عالم الخيال، مناقضون جذرياً لعالَم النظام القائم في الحسابات الجليدية. لا تتوافق الطفولة والرأسمالية إطلاقاً. والعجوز كالطفل المسن. لكن العالِم الحكيم المقدس، الذي كان يُكَنُّ له الاحترام سابقاً، غدا اليوم عبئاً ثقيلاً في الإنتاج الرأسمالي، ومادة لا نفع منها. أما الأطفال فيمكن الانتفاع منهم عندما يكبرون، في حين أن العجائز لا يعبِّرون عن أية قيمة، لأنهم سيموتون. يُجرَّد المجتمع من سموه وقدسيته تماماً، ممثَّلاً في شخص العجوز. وإذا ما تُرِك في دار العجزة، يُبدي النظام إجحافه وصورته القبيحة بكل أبعادها، بقدر ما يُظهِر ظلمه له. حتى مشكلة الشيخوخة مليئة بالتساؤلات التي بمقدورها البرهنة على عدم جدوى النظام القائم من أجل المجتمع، من كثير من النواحي. نجد الإنسان البيئي يتخبط في المجاعة والعَوَز من جميع الجهات، مقابل الناس المشبَعين من كل شيء في متروبولات الرأسمالية. إن خاصية الربح والمنفعة المغالى فيها في النظام تُجَسِّد – وبكل جلاء – العلاقةَ الجدلية القائمة بين الإنسان البدين، والإنسان الهزيل الذي تكاد تخرج أفصاده من بين ضلوعه. وكأنه لم يتبقَّ لبنية المجتمع الداخلية أي طاقة تؤهلها لتطوير التناقضات أكثر من ذلك. وكأن التكرار المفرط، أو التساقطات والطروحات الجارية في بعض المؤسسات، برهان قاطع على سيرورة الأزمة والفوضى المولج فيها. نحن على مشارف اللحظة التي تتحطم فيها الحلقة، مثلما شوهد في سلسلة كافة الأحداث الطبيعية. فالتشريع القديم يفقد مفعوله. والبنى القائمة لا معنى لها، لافتقادها آلياتها. لذا نَعتَبِر أننا على عتبة سن قوانين المعاني الجديدة، وتأسيس البنى اللازمة لها. وهنا تبدأ مشكلة الأيكولوجيا الاجتماعية بالأرجح. المجتمع الطبيعي، بجانب من جوانبه، مجتمع أيكولوجي. والقوة التي تبتر المجتمع داخلياً، تبتر أواصر معانيها مع الطبيعة أيضاً. فبدون وجود بتْر داخلي، لا تتولد أي مشكلة أيكولوجية غير اعتيادية. لكنَّ الغير مألوف هو افتقاد المجتمع الحضاري للمعاني المعاشة في كافة المراحل الطبيعية. وتنجم حالة أشبه بفصل الوليد عن ثدي أمه. وتُمحى أبهة الذكاء التحليلي وعظمته رويداً رويداً. في حين أن الذكاء التحليلي المبتعد بكثافة عن لغة الضمير والطبيعة، يطوِّر من تناقضاته مع البيئة تصاعدياً، داخل عالَمه المزيف الذي صوَّره. ويكتنف الضباب الأواصرَ القائمة بين الحياة والطبيعة، لتحل محلها الأفكار التجريدية والآلهة المجردة. وتتخلى الطبيعة الخلاقة عن مكانها للإله الخلاق. وتُطبَع الطبيعة بطابع الظلم، بدلاً من اعتبارها كحنان الأم ورأفتها. هكذا يغدو التحامل على الطبيعة الخرساء الظالمة، بطولةً للإنسان. وتصبح كافة أشكال الإبادة المختلة للحيوانات والنباتات عادةً مألوفة، وكأنها حق أساسي لمجتمع الإنسان. وتُعتَّم البيئة الطبيعية وتُعمى، لتغدو مساحة حياة ميتة، مؤقتة، ولا أمل منها. وباتت الطبيعة الحية – مصدر الآمال التي لا تعرف النضوب – ركاماً من المواد العمياء المحضة، التي لا مفهوم لها. لكن مفهوم الطبيعة هذا، والمتحطم مع النهضة، أضحى موضوع استثمار واستغلال لا أبعاد له في النظام الرأسمالي، مثلما هي الحال بالنسبة للمجتمع. حيث يسعى لإتمام فتح البشرية العالمية بفتح الطبيعة. ويَعتَبِر ممارسة كل أنواع الاستثمار التي يشاؤها بشأنها، حقاً له وكفاءة منه. المحصلة المتمخضة من الثورة الصناعية وما بعدها، هي وضع الضمان على البيئة الطبيعية، كشرط حيوي لا غنى عنه بالنسبة للمجتمع. لقد أُدرِك أن غير العاقل هو النظام بعينه، لا الطبيعة. ولكن بعد فوات الأوان. فالبيئة تعطي إشارات الإغاثة على الدوام. إنها تصرخ بأعلى صوتها قائلة أنها لن تطيق تحمّل النظام الاجتماعي القائم. وكأن أزمة النظام، بجانبها هذا، قد ولجت مساحة الفوضى البينية. ولن يسعفه الحظ في الخروج من الفوضى، ما لم تحلِّل وتَحُل النقاشاتُ الأيكولوجية الدائرة، حقيقةَ المجتمع الأيكولوجي، من حيث المعنى والبنية.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والد
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا
...
-
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة
...
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دمر تماما
-
عاصفة انتقادات إسرائيلية أمريكية للجنائية الدولية بعد مذكرتي
...
-
غوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
سلامي: قرار المحكمة الجنائية اعتبار قادة الاحتلال مجرمي حرب
...
-
أزمة المياه تعمق معاناة النازحين بمدينة خان يونس
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|